الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض لملك انكلترا ما يشغل قلبه من جهة بلاده فأحب أن يصالح صلاح الدين، فرضي السلطان بالصلح بعد الذي أصاب جيشه من الفشل على عكا، وفشل عكا هو الوحيد الذي أصابه، وذلك لتكاثر جيوش الصليبيين عليه، وقد ملّ الجند الحرب التي دامت أعواماً، وخرج المسلمون من عكا وأخذوا أمان الفرنج على أن
يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة أسير من المجهولين ومائة أسير من المعروفين وصليب الصلبوت، وعشرة آلاف دينار للمركيس وأربعة آلاف دينار لحجابه، وعقدت بين الصليبيين والمسلمين هدنة عامة في البحر والبر جعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيسارية وعملها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها، وأن تكون عسقلان خراباً، واشترط السلطان دخول عمالة الإسماعيلية في أرض الهدنة، واشترط الفرنج دخول صاحب إنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون لدّ والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين، فاستقرت القاعدة على ذلك. واتفقت وفاة السلطان بعد الصلح بيسير، فلو اتفق ذلك في أثناء وفاته كان الإسلام على خطر.
وفي التاريخ العام أن صلاح الدين لما فتح القدس بهت المسيحيون في أوربا فأخذ أوربانوس الثالث يحمس الناس في الغرب. وأن إمارات الصليبيين لم تقاتل مدة نصف قرن سوى صغار أمراء سورية والموصل. وكان مسلمو مصر يعيشون بسلام معهم، وهذا كان عهد نجاح تلك الإمارات، ولما قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية وقامت مقامها دولة حربية من المماليك، لم يستطع المسيحيون، ومصر تهاجمهم، أن يقاوموا زمناً طويلاً، على ما ظهر من انتصارات صلاح الدين، وإذا احتفظوا ببقايا الإمارات قرناً آخر فذلك لأن ملوك الإسلام لم يرضوا أن يقضوا عليها. لا جرم أن هذه الحرب كانت حرباً مقدسة في نظر المسلمين والمسيحيين اه.
مزايا صلاح الدين ووفاته:
ولا عجب إذا انتثر سلك الإمارات الصليبية في الجنوب والغرب جملة فإن تنظيم الجيش الصلاحي كان آية الآيات، والنجدات كانت تأتيه سراعاً دراكاً،
والفكر
متجه إلى مقصد واحد. استمات المسلمون في تأييد سلطانهم، وحاربوا بكل ما لديهم من ضروب الكر والفر وصنوف الدهاء والخديعة، وما الحرب إلا خدعة - قاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين، مرة بالأبراج، وأُخرى بالمنجنيقات، ورادفة بالدبابات، وتابعة بالكباش، وآونة باللوالب، ويوماً بالنقب، وليلاُ بالسرابات، وطوراً بطم الخنادق، وآناً بنصب السلالم، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار، وحالة في البحر بالمراكب، ولكن الحرب سجال والدهر دول، وما كل يوم يكتب النصر للغزاة، ويحالف التوفيق أعلامهم، وما كل خطة يقررها صاحب الأمر بادئ الرأي تكون سديدة من كل وجه، فقد انتقدوا على صلاح الدين بعد وقائعه مع الصليبيين وظفره الباهر بهم في الأردن والجليل وبيت المقدس كيف فتح لأعدائه السبل ليذهبوا إلى صور، ويجتمع هناك فلّ جيوشهم حتى تألفت منهم كتلة قويت بما جاءها من البحر من الإنكليز والفرنجة، فكان ما كان من هزيمة جيشه على عكا، ولو كان حياً لدافع عن نفسه دفاعاً معقولاً مقبولاً فيما نحسب، ولعلَّ ذلك يدخل في باب مراحمه التي تجلت فيها نفسه العظيمة يوم فتح القدس، فلم يعامل أعداءه إلا بما اقتضته سياسته وسيرته.
كان صلاح الدين يُعنى بجنده ويتعهده ويسأل عن صحة أمرائه ومن دونهم في راحتهم ومنامهم وأكلهم وشربهم، يحارب المحارب ساعات مخصوصة من النهار أو الليل ثم يستريح أو يحارب مدة معينة ثم يذهب إلى ذويه، على أرقى الأصول المتعارفة في الحروب الحديثة. والغنائم تقسم بين المحاربين بحيث يغتني أفرادهم وجماعاتهم دع ما لهم من الأموال الدارة من أموال الجباية والرسوم على التجار وما خصوا به من الحرمة ورفعة الشأن، يأخذون إما رواتب أو إقطاعات، ولم تكن إقطاعاتهم كإقطاعات الغرب تورث على الأغلب بل تزول عن صاحبها بموته أو بعزله، ولذلك كان المحاربون متعلقين أبداً بسلطانهم وأميرهم، متفانين
في إحسان الخدمة كأنهم يدافعون عن بيوتهم وأطفالهم.
جاء صلاح الدين إلى دمشق بعد عقد الصلح مع الفرنج في فلسطين، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها. فلقي الأهل والولد بعد تغيب أربع سنين وذهب يتصيد مع أخيه الملك العادل خمسة عشر يوماً فكان عمله كأنه وداع لأهله وأولاده ومرابع نزهه وأنسه. ثم مرض أياماً وهلك حميد الأثر فضجت الأمة لفقده،
وبكت العيون، وانتحبت النفوس، لأنه لم يحي مصر والشام، بل أحيا بعمله المسلمين والإسلام، وكان كما ذكره ابن شداد: رؤوفاً رحيماً، ناصراً للضعيف على القوي، يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً، على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصداً أبداً، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.
مات صلاح الدين وقد ملك مصر أربعاً وعشرين سنة والشام تسع عشرة سنة، وملك الجزيرة واليمن، ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، فإن صدقة النفل استنزفت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وجرماً واحداً ذهباً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وكان رحمه الله يهب الأقاليم، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم مهمٌّ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وكان كثيراً ما يقول: إن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا
زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها. وقد ذكر القاضي ابن شداد وعماد الدين الكاتب من خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية، وعدله وكرمه وشجاعته، واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه، وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة، ما هو العجب العجاب، وبعضه إذا جمع في شخص كان مفخراً من المفاخر على توالي الأحقاب.
ملأت خيرات صلاح الدين جميع الأقطار التي خفق علمه عليها، وملأت أوقافه مصر والشام وهي غير منسوبة إليه. قال ابن خلكان: ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوباً إليه في الظاهر اهـ.
بل قد تجد لمماليكه وخواصه أوقافاً نسبت إليهم ولم ينسب إليه إلا قليل وكان مماليك صلاح الدين وخواصه وأمراؤه وأجناده أعفّ من الزهاد والعباد، والناس على دين ملوكهم. ومن كرم صلاح الدين أنه أخرج في مدة مقامه على عكا ثمانية عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت حصر، وما كان يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيه لطالب من جماعته، وقد فرَّق من ذخائر الفاطميين لما فتح مصر ما يفوق الإحصاء ولم يبق منه قليلاً ولا كثيراً. ومن رسالة له إلى الديوان العزيز ببغداد: فقد علم أن الخادم بيوت أمواله، في بيوت رجاله، وأن مواطن نزوله، في مواقف نزاله، ومضارب خيامه، أكنة ظلاله، وأنه لا يذخر من الدنيا إلا شِكَّته، ولا ينال من العيش إلا مسكته. كان صلاح الدين يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، ويكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء ومحافله حافلة بأهل الفضل، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء
ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان. كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر. وصل في ليلة واحدة من الفرنج نيف وسبعون مركباً إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس، وكان يعطي دستوراً أن يسرح عسكره في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف فيما قالوا، ومع هذا تراه صابراً هاجراً في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعاً من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريباً منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله، ووقعت الكوسات والعَلَم وهو ثابت القدم في نفر يسير، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو
في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة، إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة، والمسلمون لا يتوقعونها، وكانت المصلحة في الصلح.
سئل ابن بيرزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس فقال للترجمان: قل له كانوا خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم. وكان صلاح الدين يدور على الأطلاب أي الكتائب
ويقول وهل أنا إلا واحد منكم.
وذكروا من مراحم صلاح الدين أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج في الليل ويسرقونهم، فسرقوا ليلة صبياً رضيعاً، فباتت أُمه تبكي طول الليلة فقال لها الفرنج: إن سلطانهم رحيم القلب، فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها، فأخبروه بقصتها فرق لها، ودمعت عيناه، وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل، ولم يزل واقفاً حتى أحضروه، فلما رأته بكت وأخذته فأرضعته ساعة وضمته إليها، وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا.
قال سبط ابن الجوزي: ويقال إن صلاح الدين فتح ستين حصناً وزاد على نور الدين بمصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج وديار بكر ولو عاش لفتح الدنيا شرقاً وغرباً. قلنا: إن نابغة الدهر السالف صلاح الدين يوسف كان في أُمته صلاحاً لدينها ودنياها.