الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام:
ولما بدأت نواجذ الاختلاف تبدو بين الأمراء في الشام شعر صلاح الدين وهو بمصر أن هذا الفراغ الذي حدث بموت نور الدين يستلزم أن يملأه رجل تجمع القلوب على حبه، وأن يصل السلسلة المقطوعة بمهلكه وإلا انفرط العقد كله، وتصبح الديار فوضى وتفتح أبوابها على مصاريعها لدخول الدخلاء يستصفونها وتصبح بالشقاق الداخلي أبشع صورة مما كانت على عهد أواخر الدولة الأتابكية أخلاف الأتابك ظهير الدين.
واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس فخرج إليهم شمس الدين بن المقدم وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين لأرضهم وقال لهم: أنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف لأن يجتمع بنور الدين، والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم لا يمتنع، فعلموا صدقه وصالحوه، وتكلموا في الهدنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها واستطلقوا عدة من أُساراهم وتمت المصالحة. وفي تهديد ابن المقدم للفرنج بصلاح الدين أعظم دليل على مكانته في قلوب رجال الدولة وأن الصليبيين عرفوا أنهم ابتلوا بداهية لا يقل عن نور الدين بحسن تدبيره وشجاعته.
بلغ صلاح الدين ما تم بين ابن المقدم والفرنج فأنكره ولم يعجبه، وكتب إلى جماعة الأعيان كتاباً يقرعهم فيه ويلومهم، ويقول إنه تجهز وخرج وسار أربع مراحل ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام فعاد إلى مقره. وقد استصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم وقال: إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة
المجتمعة، وضاقت المناهج المتسعة، وانفردت مصر عن الشام. قال ابن شداد: لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلاً لا ينهض بأعباء الملك، ولا يستقل بدفع العدو عن البلاد تجهز للخروج إلى الشام إذ هو أجلُّ بلاد الإسلام. وقد كان صلاح الدين ينوي أن يتولى تربية ابن مخدومه نور الدين وكتب: إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة. ولكن الأمراء في الشام أخذ كل منهم يعمل على شاكلته، ويريد أن يستأثر بالأمر دونه وهو أحق منهم وأولى.
ثم إن شمس الدين بن الداية مقدم العساكر المقيم بحلب ورضيع نور الدين وأكبر أُمرائه أرسل سعد الدين كمشتكين إلى دمشق يستدعي إلى حلب الملك الصالح بن نور الدين ليكون مقامه بها، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين قبض على شمس الدين بن الداية واخوته وعلى الرئيس ابن الخشاب وإخوته، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح مخافة ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق، وكاتبوا صلاح الدين في مصر واستدعوه ليملكوه عليهم 570 فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس فوصل إلى بصرى وكان صاحبها يستحثه على القدوم، ولما بلغ دمشق خرج كل من كان بها من العسكر والتقوه وخدموه، وعصت عليه القلعة وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه، فصعد إليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال. ثم كتب إلى الملك الصالح بن نور الدين كتاباً يتواضع له فيه ويخاطبه بمولانا وابن مولانا ويقول: إنما جئت من مصر خدمة لك لأؤدي ما يجب من حقوق المرحوم، فلا تسمع ممن حولك فتفسد أحوالك وتختل أُمورك، وما قصدي إلا جمع كلمة الإسلام على الفرنج. فعرض الملك الصالح ذلك على أُمراء دولته فأشاروا عليه بأن يكاتبه بالغلظة فكتب إليه منكراً عليه، وينسبه إلى كفر النعمة وجحد إحسان والده ووعده
وهدده فساء ذلك صلاح الدين وأغضى على القذى وكظم غيظه.
ولما قرر صلاح الدين أمر دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وسار إلى حمص وكانت حمص وحماة وبارين وسلمية وتل خالد والرُّها في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزعفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين المقام بحمص وحماة لسوء سيرته مع الناس، وكانت هذه العمالة له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الإبارين، فملك صلاح الدين مدينة حمص وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها ودكوها ورحل إلى حماة فاستغاث صاحبها بالإسماعيلية وأعطاهم ضياعاً ومالاً ليستعين بهم على صلاح الدين، فلم يلبث أن ملك مدينة حماة وكان بقلعتها عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل وإنما هو نائبه، وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستخلفه جرديك على ذلك