الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِاعْتِكَافِ وَرُوحِهِ، عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنِ اتِّخَاذِ الْمُعْتَكَفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزَّائِرِينَ، وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ، فَهَذَا لَوْنٌ، وَالِاعْتِكَافُ النَّبَوِيُّ لَوْنٌ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجِّهِ وَعُمَرِهِ]
[الْعُمُرَاتُ الَّتِي اعْتَمَرَهَا صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجِّهِ وَعُمَرِهِ
اعْتَمَرَ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنُّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
الْأُولَى: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ أُولَاهُنُّ سَنَةَ سِتٍّ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ الْبُدْنَ حَيْثُ صُدَّ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، وَرَجَعَ مِنْ عَامِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
الثَّانِيَةُ: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، دَخَلَ مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ إِكْمَالِ عُمْرَتِهِ، وَاخْتُلِفَ: هَلْ كَانَتْ قَضَاءً لِلْعُمْرَةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي، أَمْ عُمْرَةً مُسْتَأْنَفَةً؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ: وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهَا قَضَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة رحمه الله. وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ مالك رحمه الله، وَالَّذِينَ قَالُوا: كَانَتْ قَضَاءً، احْتَجُّوا بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَهَذَا الِاسْمُ تَابِعٌ لِلْحُكْمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقَضَاءُ هُنَا مِنَ الْمُقَاضَاةِ، لِأَنَّهُ قَاضَى أَهْلَ مَكَّةَ عَلَيْهَا، لَا أَنَّهُ مِنْ قَضَى قَضَاءً. قَالُوا: وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ. قَالُوا: وَالَّذِينَ صُدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَضَاءً لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْقَضَاءِ.
الثَّالِثَةُ: عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَارِنًا لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا، سَنَذْكُرُهَا عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الرَّابِعَةُ: عُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ دَاخِلًا إِلَيْهَا.
فَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ( «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ» ) .
وَلَمْ يُنَاقِضْ هَذَا مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: ( «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» ) ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ، فَإِنَّ عُمْرَةَ الْقِرَانِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً وَعُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ صُدَّ عَنْهَا، وَحِيلَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:( «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ. عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةُ مَعَ حَجَّتِهِ» ) ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثِ أنس: أَنَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، وَبَيْنَ قَوْلِ عائشة، وَابْنِ عَبَّاسٍ:«لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَنِهَايَتُهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ، فعائشة وَابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَا عَنِ ابْتِدَائِهَا، وأنس أَخْبَرَ عَنِ انْقِضَائِهَا.
فَأَمَّا قَوْلُ عبد الله بن عمر: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ أَرْبَعًا، إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ» ، فَوَهْمٌ مِنْهُ رضي الله عنه. «قَالَتْ عائشة لَمَّا بَلَغَهَا ذَلِكَ عَنْهُ: يَرْحَمُ اللَّهُ أبا عبد الرحمن، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةً قَطُّ إِلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ» .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، ( «عَنْ عائشة قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ، فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي، أَفْطَرْتَ وَصُمْتُ، وَقَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ، فَقَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عائشة» ) فَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ،
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي رَمَضَانَ قَطُّ، وَعُمَرُهُ مَضْبُوطَةُ الْعَدَدِ وَالزَّمَانِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ قَطُّ، وَقَدْ قَالَتْ عائشة رضي الله عنها:«لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ لَمْ تَزِدْ عَلَى أَرْبَعٍ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ لَكَانَتْ خَمْسًا، وَلَوْ كَانَ قَدِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ سِتًّا، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بَعْضُهُنَّ فِي رَجَبٍ، وَبَعْضُهُنَّ فِي رَمَضَانَ، وَبَعْضُهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَهَذَا لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ اعْتِمَارُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا قَالَ أنس رضي الله عنه، وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وعائشة رضي الله عنها. وَقَدْ رَوَى أبو داود فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عائشة:( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ» ) . وَهَذَا إِذَا كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ حِينَ خَرَجَ فِي شَوَّالٍ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَحْرَمَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي عُمَرِهِ عُمْرَةٌ وَاحِدَةٌ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمَرُهُ كُلُّهَا دَاخِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ أَقَامَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَصْلًا.
فَالْعُمْرَةُ الَّتِي فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَشَرَعَهَا، هِيَ عُمْرَةُ الدَّاخِلِ إِلَى مَكَّةَ، لَا عُمْرَةُ مَنْ كَانَ بِهَا فَيَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ لِيَعْتَمِرَ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا عَلَى عَهْدِهِ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا عائشة وَحْدَهَا بَيْنَ سَائِرِ مَنْ كَانَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَدْ أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ فَحَاضَتْ،