الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِحْرَامُهُ وَطَوَافُهُ وَسَعْيُهُ عَنْهُمَا مَعًا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ وُقُوعِهِ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَعَمَلِ كُلِّ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ.
وَتَرْجِيحٌ رَابِعَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّ النُّسُكَ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى سَوْقِ الْهَدْيِ أَفْضَلُ بِلَا رَيْبٍ مِنْ نُسُكٍ خَلَا عَنِ الْهَدْيِ. فَإِذَا قَرَنَ، كَانَ هَدْيُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النُّسُكَيْنِ، فَلَمْ يَخْلُ نُسُكٌ مِنْهُمَا عَنْ هَدْيٍ، وَلِهَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِقَوْلِهِ:" «إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» ".
وَتَرْجِيحٌ خَامِسَ عَشَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ لِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَيْهِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى الْمَفْضُولِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَأَسَّفَ عَلَى كَوْنِهِ لَمْ يَفْعَلْهُ بِقَوْلِهِ: ( «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» ) .
وَمِنْهَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَجَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَفِعْلُ أَصْحَابِهِ الْقِرَانُ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَالتَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَلِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ هَذِهِ، وَالْمُتَمَتِّعُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ مُتَمَتِّعٍ اشْتَرَاهُ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَا هَدْيَ إِلَّا مَا جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْقَارِنُ السَّائِقُ أَفْضَلُ مِنْ مُتَمَتِّعٍ لَمْ يَسُقْ، وَمِنْ مُتَمَتِّعٍ سَاقَ الْهَدْيَ لِأَنَّهُ قَدْ سَاقَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ، وَالْمُتَمَتِّعُ إِنَّمَا يَسُوقُ الْهَدْيَ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُفْرِدٌ لَمْ يَسُقْ هَدْيًا، أَفْضَلَ مِنْ مُتَمَتِّعٍ سَاقَهُ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ؟ فَكَيْفَ إِذَا جُعِلَ أَفْضَلَ مِنْ قَارِنٍ سَاقَهُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَاضِحٌ.
[عُذْرُ مَنْ قَالَ حَجَّ صلى الله عليه وسلم مُتَمَتِّعًا تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِنْ إِحْرَامِهِ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَجَّ مُتَمَتِّعًا تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ مِنْ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ أَحْرَمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِالْحَجِّ مَعَ سَوْقِ الْهَدْيِ. فَعُذْرُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ معاوية، أَنَّهُ قَصَّرَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ فِي الْعَشْرِ، وَفِي لَفْظٍ: وَذَلِكَ فِي حَجَّتِهِ. وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَى معاوية، وَغَلَّطُوهُ فِيهِ، وَأَصَابَهُ فِيهِ مَا أَصَابَ ابْنَ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، فَإِنَّ سَائِرَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُتَعَدِّدَةِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ:( «لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ» )، وَقَوْلِهِ:( «إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ» ) . وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَدْخُلُهُ الْوَهْمُ وَلَا الْغَلَطُ، بِخِلَافِ خَبَرِ غَيْرِهِ عَنْهُ، لَا سِيَّمَا خَبَرًا يُخَالِفُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ الْجَمُّ الْغَفِيرُ، أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، لَا بِتَقْصِيرٍ وَلَا حَلْقٍ، وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَعَلَّ معاوية قَصَّرَ عَنْ رَأْسِهِ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ قَدْ أَسْلَمَ، ثُمَّ نَسِيَ، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْعَشْرِ، كَمَا نَسِيَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَهُ كَانَتْ كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَقَالَ: كَانَتْ [إِحْدَاهُنَّ] فِي رَجَبٍ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ فِيهَا، وَالْوَهْمُ جَائِزٌ عَلَى مَنْ سِوَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم. فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، صَارَ وَاجِبًا.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ معاوية لَعَلَّهُ قَصَّرَ عَنْ رَأْسِهِ بَقِيَّةَ شَعْرٍ لَمْ يَكُنِ اسْتَوْفَاهُ الْحَلَّاقُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَأَخَذَهُ معاوية عَلَى الْمَرْوَةِ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ وَهْمِهِ، فَإِنَّ الْحَلَّاقَ لَا يُبْقِي غَلَطًا شَعْرًا يُقَصِّرُ مِنْهُ، ثُمَّ يُبْقِي مِنْهُ بَعْدَ التَّقْصِيرِ بَقِيَّةً يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ قَسَمَ شَعْرَ رَأْسِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَأَصَابَ أبا طلحة أَحَدَ الشِّقَّيْنِ، وَبَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ اقْتَسَمُوا الشِّقَّ الْآخَرَ، الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ وَالشَّعَرَاتِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِلَّا سَعْيًا وَاحِدًا وَهُوَ سَعْيُهُ الْأَوَّلُ، لَمْ يَسْعَ عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ قَطْعًا، فَهَذَا وَهْمٌ مَحْضٌ. وَقِيلَ: هَذَا
الْإِسْنَادُ إِلَى معاوية وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ وَخَطَأٌ، أَخْطَأَ فِيهِ الحسن بن علي، فَجَعَلَهُ عَنْ معمر، عَنِ ابن طاووس، وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ هشام بن حجير، عَنِ ابن طاووس، وهشام ضَعِيفٌ.
قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ معاوية، «قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ» وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَالَّذِي عِنْدَ مسلم:«قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ» . وَلَيْسَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى " فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ " فَلَيْسَتْ فِي الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَعْلُولَةٌ، أَوْ وَهْمٌ مِنْ معاوية. قَالَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ: رَاوِيهَا عَنْ عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ، وَالنَّاسُ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَى معاوية. وَصَدَقَ قيس، فَنَحْنُ نَحْلِفُ بِاللَّهِ: إِنَّ هَذَا مَا كَانَ فِي الْعَشْرِ قَطُّ.
وَيُشْبِهُ هَذَا وَهْمُ معاوية فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أبو داود، عَنْ قتادة، عَنْ أبي شيخ الهنائي، أَنَّ معاوية قَالَ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كَذَا، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ قَالُوا: أَمَّا هَذِهِ فَلَا. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهَا مَعَهَا وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ» . وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّ هَذَا وَهْمٌ مِنْ معاوية، أَوْ كَذِبٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنْهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ قَطُّ، وأبو شيخ شَيْخٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ الْأَعْلَامِ، وَإِنْ رَوَى عَنْهُ قتادة وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ. وَاسْمُهُ خيوان بن خلدة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ.