الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتوكل على الله وأرسله إلى مكان عسر يقال له الست أبراج والمظنون أنه كان هناك آخر العهد به فقتله وأشاع بين الملإ أنه مات، ولا يستكثر ذلك من ملك قتل أباه لأجل الملك فضلاً عن اخوته وآله. ويقول نامق كمال: إن الخليفة العباسي قد تخلى لآل عثمان عن حقه في الخلافة في جامع أياصوفيا علناً. وفي رواية أن الخليفة بقي إلى زمن السلطان سليمان وأنه أطلق من سجنه ووسع عليه وقال بعضهم: إنه أذن له بالسفر إلى مصر فسافر إليها ومات بها.
وروى المؤرخون أن السلطان سليماً كان يريد أن يعمل عملاً نافعاً للأمة بأسرها. كان ينوي أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية بدلاً من التركية فعاجلته المنية قبل إتمام هذا العمل الجليل. والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام وخطب له في الحرمين الشريفين فسمي فاتح ممالك العرب، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها، وأن الترك هم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا دع سائر العناصر من البشناق والأرناءوط والكرد واللاز والشركس والكرج. ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة، ودخلت في جملة
العرب عناصر كثيرة مهمة، ولزاد انتشار اللغة العربية فأصبحت الأستانة موطناً لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة.
خارجي خان أولاً وثانياً:
أصبحت الشام بالفتح العثماني آمنة غزوات الشمال والشرق والجنوب، وصارت بين أملاك الدولة الفاتحة فأمنت من هذه الوجهة ولكن أصبح أعداؤها في داخلها ومن أهل دولتها. فتحت الشام ومصر في وقعتين مهمتين وما عداهما فمناوشات لا يؤبه لها. فلما رحلت القوة وخلا الجو لجان بردي الغزالي نائب دمشق حدثته نفسه بالخروج عن الطاعة وصعب على طبعه إلا أن يخون سيده الثاني كما خان سيده الأول:
ومن يتعود عادة ينجذي لها
…
على الكره منه والعوائد أملك
ففاوض بعض أمراء لبنان والعربان فوعدوه أن يمالئوه على عمله، ودعا لنفسه بالسلطنة في دمشق وبايعه الناس على ذلك طوعاً أو كرهاً، ووافقه على
عصيانه الأعراب والمماليك ولقب نفسه بالملك الأشرف صاحب الفتوحات، وزينت له دمشق ثلاثة أيام وأوقدت له الشموع على الدكاكين، وقبل له الأمراء الأرض وقد جمع العسكر الكثير، وخطب باسمه على منابر دمشق وضربت السكة باسمه على الذهب والفضة. وأرسل إلى أمير الأمراء بمصر ليقوم معه لنزع حكم العثمانيين عن مصر والشام فنمَّ عليه للسلطان، فقام الغزالي وحده مدفوعاً بتنشيط زعانف السكان والمماليك والعربان والأكراد أتباع كل ناعق، وكثر الملتفون عليه حتى تسحب المماليك إليه من مصر وكثروا سواده. وذكروا أن من اجتمع عليه من الجند كان خمسة عشر ألفاً من المماليك والتركمان وثمانية آلاف ممن يضربون البنادق.
ولما بلغ قراجه باشا والي حلب موت السلطان كان بعسكره في حيلان فرجع إلى
حلب وحصنها واستخدم خلقاً كل إنسان بثلاثمائة درهم، وأنفق عليهم من مال السلطان شهرين، وأعطى الانكشارية كل واحد ألفين والاصباهية كل واحد ألفاً زيادة على الراتب، وخرج إلى قرية سرمين وقرية داريخ ونهبهما، فخرج إليه أمير شيزر من جهة الغزالي فأخذ منه جميع المكسب وغنم منه جماعة وجهز رؤوسهم إلى دمشق، ودخل نائب حلب إليها مكسوراً ووصل عسكر الغزالي إلى الأنصاري وخرج إليه عسكر حلب. فأرسلت الدولة على الغزالي فرهاد باشا في ثمانية آلاف انكشاري عدا من انضم إليه من قوى الأناضول وكان معهم ثمانية عشر مدفعاً كبيراً.
سار الغزالي إلى حلب ليستولي عليها فحاصرها مدة ولم يقدر عليها لصدق أهلها في قتاله، وداهمه الجيش العثماني بما أتاه من المدد فانكسر، وجاء إلى حماة فتبعه العسكر العثماني واقتتلوا معه فهرب منهم، وقصد التوجه إلى دمشق وخرَّب في طريقه قناطر الرستن على العاصي فتبعوه فكانت بين الفريقين معركة دارت خارج دمشق قتل فيها نحو عشرة آلاف إنسان وقيل أكثر من ذلك، بينهم عربان ومماليك وجماعة من عوام دمشق وفيهم أطفال وصغار من أهل الضياع وغيرهم ممن حضر القتال. قال ابن إياس: وكانت هذه الوقعة تقرب من وقعة تيمورلنك لما ملك الشام وجرى منه ما جرى من قتل ونهب وسبي وحرق ضياع وما أبقوا في ذلك ممكناً. وليس الخبر كالعيان.
ثم نودي في دمشق بالأمان سنة 927 وقد خرب نحو ثلثها من ضياع وحارات وأسواق وبيوت، وأصاب حلب وحماة وحمص من خراب القرى وهلاك الأنفس وذهاب الأموال شيء كثير.
كان الغزالي لما جاء دمشق مهزوماً من الجيش العثماني قتل خمسة آلاف انكشاري جعلهم السلطان سليم حامية عندما فتحها، وذلك مخافة أن يلتحقوا بجيش فرهاد باشا فأولم لهم وليمة وقتلهم على بكرة أبيهم شر قتلة. ثم دارت الدائرة عليه
وتشتت جيشه فقتله خازن أمواله وجاء برأسه إلى القائد التركي، فذهب ودولته الموهومة لم ينل الشام منه إلا الضغط والشدة بعدها.
قال المقار: إن الغزالي استولى على دمشق وطرابلس وحمص وحماة وحلب وخطب له بالجامع الأموي بأنه سلطان الحرمين الشريفين ولقب بالأشرف، وأن الدولة أرسلت عليه جيشاً من ثلاثين ألفاً وأربعة آلاف انكشاري ومعهم مائة وثمانون عربة، فالتقى عسكره وعسكرها عند قرية الدوير، وتواصل العسكر الرومي وركب السلطان من المصطبة ببقية عسكره فما كان لحظة حتى انكسر وقطع رأسه، ثم تلاحق العسكر الرومي ببقية العسكر الهاربين إلى الصالحية ونواحي دمشق وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شباب الصالحية نحو الخمسين ومن كل حارة نحو المائة وكذا من القرى، وقيل: إن عدد القتلى 7070، وهجم العسكر على الصالحية والأحياء والقرى، فكسروا الأبواب وحواصلها وبيوتها ودكاكينها وغير ذلك وآذوا النساء فضلاً عن الرجال فلم يحترموا صوفياً ولا فقهياً ولا كبيراً، وكانت النساء قد اجتمعن بجامع الحنابلة ومدرسة أبي عمر وغيرهما فهجموا عليهن وعروهن وأخذوا بعض نساء وجوارٍ وعبيد وصبيان، وجهز الباشا رأس الغزالي ومعه نحو ألف أذن من المقتولين إلى السلطان سليمان. وبعد هذه الوقعة اقتسم العثمانيون نيابات الشام فجعل إياس باشا في دمشق، وفرحات بك في طرابلس، وقره موسى في غزة. أما فرهاد باشا فاتح الشام ثانية ومنقذها من الغزالي فقد ضج الناس من شدته وبأسه وتمثيله بالبريء والمجرم على السواء.