الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للقياسِ، ويكفي في إبطالِهَا خُروجُها عن الضَّابطِ الصَّحيحِ للقياسِ.
والخلاصة:
أنَّ القياسَ إذا روعِيتْ أركَانُهُ وشرُوطُهُ فهو طريقٌ من طُرقِ الاجتهادِ، وإثباتُ الأحكامِ به فيما لا نصَّ فيه إنَّما هو من قبيلِ الاجتهادِ، وما كانَ من بابِ الاجتهادِ فإنَّهُ يصحُّ ردُّهُ بالنَّصِّ، ويكونُ ذلك دليلاً على فسادِهِ، كما تصحُّ مقارعتُهُ باجتهادِ مثلِهِ، والحُجَّةُ بهِ لا تلزَمُ المُخالفَ.
مسألة الاستحسان
* تعريفه:
لغةً: عدُّ الشَّيءِ حسنًا.
وأمَّا اصطلاحًا: فقدِ اختلفَ القائلونَ به في تعريفهِ، وحاصلُ أمرِهِ يعودُ إلى: تركِ وجهٍ من وجوهِ الاجتهادِ الجَارِية على القواعدِ، كالقياسِ أو القاعدَة الشَّرعيَّة الكليَّةِ، لوجهٍ بَدا للمجتهِدِ أنَّهُ أقوَى.
ومن أمثلَتِهِ الَّتي تُوضِّحُ المقصودَ به عندَ القائلِ بهِ:
1ـ لو قالَ إنسانٌ: (مالي صدَقَةٌ)، فالأصلُ: أن يتصدَّقَ بكلِّ مالٍ عندَهُ، ولكنْ خصَّ بالمالِ الَّذي فيه الزَّكاةُ استِحسانًا، كما في قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] .
2ـ لو قرَأَ المُصلِّي آيةَ سجدَةٍ في آخرِ سورةٍ، فالقياسُ: أن يجتزيءَ بالرُّكوعِ، ولكنَّه يسجُدُ لها استحسانًا.
3ـ لو وقفَ إنسانٌ أرضًا زراعيَّةً فهلْ يدْخلُ في الوقفِ حقُّ المسيلِ والشُّربِ والمُرورِ تبعًا ولا تحتاجُ إلى النَّصِّ عليها عند الوقفِ؟ تجاذبَ هذه المسألةَ قياسَانِ:
أحدُهمَا جليٌّ قريبٌ، والآخرُ خفيٌّ بعيدٌ، فالقياسُ الجليُّ: أنَّها لا تدخلُ في الوقفِ إلَاّ إذا نصَّ عليها الواقفُ قياسًا على البيعِ، لأنَّ كُلاًّ من (الوقفِ) و (البيعِ) إخراجُ ملكٍ من مالكِهِ، والقياسُ الخفيُّ: أنَّهَا تدخُلُ في الوقفِ من غير احتِياجٍ إلى النَّصِّ عليها قياسًا على الإجارَةِ، لأنَّ كلاًّ من (الوقفِ) و (الإجارَة) مقصودٌ بهِ الانتفاعُ، ولو استَأْجرَ إنسانٌ أرضًا فيها بئرُ ماءٍ فله الانتفاعُ بماءِ البئرِ بمقتضى عقدِ (الإجارَةِ) من غيرِ احتياجٍ إلى التَّنصيصِ عليهِ في العقدِ.
4ـ عقدُ الاستِصناعِ، وهوَ: شراءُ ما يُصنعُ وقفًا للطَّلبِ، وهو تعاقُّدٌ على معدومٍ وقتَ العقدِ، والأصلُ: منعُ بيعِ المعدومِ، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لحكيمِ بن حِزامٍ:((لا تبعْ ما ليسَ عندَكَ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أصحابُ السُّننِ]، وفي صحيفة عمرِو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرِو قالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيعٍ، ولا رِبحُ ما لم تضمَنْ، ولا بيعُ ما ليسَ عندكَ)) [حديثٌ حسنٌ صحيحٌ أخرجه أصحاب السُّننِ] ، فجازَ استثناء من
القاعِدَةِ بالاستحسانِ.
هذه الأمثلة توضِّحُ مسلكَ القائلينَ بـ (الاستِحسانِ)، والتَّحقيقُ: أنّ الصواب في أحكامِ الأمثلة المذكورةِ مُدركٌ من وجوهٍِ ظاهرةٍ من غير حاجةٍ إلى مصطلح (استِحسانِ) فالمثالانِ الأوَّلانِ لا يُسلَّم الحكم فيهما، فإنَّ تخصيصَ قول من قال (مالي صدقة) بما ذُكر ليسَ صوابًا، بل الأصلُ العمُومُ إلَاّ أن يكونَ القائلُ أراد بذلكَ بعدَ موتِهِ فيكونُ لقولهِ حُكمُ الوصيَّةِ، والمثالُ الثَّاني في قضيَّةٍ فالأصلُ فيها استعمالُ الشَّرعِ للفْظِ (سُجود) ، ولا يُرادُ به الرُّكوعُ إلَاّ في اللُّغةِ، والحقيقةُ الشَّرعيَّةُمقدَّمةٌ على الحقيقةِ اللُّغويَّةِ، خلافًا للحنفيَّةِ، فيكونُ مُتناولاً للسُّجودِ لا للرُّكوعِ بالنَّصِّ لا بالاستحسانِ المُبهمِ المعنى، وأمَّا المثالانِ الآخرانِ فمرجِعُهما إلى اعتبارِ المقاصِدِ الشَّرعيَّةِ في نفعِ المكلَّفينَ فهُما راجعانِ إلى اعتبارِ المصالحِ، وهذا الَّذي سلكَهُ المالكيَّةُ في مثلِ هاتينِ الصُّورتينِ، وسيأتي الكلامُ عن (دليل المصلحة) .
ولا تكادُ ترى المسألَةِ (الاستحسان) مثالاً صحيحًا يأتي على تعريفٍ صحيحٍ، ويكفي أنَّ القائلينَ به اضْطربُوا فيه، حتَّى عدُّوا صُورًا من الأحكامِ ثابتةً بالنَّصِّ (استِحسَانًا) .
ورافعُوا رايةِ الاحتِجاجِ به هُمُ الحنفيَّةُ، وقابلهُم الشَّافعيُّ فأنكرَ ذلكَ بشِدَّةٍ، حتَّى قال رحمه الله: إنَّما الاستحسانُ تلَذُّذٌ (الرِّسالة
فقرة: 1464) ، وله كتابٌ صنَّفهُ سمَّاه (إبطال الاستِحسان) هوَ ضِمنَ كتابِ (الأم)(7/293) ، ومن العلماءِ من قصدَ التَّلطُّف مع الحنفيَّةِ في مذهبِهم في هذه المسألةِ فادَّعى حملَ ذمِّ الشَّافعيِّ وشِدَّة إنكارِهِ على القولِ في الدِّين بمجرَّدِ الهوى، والحنفيَّةُ لم يُريدُوا ذلكَ بالاستحسانِ، ومنهُم من قال: إنَّما أنكرهُ الشَّافعيُّ من جهةِ اللَّفظِ مستقبِحًا أن يقول القائلُ: (اسْتحسِنُ) وينسُبُهُ للدِّينِ.
والاعتداءُ عن أهلِ العلمِ مطلوبٌ والذَّبُّ عنهُم واجبٌ، وإذا كان أصلُ استحسانِ الحنفيَّةِ يعودُ إلى الدَّليلِ، فالحُجَّةُ إذًا في الدَّليل لا فيما سمَوْهُ (استحسانًا) ممَّا حاروا في ضَبْطِه، إلَاّ أنَّ المقامَ يقتضي ذّبًّا عن الشَّافعيِّ رحمه الله، فإنه حين أبطلَ الاستِحسانَ كان قاصدًا به استِحسانَ الحنفيَّة، ومن طالعَ كلامَهُ في ذلكَ رآهُ واضحًا، وما كَانُوا في منأى عنهُ، بلْ كان خبيرًا بمذاهبِهم، فلم يكُن ليردَّ على صورَةٍ وهميَّةٍ لا حقيقةَ لها ليُحملَ كلامُهُ عليها، وأمَّا قولُ من قال:(إنَّ الشَّافعيَّ ومن وافقهُ إنَّما استَقْبحُوا لفظَ الاستِحسانِ) فهذا خطأٌ، فإنَّ الشَّافعيَّ وأحمدَ وكثيرًا من الأئمَّةِ استخْدَموا هذا اللَّفظَ في كلامهِمْ ومسائلِهم، وأصحابُهُم يذْكُرونَ نماذجَ في ذلكَ من عبارَاتِهمْ، فهُم أرفعُ من أن يكونُوا أنكرُوا (الاستِحسانَ) لمجرَّدِ اللَّفظِ.
* * *