الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصدتنا ونزلت علينا فلما عاد الرسول بهذا الجواب أكثر التعجب منه والإنكار له، وعزم على الزحف إلى دمشق. وما ندري إذا كان ذلك الجواب صدر قبل وفاة معين الدين أتسز والي دمشق وصاحب أمرها نيابة عن أولاد طغتكين، وكان أتسز صالحاً عادلاً محسناً كافاً عن الظلم متجنباً للمآثم، محباً للعلماء والفقراء، بذل مجهوده في حفظ بيت سيده طغتكين فلما مات أخذ ملك مجير الدين في الانحلال.
انحلال دولة مجير الدين وتوفيق نور الدين:
آذنت شمس دولة أبناء طغتكين بالمغيب، لهلاك الرجال الغيورين عليها، ولأن أربابها أخذوا يتقوون بالفرنج على أبناء نحلتهم حباً بأن يبقوا في ملكهم ورفاهيتهم. ولكن دولة نور الدين التي أصبح لها المقام الأسنى في الشام بعد أن حالف التوفيق أعلامها أكثر من مرة في سنين قليلة أخذت النفوس تتطلع إليها، وتعلق الآمال الطيبة عليها. وقد كانت دمشق التي أجابت نور الدين بهذا الجواب الفظ نشبت فيها هذه السنة فتنة بين الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وذلك لاستيحاش الرئيس في دمشق من مجير الدين صاحبها، ولم تزل الفتنة ثائرة إلى أن أبعد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة.
ولكن هذه الفوضى في دمشق يصعب دوامها، وليست المسألة مسألة تقريب رجل أو رجال من أركان الدولة أو اصطلام ثائر وخارج على الجماعة، وقد سرت روح الغضب حتى إلى أقرب الناس من الآل الملوكي، وقوة نور الدين تشتد وشائجها، ودعوته تزداد انتشاراً اليوم بعد اليوم، فلم يسع أولي الأمر في دمشق سنة 540 إلا تقرير الصلح بينهم وبينه، فأقيمت الخطبة لنور الدين على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان، وضربت السكة باسمه وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة السلطنة والطرق والسوارين وخلع على الرئيس ابن الصوفي خلعة الوزارة فبذلا له الطاعة وأعادهما إلى عملهما وطيب قلوبهما ورحل إلى حلب والقلوب معه لما غمر العالم من خيره. عمل مجير الدين وابن الصوفي هذا العمل مكرهين أمام قوة قاهرة، عملاه وهما يسران حسراً في ارتغاء، على أمل أن ينتقما من نور الدين باعتصامهما بالصليبيين حتى اضطر في السنة التالية 546 أن يسوق عسكره إلى دمشق فنزل أوائل جنده على أرض عذراء، وقصد فريق وافر منهم ناحية السهم
والنيرب في سفح قاسيون، وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق، ثم وصل نور الدين في جنده ونزل على عيون فاسريا بين عذراء ودومة،
وامتد عسكره إلى ضمير ونزلوا في أرض حجيرا وراوية في خلق كثير، ثم نزل في أرض مشهد القدم وما والاه من الشرق والغرب، وكان منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد أي أن العسكر النوري أحاط بدمشق من أطرافها الأربعة فنزل كما قال المؤرخ منزلاً ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين، وأرسل نور الدين إلى مجير الدين يقول: كنت اتفقت معكم وحلفت لكم، والآن قد صح عندي أنكم ظاهرتم الفرنج فإن أعطيتموني عساكركم لأجاهد في سبيل الله رجعت عنكم فلم يرد جواباً. وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ولم يزل نور الدين مهملاً للزحف على البلد إشفاقاً من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة الجهتين حتى انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في العيث، وحصدت زراعات المرج والغوطة وضواحي البلد، وخربت مساكن القرى ونقلت أنقاضها إلى بلد، وزاد الإضرار بأربابها من التنّاء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي والفساد، ثم رحل العسكر النوري ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتا المصاقبة للبلد، ونشبت المطاردة وكثرت الجراح في خيالة البلد ورجالته، ثم رحل نور الدين إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الفرنج من البلد للإنجاد ليكون قريباً من معابرهم، وبعد ذلك رحل إلى ناحية الزبداني استجراراً لهم، وجعل من عسكره أربعة آلاف فارس ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد الفرنج ولقائهم، ونزل الفرنج على نهر الأعوج، وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما واجتمعا بملكهم وما صادفوا عنده شيئاً مما هجس في النفوس من كثرة ولا قوة، وتقرر بينهم النزول بالعسكريين على حصن بصرى لتملكه واستغلال أعماله. ثم رحل عسكر الفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم، وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب ناحية الفرنج للإيقاع بهم فالتجأ
عسكر الفرنج إلى اللجاة للاعتصام بها. ثم زحف نور الدين على دمشق وقد رأى خيانة صاحبها ومماشاته للفرنج حرصاً على هذه العاصمة من السقوط في يد العسكر النوري البالغ ثلاثين ألفاً يزداد كل يوم قوة وعسكر دمشق ضعفاً. وتحرج نور الدين من