الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة سد الذرائع
* تعريفها:
(الذرائعُ) جمعُ (ذريعةَ) وهي لُغَةً: الوسيلةُ المؤدِّيةُ إلى الشَّيءِ.
واصطلاحًا: الوسيلةُ الموصِلةُ إلى الشَّيءِ الممنوعِ المشتملِ على مفسدَةٍ، أو المشروعِ المشتمل على مصلحةٍ.
فهي لهذا الاعتبارِ متَّصلةٌ بالكلامِ على أصلِ (المصالح) .
* أنواعها:
بحسبِ ما تكونُ ذريعَةً له نوعانِ:
[1]
ذريعةٌ مشروعَةٌ، وهي المُوصلَةُ إلى مشروعٍ.
مثلُ: السَّعيِ إلى الجمُعَةِ (ذريعةٌ) توصلُ إلى شُهودِ الجُمُعةِ وهوَ (مشروعٌ) .
ويُقالُ للأمرِ بالسَّعي إليها: (فتحُ باب الذّريعةِ) .
[2]
ذريعةٌ ممنوعَةٌ، وهي الموصلَةُ إلى ممنوعٍ.
مثلُ: الخلوةِ بالمرأةِ الأجنبيَّة، فهيَ (ذريعةٌ) توصلُ إلى الزِّنا وهو (ممنوعٌ) .
ويقالُ لمنعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ: (سَدُّ بابِ الذَّريعة) .
فهذا التَّقسيمُ يعني أنَّ: ما أدَّى إلى المشروعِ فهوَ مشروعٌ، وما أدَّى
إلى الممنوعِ فهوَ ممنوعٌ، وبعبارَةٍ أخرى:(الوسائلُ لها حُكمُ المقاصِدِ) .
على أنَّهُ غلبَ أن يُستَعملُ لفظُ (الذَّريعةِ) في الوسيلةِ المُفضيَة إلى المفسدَةِ، ومن هذا جاء أصلُ (سدِّ الذَّرائعِ) .
2ـ بحسبِ ورودِ النَّصِّ باعتبارهَا وعدمِه، ثلاثةُ أنواعٍ:
[1]
ذريعةٌ وردَ النَّصُّ باعتبارهَا مؤديَّةً إلى الممنوعِ، كما تقدَّم في منعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ.
[2]
ذريعةٌ ورد النَّصُّ باعتبارهَا مؤدِّيةً إلى الممنوعِ، كما تقدَّم في منعِ الخلوةِ بالأجنبيَّةِ.
[3]
ذريعةٌ سكت عنها النَّصُّ، فلم يأمرُ بها ولم ينهَ عنهَا.
فما ورد النَّصُّ به من الذَّارئعِ فالأصلُ فيه حكْمُ النَّصِّ، ولا يُشكلُ أمرُهُ من حيثُ ورودِ النَّصِّ بهِ، ولا يندرجُ تحتَ (مسألةِ سدِّ الذَّرائعِ) ، إنَّما يندرجُ تحتهَا النَّوعُ الثَّالثُ.
ويُعرِّفُه بعضُ الأصولَّيين بأنَّهُ: ((المسألة الَّتي ظاهرُهَا الإباحَةُ ويُتوصلُ بها إلى فعل محظورٍ)) .
* درجات المباحات التي تُفضي إلى المفاسد ثلاث:
1ـ ما يكونُ إقضاؤهُ إلى المفسَدَةِ نادرًا قليلاً، فالحُكم بالإباحةِ
ثابتٌ له بناءً على الأصلِ.
مثالُهُ: زِراعَةُ العِنبِ، فلا يمنعُ منها تذرُّعًا بأنَّ من النَّاسِ من يعصرُ منها الخمرُ، وتعليمُ الرَّجلِ النِّساءَ عند الحاجَةِ، فلا يُمنعُ منهُ تذرُّعًا بالفِتْنَةِ المُفضيَّةِ إلى الزِّنا، وكذا خُروجِهنَّ من بيوتهنَّ لمصالحهنَّ وشُهودُهُنَّ المساجِدَ ودورَ العِلمِ.
فتُقاسُ المصالحُ والمفاسدُ، فإنْ كانَ جانبُ المصلحةِ راجِحًا وهوَ الأصلُ في المباحاتِ فلا تُمنعُ بدعوى (سدِّ الذَّرائعِ) لمجرَّدِ ظنِّ المفسدَةِ أو لوُرودِهَا لكنَّها ضعيفةٌ في مُقابلَةِ المصلحةِ.
2ـ ما يكونُ إفضاؤُهُ إلى المفسدَةِ كثيرًا غالبًا، فالرُّجحانُ في جانبِ المفسدَةِ فيُمنعُ منهُ (سدَّ للذَّريعةِ) وحسْمًا لمادَّةِ الفسادِ.
مثالُهُ: بيعُ السِّلاحِ وقتَ وقوعِ الفتنةِ بين المسلمينَ بِقتالِ بعضِهمْ بعضًا، وإجارةُ العقارِ لمن عُلمَ أنَّه يتَّخِذُهُ لمعصيةِ الله.
ويُلاحظُ في هذا أنَّ (سدَّ الذَّريعة) إلى المفسدَةِ عارضٌ حيثُ يكُونُ المُباحُ موصلاً إلى المحظورِ، وإلَاّ فإنَّ بيعَ السِّلاحِ وإجارةَ العقارِ لا يمْتنعانِ في ظرفٍ عاديٍّ.
3ـ ما يحتالُ به المكلَّفُ ليستبيحَ به المحرَّمُ، وظاهرُ تلكَ الحيلةِ الإباحَةُ في الأصلِ.
مثالُهُ: الاحتيالُ على الرِّبا بِبيعِ العِينةِ، وهوَ: أن يبيعَ من رَجُلٍ
سلعةً بثمنٍ معلومٍ إلى أجلٍ مُسمَّى، ثُمَّ يشتريهَا منهُ بأقلَّ من الثَّمنِ الَّذي باعهَا بهِ.
فهذه الصُّورةُ من البيعِ حيلةٌ محرَّخةٌ بالنَّصِّ، كما في قولهِ صلى الله عليه وسلم:((إذا تبايعتُم بالعِينةِ، وأخذْتُم أذنابَ البقرِ، ورضِيتُم بالزَّرعِ، وتركْتُم الجهادَ، سلَّطَ الله عليكُم ذُلاًّ لا ينزعهُ حتَّى ترجعُوا إلى دينكُمْ)) [حديثٌ صحيحٌ أخرجه أبوداود وغيرُهُ من حديث ابنِ عُمرَ]، لكنَّ الحيلةَ الَّتي يتذرَّعُ بها بعضُ النَّاسِ هي: أن يضُمَّ إلى السَّلعةِ شيئًا كحديدةٍ أو خشبةٍ أو سكِّينٍ.
فالبيعُ مُباحٌ في الأصلِ، لكنَّ هذا الصُّورةَ ما قُصدَ بها البيعُ، إنَّما قُصدَ بها المالُن فهيَ وسيلةٌ إلى الزِّيادةِ الرِّبويَّةِ، فتُمنعُ (سَدَّ للذّرائعِ) .
* حجيَّة أصل سد الذَّرائع:
اختلفَ الفُقهاء في اعتبارِ هذا أصلاً ودليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ على مذهبينِ:
1ـ الحنفيَّةُ والشَّافعيَّةُ والظَّاهريَّةُ: ليسَ دليلاً من أدلَّةِ الأحكامِ.
والمُباحُ عندَهُم باقٍ على إباحتِهِ بِحُكمِ الشَّرعِ، وإذا مُنعَ منهُ فإنَّما يُمنعُ منهُ بدليلِ الشَّرعِ.
وما ذُكرَ من صورتي (سَدِّ الذَّرائعِ) فإنَّ الأولى كبيعِ العقارِ لمنْ
عُلمَ أنَّهُ يستعملُه لمعصيةِ الله يُمنعُ منها بدليل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، فجاءَ المنعُ بدليلِ الشَّرعِ من غيرِ احتياجٍ إلى أصلٍ نُسمِّهِ (سَدَّ الذَّرائعِ) .
وأمَّا الصُّورَةُ الثَّانيَةُ وهيَ (الحِيلُ) فإنَّ المحظورَ هو الوُقوعُ في المحظورِ، والاحتيالُ لا يُحيلُ الحُرمَةَ إلى الإبَاحَةِ، فالرِّبا لا تُبيحُهُ صورةٌ شكليَّةٌ سُمِّيتْ (بيعًا) ، والخمرُ لا يُبيحهُ أن يُسمَّى بغير اسمِهِ، والعبرَةُ في هذا بمُرعاةِ مقاصِدِ الشَّرعِ وتعريفهِ لأحكامِ الحرامِ.
2ـ المالكيَّةُ والحنابلةُ: بلْ هو دليلٌ من أدلَّةِ الأحكامِ.
واستدلُّوا بأنَّهُم رأو الشَّارعَ راعاهُ في التَّشريعِ، فهو يُحرِّم الزِّنا ويُحرِّمُ ما قاد إليهِ، فحرَّم النَّظر بشهوةٍ واللَّمسَ كذلكَ والخلوَةَ بالأجنبيَّةِ، ويُحرِّمُ الخمرَ ويُحرِّمُ كلَّ ما لهُ صلةٌ بها، فحرَّمَ عصرَهَا وبيعَها وشراءهَا وحمْلَهَا وسقْيَهَا والجُلوسَ على مائدَةٍ تدورُ عليها كما حرَّم شُربهَا، وما هذه إلَاّ سائلُ إليهاَ، ولا يُتصوَّرُ أن يُحرِّمَ الشَّارعُ شيئًا ثمَّ يأذنَ بأسبابِه ووسائلِهِ.
والأقربُ في هذا (سدًّ لذريعةِ) القولَ في دينِ الله بالرَّأي الَّذي قدْ يوردُ المشقَّةَ على المكلَّفينَ في التَّضييقِ في دائرةِ الحلالِ بالظُّنونِ، يكونُ المذهبُ الأوَّلُ أصحَّ المذهبينِ، وليسَ لهذا تأثيرٌ كبيرٌ في الواقعِ العمليِّ
فإنَّ كثيرًا من الأحكامِ متَّحدَةُ النتائجِ بين الفريقينِ، إلَاّ أنَّ الفريقَ الأوَّل يستدلُّ لها بدليلٍ آخر غيرِ (سدِّ الذَّرائِعِ) ، والثَّاني يستدلُّ لها بـ (سدِّ الذَّرائعِ) .
ومن العلماءِ من يستدلُّ لهذا الأصلِ بحديث النُّعمانِ بن بشيرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((إنَّ الحلالَ بيِّنٌ، وإنَّ الحرامَ بيِّنٌ، وبينهمَا مُشتبهاتٌ لا يعلمهُنَّ كثيرٌ من النَّاسِ، فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدينهِ وعرضِهِ، ومن وقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحرامِ، كالرَّاعي يرعى حولَ الحِمَى يوشكُ أن يرتع فيهِ، ألَا وإنَّ لكلِّ مالكٍ حمَى، ألا وإنَّ حمى الله محارمُهُ، ألَا وإنَّ في الجسدِ مُضغَةً إذا صلحَتْ صلحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وإذا فسدتْ فسَدَ الجسدُكلُّهُ، ألَا وهيَ القلبُ)) [متفقٌ عليه] .
وهذا استدلالٌ في غيرِ محلِّهِ، فإنَّ (المشتبهات) الَّتي لا يتميَّزُ فيها الحُكمُ أهي حلالٌ أم حرامٌ تُتركُ ورعًا، خشيَةَ أن يكونَ حقيقةُ حكمِهَا التَّحريمِ فيُواقعُهَا من غيرِ أن يكونَ لهُ تأويلٌ بالحلِّ فيقعَ في (الحرامِ) ، فهيَ في نفْسِهَا مظِنَّةٌ الحُرمَةِ وليسَتْ ذريعَةً إليها.
* * *