الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنَّما نزلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّه كان أسمَحَ لخُروجِه إذا خرجَ)) [أخرجَ جميع ذلك البُخاريُّ ومسلمٌ] .
قاعدة التروك النبويَّة
التُّروكُ النَّبويَّةُ تُقابلُ الأفعالَ، وهي أنواعٌ:
1ـ تركُ المحرَّمِ، وهذا ظاهرٌ.
2ـ تركُ المكروهِ تشريعًا، كما في تركهِ صلى الله عليه وسلم مُصافحَةَ النِّساءِ في البيعةِ وتقدَّم التَّمثيلُ به في قسم (المكروه) من أقسامِ (الحُكمِ التَّكليفِيِّ) .
3ـ ترك المكروهِ طبعًا، كما في كراهته صلى الله عليه وسلم أكلَ الضَّبِّ.
فعن خالدِ بن الوليدِ رضي الله عنه: أنَّه دخلَ معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَ ميمونَةَ، فأُتي بضبٍّ محنوذٍ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِهِ، فقال بضُ النِّسوةِ: أخبرُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يُريدُ أن يأكُلَ، فقالوا: هوَ ضبٌّ يا رسول الله، فرَفَعَ يَدَهُ، فقلتُ: أحرامٌ هوَ يا رسول الله؟ فقالَ: ((لَا، ولكنْ لم يكُن بأرضِ قومِي، فأجِدُني أعافُهُ)) ، قال خالدٌ: فاجتررتُهُ فأكلتُه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظرُ [متفقٌ عليه] .
4ـ أن يتركَ صلى الله عليه وسلم الشَّيءَ الحقِّ الغيرِ، كما في تركِهِ أكلَ الثُّوم والبصلِ في جميعِ الأحوالِ لحقِّ الملائكَةِ.
فعنْ جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((مَنْ أكلَ ثُومًا أو بصلاً فليَعْتزِلْنَا)) أو قال: ((فليَعْتَزِل مسجِدَنَا وليقعُدْ في بيتِهِ)) ، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقِدرٍ فيه خضِراتٌ من بُقولٍ، فوجَد لهَا ريحًا، فسأل فأُخبرَ بما فيها من البُقولِ، فقال:((قرِّبُوهَا)) إلى بعض أصحابهِ كان معهُ، فلمَّا رَآهُ كرِهَ أكلهَا قال:((كُلْ فإنِّي أُناجِي من لا تُناجِي)) [متفقٌ عليه] .
فهذا النَّوعُ كالَّذي قبلهُ، من جهَةِ أنَّ التَّركَ ليسَ بتشريعٍ للأمَّةِ.
5ـ أن يترُكَ صلى الله عليه وسلم الشَّيءَ مخافَةَ أن يُفرضَ على أُمَّتِهِ.
كما قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنْ كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَدَعُ العملَ وهوَ يُحبُّ أن يعْملَ بهِ خشيَةَ أن يعمَلَ بهِ النَّاسُ فيُفرضَ عليهِمْ [متفقٌ عليه] .
وعنهَا أيضًا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ذاتَ ليلةٍ في المسجِدِ، فصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ، ثكَّ صلَّى من القَابلَةِ، فكثُر النَّاسُ، ثمَّ اجتمعُوا من اللَّيلةِ الثَّالثة أو الرَّابعة، فلم يخرُجْ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أصبحَ قالَ:((قَدْ رأيتُ الَّذي صنعتُمْ، ولم يمْنَعْنِي من الخُروجِ إليكُم إلَاّ أنِّي خشيتُ أن تُفرضَ عليكُم)) وذلك في رمضَانَ [متفقٌ عليه] .
فهذا التَّركُ زالَ المحذُورُ منه بموتهِ صلى الله عليه وسلم وانقطَاعِ الوحي، لكنَّ من أهلِ العلمِ من نبَّه على شيءٍ يستفادُ من مثلِ هَذا الحديثِ في حقِّ
العُلماءِ والدُّعاةِ إذا كانُوا ممَّن يُؤخذُ عنهُمْ: أن لا يُواظِبُوا أمامَ الملإِ على فعلِ المندُوبِ خشيةَ أن يحسَبَهُ النَّاسُ واجبًا أو سنَّةً لا تُتْرَكُ.
6ـ أن يُترك صلى الله عليه وسلم ما لاحرج فيهِ ممَّا أباحَهُ لغيرِهِ من أُمَّتِه لإقبالِهِ على ماهوَ أتَمُّ في حقِّهِ وأكملُ.
مثالهُ: حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ أبابكرٍ رضي الله عنه دَخلَ عليهَا وعندَهَا جاريَتَانِ تُدفِّقانِ وتضْرِبانِ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُتغشٍّ بِثوبِه، الحديث [أخرجهُ البخاريُّ وغيرُهُ] .
وهذا النَّوعُ من التَّركِ سُنَّةٌ حسنةٌ، ولا تقبَحُ مُخالفتُهُ.
7ـ أن يترُكَ صلى الله عليه وسلم الانتِقَامَ لحظِّ نفسِهِ أخْذًا بأولى الخَصلَتيْنِ، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 40ـ 42]، ومن هذا حديثُ أُبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه قالَ: لمَّا كانَ يومُ أُحُدٍ قُتلَ من الأنصارِ أربعةٌ وستُّونَ رجلاً، ومن المُهاجرِينَ سِتَّةٌ، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئنْ كانَ لنَا يومٌ مثلُ هذا من المُشركينَ لنُربِينَّ عليهِمْ، فلمَّا كانَ يومُ الفتحِ قالَ رجلٌ لا يُعرفُ: لا قُريشٌ بعدَ اليَومِ، فنادَى مُنادي رسول الله ً: ((أمِّنِ
الأسوَدَ والأبيضَ إلَاّ فُلانًا وفُلانًا)) ناسًا سمَّاهم، فأنزل الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((نصْبِرُ ولَا نُعَاقِبُ)) [أخرجه عبدُالله بن أحمد في ((زوائد
المسند)) 5/135 بإسنادٍ جيِّدٍ، وبنحوهِ عندالتِّرمذيِّ والنَّسائي في التَّفسيرِ] .
وهذا النَّوعُ من التَّركِ لا تخفَى شرعيَّةُ الاقتِداءِ فيهِ.
8ـ أن يترُك صلى الله عليه وسلم الشَّيءَ المطلوبَ دفعًا للمفسدَةِ الأكبرِ.
وهذا كالَّذي حدَّثتْ به عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: ((يا عائشة، لولَا أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بجاهليَّةٍ، لأمرتُ بالبيتِ فهُدِمَ، فأدْخلتُ فيه ما أُخرِجَ منهُ وألزَقْتُه بالأرضِ، وجعلتُ لهُ بابينِ بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، فبَلَغْتُ بهِ أساسَ إبراهيمِ)) [متفقٌ عليه] .
فهذا تركٌ منهُ صلى الله عليه وسلم خشيَةَ أن يقعَ بالفِعلِ مفسَدَةٌ تربُو على هذه المصلحَةِ، وقد فعلَ ذلكَ عبدُالله بن الزُّبيرِ في خلافَتِهِ ظنًّا منهٌُ أنَّ المحذُور قدْ زالَ، فلمَّا قُتلَ أعادَهُ بنُوأُميَّة كما كانَ، كما جاءَ ذلكَ في بعضِ رواياتِ مسلمٍ.
وهذا من التُّروكِ هديٌ عظيمٌ للعلماءِ والآمرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المُنكرِ، أنْ يُقدِّرُوا في أفعالهم وتُروكهِم المصالحَ والمفاسدَ، فإنْ غلبَ ظنُّ جانبِ المفسَدَةِ بالفعلِ فالسُّنَّةُ التَّركُ، وإنْ