الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هولاكو التتري
وبينا كان آخر ملوك الشام ومصر من بني أيوب يتنازعون مع المماليك البحرية وقد خرجت مصر عن حكم الأيوبيين، وكانت دخلت في حكمهم أولاً فأسسوا هناك بنيانها ولما انهار البناء كانت البِنْيَة الأولى أول ما هدمت وبقيت بعدها الأطراف وهي الشام وما إليها مدة قليلة جاء هولاكو التتري 656 واستولى على بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله وقرض الخلافة العباسية، ثم أخذ التتر يتقدمون إلى الجزيرة فأرسل الناصر يوسف صاحب دمشق ولده العزيز محمد وصحبته زين الدين محمد المعروف بالحافظي بتحف وتقادم هدايا إلى هولاكو ملك التتر، وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر، وكان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم مجير الدين بن أبي زكري مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين، وقوي أمر البحرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العيث والفساد، وسار الناصر يوسف، وقد عرف ما تم على جنده، ومعه صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك، وأقام على بركة زيزاء محاصراً للمغيث صاحب الكرك بسبب حمايته البحرية، فقبض المغيث على من عنده من البحرية، وعلم ذلك في الحال ركن الدين بيبرس البندقداري فهرب في جماعة من البحرية، ووصل بهم إلى الناصر يوسف فأحسن إليهم، وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية وأرسلهم إلى الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها، واستقر الصلح بين الناصر وبين المغيث
صاحب الكرك.
وقدم هولاكو 657 إلى شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على الديار الجزرية وأرسل ولده سموط إلى الشام فوصل إلى ظاهر حلب وكان الحاكم فيها المعظم توران شاه نائباً عن ابن أخيه الناصر يوسف، فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج المعظم ولم يكن من رأيه الخروج إليهم، وأكمن لهم التتر في باب الله فتقاتلوا عند بانقوسا فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن البلد. ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم، اختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين، ثم رحل التتر إلى عزاز فتسلموها
بالأمان، ولما بلغ الناصر يوسف قصد التتر حلب برز من دمشق 658 إلى برزة وجفل الناس بين أيدي التتر، وسار من حماة إلى دمشق المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقداري فاجتمع عند الناصر ببرزة أُمم عظيمة من العساكر والجفال، وبلغ الناصر أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به فهرب من الدهليز إلى قلعة دمشق، وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهزموا إلى جهة غزة، وكذلك سار بيبرس البندقداري إلى غزة وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الناصر إنما كان قصدهم أن يقبضوا عليه ويسلطنوا أخاه الظاهر غازي، ولما جرى ذلك هرب الظاهر هذا خوفاً من أخيه الناصر فوصل إلى غزة واجتمع عليه من بها من العساكر وأقاموا سلطاناً، وكاتب بيبرس البندقداري المظفر قطز صاحب مصر فبذل له الأمان ووعده الوعود ففارق بيبرس الشاميين وسار إلى مصر في جماعة من أصحابه.
وسبب استيلاء التتر على حلب أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل إلى الملك المعظم تورانشاه نائب السلطنة يقول له: إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الناصر والعساكر، فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة
شحنة، ونتوجه نحن إلى العسكر، فإن كانت الكسرة على الإسلام كانت البلاد لنا، وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين، وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين، إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما، فلم يجب المعظم إلى ذلك وقال: ليس لكم عندنا إلا السيف. فتعجب هولاكو من هذا الجواب وتألم، لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك.
وأحاط التتر بحلب وقتلوا مقتلة عظيمة حتى لم يسلم من أهلها إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين ودار البازيار ودار علم الدين قيصر وخانقاه زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود وذلك لفرمانات كانت بأيديهم. وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس. ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها ومضايقة التتر لها نحو شهر ثم سلمت بالأمان، وأمر هولاكو أن يمضي كل من سلم إلى داره وأن لا يعارض وجعل النائب
بحلب عماد الدين القزويني.
قال ابن العديم: واحترز نواب حلب وجمعوا أهل الأطراف والحواضر واجتمعوا كلهم داخل البلد، وكانت حلب في غاية الحصانة والقوة لأسوارها المحكمة البناء وقلعتها العظيمة، ولم يكن في ظن أحد أنها تؤخذ بسرعة قال: وخرج العوام والسوقة واجتمعوا كلهم بجبل بانقوسا ووصل جمع التتر إلى أسفل الجبل، وكمنوا على القرية المعروفة ببابلا ثم كر التتر منهزمين ثم رجعوا وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً من الجند والعوام. وقتل هولاكو في حلب أكثر ممن قتل في بغداد. وقال ابن تغري بردي: إن هولاكو حاصر حلب ستة أيام ثم أوقع بها خمسة أيام حتى لم يبق بها أحد، ووصل إلى هولاكو على حلب الملك الأشرف صاحب حمص موسى بن إراهيم فأكرمه وأعاد عليه حمص، ثم رحل هولاكو إلى حارم وطلب تسليمها فامتنعوا أن يسلموها لغير فخر الدين والي قلعة حلب فأحضره
هولاكو وسلموها إليه، فغضب هولاكو من ذلك وأمر بهم فقتل أهل حارم عن آخرهم وسبى النساء، ثم رحل هولاكو إلى الشرق وجعل مكان عماد الدين القزويني بحلب رجلاً أعجمياً وأمر هولاكو بخراب أسوار قلعة حلب وأسوار المدينة فخربت عن آخرها وأمر الأشرف موسى صاحب حمص بإخراب سور قلعة حماة فخربت وأُحرقت زردخانتها، ولم تخرب أسوار المدينة لأنه كان بحماة رجل يقال له إبراهيم بن الفرنجية بذل لخسروشاه نائب هولاكو في حلب جملة كثيرة من المال وقال: الفرنج قريب منا في حصن الأكراد ومتى خربت أسوار المدينة لا يقدر أهلها على المقام فيها، فأخذ منه المال ولم يتعرض لخراب الأسوار وكان قد أمر هولاكو الأشرف موسى صاحب حمص بخراب قلعة حمص أيضاً فلم يخرب منها إلا شيئاً قليلاً لأنها بلده، وأما دمشق فإن نائب هولاكو قدم إلى أهلها بالفرمان والأمان فتلقاه كبراء المدينة وأنفذت مفاتيح دمشق إلى هولاكو. قال سبط ابن الجوزي: وكثرت الأراجيف بدمشق بسبب التتر فهرب كثير من الدمشقيين وباعوا أصلهم وخرجوا على وجوههم متفرقين في البراري والجبال والحصون، وصادف ذلك أيام الشتاء وقوة البرد فمات كثير منهم ونهب آخرون. وقال القلقشندي في كلامه على البيت الهولاكو هي:
ولو تمكنوا من دمشق لمحو آثارها وأنسوا أخبارها، وأن ملكها يومئذ صاهر صاحب قبرس ليتقوى به.
ولم يتعرض عسكر هولاكو إلى قتل ولا نهب وعصت قلعة دمشق عليه فحاصرها التتر، وجرى على أهل دمشق بسبب عصيان القلعة شدة عظيمة، ثم تسلموا القلعة بالأمان ونهبوا جميع ما فيها، وجدوا في خراب أسوار القلعة وإعدام ما بها من الزردخانات والآلات، ثم توجهوا إلى بعلبك ونازلوا قلعتها وأخذوا نابلس بالسيف وتسلموا قلعة عجلون واستولوا على قلاع الصلت وعجلون وصرخد وبصرى والصبيبة وهدموها ووقعوا على العرب عند زيزاء وحسبان فهزموهم، وغنموا
أولادهم ونساءهم وأنعامهم واستاقوا الجميع، وهرب سلطان تلك الأرجاء الناصر يوسف بن محمد إلى البراري فساقوا خلفه وأخذوه ثم قتلوه. واستولى التتر من أرض الفرنج على صيدا ونهبوها وأسروا منها ثلاثمائة أسير. وعاثوا في حوران ونابلس وبلغت غاراتهم غزوة وبيت جبريل والخليل والصلت وما إليها وجاءوا بالأسرى إلى دمشق فمنهم من افتدى نفسه ومنهم من هرب.
وظل التتر يتنقلون في الشام حتى فتحوه إلى غزة واستقرت شحائنهم فيه لأن الناصر صاحب دمشق لما بلغه أخذ حلب رحل من دمشق في عسكره إلى الديار المصرية وفي صحبته المنصور صاحب حماة، فلما رأى كبراء حماة تخلي ملكهم عنهم توجهوا إلى حلب ومعهم مفاتيح بلدهم وحملوها إلى هولاكو وطلبوا منه الأمان لأهل حماة وشحنة تكون عندهم فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً اسمه خسروشاه فقدم حماة وأمن الرعية. واستولى التتر 658 على ميافارقين بعد أن حاصروها سنتين حتى فنيت أزوادهم وفني أهلها بالوباء والقتل فقتلوا صاحبها الكامل محمد بن المظفر ابن العادل أبي بكر بن أيوب وحملوا رأسه على رمح وطافوا به في الأرجاء فمروا بحلب وحماة ودمشق بالمغاني والطبول وعلقوه في شبكة بسور باب الفراديس إلى أن عادت دمشق إلى المسلمين.
قال الذهبي: إن نصارى دمشق شمخت أثناء مجيء هولاكو إلى البلاد ورفعوا الصليب في البلد وألزموا الناس بالقيام له من الحوانيت، ونقضوا العهد
وصاحوا: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فلما انتصر المسلمون على هولاكو على عين جالوت بين بيسان ونابلس وقتل مقدمهم كتبغا جاء الخبر إلى دمشق في الليل فوقع النهب والقتل في النصارى وأُحرقت كنيستهم العظمى. وقال أبو الفداء: إن النصارى استطالوا بدمشق على المسلمين بدق النواقيس وإدخال الخمر إلى الجامع.
قال في المذيل: إن النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتر وتردد ايل شبان وغيره من كبارهم إلى كنائسهم، وذهب بعضهم إلى هولاكو وجاء من عنده بفرمان لهم اعتناء منهم وتوجه في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما وصلبانهم مرتفعة وهم ينادون حولها بارتقاء دينهم دون دين الإسلام، ويرشون الخمر على الناس بأبواب المساجد، فركب المسلمين من ذلك همٌّ عظيم، فلما هرب التتر من دمشق أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا فيها وخربوا كنيسة اليعاقبة وأخربوا كنيسة مريم حتى بقيت كوماً والحيطان حولها تعمل النار في أخشابها، وقتل منهم جماعة واختفى الباقون وجرى عليهم أمر عظيم اشتفى به بعض الاشتفاء صدور المسلمين، ثم هموا بنهب اليهود فنهب قليل منهم ثم كفوا عنهم لأنهم لم يصدر منهم ما صدر من النصارى اه.
اجتمعت العساكر الإسلامية بمصر هرباً من التتر، فلما انتظمت أحوالهم واستجمعوا قواهم عزم المظفر قطز مملوك المعز أيبك على الخروج إلى الشام لقتال التتر، وسار معه صاحب حماة المنصور وأخوه الأفضل علي حتى التقى مع التتر في الغور، وكان كتبغا نائب هولاكو على الشام ومعه صاحب الصبيبة الملك السعيد فانهزم التتر هزيمة قبيحة على عين الجالوت وقتل مقدمهم كتبغا واستؤسر ابنه وتفرقوا في الأرجاء ومنهم من قصد الشرق فأفناهم المسلمون، وجرد قطز ركن الدين بيبرس في أثرهم فتبعهم إلى أطراف الأصقاع الشرقية، وكان في صحبة التتر الملك الأشرف موسى صاحب حمص ففارقهم وطلب الأمان من المظفر قطز فأمنه، وأقره على ما بيده وهو حمص ومضافاتها، وأسرا صاحب الصبيبة وضربت عنقه، وأقر المنصور على حماة وبارين والمعرة وأخذ منه سلمية وأعطاها أمير العرب، ودخل دمشق فتضاعف شكر المسلمين على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر