الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَخَذَ مِنْ يَمِينِهَا حَتَّى أَتَى الْمُحَصَّبَ، وَيُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالرَّحِيلِ ثَانِيًا عَلَى أَنَّهُ لَقِيَ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُحَصَّبِ قَوْمًا لَمْ يَرْحَلُوا، فَأَمَرَهُمْ بِالرَّحِيلِ، وَتَوَجَّهَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَلَقَدْ شَانَ أبو محمد نَفْسَهُ وَكِتَابَهُ بِهَذَا الْهَذَيَانِ الْبَارِدِ السَّمِجِ الَّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ، وَلَوْلَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَغْلَاطِ مَنْ غَلِطَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم لَرَغِبْنَا عَنْ ذِكْرِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ. وَالَّذِي كَأَنَّكَ تَرَاهُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ وَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً، ثُمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّةَ، وَطَافَ بِهَا طَوَافَ الْوَدَاعِ لَيْلًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمُحَصَّبِ، وَلَا دَارَ دَائِرَةً فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": عَنْ أَنَسٍ، ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ» ) .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ عائشة خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ، ثُمَّ (قَالَتْ:«حِينَ قَضَى اللَّهُ الْحَجَّ وَنَفَرْنَا مِنْ مِنًى، فَنَزَلْنَا بِالْمُحَصَّبِ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: " اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا، ثُمَّ ائْتِيَانِي هَاهُنَا بِالْمُحَصَّبِ ". قَالَتْ: فَقَضَى اللَّهُ الْعُمْرَةَ وَفَرَغْنَا مِنْ طَوَافِنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُحَصَّبِ. فَقَالَ: فَرَغْتُمَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ فَمَرَّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ» ) .
فَهَذَا مِنْ أَصَحِّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَدَلِّهِ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ تِلْكَ التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الأسود غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَلَا وَجْهَ لَهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[هَلِ التَّحْصِيبُ سُنَّةٌ]
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّحْصِيبِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ، أَوْ مَنْزِلُ اتِّفَاقٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، فَإِنَّ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ» ) . يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَقَاسَمُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَلَّا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَصَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِظْهَارَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَظَهَرُوا فِيهِ شَعَائِرَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَ التَّوْحِيدِ فِي مَوَاضِعِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْنَى مَسْجِدُ الطَّائِفِ مَوْضِعَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى.
قَالُوا: وَفِي " صَحِيحِ مسلم ": عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر كَانُوا يَنْزِلُونَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ( «عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ يُصَلِّي بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَهْجَعُ، وَيَذْكُرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ» ) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وعائشة إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْزِلُ اتِّفَاقٍ فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «لَيْسَ الْمُحَصَّبُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم ": ( «عَنْ أبي رافع لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ بِمَنْ مَعِي بِالْأَبْطَحِ، وَلَكِنْ أَنَا ضَرَبْتُ قُبَّتَهُ، ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ بِتَوْفِيقِهِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِهِ:" نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ "، وَتَنْفِيذًا لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ،