الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان الوالي بدمشق سنة 1046 درويش محمد باشا الشركسي ففتك بأهلها وتجاوز في ظلمهم الحد وفي آخر أيام 1047 اجتمع العامة على القاضي واشتكوا من الظلم وبالغوا في التوسل، فلما بلغه ركب وكان مخيماً في الوادي الأخضر بدمشق وأتى مغضباً وسفك دم بعضهم ثم عزل وصار أمير الأمراء بطرابلس. وهذه القاعدة مما كانت تسير عليه الدولة في نقل الولاة فمن ترتضيه ويوافق مصلحتها تنقله إلى مكان آخر إذا قامت عليه الشكايات مهما عظمت وثبتت لديها، كأن الولاية الأخرى ليست من ملكها ولا يهمها أمر أهلها، وأن الوالي بمجرد نقله يغير أخلاقه.
إبراهيم الأول وسفاهته:
توفي مراد الرابع سنة 1049 بعد أن حكم سبع عشرة سنة وكان من الشدة على جانب عظيم منهمكاً في شهواته ولذاته، قيل إنه قتل مائة ألف إنسان منهم خمسة وعشرون ألفاً بنفسه وأمام عينيه ولكنه أمن على حدود الولايات الشرقية باستيلائه على بغداد، وهو الذي قضى على فخر الدين المعني الثاني، ولولا ذلك لاستقل هذا
بالشام وربما امتد حكمه إلى أبعد من ذلك من الأقطار والممالك، ولم ترتح هذه الديار بعد مراد الرابع، كما أنها لم ترتح على عهده فخلفه السلطان إبراهيم وكان خالعاً ماجناً فسدت المملكة في أيامه بأخلاقها ومشخصاتها، وكان أبداً في شاغل عن الأمة إلا بما كان من تحقيق شهواته، وكان غريباً فيها. وقد عقد مراد بك في تاريخه أبو الفاروق فصلاً في سلطنة النساء استغرق جزءاً برمته نلخصه هنا ليتبين للقارئ كيف يكون حال مملكة سلطانها سخيف ضعيف.
ومما ذكر فيه استرسال السلطان أحمد في الشهوات حتى قضى في الثامنة والعشرين شهيد الغواني والكؤوس، أما السلطان إبراهيم هذا فهو أعظم زير ابتلي بحب النساء حتى كان كل أسبوع يبني ببكر ويجرى له عرس وتقام الأفراح في قصره، وكان كلما سمع هو أو والدته كوسم والدة أو أحد حاشيته وحملة حاشيته ووزراؤه وعماله بغانية حسناء يقدمونها لسلطانهم، حتى عجز سلطان عن ملامسة النساء لكثرة إفراطه فجاء جنجي خواجه وكتب نسخ
الأدوية والعقاقير النافعة في القوة حتى أصبحت المملكة تفاخر بأن سلطانها يستطيع أن يقترب من أربع وعشرين بكراً في الأربع والعشرين ساعة! وأصبح القول الفصل في القصر السلطاني للجواري والسراري، وكان على نسبة اشتداد أعصاب السلطان يضعف عقله وهو لا عمل له إلا الأفراح والنساء والغناء والخلاعة ودخول الحمام واقتناء الجواري والحلي والزهور والأموال والطرائف، وإصدار الأوامر بقتل الأنفس بمعنى وبلا معنى، وأخذ يستريح إلى رؤية المناظر الفظيعة من القتل شأن قياصرة رومية في أواخر أيامهم.
وكان تقرر جعل النساء الرسميات أربعاً ثم أبلغت والدة السلطان عددهن إلى ثمان نساء، لأن نسل بني عثمان كاد ينقرض، وأحبت كوسم والده تكثير نسلهم على هذه الصورة، ولكل واحدة من تلك الجواري من الخدم والخادمات والوصيفات
والندماء والنديمات والخازنات والملبسات عشرات وربما مئات، تجبى واردات الولايات العظيمة لتعطى إلى المقربين والمقربات، والوظائف تباع بيع السلع بالمزاد ولا سيما على عهد الأغوات بكتاش آغا ومراد آغا ومصلح الدين آغا وأمثالهم، ولم يبق أحد لا يرتشي من الصدر الأعظم فنازلاً، لأن السلطان يطلب من كل عامل عنده جعلاً يليق بشأنه سلطانه، حتى تعدت الحال في طلب الأموال إلى كبار التجار في الاستانة، وأخذ رجال القصر ونساؤه يسلبون من الأمة ما يقدرون عليه، واضطر كثير من التجار إلى الاختفاء وإغلاق حوانيتهم تخلصاً من مطالب جماعة السلطان، ولا تسل عن رواج سوق الحليّ والجواهر والعربات المرصعة والطسوت المحلاة والنعال المزينة بالأحجار الكريمة والإسراف في استعمال الذهب واللؤلؤ والزبرجد وسائر المعادن النفيسة في الآنية والزينة والنقش فإنه مما لا تتصوره العقول.
وكانت واردات لواء سنجاق تعطى من قبل نفقة لنساء القصر فأصبحت أيالة الشام على طولها وعرضها يخصص ريعها وجبايتها للمرأة السابعة بحسب الأصول الحديثة على العهد الإبراهيمي. ولم يرض النساء أن تجبى لهن الأموال الولاة وبكوات الألوية، بل كنّ يعين جباة من قبلهن يجبون باسمهن ريع الولاية أو اللواء. وقد كان الذي عهدت إليه جباية واردات الشام محمد آغا الذي اشتهر فيما بعد في التاريخ العثماني باسم محمد باشا الكوبرلي الكبير،
وهو ممن حالوا بتدبيرهم دون سقوط الدولة العثمانية. قال أبو الفاروق: ولا غرو فقد توجد الدرة النفيسة بين الكناسات والقمامات.
ولم يكتف السلطان بما كان يقدم له من النساء بل كان يطوف العاصمة وضواحيها، فإذا رأى من أعجبته وتردد وليها في إرسالها يلقى جزاءه في الحال. وبلغ السلطان مرة أن امرأة ايبشر مصطفى باشا في جهات سيواس على غاية من
الجمال، فأرسل إلى واردار علي باشا ثلاثين ألف ليرة ليبعث إليه بزوجة مصطفى باشا فنفر علي باشا من اقتراح سلطانه وأجاب بالرفض، فقرر السلطان إهلاكه، ولكن علي باشا رفع راية العصيان وجعل عالي الأناضول سافلها، وقرر السلطان أن يأتي بزوجة ايبشر مصطفى باشا ويعريها ويجعلها في أحد الشوارع المهمة بين عمودين يربط إليهما رجلاها ويداها ويطلق للعامة والعسكر أن يلمسوها حتى تموت، فلم يقنع السلطان أصحابه بالرجوع عن هذا العمل البشع إلا بعد اللتيا والتي.
وقرر هذا السلطان الأخرق يوماً أن يقتل النصارى بأسرهم في مملكته فاحتال عليه شيخ الإسلام قائلاً: إن في قتلهم نقص واردات السلطنة، وإن مائتي ألف إنسان إذا قتلوا في العاصمة تخف الجباية لا محالة، وبهذا استرجعوا من هذا المعتوه الفاجر إرادته المختلة وهكذا حتى خلع وقتل سنة 1058 بعد سلطنة ثمان سنين وتسعة أشهر. وقد قتل عدة من رجاله وقتل الصدر الأعظم مرة لأنه بعث في طلبه لتدارك حطب للقصر فقال له الوزير: إن هذا الطلب ليس من الأمور المهمة التي يفكر فيها من يفكر في أمور السلطنة فمثّل به في الحال ولم يجرأ بعدها على تولي الصدارة إلا من كان على جانب من الرياء والنفاق ليرضي السلطان.
وذكر مؤرخو الترك أن سلطان زاده محمد باشا الذي تولى الصدارة على عهد السلطان إبراهيم ثلاث سنين خرب خلالها في جسم الدولة ما لا يقع مثله في ثلاث قرون، وبلغ من ريائه مع سلطانه ما لم يوفق إليه أحد، وجاءه أمر من السلطان ذات يوم يقول فيه: إن الخزينة نضبت أموالها ولا بد أن يسترجع ما أهداه أجداده السلاطين إلى حرمي مكة والمدينة من المجوهرات ليسد العجز فقال الصدر الأعظم على دهائه وريائه وهو يقرأُ هذه الإرادة السلطانية:
لقد سقطت الدولة إلى
هذه الحالة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس وبولونيا والمجر وفرنسا.
ومما ذكروه في باب إسراف ذاك الدور أنه كان عند دفتر دار محمد باشا 47 طاهياً و 7 رؤساء طهاة ولكل طاه خدامه وخيامه وأشياؤه وبغاله وجماله حاضرة على الدوام وفي بيت مؤنته من الأواني المرصعة والمذهبة والمفضضة وغيرها ما يبلغ مجموع ثمنه ثروة كبرى. وهكذا أسرف السلطان ورجاله في كل شيء وفسدت الأخلاق ولا من يجسر أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر حتى قال أبو الفاروق: إن معظم كبراء الأمة ومن كان لهم علاقة بقصر السلطان إبراهيم كانوا يتقربون إليه بتقديم الأبكار الحسان فرأوا القيادة والدياثة أحسن شافع لهم عنده للترقي والاغتناء.
فإذا كان على هذا النحو حال دار الملك وحال قدوة رجال الأمة فيها، فما الحال بالولايات ولا سيما البعيدة كهذا القطر، وكان ولاته كولاة غيره من جماعة القصر ينصب أكثرهم بشفاعة النساء والقوادين والقوادات. على هذا المثال كان أغوات القصر الأغبياء ينصبون الولاة ولا يتركون لهم مجالاً ليقفوا على حال البلد الذي يقضي عليهم إدارته، بل يبدلونهم بغيرهم بعد مدة وجيزة ويبعثون بآخر من هذا الطراز. كل ذلك من مقتضيات الجهل والطمع والشفاعة، فاقتضى أن يكون الوالي من صنائع بعض العظيمات أو العظماء، وكثيراً ما يكون ما جمعه من المال في ولايته داعياً إلى توجيه النظر إليه فيقتل لتصادر أمواله، ولطالما كان قتل العمال مما يروق السلطان لأنه يقبض على أكثر موجودهم، وكم من مرة كانت امرأة أحدهم أو قصره البديع في المضيق في فروق سبباً في الغضب عليه والحسد له، حتى يورده الوزير الأكبر أو غيره حتفه ليتمتع بعده بزوجته أو ليسكن قصره أو ينال غير ذلك.
وذكر أبو الفاروق عند كلامه على مصطفى سلطان وكيف تجرد في قصره عن العالم وحصر وكده في شهواته أن آل عثمان من القديم تفردوا بغلبة شهواتهم عليهم، وقد وقع عارض لمراد الثالث فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.