الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ( «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ) . وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ حُكْمًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَبِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ وَقْتُ فِطْرِهِ كَأَصْبَحَ وَأَمْسَى، وَنَهَى الصَّائِمَ عَنِ الرَّفَثِ وَالصَّخَبِ وَالسِّبَابِ وَجَوَابِ السِّبَابِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ سَابَّهُ:(إِنِّي صَائِمٌ) فَقِيلَ: يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقِيلَ: بِقَلْبِهِ تَذْكِيرًا لِنَفْسِهِ بِالصَّوْمِ، وَقِيلَ: يَقُولُهُ فِي الْفَرْضِ بِلِسَانِهِ، وَفِي التَّطَوِّعِ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.
[فصل في الصوم في السفر]
فصل
وَسَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ وَأَفْطَرَ، وَخَيَّرَ الصَّحَابَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالْفِطْرِ إِذَا دَنَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ لِيَتَقَوَّوْا عَلَى قِتَالِهِ.
فَلَوِ اتَّفَقَ مِثْلُ هَذَا فِي الْحَضَرِ وَكَانَ فِي الْفِطْرِ قُوَّةً لَهُمْ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ فَهَلْ لَهُمُ الْفِطْرُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا دَلِيلًا: أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن تيمية، وَبِهِ أَفْتَى الْعَسَاكِرَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَمَّا لَقُوا الْعَدُوَّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْفِطْرَ
لِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ، بَلْ إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ تَنْبِيهٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَإِنَّهَا أَحَقُّ بِجِوَازِهِ، لِأَنَّ الْقُوَّةَ هُنَاكَ تَخْتَصُّ بِالْمُسَافِرِ، وَالْقُوَّةَ هُنَا لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ مَشَقَّةَ الْجِهَادِ أَعْظَمُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ بِالْفِطْرِ لِلْمُجَاهِدِ أَعْظَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِفِطْرِ الْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60][الْأَنْفَالِ 60] . وَالْفِطْرُ عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ فَسَّرَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ. وَهُوَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ إِلَّا بِمَا يُقَوِّي وَيُعِينُ عَلَيْهِ مِنَ الْفِطْرِ وَالْغِذَاءِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا دَنَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ:( «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» ) . وَكَانَتْ رُخْصَةً ثُمَّ نَزَلُوا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: ( «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوَّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» ) فَكَانَتْ عَزْمَةً [فَأَفْطَرْنَا] ، فَعَلَّلَ بِدُنُوِّهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْقُوَّةِ الَّتِي يَلْقَوْنَ بِهَا الْعَدُوَّ، وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ السَّفَرِ، وَالسَّفَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي تَعْلِيلِهِ وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ، فَالتَّعْلِيلُ بِهِ اعْتِبَارًا لِمَا أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي هَذَا الْفِطْرِ الْخَاصِّ، وَإِلْغَاءُ
وَصْفِ الْقُوَّةِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَاعْتِبَارُ السَّفَرِ الْمُجَرَّدِ إِلْغَاءٌ لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ وَعَلَّلَ بِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ. فَتَنْبِيهُ الشَّارِعِ وَحِكْمَتُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ أَوْلَى مِنْهُ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْعِلَّةِ وَنَبَّهَ عَلَيْهَا وَصَرَّحَ بِحُكْمِهَا، وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُفْطِرُوا لِأَجْلِهَا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ شعبة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ:«سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: (إِنَّهُ يَوْمُ قِتَالٍ فَأَفْطِرُوا» ) تَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ شعبة. فَعَلَّلَ بِالْقِتَالِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالْفِطْرِ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْفِطْرَ لِأَجْلِ الْقِتَالِ.
وَأَمَّا إِذَا تَجَرَّدَ السَّفَرُ عَنِ الْجِهَادِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْفِطْرِ: ( «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ) .
وَسَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فِي أَعْظَمِ الْغَزَوَاتِ وَأَجَلِّهَا فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَفِي غَزَاةِ الْفَتْحِ.
قَالَ ( «عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ غَزْوَتَيْنِ، يَوْمَ بَدْرٍ وَالْفَتْحِ، فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا» ) .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ( «عائشة قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ» ) فَغَلَطٌ إِمَّا عَلَيْهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ مِنْهَا وَأَصَابَهَا فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: