الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلتُ: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده، وبالله التوفيق.
315 ـ بابُ بيانِ مُهِمَّاتٍ تتعلّقُ بحدِّ الغِيبَة
قد ذكرنا في الباب السابق أن الغيبة: ذكرك الإِسان بما يكره، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك. وضابطُه: كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرّمة، ومن ذلك المحاكاة بأن يمشي متعارجًا أو مُطَأْطِئًا أو على غير ذلك من الهيئات، مريدًا حكاية هيئة من يَتَنَقَّصُهُ بذلك، فكلُّ ذلك حرام بلا خلاف، ومن ذلك إذا ذَكرَ مُصنفُ كتاب شخصًا بعينه في كتابه قائلًا: قال فلان كذا مريدًا تنقيصه (1) والشناعةَ عليه، فهو حرام، فإن أرادَ بيانَ غلطه لئلا يُقلَّدَ أو بيانَ ضعفه في العلم لئلا يُغترّ به ويُقبل قوله، فهذا ليس غيبة، بل نصيحة واجبة يُثاب عليها إذا أراد ذلك، وكذا إذا قال المصنف أو غيره: قال قوم أو جماعة كذا، وهذا غلط أو خطأ أو جَهالة وغفلة، ونحو ذلك فليس غيبة، إنما الغيبة ذكر الإِنسان بعينه أو جماعة معينين.
ومن الغيبة المحرّمة قولك: فعل كذا بعضُ الناس أو بعض الفقهاء، أو بعضُ من يَدّعي العلم، أو بعضُ المفتين، أو بعض مَن يُنسب إلى الصلاح أو يَدّعي الزهدَ، أو بعض مَن مرّ بنا اليوم، أو بعضَ مَن رأيناه، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه؛ لحصول التفهيم.
ومن ذلك غيبة المتفقهين والمتعبدين، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضًا يفهم به كما يفهم بالصريح، فيُقال لأحدهم: كيف حال فلان؟ فيقول: الله يُصلحنا، الله يغفر لنا، الله يُصلحه، نسأل الله العافية، نحمدُ الله الذي
(1) كذا في "أ" وفي بقية النسخ "تنقُّصه"
لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشرّ، الله يُعافينا من قلّة الحياء، الله يتوبُ علينا وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة، وكذلك إذا قال: فلان يُبتلى بما ابتلينا به كلُّنا، أو ماله حيلة في هذا، كلُّنا نفعلُه، وهذه أمثلة وإلا فضابط الغيبة: تفهيمك المخاطب نقص إنسان كما سبق، وكلُّ هذا معلوم من مقتضى الحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا عن صحيح مسلم وغيره في حدّ الغيبة، والله أعلم.
[فصل]: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها وإقرارها فيجب على من سمع إنسانًا يبتدىء بغيبة محرّمة أن ينهاه إن لم يَخَفْ ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإِنكارُ بقلبه ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإِنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه أسكتْ وهو يشتهي بقلبه استمرارُه، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاقٌ لا يخرجُه عن الإِثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه، ومتى اضطرّ إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة وعجز عن الإِنكار أو أنكر فلم يُقبل منه ولم يُمكنه المفارقة بطريق حرم عليه الاستماع والإِصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكرَ الله تعالى بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضرّه بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرّون في الغيبة ونحوها وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى:{وَإِذَا رأيْتَ الَّذينَ يَخُوضُونَ في آياتِنا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتَّى يخوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وروينا عن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه؛ أنه دُعي إلى وليمة،