الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقدْ صحَّ عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمريْنِ إلَاّ أخَذَ أيسرَهُمَا ما لم يكُن إثمًا، فإنْ كانَ إثمًا كانَ أبعدَ النَّاسِ منهُ [متفقٌ عليه] .
فإذا كانَ الأمرانِ ليسَ فيهمَا حكمٌ في الشَّرعِ وتردَّدَ فيهمَا نظرُ الفقيهِ ألحقَهُمَا بالأصلِ، وهوَ عدمُ الإثمِ، ثمَّ يُرجِّحُ الأخذَ بأيسرِهمَا بناءً على الأصلِ في قواعدِ الشَّرعِ، وهديِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وليسَ هذا فيماَ يقوَى فيه جانبُ الشُّبهَةِ، فإنَّ ما كانَ كذلكَ فطريقُ الفقيهِ فيه الإمساكُ عن إبداءِ الرَّأي، إذْ لا يصحُّ أن يُفتى بمُقتضَى الشُّبهةِ لأنَّها ليستْ حكمًا، وأمَّا في نفسهِ فيترُكُ الشُّبهاتِ ورعًا ما وجَدَ إلى ذلكَ سبيلاً.
*
منافاة البدعة لمقاصد التشريع:
استيعابُ الشَّريعةِ للأحكامِ، ومجيءُ جميعِ تلكَ الأحكامِ على العدلِ والحقِّ، معَ قصدِ التَّيسيرِ ورفعِ الحرَجِ، يُنافي الزِّيادَةَ عليهَا والاستِدراكَ.
وما يُستفادُ من الأحكامِ للمستجدَّاتِ بطريقِ القياسِ الصَّحيحِ أو المصالحِ المُرسلَةِ أوِ الاستِصحابِ راجعٌ إلى تلكَ الأحكامِ، وهوَ منها ليسَ بخارجٍ عنهَا، ومُتناسبٌ مع مقاصدِ هذه الشَّريعةِ لتحقيقِ
مصلحَةِ المُكلَّفِ ورفعِ الحرجِ عنهُ.
وهذا بخلافِ البِدعةِ، فإنَّها: إحداثُ اعتقادٍ أو حكمٍ ليسَ لهُ مثالٌ سابقٌ.
وإن قارنتَ هذا بأدلَّةِ الأحكامِ الاجتهاديَّة، وجدْتهَا تُفارقُه:
فالقياسُ: إنَّما هو قياسٌ على النَّصِّ، فهوَ على مثالٍ سابقٍ، ثمَّ إنَّه يمتنعُ تصوُّرهُ في العقائدِ والعبادَاتِ المحضَة، لعدَمِ إدراكِ عللهَا، وعُمدَةُ القياسِ على عللِ الأحكامِ.
والمصلحةُ المُرسلةُ: إنَّما هي اعتبارٌ لمقاصدِ الشَّرعِ في حفظِ الضَّروراتِ ورفعِ الحرجِ، فهي صورةٌ من القياسِ على مثالٍ سابقٍ، وهي غيرُ واردةٍ إلَاّ في أمرٍ فيه مجالٌ للنَّظرِ، ولايُمكنُ ذلكَ إلَاّ بإدراكِ المعاني والعِللِ والمُناسباتِ، وهذا ممتنعٌ في عقيدةٍ أو عبادَةٍ محضةٍ، فالعقيدَةُ خبرٌ الله تعالى أو رسولهِ صلى الله عليه وسلم عنهُ فيما لا يحيطُ به العبادُ علمًا إلَاّ عن طريقِ الخبرِ، وأمَّا العبادَاتُ المحضةُ فشيءٌ قُصدَ به الابتلاءُ، والله عزَّوجلَّ راعى برحمتِه قُدُراتِ المُكلَّفينَ، وما جعلَ الصَّلاةَ من خمسينَ في العدَدِ في اليومِ واللَّيلَة إلى خمسٍ إلَاّ تيسيرًا على العبادِ وتخفيفًا لذلكَ الابتِلاءِ، وما جاءتْ الرُّخصُ في العبادَاتِ إلَاّ لهذا المعنى، والمصالحُ يقصدُ بها نفعُ المكلّفينَ بالتَّخفيفِ والتَّيسير ورفعِ الحرجِ، فكيفَ يصحُّ تصوُّرُ إثباتِ عبادَةٍ زائدَةٍ لم يأتِ بها التَّشريعُ أنَّها
تُحقِّقُ مقصدَ الشَّرعِ في نفعِ المُكلَّفينَ، مع أنَّ ألأصلَ في زيادَةِ التَّكليفِ الحرجُ؟
والاستصحابُ: استمرارُ العملِ بالدَّليلِ الثَّابتِ من الشَّرعِ لعدمِ وُرودِ ما يُغيِّرُه، فالحُكمُ فيه في الحقيقةِ حكمُ النَّصِّ.
