الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، فَهُوَ خِلَافُ مَا رَوَاهُ جابر عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ طَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ رَوَتْ عائشة وَابْنُ عُمَرَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي، فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ اسْتَلَمَهُ» ، هَذَا إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَهُوَ فِي إِحْدَى عُمَرِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ الرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي السَّعْيِ: إِنَّهُ رَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَإِنَّ مَنْ رَمَلَ عَلَى بَعِيرِهِ فَقَدْ رَمَلَ، لَكِنْ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[غَلَطُ ابْنِ حَزْمٍ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ]
فَصْلٌ
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَطَافَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا سَبْعًا، رَاكِبًا عَلَى بَعِيرِهِ يَخُبُّ ثَلَاثًا، وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا مِنْ أَوْهَامِهِ وَغَلَطِهِ رحمه الله، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ هَذَا قَطُّ غَيْرَهُ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْبَتَّةَ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَغَلِطَ أبو محمد وَنَقَلَهُ إِلَى الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» . . وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ عَدَدَ الرَّمَلِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَنْصُوصًا، وَلَكِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. هَذَا لَفْظُهُ.
قُلْتُ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي الْأَشْوَاطِ كُلِّهَا. وَأَمَّا الرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ خَاصَّةً، فَلَمْ يَقُلْهُ، وَلَا نَقَلَهُ فِيمَا نَعْلَمُ غَيْرُهُ. وَسَأَلْتُ شَيْخَنَا عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَغْلَاطِهِ، وَهُوَ لَمْ يَحُجَّ رحمه الله تَعَالَى.
وَيُشْبِهُ هَذَا الْغَلَطَ غَلَطُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ سَعَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَكَانَ يَحْتَسِبُ
بِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا غَلَطٌ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَنْقُلْهُ عِنْدَ أَحَدٍ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ اشْتَهَرَتْ أَقْوَالُهُمْ، وَإِنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا خِلَافَ عَنْهُ أَنَّهُ خَتَمَ سَعْيَهُ بِالْمَرْوَةِ، وَلَوْ كَانَ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَكَانَ خَتْمُهُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الصَّفَا.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، رَقِيَ عَلَيْهَا، وَاسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ، وَوَحَّدَهُ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا أَكْمَلَ سَعْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يَحِلَّ حَتْمًا، وَلَا بُدَّ قَارِنًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا الْحِلَّ كُلَّهُ مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ، وَالطِّيبِ، وَلُبْسِ الْمَخِيطِ، وَأَنْ يَبْقَوْا كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ هُوَ مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ، وَهُنَاكَ قَالَ:" «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَحَلَّ هُوَ أَيْضًا، وَهُوَ غَلَطٌ قَطْعًا، قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَهُنَاكَ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَهُنَاكَ سَأَلَهُ سراقة بن مالك بن جعشم عَقِيبَ أَمْرِهِ لَهُمْ بِالْفَسْخِ وَالْإِحْلَالِ: هَلْ ذَلِكَ لِعَامِهِمْ خَاصَّةً، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ:" بَلْ لِلْأَبَدِ ". وَلَمْ يَحِلَّ أبو بكر، وَلَا عمر، وَلَا علي وَلَا طلحة، وَلَا الزبير مِنْ أَجْلِ الْهَدْيِ.
وَأَمَّا نِسَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم فَأَحْلَلْنَ، وَكُنَّ قَارِنَاتٍ، إِلَّا عائشة فَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ مِنْ أَجْلِ تَعَذُّرِ الْحِلِّ عَلَيْهَا لِحَيْضِهَا، وفاطمة حَلَّتْ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا هَدْيٌ، وعلي رضي الله عنه لَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ هَدْيِهِ، وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهَلَّ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ إِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، وَأَنْ يَحِلَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ.
وَكَانَ يُصَلِّي مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِمَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ
بِالْمُسْلِمِينَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ضُحًى، تَوَجَّهَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مِنًى، فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنْهُمْ مِنْ رِحَالِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَحْرَمُوا مِنْهُ، بَلْ أَحْرَمُوا وَمَكَّةُ خَلْفَ ظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مِنًى نَزَلَ بِهَا، وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَبَاتَ بِهَا، وَكَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ سَارَ مِنْهَا إِلَى عَرَفَةَ، وَأَخَذَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ عَلَى يَمِينِ طَرِيقِ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُلَبِّي، وَمِنْهُمُ الْمُكَبِّرُ، وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ بِأَمْرِهِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ شَرْقِيَّ عَرَفَاتٍ، وَهِيَ خَرَابٌ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي مِنْ أَرْضِ عُرَنَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً، قَرَّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي اتِّفَقَتِ الْمِلَلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَهِيَ الدِّمَاءُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْأَعْرَاضُ، وَوَضَعَ فِيهَا أُمُورَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَوَضَعَ فِيهَا رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ، وَأَبْطَلَهُ، وَأَوْصَاهُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، وَذَكَرَ الْحَقَّ، الَّذِي لَهُنَّ، وَالَّذِي عَلَيْهِنَّ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ لَهُنَّ الرِّزْقُ، وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ بِتَقْدِيرٍ، وَأَبَاحَ لِلْأَزْوَاجِ ضَرْبَهُنَّ إِذَا أَدْخَلْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَنْ يَكْرَهُهُ أَزْوَاجُهُنَّ، وَأَوْصَى الْأُمَّةَ فِيهَا بِالِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَضِلُّوا مَا دَامُوا مُعْتَصِمِينَ بِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُ، وَاسْتَنْطَقَهُمْ: بِمَاذَا يَقُولُونَ، وَبِمَاذَا يَشْهَدُونَ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ، وَنَصَحْتَ فَرَفَعَ أُصْبُعَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَاسْتَشْهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُهُمْ غَائِبَهُمْ.
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أم الفضل بنت الحارث الهلالية وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ أَمَامَ النَّاسِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ أَمَرَ بلالا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مِنْ وَهْمِهِ رحمه الله، فَإِنَّ قِصَّةَ شُرْبِهِ اللَّبَنَ إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ هَذَا، حِينَ سَارَ إِلَى عَرَفَةَ، وَوَقَفَ بِهَا هَكَذَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مُصَرَّحًا بِهِ عَنْ ميمونة: أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلَابٍ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. وَفِي لَفْظٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ.
وَمَوْضِعُ خُطْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَوْقِفِ، فَإِنَّهُ خَطَبَ بِعُرَنَةَ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَوْقِفِ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم، نَزَلَ بِنَمِرَةَ، وَخَطَبَ بِعُرَنَةَ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَكُنْ خُطْبَتَيْنِ، جَلَسَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا أَتَمَّهَا أَمَرَ بلالا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، أَسَرَّ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُصَلِّي جُمُعَةً، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ أَيْضًا، وَمَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا بِلَا رَيْبٍ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِتْمَامِ، وَلَا بِتَرْكِ الْجَمْعِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: " «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» " فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ غَلَطًا بَيِّنًا، وَوَهِمَ وَهْمًا قَبِيحًا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ بِجَوْفِ مَكَّةَ، حَيْثُ كَانُوا فِي دِيَارِهِمْ مُقِيمِينَ.
وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ، كَمَا فَعَلُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي هَذَا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ سَفَرَ
الْقَصْرِ لَا يَتَحَدَّدُ بِمَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا بِأَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلنُّسُكِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَبًا وَهُوَ السَّفَرُ، هَذَا مُقْتَضَى السُّنَّةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَدِّدُونَ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَوَقَفَ فِي ذَيْلِ الْجَبَلِ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ عَلَى بَعِيرِهِ فَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ عَرَفَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَوْقِفِهِ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ:" وَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ".
وَأَرْسَلَ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ، وَيَقِفُوا بِهَا، فَإِنَّهَا مِنْ إِرْثِ
أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، وَهُنَالِكَ أَقْبَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْحَجِّ، فَقَالَ:" «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ، تَمَّ حَجُّهُ، أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ".
وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ خَيْرَ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَذَكَرَ مِنْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْقِفِ: «اللُّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَالَّذِي نَقُولُ، وَخَيْرًا مِمَّا نَقُولُ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي، وَإِلَيْكَ مَآبِي، وَلَكَ رَبِّي تُرَاثِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ» " ذَكَرَهُ الترمذي.
وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ دُعَائِهِ هُنَاكَ: " «اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلَامِي، وَتَرَى مَكَانِي، وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي، لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ، الْمُسْتَغِيثُ، الْمُسْتَجِيرُ، وَالْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيَّا، وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ» ". ذَكَرَهُ الطَّبَرَانِيُّ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ:" «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ".
وَذَكَرَ البيهقي مِنْ حَدِيثِ علي رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي صَدْرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ الصَّدْرِ، وَشَتَاتِ الْأَمْرِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي اللَّيْلِ، وَشَرِّ مَا يَلِجُ فِي النَّهَارِ، وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ وَشَرِّ بَوَائِقِ الدَّهْرِ» ) .
وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ فِيهَا لِينٌ.
وَهُنَاكَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3][الْمَائِدَةِ 3] .
وَهُنَاكَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثْوْبَيْهِ، وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وَأَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ، وَسِدْرٍ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، وَلَا وَجْهُهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُلَبِّي.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اثْنَا عَشَرَ حُكْمًا.
الْأَوَّلُ: وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَزِدْهُ غُسْلُهُ إِلَّا نَجَاسَةً؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَوْتِ لِلْحَيَوَانِ عَيْنِيَّةٌ، فَإِنْ سَاعَدَ الْمُنَجِّسُونَ عَلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ، بَطَلَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِالْمَوْتِ، وَإِنْ قَالُوا: لَا يَطْهُرُ، لَمْ يَزِدِ الْغُسْلُ أَكْفَانَهُ وَثِيَابَهُ وَغَاسِلَهُ إِلَّا نَجَاسَةً.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ، أَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، لَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالسِّدْرِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ هَذَا أَحَدُهَا، وَالثَّانِي: فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ، وَالثَّالِثُ: فِي غُسْلِ الْحَائِضِ.
وَفِي وُجُوبِ السِّدْرِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالطَّاهِرَاتِ لَا يَسْلُبُهُ طَهُورِيَّتَهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، وَإِنْ كَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى خِلَافِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغُسْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ قَرَاحٍ، بَلْ أَمَرَ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ أَنْ يَجْعَلْنَ فِي الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ شَيْئًا مِنَ الْكَافُورِ، وَلَوْ سَلَبَهُ الطَّهُورِيَّةَ، لَنَهَى عَنْهُ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مُجَرَّدَ اكْتِسَابِ الْمَاءِ مِنْ رَائِحَتِهِ حَتَّى يَكُونَ تَغَيُّرَ مُجَاوَرَةٍ، بَلْ هُوَ تَطْيِيبُ الْبَدَنِ، وَتَصْلِيبُهُ، وَتَقْوِيتُهُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَافُورٍ مُخَالِطٍ لَا مُجَاوِرٍ.
الْحُكْمُ الْخَامِسُ: إِبَاحَةُ الْغُسْلِ لِلْمُحْرِمِ، وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَفَصَلَ بَيْنَهُمَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَلَكِنْ
كَرِهَ مالك رحمه الله أَنْ يُغَيَّبَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ سِتْرٍ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ.
الْحُكْمُ السَّادِسُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنَ الْمَاءِ وَالسِّدْرِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ، وأحمد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَنَعَ مِنْهُ مالك، وأبو حنيفة، وأحمد فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صالح عَنْهُ. قَالَ: فَإِنْ فَعَلَ أَهْدَى، وَقَالَ صَاحِبَا أبي حنيفة: إِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
وَلِلْمَانِعِينَ ثَلَاثُ عِلَلٍ.
إِحْدَاهَا: أَنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ مِنْ رَأْسِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّفَلِّي.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَرَفُّهٌ، وَإِزَالَةُ شَعَثٍ يُنَافِي الْإِحْرَامَ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَسْتَلِذُّ رَائِحَتَهُ، فَأَشْبَهَ الطِّيبَ وَلَا سِيَّمَا الْخِطْمِيُّ. وَالْعِلَلُ الثَّلَاثُ وَاهِيَةٌ جِدًّا، وَالصَّوَابُ جَوَازُهُ لِلنَّصِّ، وَلَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِزَالَةَ الشَّعَثِ بِالِاغْتِسَالِ، وَلَا قَتْلَ الْقَمْلِ، وَلَيْسَ السِّدْرُ مِنَ الطِّيبِ فِي شَيْءٍ.
الْحُكْمُ السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَعَلَى الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ وَارِثِهِ، وَلَا عَنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ. وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحَالُ، لَسَأَلَ.
وَكَمَا أَنَّ كِسْوَتَهُ فِي الْحَيَاةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، هَذَا كَلَامُ الْجُمْهُورِ، وَفِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
الْحُكْمُ الثَّامِنُ: جَوَازُ الِاقْتِصَارِ فِي الْكَفَنِ عَلَى ثَوْبَيْنِ، وَهُمَا إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي أبو يعلى: لَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عِنْدَ الْقُدْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبَيْنِ لَمْ يَجُزِ التَّكْفِينُ بِالثَّلَاثَةِ لِمَنْ لَهُ أَيْتَامٌ وَالصَّحِيحُ: خِلَافُ قَوْلِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ يُنْقَضُ بِالْخَشِنِ مَعَ الرَّفِيعِ.
الْحُكْمُ التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يَمَسَّ
طِيبًا، مَعَ شَهَادَتِهِ لَهُ أَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ الطِّيبِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ " «لَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» ".
وَأَمَرَ الَّذِي أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِالْخَلُوقِ، أَنْ تُنْزَعَ عَنْهُ الْجُبَّةُ، وَيُغْسَلَ عَنْهُ أَثَرُ الْخَلُوقِ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ مَدَارُ مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ الطِّيبِ. وَأَصْرَحُهَا: هَذِهِ الْقِصَّةُ، فَإِنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَنْ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الطِّيبِ لَا سِيَّمَا الْخَلُوقُ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ عَامٌّ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى أَنْ يَقْرَبَ طِيبًا، أَوْ يُمَسَّ بِهِ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الرَّأْسَ وَالْبَدَنَ وَالثِّيَابَ وَأَمَّا شَمُّهُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ فَإِنَّمَا حَرَّمَهُ مَنْ حَرَّمَهُ بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ النَّهْيِ لَا يَتَنَاوَلُهُ بِصَرِيحِهِ وَلَا إِجْمَاعَ مَعْلُومَ فِيهِ، يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ تَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ تَحْرِيمِ الْوَسَائِلِ، فَإِنَّ شَمَّهُ يَدْعُو إِلَى مُلَامَسَتِهِ فِي الْبَدَنِ وَالثِّيَابِ، كَمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا حَرُمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، أَوِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، كَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى الْأَمَةِ الْمُسْتَامَةِ، وَالْمَخْطُوبَةِ، وَمَنْ شَهِدَ عَلَيْهَا، أَوْ يُعَامِلُهَا، أَوْ يَطِبُّهَا.
وَعَلَى هَذَا، فَإِنَّمَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ مِنْ قَصْدِ شَمِّ الطِّيبِ لِلتَّرَفُّهِ، وَاللَّذَّةِ، فَأَمَّا إِذَا وَصَلَتِ الرَّائِحَةُ إِلَى أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ، أَوْ شَمَّهُ قَصْدًا لِاسْتِعْلَامِهِ عِنْدَ شِرَائِهِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ سَدُّ أَنْفِهِ، فَالْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْفَجْأَةِ، وَالثَّانِي: بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْمُسْتَامِ وَالْخَاطِبِ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا، أَنَّ الَّذِينَ أَبَاحُوا لِلْمُحْرِمِ اسْتِدَامَةَ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِإِبَاحَةِ تَعَمُّدِ شَمِّهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ أبي حنيفة فَقَالُوا: فِي"جَوَامِعِ الْفِقْهِ" لأبي يوسف: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُمَّ طِيبًا تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، قَالَ:
صَاحِبُ " الْمُفِيدِ ": إِنَّ الطِّيبَ يَتَّصِلُ بِهِ فَيَصِيرُ تَبَعًا لَهُ؛ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَى التَّعَبِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، فَيَصِيرُ كَالسَّحُورِ فِي حَقِّ الصَّائِمِ، يَدْفَعُ بِهِ أَذَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ فِي الصَّوْمِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ بَائِنٌ عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ، هَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ كَمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ ابْتِدَائِهِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ اسْتِدَامَتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: جَوَازُ اسْتِدَامَتِهِ اتِّبَاعًا لِمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَتَطَيَّبُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ، وَفِي لَفْظٍ "وَهُوَ يُلَبِّي" وَفِي لَفْظٍ " بَعْدَ ثَلَاثٍ ". وَكُلُّ هَذَا يَدْفَعُ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَمَّا اغْتَسَلَ ذَهَبَ أَثَرُهُ. وَفِي لَفْظٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ تَطَيَّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، ثُمَّ يُرَى، وَبِيصُ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ» ، وَلِلَّهِ مَا يَصْنَعُ التَّقْلِيدُ، وَنُصْرَةُ الْآرَاءِ بِأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُخْتَصَّا بِهِ، وَيَرُدُّ هَذَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ لَا تُسْمَعُ إِلَّا بِدَلِيلٍ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ أبو داود، عَنْ عائشة، ( «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ، فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالسُّكِّ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا، سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَنْهَانَا» ) .
