الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
راسل في طلب الصلح على أن يخرج شهاب الدين محمود إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده، فلم يجب إلى ذلك، وتقررت الحال على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه.
قُتل شمس الملوك باتفاق رأي والدته مع أرباب الدولة في دمشق لما بدا من ظلمه واستصراخه الإفرنج بعد يأسه من معونة عماد الدين زنكي، وكان جده طغتكين مثلاً سائراً في غزوة لهم المرة بعد المرة، ومداراتهم أحياناً بالحيلة، وجمع أمراء الشام على قصدهم أبداً، ومصانعة خلفاء بغداد وخلفاء مصر طلباً لنجدتهم، ولو بالقليل من قوتهم المادية والمعنوية، ولكن ابن ابنه سلك غير طريقته فقتلته أمه ورجال دولته. وكانت هذه الأعمال المنكرة من بعض صغار الملوك الذين لا يحرصون إلا على مصلحتهم الخاصة، وإذا تأثرت أقل تأثر عمدوا إلى وضع أيديهم في أيدي أعدائهم من موجبات بقاء الأفرنج في ثغور الشام وإنطاكية والرُّها وطبرية والناصرة والقدس واستيلائهم على كثير من المعاقل. ولو لم يكن شجر الخلاف بين ملوك الفرنج في هذا الدور لسهل عليهم ملك المدن الأربع دمشق وحماة وحمص وحلب، بالنظر لخلل الدول المستولية عليها واضطرارها إلى قتال أعدائها من المسلمين وأعدائها من الصليبيين، بل وأعدائها في الداخل أمثال شمس الملوك. وللناقد البصير بعد هذا أن يقول إن دولة أتابك طغتكين كانت عزيزة الجانب في أولها فأصبحت ذليلة وعبئاً ثقيلاً على الشام بعد بطنين من مؤسسها.
توحيد الحكم على يد زنكي وقضاؤه على إمارة
صليبية:
بعد تقلقل أمر آل طغتكين أخذت روح آل زنكي تسري في القطر، فنهض سوار
نائب زنكي في حلب سنة 530 فيمن انضم إليه من التركمان، وجرد جيشه على الأعمال الفرنجية فاستولى على أكثرها، وغزا اللاذقية وأعمالها بغتة، وعاد من هذه الغزاة إلى شيزر ومعه زيادة عن سبعة آلاف أسير بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف دابة، واجتاح أكثر من مائة قرية كبيرة وصغيرة فامتلأت الشام من الأسارى ورجعوا بهم إلى حلب وديار بكر والجزيرة.
هذا ما وقع من الأحداث في العقد الثالث من القرن السادس، وأهم ما حدث ظهور دولة عماد الدين زنكي صاحب الموصل في حلب وإيقانه أنه لا سبيل إلى دفع
الصليبيين عن الشام إلا إذا رجع أمر المسلمين إلى ملك واحد، وأنه إذا تقدم بجيشه قليلاً بعد أخذه حلب يستولي على دمشق، وينقذ الأمة من فوضى آل أتابك طغتكين وضعفهم، وكثر هجوم عماد الدين على حمص 530 فتسلمها صاحب دمشق من أولاد قيرخان بن قراجه وعوضهم عنها تدمر، فتابع عسكر زنكي بحلب وحماة الغارة على حمص لما رأوا خروجها إلى صاحب دمشق، فأرسل هذا إلى عماد الدين في الصلح فاستقر بينهما. وكف عسكر عماد الدين عن حمص وحدثت فتنة بدمشق بين صاحبها والجند وعاد عماد الدين فنازل حمص 531 وبها صاحبها معين الدين أتسز فلم يظفر بها، فرحل عنها إلى بعرين وحصر قلعتها وهي للفرنج وضيق عليها، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين، فلما وصلوا إليه جرى بينهم قتال شديد فانهزمت الفرنج، وعاود عماد الدين حصار الحصن فطلب الفرنج الأمان، فقرر عليهم تسليم الحصن وخمسين ألف دينار فأجابوا إلى ذلك، وكان زنكي مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح من الفرنج المعرة وكفرطاب، ومنع زنكي في هذه الوقعة عن الفرنج كل شيء حتى الأخبار، فكان من بحصن بعرين منهم لا يعلم شيئاً من الأخبار لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنوده. وملك زنكي حصن المجدل 532 وكان لصاحب دمشق،
ودخل مستحفظ بانياس إبراهيم بن طرغت تحت طاعته، وسار إلى حمص وحصرها ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول ملك الروم على حلب، ثم عاد إلى حمص فسلمت إليه المدينة وقلعتها، وكان شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها، وأغارت خيل الصليبيين على أطراف حلب، وتملكوا حصن بزاعه ثم نصبوا خيامهم على نهر قويق فخرجت إليهم فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت بهم، ونهض سوار في عسكر حلب وأدرك الصليبيين في الأثارب، فأوقع بهم وقهرهم ونزل ملك الروم هذه السنة 532 على بزاعة وحاصرها حتى ملكها بالأمان وأسر من فيها ثم غدر بهم، ونادى مناديه من تنصر فهو آمن ومن أبى فهو مقتول أو مأسور، فتنصر منهم نحو أربعمائة إنسان منهم القاضي والشهود ثم رحل عنها إلى شيزر وترك فيها والياً يحفظها مع جماعة وأقام عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فيها جماعة فهلكوا بالدخان وكان سكان بزاعة خمسة آلاف وثمانمائة نسمة، وعاد زنكي وحاصرها حتى ملكها وخرب الحصن والبلد عامر. وفي
سنة 533 سار من مصر عسكر إلى وادي موسى فحاصر حصن الوعيرة ثمانية أيام، وعاد بعد ما توجه إلى الشوبك وأغار عليها وترك هناك أميرين على الحصار. وتزوج عماد الدين أم شهاب الدين محمود صاحب دمشق زمرد خاتون بنت جاولي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل وذلك طمعاً من عماد الدين في الاستيلاء على دمشق لما رأى من نفوذ هذه المرأة في الدولة. وكثيراً ما كانت الكلمة النافذة للنساء من آل بيت الدولة والغيرة الصادقة في وقايتها من السقوط.
وكان متملك الروم خرج في السنة الفائتة واشتغل بقتال الأرمن وصاحب إنطاكية وغيره من الفرنج وعمر ميناء الإسكندرونة ثم سار إلى بزاعة وملكها وغدر بأهلها ثم رحل عنها إلى حلب، فجرى بينه وبين أهلها قتال كثير فعاد عنها إلى
الأثارب وملكها وسار نحو شيزر وحاصرها أربعة وعشرين يوماً فأنجدها عماد الدين حتى اضطر متملك الروم إلى الرحيل فظفر عماد الدين بكثير ممن تخلف منهم. وكان يرسل إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه، فلو فارق مكانه تخلفوا عنه، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم: إن ملك بالشام حصناً واحداً ملك بلادكم جميعاً، فاستشعر كل من صاحبه فرحل ملك الروم عنها. ونهض هذه السنة الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي والتركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره. ونهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه.
قويت دولة عماد الدين زنكي بعد استيلائه على حلب وحماة وحمص والمعرة وكفرطاب وبعلبك وغيرها، وإفحاشه القتل في الفرنج واستيلائه على بعض معاقلهم، فلم يسع شهاب الدين محموداً صاحب دمشق إلا مهادنته على قاعدة أحكمت بينهما، وأصبح القول الفصل لعماد الدين دون شهاب الدين في شؤون الشام. أما الفرنج في إنطاكية فلما ارتاح بالهم من جهة ملك الروم وصالحوه على ما اشترط، عادوا هذه السنة فنقضوا الهدنة مع عماد الدين وقبضوا على إنطاكية على خمسمائة رجل من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار.
وبينا كان عماد الدين يدبر ويفكر ويهتم لأخذ دمشق نعى الناعي 533 شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، قتله غلمانه في فراشه فتولى بعده أخوه جمال
الدين محمد صاحب بعلبك فبعثت والدته الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين إلى زوجها عماد الدين زنكي، وهو على الموصل، تبعث همته على النهوض لطلب الثأر، فجاء وفتح الأثارب وبعلبك. وقال بعض المؤرخين: إن زنكي أمن قلعة بعلبك وتسلمها ثم غدر بأهلها فأمر ببعضهم فصلبوا فاستقبح الناس ذلك منه.
ولما رأى صاحب دمشق أن دولة عماد الدين زنكي ستكون لها الغلبة على دولته اعتضد بالفرنج على مال يحمل إليهم ليدفعوا عن دمشق عادية عماد الدين، فسار هذا طالاً للقاء الفرنج إن قربوا منه ثم عاد إلى الغوطة ونزل بعذراء فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة إلى حرستا التين ورحل متثاقلاً. وكان الشرط بين الفرنج وصاحب دمشق أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد إبراهيم بن طرغت، فاتفق أن نهض هذا إلى ناحية صور للإغارة عليها، فصادفه ريمند صاحب إنطاكية واصلاً في الفرنج على إنجاد أهل دمشق، فالتقيا فكسره وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من أصحابه، وعاد من بقي منهم إلى بانياس فتحصنوا بها وجمعوا إليها رجال وادي التيم فنهض إليها معين الدين أتسز في عسكر دمشق وحارب بانياس بالمنجنيقات، ومعه فريق وافر من عسكر الفرنج ففتحها وسلمها إليهم.
وجاء عماد الدين بعسكره هذه السنة أيضاً إلى دمشق وقرب من السور، وكان قد فرق عسكره في حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة، ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق، ثم سار عائداً على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة. وسار عماد الدين إلى أرض الفرنج فأغار عليها واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه. وفي الروضتين أنه لقيهم بالقرب من حصن بارين وهو للفرنج، فصبر الفريقان صبراً لم يسمع بمثله، فحاصره حصراً شديداً فراسلوه في طلب الأمان، وكان حصن بارين من أضر كور الفرنج على المسلمين، فإن أهله كانوا قد خربوا ما بين حماة وحلب من الأرضين ونهبوها وتقطعت السبل، كان عماد الدين استولى على هذا الحصن سنة 531 وأعطى الأمان لمن فيه وقرر عليهم تسليمه، ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه. وظهرت عسكرية عسقلان على خيل الفرنج 535 الفائزين عليها فعادوا مفلولين. وملك الباطنية حصن مصياف، وكان واليه
مملوكاً لبني منقذ أصحاب شيزر، فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا إليه وقتلوه