الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجاءت المرأة متقنعة. .. ».
كنت قد وهمت في إيراد هذا الأثر في جملة ما يدل على جريان العمل على ستر الوجه من النساء في العهد الأول، ثم تبين لي أن الأمر على العكس من ذلك؛ لأن التقنع هو ستر المرأة لرأسها دون وجهها؛ كما شرحته في مقدمة هذه الطبعة؛ فهو من الأدلة الكثيرة التي لا ترضي المتعصبين لمذاهبهم والمتشددين في أقوالهم، والله أعلم بسلوكهم مع نسائهم، ولذلك نقلت هذا الأثر إلى هنا.
[جلباب المرأة المسلمة ص (96)]
مشروعية ستر الوجه
هذا ثم إن كثيرًا من المشايخ اليوم يذهبون إلى أن وجه المرأة عورة لا يجوز لها كشفه بل يحرم وفيما تقدم في هذا البحث كفاية في الرد عليهم، ويقابل هؤلاء طائفة أخرى يرون أن ستره بدعة وتنطع في الدين، كما قد بلغنا عن بعض من يتمسك بما ثبت في السنة في بعض البلاد اللبنانية، فإلى هؤلاء الإخوان وغيرهم نسوق الكلمة التالية:
ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة، وقد كان ذلك معهودًا في زمنه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» .
رواه البخاري «4/ 42» ، والنسائي «2/ 9 و 10» ، والبيهقي «5/ 46 - 47» ، وأحمد «رقم 6003» عن ابن عمرو مرفوعًا.
و«القفاز» ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها والساعد أحيانًا من البرد، أو عند معاناة الشيء كغزل ونحوه، وهو لليد كالخف أو الجورب للرجل.
و«النقاب» الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «تفسير سورة النور» «ص 56» : «وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر
وجوههن وأيديهن».
والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يحتجبن حتى في وجوههن وإليك بعض الأحاديث والآثار التي تؤيد ما نقول:
1 -
عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق -هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم- فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر: كذا وكذا قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: «إنه أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحاجتكن» .
أخرجه البخاري «8/ 430 - 431» ، ومسلم «7/ 6 - 7» ، وابن سعد «8/ 125 - 126» ، وابن جرير «22/ 25» ، والبيهقي «7/ 88» ، وأحمد «6/ 56» .
قوله: «ضرب الحجاب» : تعني حجاب أشخاص نسائه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ، وهذه الآية مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه كما روى البخاري «8/ 428» وغيره عن أنس قال: قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب.
وفي الحديث دلالة على أن عمر رضي الله عنه إنما عرف سودة من جسمها، فدل على أنها كانت مستورة الوجه، وقد ذكرت عائشة أنها كانت رضي الله عنها تعرف بجسامتها، فلذلك رغب عمر رضي الله عنه أن لا تعرف من شخصها، وذلك بأن لا تخرج من بيتها، ولكن الشارع الحكيم لم يوافقه هذه المرة لما في ذلك من الحرج.
قال الحافظ رحمه الله في شرحه للحديث المذكور: «إن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: «احجب نساءك» ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلًا ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لجاجتهن؛ دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج».
وقال القاضي عياض: «فرض الحجاب مما اختصصن به «أي: أمهات المؤمنين» ، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات؛ إلا ما دعت إليه ضرورة من براز».
قال الحافظ «8/ 530» : «ثم استدل بما في «الموطأ» أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها، انتهى.
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في «الحج» قول ابن جريج لعطاء لما ذكر له طواف عائشة:«أقبل الحجاب أو بعده؟ » قال: قد أدركت ذلك بعد الحجاب».
2 -
وعنها أيضًا في حديث قصة الإفك قالت: «فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرتُ -وفي رواية: فسترتُ- وجهي عنه بجلبابي» ، الحديث. [متفق عليه].
3 -
عن أنس في قصة غزوة خيبر واصطفائه صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه قال: «فخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ولم يُعَرِّس بها، فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه فأبت، ووضعت ركبتها على فخذه وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها، وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه». [صحيح].
4 -
عن عائشة قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه» . [حسن في الشواهد].
5 -
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: «كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام» .
والمراد بـ «نغطي» ؛ أي: نسدل؛ كما في الحديث الذي قبله.
6 -
عن صفية بنت شيبة قالت: «رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة» . [إسناد رجاله ثقات غير أن فيه ابن جريج وهو مدلس وقد عنعنه].
7 -
عن عبد الله بن عمر قال: «لما اجتلى النبي صلى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة منتقبة وسط الناس فعرفها» . [جيد بشواهده].
8 -
عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: «أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال: كان عثمان ينادي: ألا لا يدنو إليهن أحد ولا ينظر إليهن أحد وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب وكان عثمان وعبد الرحمن بذنب الشعب فلم يصعد إليهن أحد» .
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفًا في عهده صلى الله عليه وسلم وأن نساءه كن يفعلن ذلك وقد استن بهن فضليات النساء بعدهن وإليك مثالين على ذلك:
1 -
قوله تعالى: {ثِيَابَهُنَّ} : اختلفت أقوال المفسرين في المراد من هذه الكلمة. فالأكثرون على أنه «الجلباب» ؛ كما قالت حفصة هذه. ورواه ابن جرير «18/ 114» عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من التابعين، وصححه القرطبي.
وقال جابر بن زيد «وهو ثقة مات سنة 93 هـ» : إنه «الخمار» . رواه ابن جرير، وأبو بكر الجصاص «3/ 411» ، ولعل مستنده ما في «القرطبي»:«والعرب تقول: امرأة واضع؛ للتي كبرت، فوضعت خمارها» .
ويؤيده أن هذه الآية ذكرها الله في سورة النور بعد آية أمر النساء بالخمر المتقدمة، وهي مطلقة، فكأن الله تعالى أراد تقييدها، فأورد هذه في السورة ذاتها. والله أعلم.
ثم رأيت ابن عباس رضي الله عنهما قد صرح بهذا المعنى، وأن آية «القواعد» مستثناة من آية «الخمر» .
رواه أبو داود «4111» ، والبيهقي «7/ 93» بسند حسن عنه.
فالظاهر أن جابر بن زيد تلقى ذلك عن ابن عباس؛ فإنه رحمه الله من المكثرين عنه، ولعل هذا هو الأليق بلفظ:«ثيابهن» ؛ فإنه جمع، وقد رأيت الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله قد تنبه لهذا، فقال في «تفسيره» «5/ 445» ، فقال:«أي الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه الذي قال الله فيه للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}» .
وسبقه إلى هذا الحافظ أبو الحسن بن القطان في «النظر إلى أحكام النظر» .