وسائرُ أدلَّةِ إثباتِ الأحكامِ إنَّما هي النُّصوصُ من الكتابِ والسُّنَّةِ.
فأينَ موقعُ البِدعَةِ منها إذًا لإثباتِ عقيدَةٍ أو حُكمٍ؟
ولهذا حكمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإبطالِ جميعِ البِدعِ، وينبغي أن لا يُفرَّق بعدَ ذلكَ بين بدْعةٍ وبدْعةٍ، فإنَّ صاحبَ الشَّريعةِ لم يستثنِ منها شيئًا.
وفي ذلكَ قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدثَ في أمرنَا هذا ما ليسَ منهُ فهوَ رّدٌّ)) [متفقٌ عليه من حديث عائشةَ] وفي روايةٍ: ((من عملَ عملاً ليس عليهِ أمرُنا فهو ردٌّ)) [أخرجه مسلمٌ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم في خُطبتِهِ: ((أمَّا بعدُ، فإنَّ خيرالحديثِ كتابُ الله، وخيرَالهديِ هديُ محمَّدٍ، وشرَّالأمورِ مُحدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالَةٍ)) [أخرجه مسلمٌ عن جابرِ بن عبد الله] .
وإنَّما يقعُ الغلطُ في تصوُّرِ البِدعِ ومعناهَا، وما يدخلُ فيها وما يخرجُ منها بِسببِ تعريفاتٍ ضعيفةٍ ليستْ مُوافقةً في الحقيقةِ لمُرادِ الشَّارعِ بها، فهذا يقولُ: البِدعُ أقسامٌ منها المقبولُ ومنها المردُودُ، ومنهَا الحسنُ ومنهَا القبيحُ، ومنهُم من قسَّمهَا خمسةَ أقسامٍ على الأحكامِ
التَّكليفيَّة الخمسة، فقالَ: البِدعُ: واجبٌ، ومندوبٌ، ومُحرَّمٌ، ومكروهٌ، ومباحٌ، ومنهم من قال: هي حقيقةٌ وإضافيَّةٌ، إلى غير ذلكَ.
وربَّما شوَّس في إدراكِ معنى البِدعةِ: التَّوسُّع في إلحاقِ صورٍ كثيرةٍ بالبِدعِ، وكثيرٌ منها من قبيلِ المصالحِ المُرسلَةِ كصلاةِ التَّراويحِ على إمامٍ واحدٍ بعد العشاءِ، والأذانِ العُثمانيِّ، وجمعِ المُصحفِ، وتقنينِ العُلومِ، أو ممَّا يلحقُ بدليلِ الاستصحابِ كقاعِدَة (الأصلِ في الأشياءِ الإباحَة) كصُورٍ كثيرةٍ من العُرفِ، مثلِ الزِّيادَةِ في التَّحيَّةِ على لفظِ السَّلامِ، والتَّهنيئةِ بالعيدِ، ومنهَا ما يوجدُ علىخلافٍ صُورَةٍ لم تكُن عليها العادَةُ النَّبويَّةُ، كالأذانِ بين يدَي الإمامِ، والزِّيادَةِ في المنبرِ على ثلاثِ درجاتٍ، ونحو ذلكَ.
وهذه الصُّورُ في الحقيقةِ إلحاقُها بالبِدعِ خطأٌ، لأنَّها جميعًا تعودُ إلى أصولٍ صحيحةٍ في الشَّرعِ، وليسَ منها ما هو من قبيلِ الاعتقادِ أو العبادَةِ المحضَةِ.
ولا يصحُّ التَّشويشُ بقولِ عُمرَ رضي الله عنه في شأنِ صلاةِ التَّراويحِ: ((نِعمَ البِدعَةُ هذه)) ، فإنَّه لا يُستقبحُ لفظُ (البِدعةِ) لِذاتِه، وإنَّما العبرَةُ بمعناهُ، والَّذي وقعَ من عُمر رضي الله عنه جميعُه لهُ أصلٌ في الشَّرعِ، فإنَّ من تأمَّل القصَّةَ الَّتي قال فيها عُمرُ ذلكَ وجدَهَا بيِّنَةً في أنه أرادَ تقديمَ صلاةِ التَّروايحِ بعد صلَاةِ العشاءِ، فهذا لم يفعلْهُ رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم بالنَّاسِ في عهدِه، إنَّما خرجَ فصلَّى بهِم بعضَ اللَّيالي من آخرِ اللَّيلِ، وهذا الَّذي أحدثهُ عُمرُ رضي الله عنه له أصلٌ في الشَّرعِ وإنْ لم تكُن صُورتُه موجودَةً على عهدِ التَّشريعِ، وهوَ كونُ جميعِ اللَّيلِ وقتًا للصَّلاةِ فيهِ، من بعدِ العشاءِ إلى الفجرِ، فكانتِ المصلحَةُ المقتضيةُ نفعَ النَّاسِ أن يجعلهَا لهُم من أوقاتِ اللَّيلِ أفضلَ، ولهذا قال مُنبِّهًا على هذا المعنى:
((نِعم البِدعةُ هذهِ، والَّتي ينامونَ عنهَا أفضلُ من الَّتي يقومونَ)) يُريدُ آخرَ الَّليلِ، وكانَ النَّاسُ يقومونَ أوَّلهُ [أخرجه البُخاريُّ] .
