الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به في الشَّرعِ.
وأمَّا ما يُذكرُ من نهيِ الأئمَّةِ عن تقليدهم فكانَ منهُم خطابًا لمن يظنُّونه أهلاً للاجتهادِ، وإلَاّ فالأخبارُ لا حصرَ لهَا في مسائلِ العامَّةِ لفقهاءِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ وأتباعهم من طبقةِ الفقهاءِ الأربعةِ، وهُم يفتونَهُم في معظمِ المسائلِ الاجتهاديَّةِ لا يذكرونَ لهمْ كيفَ استفادُوهَا.
هذا؛ والواقعُ أنَّ التَّقليدَ ضرورةٌ حاصلةٌ، وكلُّ النَّاسِ يحتاجُونَ إليهِ في بعضِ أحيانهِم، والعلَّةُ في ذلكَ أنَّ الله عزَّوجلَّ جعلَ علمَ الإنساِ محدُودًا، فيخفى عليه من الأمورِ ما لا يجدُ منهُ مخرجًا إلَاّ بتقليدِ من يقدِّمهُ في العلمِ والدِّين، حتَّى من المجتهدِينَ الكبارِ أنفسُهم، فإنَّهم موصوفونَ بالاجتهادِ المُطلقِ بحقٍّ، ومع ذلكَ فربَّمَا اضطرَّ أحدُهُم للتَّقليدِ في المسألةِ والمسائلِ لخفاءِ العلمِ فيها عليهِ فكيفَ يكونُ حالُ العامِّيِّ؟!
*
تقليد الفقهاء الأربعة:
الأئمَّةُ الأربعةُ: أبوحنيفةَ، ومالكُ بن أنسٍ، والشَّافعيُّ، وأحمدُ بن حنبلٍ، رحمهم الله، من سادَة الأمَّةِ وأعلامِ الأئمَّةِ، كتبَ الله تعالى لهُم القبولَ في نفوسِ أهل الإسلامِ، وجعلهُم قدْوَةً للأنامِ على مرِّ العصُورِ
في فروعِ الشَّريعَةِ، كما جعلهُم مع إخوانِهم من أمثالِهم من الأئمَّةِ كالثَّوريِّ والأزواعيِّ وابنِ عُيينَةَ والحُميدِيِّ وإسحاقَ بنِ راهويه وغيرهم أئمَّةَ النَّاس في أصولِ الشَّريعةِ.
ولم يكُنِ الاجتهادُ مقصورًا على هؤلاءِ الأربعةِ، ولكنَّ الله تعالى قيَّضَ لهُم من الأصحابِ من قامُوا بفقهِهم ومسائلهِم، كما أنَّ التَّأليف من بعضِهم في الفقهِ كمالكٍ والشَّافعيِّ كان من أسباِ حفظِ مذاهبِهم.
وما قصد واحدٌ من هؤلاءِ السَّادَةِ أن يكونَ مذهُهُ بمثابَةِ الشَّريعَةِ المعصومَةِ، ولا قصدَ واحدٌ منهم أن يحملَ النَّاسَ على رأيهِ واجتهادِهِ، بل أرادُوا النَّصيحة لأهلِ الإسلامِ بما آتاهمُ الله من آلةِ الفقهِ والنَّظرِ، وبقيتْ مذاهبُهم وآراؤهم في اعتبارِهِم صوابًا يحتملُ الخطأ.
لكن لمَّا وجَدَ من جاءَ بعدَهُم من علماءِ الأمَّةِ تدوينُ المسائلِ وتوضيح الدَّلائل بنَوا على ذلكَ، فوقعَ من العنايةِ بمسائلهِم تفصيلاً وتأصيلاً ما لا ينقضي من سعَتِه العجبُ.
وكانَ الأمرُ حتَّى في حقِّ من بلغَ رُتبةَ الاجتهادِ من أتباعِهم أن تخرَّجُوا من مدارِسِهم ونهلُوا من علومِهم، وصارَ من أرادَ تلقِّي علُومِ الفقهِ لا يستَغني عن سُلوكِ سبيلِهم والانتِفاعِ بهِم، وإنْ فاتَتْهُ علومُهمْ فقد فاتهُ خيرٌ كثيرٌ.
وليسَ في هذا الَّذي علمتَ شيءٌ يذَمُّ لكنَّ لا يرتضيهِ الأئمَّةُ أنفسُهُم أن تُجعلَ آراؤُهم بمنزلَةِ النُّصوصِ، بلْ إنَّ النَّصَّ بضدِّهَا يقبلُ النَّسخَ والتَّأويلَ كما صرَّح بذلكَ بعضُ المتعصِّبينَ، أو أن يوجبَ الالتِزَامُ بها دون غيرهَا وُحرَّم النَّظرُ في أدلَّةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو أنها تكونُ سببًا في تفريقِ المسلمينَ فيُجعلُ في المسجدِ الحرامِ في فترَةٍ من الزَّمنِ أربعةُ محاريبَ، أو أن يُجعلَ من فُروعِ المذهبِ بُطلانُ الصَّلاةِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأمُورٌ سِوَى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ للحنفيِّ خلفَ الشَّافعيِّ، وأُمورٌ سوى ذلكَ من الزَّيغِ والضَّلالِ والخُروجِ عن الهُدَى والصِّراطِ المستقيمِ، ممَّا جعلَ كثيرًا من العلماءِ يُشنِّعونَ على التَّقليدِ والمذهبيَّةِ غايَةَ التَّشنيعِ، فجرَّأ هؤلاءِ بدروهِم كثيرًا من الجهَّالِ على الكلامِ في أحكامِ الدِّينِ بغيرِ علمٍ، وهكذَا الشَّأنُ في كلِّ مسلكٍ يُجاوزُ الاعتِدالَ.
فحاصلُ القولِ: أنَّ النَّاسَ كما تقدَّم صنفَانِ، عالمٌ مجتهدٌ، وَعَامِيٌّ مقلِّدٌ، فأمَّا المجتهدُ فقدْ امتنعَ عليهِ التَّقليدُ ما دامَ قادرًا على الاجتهادِ، وأمَّا المقلَّدُ فإنَّه مأمورٌ بسؤالِ من يقدرُ على سُؤالهِ من أهلِ العلمِ، ولا يتقيَّدُ بمذهبٍ من المذاهبِ الأربعَةِ، وإنَّما هو كما يقولُ بعضُ العلماءِ:(مذهبُهُ مَذهبُ من يسْتَفتِيهِ) ، وعلَى هذا أكثرُ أهلِ العلمِ.
لكنَّ التَّتلمُذَ لمن يقصِدُ تحصيلَ آلَةِ الاجتهادِ على مذهبِ من هذهِ المذاهبِ لأجلِ ما وقعَ من العِنايَةِ بها مشروعٌ صحيحٌ؛ نظرًا لما يُحقِّقُ من المصالحِ العظيمَةِ في مراتِبِ العلمِ، ولا ضرُورَةَ لتسميَّتِهِ تقليدًا،
فإنْ كانَ في مراحِل العلمِ فلهُ بعضُ الحالِ يشبَهُ العامِّيَّ فيأخُذُ حُكمَهُ المذكُورَ آنفًا، ولهُ حالٌ يشبهُ المُجتهِدَ فيأخُذُ حُكمَهُ كذلكَ.
أمَّا الانتِسابُ بسببِ التَّلقِّي إلى واحدٍ من هذهِ المذاهبِ، فشرْطُ جوازِهِ أنْ لا يقترِنَ بعصبيَّةٍ.
والله تعالَى أعلمُ.