الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي ذهاب السلطان إلى مصر وعودته إلى الشام قاسى الشاميون من اعتداء جنده كثيراً، فقطع الأجناد الأشجار ورعوا الزروع وأخرجوا أهلها من بيوتهم في كل
بلد واحتلوا وتعدوا على أعراض الناس، فتضرر الناس بذلك وعرفوا أنهم أخطئوا في نفض أيديهم من أيدي الشراكسة لأول ما بدا لهم من قوة العثمانيين، وخاب رجاؤهم في أن تغيير الدول قد يكون منه رحمة، خابت الظنون لما جاء دور العمليات وغلط في الحساب من كانوا يتوقعون من الدولة الجديدة كل الخير وأن الحظ يحظهم متى خفقت أعلامها عليهم، وكانوا يرقبون طلعة العثمانيين منذ سنين رقبة هلال العيد، للاستمتاع بحكمهم الرشيد وعهدهم السعيد، ولطالما ساء فأل من يهتمون للأمر الجديد، ويفتحون له قلوبهم وصدورهم بادئ الرأي مع علمهم أحياناً بتهورهم، وأي فشل أعظم لمن كانوا يطلعون الدولة الخالفة على عورات الدولة السالفة، حباً بأن يكون لهم شيء من الراحة والهناء إذا تغيرت الدولة.
محاسن السلطان سليم ومساويه ومهلكه:
صرف السلطان سليم سنة وشهراً في فتح الشام ومصر وهلك بعد مغادرته القطرين بنحو ثلاث سنين 926 وقد بالغ مؤرخو الترك في وصف فضائله خصوصاً من كتبوا بلسان الرسميات. وكثيراً ما يكون في الروايات الرسمية نظر كبير إذا وضعت على محك النقد التاريخي. وكان مؤرخو العرب أقرب إلى الثقة في وصف هذا الفاتح الذي هو بلا أمراء نابغة العثمانيين أو من نوابغهم بعد محمد الفاتح. ترجمه النجم الغزي في الكواكب السائرة بقوله: كان السلطان سليم سلطاناً قهاراً، وملكاً جباراً، قوي البطش، كثير السفك، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس، عظيم التجسس عن أخبار الملوك والناس، وربما غير لباسه وتجسس ليلاً ونهاراً، وكان شديد اليقظة والتحفظ، يحب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك، وله نظم بالفارسية والرومية التركية والعربية.
ومما قال ابن إياس فيه: إنه لم يجلس بقلعة الجبل بمصر على سرير الملك جلوساً عاماً، ولا رآه أحد، ولا أنصف مظلوماً من ظالم، بل كان مشغوفاً
بلذته وسكره،
وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه، فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء الشراكسة، وما كان له أمان، وكلامه ناقض ومنقوض، لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم. وقال أيضاً: إن السلطان سليماً قتل يونس باشا الصدر الأعظم وكان مقرباً جداً عنده ولكن ابن عثمان ليس له صاحب ولا صديق ولا أمان منه لأحد من وزرائه ولا من عسكره ومن طبعه الرهج الشغب والفتنة والخفة، ويحب سفك الدماء ولو كان لولده، ويقال: إنه قتل أباه واخوته، لأجل مملكة الروم، وآخر الأمر إنه قتل يونس باشا لكونه صار له عليه يد قديمة.
