الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجتمع
به. والسبب الذي دعا صلاح الدين إلى حصار الكرك والشوبك وقتل بعض العربان ونهب ديارهم هناك أن جماعة من الأعراب النازلين بأرض الكرك كانوا ينقلون الأخبار إلى الفرنج وإذا أغاروا على البلد دلوهم على مقاتل المسلمين. وكان الكرك والشوبك طريق الديار المصرية ويغير أهلها على القوافل منها فقصد تسهيل الطريق لتتصل البلاد بعضها ببعض.
وكان صلاح الدين منذ تأيد سلطانه في مصر يخاف وآله من نور الدين، وكان استقدمهم إليه فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر وإذا قصدهم نور الدين في مصر قاتلوه، فإن هزمهم التجئوا إلى تلك المملكة، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه إلى النوبة فلم تعجبهم ثم سيره بعسكر إلى اليمن ففتحها واستقرت اليمن في ملك صلاح الدين يخطب فيها للخليفة العباسي ثم لنور الدين ثم لصلاح الدين على أن صلاح الدين لم يستطع إرسال العسكر من مصر لأول مرة إلا بعد استئذان نور الدين. فهذا وغيره من الأسباب التي أقلقت نور الدين على ملكه وحاذر أن تكون عاقبة هذا الأدب والخضوع انتزاع ملكه منه أو إنشاء صلاح الدين مملكة جديدة أعظم وأغنى من مملكة نور الدين القديمة.
وفاة نور الدين وصفاته الطيبة:
بينا صلاح الدين يحاذر من نور الدين وهذا يتجهز للدخول إلى مصر لأخذه أتى نور الدين اليقين، ومملكته الحقيقية لم تتعد الشام والجزيرة وخطب له بمصر واليمن والحرمين، ففرق الموت شمل من كان يتخوف أحدهما من صاحبه، وبكت الأمة الملك العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن عماد الدين أتابك لما ظهر من عدله وحسن سيرته بحيث قلَّ في الملوك الغابرين أمثاله. قال ابن الأثير: قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين،
ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه، فلو كان في أمة لافتخرت به فكيف ببيت واحد، أما زهده وعبادته وعلمه فإنه كان مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها، لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما
يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره البتة. وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات وكتب أكثر من ألف منشور بذلك. وأطلق المظالم بحلب ودمشق وحمص وغيرها وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس وحرمها على كل متطاول إليها، فكان مبلغ ما سامح به في حلب وما إليها فقط في السنة 156 ألف دينار وما وقفه وتصدق به مائتي ألف دينار، وتقدير الحاصل من ارتفاعه في كل سنة ثلاثون ألف دينار، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج وجدد قني السبل ووقف الكتب الكثيرة، وأجرى على العلماء والقراء. ولقد رأى أصحابه على ما روى ابن الأثير كثرة خرجه فقال له أحدهم: إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال: والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما أنتم ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطيء وأصرفها إلى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطيء. وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟
وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والبيمارستانات وأخذ من أحد ملوك الفرنج ثلاثمائة ألف دينار وشرط عليه أن لا يغير على ديار الإسلام سبع سنين
وسبعة أشهر وسبعة أيام وأخذ منه رهائن على ذلك وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق، ولما بلغ الملك الفرنجي مأمنه هلك. وكان يبعث بما يصل إليه من هدايا وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئاً، وأمر بإحصاء مساجد دمشق فأحصيت مائة مسجد فوقف الأوقاف على جميعها، وكانت وقوفه في الشام سنة وفاته 108 آلاف دينار صورية ليس فيها ملك فيه كلام بل حق ثابت بالشرع باطناً وظاهراً صحيح الشراء. وكان آية الرحمة على الفقراء والعدل في الرعية غضيضة عن الشر عينه ثقيلة عن الباطل قدمه. حضر جماعة من التجار عنده وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار وتزيد وتنقص فيخسرون فسأل الملك العادل عن كيفية الحال، فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار
ولا يرى الدينار في الوسط وإنما يعدون إلى القراطيس بالسعر تارة ستين بدينار وتارة سبعة وستين بدينار، وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية وتبطل القراطيس بالكلية، فسكت ساعة وقال: إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني ضربت بيوت الرعية. فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس، أي شيء يعمل به فيكون سبباً لخراب بيته.
قالوا، والحق ما قالوا، إن نور الدين جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف، وترك المحرمات وعاقب من يأتيها، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى جاء الله بدولته فكانت مصباح الحق ومنار العدل، وقف مع أوامر الشرع ونواهيه، وألزم بذلك أتباعه وذويه فاقتدى به غيره منهم، وكان يروي الحديث ويرويه، وقد ألف كتاباً في الجهاد، وكان يباشر الإشراف على خيل الجند وسلاحهم بنفسه، ولا يتكل على خواده، ولا يقطع أمراً قبل أن يستأذن الخليفة ببغداد. وكان في السياسة والدهاء
على جانب عظيم، تجلى ذلك يوم خيانة مجير الدين صاحب دمشق ولما أخذه أغضى عنه، وكان يكره إهراق الدماء والحرب على غير طائل، مع شجاعة ليس بعدها مزيد ومعرفة بالرماية تضرب بها الأمثال، ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن قيون ملك الأرمن صاحب الدروب فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في لدمته سفراً وحضراً؛ وكان يقاتل به الفرنج ويقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام، فإذا طُلب انحجز فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الأقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. وكان متملك الروم خرج من القسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعاً في تسلم إنطاكية فشغله عن مرامه بالمراسلة إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة وجمع له الجيوش والعساكر، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو وتمنى منه الصلح فاستقر رجوعه إلى بلاده.
وقال مترجموه: إنه كان يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم بهذه الأساليب، أما أعماله في رد المظالم وتخفيف المغارم
فسيرته فيها سيرة عمرية، وأما إنشاؤه المدارس والجوامع وعمارة الطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات فمما لنم يسبق إليه، أقام الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج جعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي أي الزاجل فإذا رأوا من العدو أحداً أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم واحتاطوا لأنفسهم، وبنى مكاتب للأيتام وأجرى عليها وعليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة فصارت الشام بعد خلوها من العلم وأهله مقر العلم ومباءة الفقه.
هذه حال ملك القرون الوسطى وحسن بلائه في خدمة أمته وهو يقاتل الأعداء في الغرب والجنوب، وقد فتح نيفاً وخمسين حصناً وأقام المعالم وهو مشتغل بحفظ
الأوطان، لم يدخل اليأس على نفسه ولم يخامره الشك بأن العاقبة المحمودة تكون له وللمسلمين، وأنه سيظهر على عدوه فيدفعه عن حماه. مع أن مدة ملكه في الشام لم تتجاوز أربعاً وعشرين سنة. لا جرم أن ظهور بني زنكي نعمة أنعمت بها الأقدار على هذه الديار، فخرجت بها من انقسام الكلمة وتشتت الأهواء والآراء، ومن خيانة الملوك والأمراء، والاعتضاد بالمحاربين من الأعداء إلى تماسك وتعاضد، ومن ظلمة الجهل والغرور إلى ضياء العلم والنور، ومن سلب أموال الأمة إلى إمتاعها بالعدل الشامل والأمن الكامل. بسقت فروعها في أيسر زمن وأحرج العصور، فخطب الناس ودها في كل مكان وودوا لو كان لها الحكم عليهم، ورجا أولياؤها أن تطول أيامها لأنها لا تسوق الناس إلا إلى طرق فلاحهم وسعادتهم.