الْحُكْمُ الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، وَالْمَرَاتِبُ فِيهِ ثَلَاثٌ: مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَجَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْأَوَّلُ: كُلُّ مُتَّصِلٍ مُلَامِسٍ يُرَادُ لِسِتْرِ الرَّأْسِ، كَالْعِمَامَةِ، وَالْقُبَعَةِ، وَالطَّاقِيَّةِ، وَالْخُوذَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: كَالْخَيْمَةِ، وَالْبَيْتِ وَالشَّجَرَةِ، وَنَحْوِهَا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ بِنَمِرَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، إِلَّا أَنَّ مالكا مَنَعَ الْمُحْرِمَ أَنْ يَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى شَجَرَةٍ؛ لِيَسْتَظِلَّ بِهِ، وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمَنَعَ أَصْحَابُهُ الْمُحْرِمَ أَنْ يَمْشِيَ فِي ظِلِّ الْمَحْمِلِ.
وَالثَّالِثُ: كَالْمَحْمِلِ، وَالْمَحَارَةِ، وَالْهَوْدَجِ، فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وأبي حنيفة - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ. فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك رحمه الله. وَالثَّالِثُ: الْمَنْعُ فَإِنْ فَعَلَ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَالثَّلَاثَةُ رِوَايَاتٌ عَنْ أحمد رحمه الله.
الْحُكْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ: مَنْعُ الْمُحْرِمِ مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وأحمد فِي رِوَايَةٍ إِبَاحَتُهُ وَمَذْهَبُ مالك، وأبي حنيفة، وأحمد فِي رِوَايَةٍ الْمَنْعُ، مِنْهُ وَبِإِبَاحَتِهِ قَالَ سِتَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عثمان، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، والزبير، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وجابر رضي الله عنهم. وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ: إِنْ كَانَ حَيَّا، فَلَهُ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا، لَمْ يَجُزْ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِظَاهِرِيَّتِهِ.
وَاحْتَجَّ الْمُبِيحُونَ بِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَبِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَبِمَفْهُومِ قَوْلِهِ:" «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» " وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ: " «وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ» " بِأَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِيهِ. قَالَ شعبة: حَدَّثَنِيهِ أبو بشر، ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ، فَجَاءَ بِالْحَدِيثِ كَمَا كَانَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:" «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا وَجْهَهُ» " قَالُوا:
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهَا. قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " «خَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ» ".
الْحُكْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ: بَقَاءُ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ عثمان، وعلي، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم، وَبِهِ قَالَ أحمد، وَالشَّافِعِيُّ، وإسحاق، وَقَالَ أبو حنيفة، ومالك، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَنْقَطِعُ الْإِحْرَامُ بِالْمَوْتِ، وَيُصْنَعُ بِهِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» ".
قَالُوا: وَلَا دَلِيلَ فِي حَدِيثِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ، كَمَا قَالُوا فِي صَلَاتِهِ عَلَى النَّجَاشِيِّ: إِنِّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ.