الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5ـ مفهوم المخالفة
* المقصود به:
إثباتُ نقيضِ حكمِ المنطوقِ به للمسكوتِ عنهُ.
ويسمُّونهُ (دليلَ الخطابِ) ، لأنَّ الخطابَ دلَّ عليهِ.
* أنواعه:
1ـ مفهوم الصِّفة:
هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بوصفٍ على نقيضِ حُكمهِ عندَ انتِفاءِ ذلكَ الوصفِ.
ويدخلُ في (الصِّفةِ) كلُّ قيدٍ ليسَ بشرطٍ أو غايةٍ أو حصرٍ أو عددٍ أو لقبٍ، فهذه الخمسةُ سيأتي بيانُ دلالاتها مستقلَّةً.
مثالهُ: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] المنطوقُ: وجوبُ تحريرِ رقبةٍ مؤمنَةٍ، والمفهومُ: منعُ تحريرٍ رقبةٍ كافرةٍ.
ومنهُ حديثُ: ((وفي صدقةِ الغنمِ في سائمتِهَا إذا كانتْ أربعينَ إلى عشرينَ ومئَةٍ شاةٌ)) [أخرجه البخاريُّ في حديث أبي بكرٍ في الصَّدقاتِ] ، فعُلِّقتْ زكاةُ الغنمِ بوصفِ (سائمة) ، والسَّائمَةُ هي الَّتي ترعى بنفسِهَا لا تُعلفُ، هذا هو المنطُوقُ، والمفهومُ: لا زكاةَ في
المعلوفَة.
2ـ مفهوم الشَّرطِ:
هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بشرطٍ على ثبوتِ نقيضهِ عندَ انتِفاءِ الشَّرطِ.
مثالهُ: قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4]، المنطُوقُ: إباحَةُ ما طابتْ بهِ نفسُ الزَّوجَةِ من مهرِهَا، والمسكوتُ: حرمَةُ ذلكَ بغيرِ طيبِ نفسٍ منها.
3ـ مفهوم الغاية:
هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بغايةٍ على نقيضِ حكمِهِ عندَ انتفاءِ تلكَ الغايةِ.
مثالهُ: قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، المنطوقُ: وجوبُ قتالِ الفِئةِ الباغيَةِ لغايةِ أن تفيءَ، والمفهومُ: تركُ قتالِهَا بعدَ أن تفيءَ.
4ـ مفهوم الحصر بـ (إنَّما) :
هو إثباتُ الحكمِ لشيءٍ بصيغةٍ ونفيُهُ عمَّا عداهُ بمفهومِ تلكَ الصِّيغةِ.
وهو قد يقعُ بغيرِ (إنَّما) ، لكنْ هذا الَّذي يصحُّ اندراجُه منها تحتَ (أنواع المفهوم) .
مثالهُ: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [متفقٌ عليه]، المنطوقُ: اعتبارُ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ، والمفهومُ: عدمُ اعتبارهَا بغيرِ النِّيَّاتِ.
5ـ مفهوم العددِ:
هو أن يدلَّ اللَّفظُ المقيَّدُ بعددٍ على نقيضِ حُكمهِ عند انتفاءِ ذلكَ العَدد.
مثالهُ: قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، المنطوقُ: وجوبُ صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ، والمفهومُ: ما نقصَ عن ذلكَ أو زادَ عليهِ.
6ـ مفهوم اللَّقب:
هو دلالةُ اللَّفظِ الَّذي عُلِّقَ الحُكمُ فيهِ بالاسمِ العَلمِ على انتفاءِ ذلك الحُكمِ عن غيرِهِ.
مثالهُ: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]، مفهومهُ: غيرُ محمَّدٍ ليسَ رسولَ الله.
وقولهُ صلى الله عليه وسلم: ((في الحَجْمِ شفاءٌ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبو نُعيمٍ الأصبهاني في ((الحلية)) 3/121 بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بنِ سرْجِس]، مفهومهُ: ليسَ في غيرِ الحَجْمِ شفاءٌ.
* حجية المفهوم
هلْ مفهومُ المخالفَةِ حُجَّةٌ؟ في ذلك تفصيلٌ، وهو ورادٌ على ثلاثةِ أقسامٍ:
1ـ ليسَ بحُجَّةٍ عندَ جمهورِ العلماءِ إلَاّ في قولٍ شاذٍّ قال بهِ بعضُ الشَّافعيَّة والحنابلَةِ، وهو (مفهومُ اللَّقبِ) ، وفسادُه ظاهرٌ.
2ـ حجَّةٌ اتِّفاقًا، وهو أنواعُ المفهومِ الأخرى (الوصفُ، والشَّرطُ، والغايةُ، والحصرُ، والعددُ) في غيرِ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّة، أيْ: في ألفاظِ النَّاسِ في العُقودِ والمُعاملَاتِ وعباراتِ المؤلِّفينَ والفقَهاءِ.
فقولُ القائلِ: (وقفُ هذه الدَّارَ على طلََةِ العُلومِ الشَّرعيَّة) نصٌّ في اختصاصِهم بها، مفومُهُ: ليستْ وقفًا على غيرهِم، وإذا قالَ:(إنَّما هذا لكَ) أيْ: ليسَ لغيرِكَ.
3ـ مختلفٌ فيه على مذهبينِ مشهورينِ:
[1]
أكثرُ العلماءِ: المفاهيمُ الخمسَةُحجَّةٌ في جميعِ النُّصوصِ، لافرقَ في الاعتِدادِ بها بينَ نُصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو اعتبارَاتِ النَّاسِ، ومنهُم من يتردَّدُ في بعضهَا كفهومِ (العَدَد) .
ومن الدَّليلِ على الاحتجاج بها: أنَّه المتبادرُ إلى الفهمِ من أساليبِ العربيَّة، فقولُك لإنسانٍ:(إنْ تفعلِ الخيرَ تُفلحْ) دالٌّ بمفهومِه على: (إن لا تفعلِ الخيرَ لا تُفلِحُ) ، وإلَاّ فلا فائِدَةَ من تعليقِ الجزاءِ على
الشَّرطِ.
ورَوَى مُسلمٌ عن يعلى بنِ أُميَّةَ قالَ: قلتُ لِعُمرَ بنِ الخطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقدْ أمنَ النَّاسُ؟ فقالَ: ((صدَقَةٌ تصدَّقَ الله بها عليكُم فاقبَلُوا صدَقتَهُ)) .
فهذا دليلٌ على صحَّةِ الاستِدلالِ بالمفهومِ عندَهُم، فإنَّ سليقَةَ عُمرَ العربيَّة جعلتْهُ يعجبُ من بقاءِ الحُكمِ عندَ انتِفاءِ الشَّرطِ لأنَّه مُدركٌ أنَّ الأصلَ عدَمُهُ، حتَّى بيَّن لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ بقاءَ الحُكمِ صدَقَةٌ من الله تعالى على المُسلمينَ.
[2]
الحنفيَّةُ ووافقَهُم بعضُ العلماءِ من غيرِهِم: ليسَ بِحُجَّةٍ في نُصوصِ الشَّريعَةِ.
والسَّببُ أنَّهُم رأوْا كثيرًا من صُورِ المفهومِ غيرَ مُرادَةٍ.
* الراجح:
صحَّةُ أن يكونَ المفهومُ مُدركًا من لسانِ العربِ وأساليبِهَا، تدلُّ على أنَّهُ لا يصلُحُ اعتبارُ الاستِدلالِ به في سائرِ الكلامِ العربيِّ دُونَ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، لكن يجبُ أن يُضبطَ بِبعضِ الشُّروطِ لإخراجِ ما لا يصحُّ أن يُستدلَّ به لهُ.
* شُروط صحته:
1ـ أن يسلمَ الحُكمُ من المُعارضِ.
فمفهومُ قوله صلى الله عليه وسلم: ((وفي صَدَقةِ الغنمِ في سائمتِهَا إذا كانتْ أربعينَ إلى عِشرينَ ومئَةٍ شاةٌ)) [أخرجه البُخاريُّ] ، أن لا زكاةَ في المعلوفَةٍ، بشرطِ أن لا يكونَ الدَّليلُ ثبتَ بوجوبِ الزَّكاةِ فيهاَ.
فاستِدلالُ بعضِ المالكيَّةِ بمفهومِ قوله صلى الله عليه وسلم: ((الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِهَا من وليِّهَا)) أنَّ البِكرَ تُجبرُ، استِدلالٌ بالمفهومِ مع قيامِ المُعارضِ، كما أشعرَ به سِياقُ الحديثِ بتمامِهِ، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:((الثَّيِّبُ أحقُّ بنفسِها من وليِّها، والبِكرُ تُستأمَرُ وإذْنُها سُكوتهَا)) [أخرجه مسلمٌ من حديث ابن عبَّاسٍ]، بل هو كذلكَ عندَ مالكٍ في ((موطَّئهِ)) بلفظ:((الأيِّمُ أحقُّ بنفسهَا من وليِّهَا، والبِكرُ تُستأذَنُ في نفسِهَا، وإذنُهَا صُماتُها)) ، فلو صحَّ إجبارُهَا لم يكُن لاستِئذانِها معنَى، وثبتَ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وغيرهِ أنَّ جاريَةً بِكرًا أتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكرتْ أنَّ أباهَا زوَّجَها وهي كارِهةٌ، فخيَّرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم[أخرجه أبوداود وغيرهُ، وهو صحيحٌ] .
وممَّا سقطَ فيه اعتبارُ المفهومِ المُعارضِ فصَّةُ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ المتقدِّمَةُ في قصرِ الصَّلاةِ.
ومن ذلكَ قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما الرِّبا في النَّسيئة)) [متفقٌ عليه من حديثِ أُسامَةَ بن زيدٍ، واللَّفظُ لمُسلمٍ] ، فكانَ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يحتجُّ
بمفهومِ هذا الحديثِ بنفيِ الرِّبا في غيرِ النَّسيئةِ وحصْرِه في النَّسيئةِ، وإنَّما خالفهُ غيرُهُ من الصَّحابةِ كأبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه وغيرِه لا في صحَّةِ إفادَةِ الحصرِ بهذهِ الصِّيغةِ، وإنَّما لثُبوتِ المُعارضِ عندَهُم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ثبوتُ تحريمٍ ربا الفضلِ.
2ـ أن لا يكونَ خرَجَ مخرجَ الغالبِ.
فمثالُ ما سقطتْ فيه دلالةُ المفهومِ لمجيئِهِ على هذا المعنَى: قولهُ تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ، فهذا شرطٌ لا مفهومَ لهُ؛ لأنَّ الإكراهَ لا يقعُ عادةً مع الرَّعبةِ في البِغاءِ؛ إنَّما يقعُ وهُنَّ يُردْنَ العِفَّةَ، فالمَعنَى: لا يحلُّ إكراهُهُنَّ على البِغاءِ أرَدْنَ تحصُّنًا أو لم يُرِدْنَ.
وتقدَّم في (المُطلقُ والمقيَّدِ) قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نسائكم اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فقولهُ: وصفٌ لكنَّهُ لا أثرَ لهُ وإنَّما خرجَ مخرَجَ الغالبِ، لأنَّ بنتَ الزَّوجةِ تكُونُ غالبًا مع أُمِّهَا.
ومن ذلكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] ، فلا مفهومَ لهُ في جوازِ أكلِ القليلِ من الرِّبا، وإنَّما خرجَ هذا مخرجَ الغالبِ، فإنَّ أحدَهُم كانَ يقولُ لمن لهُ عليهِ الدَّينُ: إمَّا أن تقضي وإمَّا أن تُربيَ، فإن قضَى وإلَاّ زادَهُ، حتَّى يصيرَ
ذلكَ أضعافًا مُضاعفَةً.
3ـ أن لا يقصَدَ به تهويلُ الحُكمِ وتفخيمُهُ.
أن لا يقصد به تهويلُ الحكمِ وتفخيمهُ.
كقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، وقوله:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، فلا يُقالُ: لا تجبُ مُتعة الطَّلاقِ على غيرِ مُحسنٍ ولا متَّقٍ، لأنَّ الحكم في الأصلِ يتناولُ كُلَّ مكلَّفٍ، إلَاّ أنَّ مخاطبةَ المكلَّفِ بوصفِ الإحسانِ والتَّقوى تذكيرٌ له بما يجبُ عليه بمقتضَى هذينِ الوصفينِ، وفي ذلكَ تعظيمُ جانبِ الأمرِ والنَّهي وتقويةٌ للباعثِ على الامتِثالِ، ولو قيلَ لمسلمٍ:(إن كنتَ تتَّقي الله فافْعلْ كذا) ، فإنَّه لا يخفى أثرُ هذا الخطابِ في الإشارَةِ إلى عظمةِ ذلك الشَّيء المأمورِ به ورفعَةِ قدْرِه ومنزلتِه، مع ما يقترنُ به من زجرِ القُلوبِ الغافلةِ، ولا يقولُ المخاطبُ حينئذٍ:(لا يشملُني الخِطابُ، لأنِّي لستُ من المتَّقينَ بمفهُومِ اللَّفظِ؛ وإنَّما هذا خِطابٌ للمتَّقينَ خاصَّةً) .
4ـ أن لا يكونَ مخرَجَ الجوابٍِِ على سُؤالٍ معيَّنٍ.
مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلَاةُ اللَّيلِ مثنَى مثنَى)) [متفقٌ عليه] ، فهذا النَّصُّ لا مفهومَ لهُ، فلا يُقالُ:(صلَاةُ غيرِ اللَّيلِ ليسَتْ مثنَى مثْنَى) بسببِ أنَّ الحديثَ جاءَ جوابًا عن صلَاةِ اللَّيلِ خاصَّةً فلا يتعدَّاهَا
لإفادَةِ حكمِ غيرهَا، فعنْ عبدِالله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما: أنَّ رجلا ً سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأنا بينهُ وبينَ السَّائلِ، فقالَ: يا رسول الله، كيفَ صلاةُ اللَّيلِ؟ قالَ:((مثنَى مثنَى، فإذا خشيتَ الصُّبحَ فصلِّ ركعَةً، واجْعلْ أخرِ صلاتِكَ وِترًا)) [متفقٌ عليه] .
5ـ أن لا يكونَ أُريدَ بهِ المُبالغَةُ.
كقوله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في شأنِ المُنافقينَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، فالعدَدُ هُنَا لا مفهومَ لهُ، إنَّمَا خرَجَ على سبيلِ المُبالغَةِ، والمعنَى: مهمَا استَغْفرتَ لهُم، وهذا مُؤيِّدٌ بحديثِ عُمرَ رضي الله عنه قالَ: لمَّا ماتَ عبدُالله بنُ أُبيٍّ ابنُ سلُولَ دُعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُصلِّي عليهِ، فلمَّا قامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَبْتُ إليهِ، فقلتُ: يا رسول الله، أتُصلِّي على ابنِ أُبيٍّ وقد قالَ يومَ كذَا: كذا وكَذا؟ قالَ: أُعَدِّدُ عليهِ قولهُ، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ:((أخِّرْ عنِّي يا عُمرُ)) فلمَّا أكثرتُ عليه قالَ: ((إنِّي خُيِّرتُ فاختَرْتُ، لو أعلمُ أنِّي إنْ زِدْتُ على السَّبعينَ يُغفرُ لهُ لزِدتُ عليهَا)) ، قالَ: فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ انصرَفَ، فلم يمكُثْ إلَاّ يسيرًا حتَّى نزلتِ الآيتانِ من برَاءَةِ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قولهِ: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، قالَ: فعجِبتُ بعدُ من جُرأتِي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسُولهُ أعلمُ [أخرجهُ البخاريُّ] ، ففيهِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ظنَّ أنَّ العَدَدَ للمُبالغَة، كما رجا
أن ينفعَ الاستِغفارُ لو زادَهُ على السَّبعينَ رغبةً منهُ في رحمةِ أُمَّتِه صلى الله عليه وسلم، كمَا يدلُّ عليهِ صرَاحَةً روايةُ عبدِالله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما لهذه القصَّةِ، حيثُ قال فيها صلى الله عليه وسلم:((وسأزيدُه على السَّبعينَ)) [متفقٌ عليه] ، فلمَّا نزلتِ الآيتَانِ بعدَ ذلكَ تأكَّد الظَّنُّ بأنَّ العدَدَ كانَ للمُبالغَةِ.
6ـ أن لا يُقصدَ بالسِّياقِ التَّنبيهُ على معنَى يصلُحُ القياسِ عليهِ بطريقِ المُسَاواةِ أو الأولويَّة.
مثلُ قوله صلى الله عليه وسلم: ((خمسٌ من الدَّوابِّ كلُّهنَّ فاسقٌ يُقتلْنَ في الحرمِ: الغُرابُ، والحِدَأة، والعقربُ، والفأرَةُ، والكلبُ العقُورُ)) [متفقٌ عليه من حديثِ عائشةَ] ، فالعددُ هُنا لا مفهومَ لهُ وإنَّما جاء ذِكرُ هؤلاءِ الخمسِ لأذيَّتِهنَّ، وقد يوجدُ هذا المعنَى في غيرهنَّ من دوابِّ الأرضِ أو الطَّيرِ بما يُساويهنَّ في الأذيَّةِ أو يزيدُ عليهنَّ ممَّا لا يكونُ صيدًا، فيكونُ لهُ حُكمهنَّ.
فمتَى تحقَّقتْ هذه الشُّروطُ كان الاحتِجَاجُ بالمفهومِ صحيحًا معتبرًا جاريًا على أسلوبِ أهلِ اللِّسانِ، وإنَّما تُذكرُ هذه الشُّروطُ لاحتِرازَاتِ شرعيَّةٍ لا من جهَةِ اللُّغة.
* * *