الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العهد العثماني من سنة 1100 إلى 1200
حال الشام أول القرن الثاني عشر:
تبلج فجر القرن الثاني عشر للهجرة والدولة لا تفكر في غير مصائبها الخارجية، والمملكة التي كانت تمتد من أسوار فينا إلى جنوب جزيرة العرب، ومن فارس إلى الغرب الأقصى لا وحدة فيها، ولا جامعة تجمعها، وليست متجانسة ولا متماثلة، تكافحها الثورات الداخلية، وتساورها الحروب الخارجية فلا تهتم للأولى اهتمامها للثانية، وتفني في سلطانها ويستعبدها أرباب الأقطاعات ويستبد بها الجند والولاة، وسكان هذا القطر كسائر الأقطار العثمانية كأرقاء لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء، ولم يكن اختلاف العناصر أقل ضرراً عليها من اختلاف الطبقات العسكرية أوجاقات من الانكشارية واللوند والسكبان والقبوقول، والنزاع بين هؤلاء الجند وبين رجال الإدارة قائم على ساق وقدم في أغلب السنين، بل بين كل صنف من أصنافهم ورؤسائه، والأرواح في هذه السبيل تباع بالمجان، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه، وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة، ليزيد الأخذ والعطاء معاً.
وندر أن يجيء من الآستانة رجل صالح في أخلاقه، معروف باستقامته وكبر عقله وسعة معرفته، يحسن إدارة الناس ويكف الظالم عن ظلمه، وهل
يفارق فروق إلا من أكره، وهناك النعيم والهناء وضروب الشهوات البشرية، وإذا جاء هذه الديار والٍ كبير من العمال فلإملاء هميانه على الأكثر بأموال الأمة ليعود إلى العاصمة سريعاً، يعيش عيشاً طيباً وينعم في قصورها بأمواله وطرائفه، ويجني في سنة ثروة كبرى تكفيه وأولاده وأحفاده على غابر الدهر.
لم يكن ابن الشام يتبرم بنظام الدولة لزيادة في الجباية، بل لأن الجباية كانت على
غير قاعدة مطردة، قد تجبى جباية سنتين أو ثلاث في غير أوقاتها في آن واحد، ولا تراعى في الجبايات أعوام القحوط والجدوب والمصائب، وإذا ضاقت الحال بأحد العقلاء أو ببعض الجماعات فرفع صوته بالشكوى عدوه خارجياً وقاتلوه وحرَّفوا دعوته على ولاة الأمر في الاستانة، ولبّسوا على العامة في أمره، حتى يسكتوا نأمته ويزيفوا دعوته، وإلا فلا يعقل أن يسكت جميع الناس عما ينال الأمة من هذه الطريقة المعوجة في الإدارة، فالخير في الناس ما انقطع ولن ينقطع، ومهما بلغ من انحطاط شعب لا يخلو من نبهاء يجاهرون بالحق، ولو كان في المجاهرة حتفهم أحياناً.
وقد مهر رجال هذا الدور في تزيين الباطل وإلباسه ثوب الحق، وتقليل عدد الهالكين والشاكين والثائرين والناقمين، وإذا نشبت ثورة أو حدثت فتنة أو تألف جماعة لمقصد شريف، وكثيراً ما يصورون العذاب الأليم في صورة نعيم مقيم، ولا يعرضون على السلطان إلا المسائل الكبرى، كأن تتقد ثورة في الشام لا يمكن تلافيها إلا بإرسال جيش كبير من آسيا الصغرى، وتحتاج إلى مال لا بد من استصدار إرادة سنية بأدائه من خراج الولاية الفلانية. وغدا قتل الإنسان وسبي النساء والصبيان وخراب العمران، من الأمور المألوفة في تلك الأزمان. وفي هذا القرن بدأ الحكام وأرباب المقاطعات ينوعون أسماء الجباية كأن يقولوا الشاشية والبزرية، لسد عوزهم والقيام بواجب الضمانات الدولية، وكثير من الفتن كان الداعي إليها تأخر المقطعين عن تأدية ما عليهم من الجباية للدولة في أوقاتها، فتعدهم عصاة عليها وتسوق عليهم قوة تكون عاقبتها نكالاً على صاحب الإقطاع أو المتسلم، وخراباً على البلاد وأهلها من كل وجه.
والدولة قلما سعت إلى استئصال شأفة الشر، وما بحثت في أسبابه قط فتلافتها قبل وقوعها، وقلما اهتمت للفتن إلا إذا التهب شرارها وخشي منها على سلطانها،
وندر أن أعدت المستعدين، ورفعت ظلامة المظلومين، ولماذا تهتم وكل قطر نشز عليها تضر به بعسكر من أهل القطر الأقرب إليه، إن لم تستطع ضربه بأبناء بلده أنفسهم، وإذا خافت من والٍ أو صاحب إقطاع قوة تسلط عليه خصمه أو جاره، فالناس أبداً متعادون متشاكسون، والألفة ارتفعت من بين أهل البلد الواحد فكيف تأتلف العناصر، وما ذلك إلا لتنفيذ رغائب السلطان الذي لا يرى لمملكته بقاء إلا إذا تباغض الناس وتربص كل فريق بالفريق الآخر الدوائر.
بدأ القرن وعبدون باشا والي صيدا يوغل في مظالمه، وجعفر باشا والي دمشق ليس دونه في إنشاء المظالم، أما الأمراء المتغلبة من أبناء الأقاليم فكان أكثرهم من أحفاد الذين سبقوهم في غزة ونابلس وعكار ولبنان ووادي التيم وبعلبك وحوران والكرك وسليمة. قال راشد: إن بعض أعيان دمشق أغراهم المال والإقبال فأرادوا الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، فكادوا لواليهم حمزة باشا وطردوا عسكره إلى خارج دمشق وقاموا بأفعال شنيعة رافعين علم الثورة، فنقل حمزة باشا إلى إيالة طرابلس وأخذ الأهلون عند رحيله يطالبونه بما كانوا أهدوه إليه من الكراع والبسط وغيرها ونهبوا أتباعه. ثم عين أحمد باشا مكانه فلم يساعده الوقت على التنكيل بهم وخلفه مصطفى باشا مكانه فاضطر أيضاً لإلقاء حبلهم على غاربهم. ولما عين كورجي محمد باشا أجريت عليه التنبيهات اللازمة ليطهر الأرض من هؤلاء الأعيان فدعا الوالي تسعة منهم كما دعا العاصين محمد آغا صدقة ومحمد آغا قوشجي وبطش بهم وأرهب غيرهم من الخوارج. هذا ما قاله راشد في هذه الفتنة، ولم يقل إن والي دمشق ارتشى من الناس وظلمهم حتى ثاروا عليه، بل قال: إنهم أهدوا إليه أيام ولايته وطالبوه بهداياهم لما رحل عنهم فأبانوا عن صغر نفوسهم، وهذا مما يظهر ذهنية الدولة في تلك الأيام، وأن الوالي يجب أن تهدى إليه الخيول والطنافس والأعلاق وربما الدنانير والدراهم من غير نكير. وما ندري
كيف تكون الرشوة إن لم تكن هذه الهدايا هي الرشوة بعينها.