فتسميَّةُ عُمر لهذا الفعلِ (بِدعة) محصورٌ بتقديمِ الصَّلاةِ أوَّل اللَّيلِ، وحيثُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفعلهُ كذلكَ فهو مُحدثٌ من هذا الوجهِ، فهذا التَّقديمُ ليس لهُ مثالٌ سابقٌ على صفتهِ من الفعلِ النَّبويِّ، لكنْ لهُ مثالٌ سابقٌ من جهةِ صحَّتِه في هذا الوقتِ من حيثُ الجُملَةُ، وهذه الصُّورةُ لا يصلحُ أن تُلحقَ بالبِدعِ الشَّرعيَّةِ، كما تقدَّمَ في استثناءِ ما يُستفادُ من أحكامِ الحوادِثِ بالقياسِ أو المصالحِ المُرسلَةِ أوِ الاستِصحابِ؛ لأنَّها راجعةٌ إلى الدَّليلِ من الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا تبقى عبرَةٌ مؤثِّرَةٌ في الألفاظِ إذا ظهرتْ دلالتُهَا.
والَّذي ينبغي مُطلقًا أن لا يُستعملُ لفظٌ يقعُ فيهِ الإيهامُ واللَّبسُ من غيرِ تحديدِ المُرادِ بهِ، وليسَ قومُنا كأصحابِ عُمرَ رضي الله عنه في إدراكِ مُرادِهِ، فما حملُوا قولهُ على مُخالفَةِ العُمومِ لقولِه صلى الله عليه وسلم: ((وكلَّ بِدعةٍ
ضلالَةٌ)) ، بلْ كانُوا يُدركُونَ أن لا مُشاحَةَ في الألفاظِ إذا احتملتِ المعاني الصَّحيحة، فأدركُوا أنَّ مرادَ عُمرَ بـ (البِدعة) غيرُ مرادِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها، وحيثُ اختلفَ المقصودُ فلا يُعترضُ على عُمومِ الحديثِ بالتَّخصيصِ، فيقالُ: جرَى ذلكَ مجرَى الغالبِ في البِدعِ، أو يُصادَمُ الحديثُ بالقولِ: البِدعةُ منها ما هوَ حسنٌ وما هوَ قبيحٌ، وإنَّما يُفهمُ كلامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الوجهِ الَّلائقِ بهِ، وتعريفُه للأشياءِ هوَ المُقدَّمُ على تعريفِ من سِواهُ.
وحاصلُ القولِ:
أنَّ البِدعَ ما لاوجهَ لهُ في القياسِ، أو لا يندرجُ تحتَ أصلٍ عامٍّ من أصولِ التَّشريعِ، أو يقعُ به من زيادَةِ التَّكليفِ ما ليسَ مُرادًا للشَّرعِ لقصدِهِ التَّخفيفَ على المُكلَّفينَ، وليستْ تحتصُّ بكونِهَا ممَّا وردَ بهِ دليلُ الشَّرعِ.
وأمثلتُهَا في العقائدِ: الكلامُ في صفاتِ الله عزَّوجلَّ بالتَّأويلِ والتَّعطيلِ والتَّشبيهِ، وحملُ نصوصِ الوعدِ والوعيدِ واليومِ الآخرِ والجنَّةِ والنَّارِ على غيرِ الحقيقةِ، والقولُ في التَّوراةِ والإنجيلِ والقُرآنِ أنَّها ليستْ كلامَ الله، والطَّعنُ على أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بسبٍّ أو تفسيقٍ أو تكفيرٍ، واعتقادُ تخليدِ أصحابِ الكبائرِ من الموحدينَ في النَّارِ، ونفيُ علمِ الله السَّابقِ للموجودَاتِ، وغيرُ ذلكَ.
وأمثلتُهَا في العبادَاتِ: تخصيصُ ليلةٍ من اللَّيالي بالقيامِ أو يومٍ بالصِّيامِ على اعتقادِ فضيلةٍ خاصَّةٍ لتلكَ اللَّيلةِ أو ذلكَ اليومِ، والرَّهبَنةُ والانقِطاعُ للتَّعبُّدُ مع الإعراضِ عن الجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ وكسبِ الرِّزقِ، والاجتِماعُ لذكرِالله مقرونًا بالرَّقصِ والمعازفِ كضربِ الدُّفوفِ، وعملُ المواسمِ بعدَ موتِ الميتِ، كأُسبُوعيَّةٍ، وأربعينيَّةٍ وسنويَّةٍ، وغيرُ ذلكَ.
* * *