وفي الواقع أن السلطان سليماً قتل وزيره حسن باشا في رحيله إلى مصر لأن هذا لاحظ أن في قطع الصحراء هلاك الجيش فضرب السلطان عنقه، ولما غادر السلطان مصر وألف جمل تحمل أمامه منها إلى الأستانة ما غنمه من الذهب والفضة قتل وزيره الآخر يونس باشا في صحراء قطبة والسبب في ذلك أن السلطان اقترب من الصدر الأعظم وهو سائر معه وقال له: أرأيت كيف مصر الآن وراءنا وغداً نبلغ غزة. فلم يتمالك الصدر أن أجاب السلطان: نعم ولكن أي ثمرة حصلت من هذا التعب والمشقة، إن لم يكن هلاك نصف الجيش السلطاني في الحروب ووسط الرمال، وبقيت حكومة مصر بعد هذا في أيدي الخونة. فلما قال الصدر ذلك استشاط السلطان غضباً فضرب عنق الوزير في الحال ودفن في الخان الذي كان أنشأه بين مصر والشام يونس بن عبد الله التركي الدوادار بالقرب من غزة، فدفن يونس باشا في خان سميه يونس الدوادار، وعهد السلطان بالصدارة إلى بيري باشا.
وقال الشرقاوي: إن خير بك لما دفع إلى السلطان سليم مفاتيح مصر ردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت فشاوره على أن أبناء الشراكسة يريدون الدخول في
جملة الأجناد فأجازه بذلك، وشاوره في إبقاء أوقاف الشراكسة وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر فأجازه بإبقائها على ما كانت عليه، فتشوش وزيره وقال: فني مالنا وعساكرنا، وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها، فقال السلطان سليم: أين الجلاد وكانت إحدى رجليه في الركاب فضرب عنق
الوزير ووضع رجله الثانية في الركاب. وقال: عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها وجعلناهم أمراءها، فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في جندنا فهم أولاد مسلمين ويغارون على ديارهم، وأما أراضيهم فأصلها ملك القائمين ومنهم من وقف معهم من قامت ذريته عليه من بعده، فهل يجوز أن ننازع الملاك في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير عليَّ اعتقادي بتكرار كلامه اه.
كان القتل عند السلطان سليم أسهل أمر وألطفه، وكان شديداً جداً على وزرائه قتل منهم سبعة لأسباب تافهة. وقال القرماني: إنه خنق اخوته وغيرهم من أهل بيته وعددهم سبعة عشر نفراً وذلك حين توليه الملك وجرى عند الأتراك في حكم الأمثال قولهم: من أراد الموت فليكن وزيراً للسلطان سليم، لأن لقب وزير كان شهادة على الموت العاجل. وقال صولاق زاده: في عصر سليم كان الوزراء أبداً عرضة للتنحية ثم للقتل بعد شهر من تنصيبهم، ولذلك اعتادوا أن يحملوا معهم صكوك وصاياهم، وكلما كانوا يخرجون من مجلس السلطان يعتقدون أنهم عادوا إلى الحياة بعد الموت. وقد وصفه فوسكولو المؤرخ البندقي بأنه أقسى قلباً لا يحلم بغير الفتوح والحرب اه. ولم يكن السلطان سليم يراعي من جميع رجاله إلا المفتي الأعظم زنبيللي علي أفندي، وكان هذا قوالا بالحق وكثيراً ما كان يرده عن مظالمه، ويحول بينه وبين إزهاق النفوس بلا حق، وقد أنقذ بعمله من القتل مئات من البشر، وهذا المفتي العظيم تولى مشيخة الإسلام ستاً وعشرين سنة على عهد
ثلاثة سلاطين وهم بايزيد الثاني وسليم الأول وسليمان الأول.
لم يطل عهد هذا الفاتح الجبار أكثر من ثماني سنين وثمانية أشهر، ولم يعمل في الشام إلا أن أقرَّ القديم على قدمه في أُسلوب الأحكام، وغنم ما تيسر من ثروة المماليك والأغنياء، وزاد في الضرائب والمكوس، ونصب حكاماً ممن استأمنوا إليه أو خانوا الدولة الأولى وتقربوا إليه منذ دخل حلب ووضع قيد الأسر للخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله آخر خلفاء بني العباس بمصر، وأخذه معه لما انصرف إلى الأستانة، ثم ألقى الاختلاف بينه وبين أولاد عمه أبي بكر وأحمد. وقال ابن إياس: إن السلطان سليماً تغير خاطره على الخليفة