الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .
الثَّاني: مراعاتُها عندَ الاستِنباطِ والنَّظرِ في المُستجِدَّاتِ والحوادِثِ فيما طريقُه الاجتِهاد، لأنَّ القصدَ إلى مُوافقَةِ الحقِّ لا يُمكنُ من غيرِ اعتبار نوعِ مُطابَقَةِ في ذلكَ الاجتِهادِ لحُكمِ الله عزَّوجلَّ، وتلكَ المُطابقَةُ ليسَتْ بمجرَّدِ الألفاظِ، بلْ بالمعاني الَّتي لم تُستعملِ الألفاظُ في الحقيقَةِ إلَاّ للإبانَةِ عنهَا، وتلكَ المعانِي هيَ حِكَمُ التَّشريعِ، وهيَ عِللُ الأحكامِ، وهيَ مصالحُ العِبادِ.
وجملَةُ ما ترجعُ إليهِ المصالحُ ثلاثةُ أنواعٍ لا رابعَ لهاَ تقدَّم ذكرُها موجزَةً في (دليلِ المصلحة المُرسلة) وهذا مقامُ بيانِهَا فهيَ:
1ـ الضَّروريَّات:
وهيَ كلُّ أمرٍ لا بدَّ منهُ القِيامِ مصالحَ الدِّينِ والدُّنيَا، بحيثُ إذا فُقِدَ لم تجرِ مصالحُ الدُّنيَا على استِقامَةٍ، بلْ على فسادٍ وهلاكٍ وفي الآخرَةِ على خِزيٍ ونَدامَةٍ وخُسرانٍ مُبينٍ.
وتلكَ الضَّروراتُ خمسٌ: الدِّينُ، والنَّفسُ، والعقلُ، والمالُ، والعِرضُ.
وجاءتِ الشَّريعَةُ لحِفظِهَا بأمريْنِ:
الأوَّلُ: ما يُقيمُ أركَانَهَا ويُثبِّتُ قواعِدَهَا.
والثَّاني: ما يدْرأُ عنها الاختلالَ الواقعَ أو المُتوقَّعَ.
وعليهِ فشرَعَتْ:
[1]
لحفظِ الدِّينِ: فرضَ الإيمانِ والتَّوحيدِ، والصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ، والحجِّ، وما أشبه ذلكَ، وفرضتِ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكرِ والجِهادَ ليكونَ الدِّينُ للهِ، ويُقابلُ ذلك تحريمُ الكُفرِ، وتركِ الشَّرائعٍ المذكورَةِ، والزِّيادَة في الدِّينِ بالابتِداعِ فيه بما لا يرجعُ إلى أصلٍ في الشَّرعِ، وإيجابِ قتلِ المُرتدِّ والمُحاربِ.
بلْ أكَّدتِ الشَّريعَةُ حفظَ الدِّينِ بما يزيدُ في الثَّباتِ عليهِ من مُكمِّلاتِ الضَّرورَةِ، فضرُورَةُ الإيمانِ شرعَ لهَا ما يزيدُها تثبيتًا بكثرَةِ الذِكرِ كتسبِيحِ وتهليلٍ وتحميدٍ واستِغفارٍ، وضرُروةُ الصَّلاة شرعَ لهَا من مكمِّلاتِ حفظِها شعيرَةَ الأذانِ لإظْهارِهَا، وصلاةَ الجَمَاعةِ، وهكذَا.
ولا يخفَبى أنَّ حفظَ الدِّين هو حفظُ سببِ العزَّةِ في الدُّنيَا، والفلَاحِ في الآخرَةِ.
[2]
لحفظِ النَّفسِ: شرعَتِ الزَّواجَ لحفظِ هذا النَّوعِ وتكثيرِهِ بالتَّناسُلِ، وأباحَتِ الأطعِمَةَ والأشرِبَةَ والألبِسَةَ والمسَاكِنَ، وما بهِ قيامُ الحياةِ من الأسبابِ ودوامُها، وحرَّمتْ ما يفْتِكُ بالنَّفسِ، كتعاطي السُّموم القاتِلَةِ، ومن ذلكَ تحريمُ قتلِ النَّفسِ بالانتِحارِ، كما قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وما يُضْعِفُها كتعاطِي أو
تركِ ما يقعُ بتعاطيهِ أو تركِهِ الأمراضُ والأسقامُ، كما شرَعَتِ القِصاصَ من القاتلِ، وقد قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، وحرِّمتِ الاعتِداءَ على الغَيرِ في نفسِه أو بعضِ أعضائِهِ بغيرِ حقٍّ، كما شرَعتْ أحكامَ الدِّياتِ عُقوبَاتٍ للمخالفينَ في ذلكَ.
وشرعتْ تكميلاً لحفظِ هذه الضَِّروروةِ منع ما يحولُ دونَ تحقيقِ حفظهَا على أتمِّ وجهٍ، فلذَا أوجبتِ التَّماثُلَ في القتلَى، منعًا للتَّذرُّع في حالةِ عدمِ التَّماثُلِ بين القاتِلِ والمقتُولِ إلى تكرُّرِ الاعتِداءِ الَّذي من أجلِ إبطالِه وجبَ القِصاصُ.
والنَّفسُ سببُ الدَّوامِ والبقاءِ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليهَا.
[3]
لحفظِ العقلِ: إباحَةَ الأسبابِ الَّتي يدومُ بها ويبقى ببقاءِ الإنسانِ مستعملاً له فيما يعودُ عليهِ بالنَّفعِ في الدُّنيَا والآخرَةِ، وتحريمَ ما كانَ سببًا في إزالتِهِ أو إضعَافِه ممَّا للمكلَّفِ فيهِ اختيارٌ، كإزالتِه بتعاطي المُسكرَاتِ، وأوجبَتِ العُقوبةَ فيهَا.
وكذلكَ منعَتْ شُربَ القليلِ من الخمرِ وإنْ لم يُسكِر تتْميمًا في حفظِ هذهِ الضَّرورَةِ، وذلكَ سَدًّا للذَّريعَةِ.
والعقلُ سببُ التَّكليفِ وأساسُه، كما أنَّه سببُ للعدْلِ في جميعِ التَّصرُّفاتِ.