الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ ( «نَهَى عَنْ إِفْرَادِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ، إِلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» )، وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الَّذِي ظَنَّهُ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَوْمَهُ نَوْعُ تَعْظِيمٍ لَهُ، فَهُوَ مُوَافَقَةٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعْظِيمِهِ وَإِنْ تَضَمَّنَ مُخَالَفَتَهُمْ فِي صَوْمِهِ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا أُفْرِدَ بِالصَّوْمِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَجِئْ بِإِفْرَادِهِ، وَأَمَّا إِذَا صَامَهُ مَعَ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْظِيمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ صِيَامُ الدَّهْرِ]
فَصْلٌ
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم سَرْدُ الصَّوْمِ وَصِيَامُ الدَّهْرِ، بَلْ قَدْ قَالَ:( «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» ) وَلَيْسَ مُرَادُهُ بِهَذَا مَنْ صَامَ الْأَيَّامَ الْمُحَرَّمَةَ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: أَرَأَيْتَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟ وَلَا يُقَالُ فِي جَوَابِ مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ: لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ، فَإِنَّ هَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَوَاءٌ فِطْرُهُ وَصَوْمُهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَاقَبُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ فَعَلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، فَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ عَنِ الْمُحَرَّمِ مِنَ الصَّوْمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا عِنْدَ مَنِ اسْتَحَبَّ صَوْمَ الدَّهْرِ قَدْ فَعَلَ مُسْتَحَبَّا وَحَرَامًا، وَهُوَ عِنْدَهُمْ قَدْ صَامَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيَّامِ الِاسْتِحْبَابِ وَارْتَكَبَ مُحَرَّمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيَّامِ التَّحْرِيمِ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يُقَالُ:" لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ ". فَتَنْزِيلُ قَوْلِهِ عَلَى ذَلِكَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَيَّامَ التَّحْرِيمِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ شَرْعًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ شَرْعًا وَبِمَنْزِلَةِ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَلَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ لِيَسْأَلُوهُ عَنْ صَوْمِهَا، وَقَدْ عَلِمُوا عَدَمَ قَبُولِهَا لِلصَّوْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِيُجِيبَهُمْ لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا التَّحْرِيمَ بِقَوْلِهِ:(لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ) فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ لِلتَّحْرِيمِ.
فَهَدْيُهُ لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ.
وَسَرْدُ صِيَامِ الدَّهْرِ مَكْرُوهٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا لَزِمَ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُمْتَنِعَةٍ: أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ، وَأَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ عَمَلٍ، وَهَذَا مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:( «إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ» ) وَإِنَّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْهُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الْفَضْلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ لَا اسْتِحْبَابَ فِيهِ، وَلَا كَرَاهَةَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ، إِذْ لَيْسَ هَذَا شَأْنُ الْعِبَادَاتِ، بَلْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً أَوْ مَرْجُوحَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» ) . «وَقَالَ فِيمَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: (إِنَّ ذَلِكَ يَعْدِلُ صَوْمَ الدَّهْرِ) » ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ الدَّهْرِ أَفْضَلُ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ، وَثَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ الصَّائِمِينَ، حَتَّى شَبَّهَ بِهِ مَنْ صَامَ هَذَا الصِّيَامَ.
قِيلَ: نَفْسُ هَذَا التَّشْبِيهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِهِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ بِهِ فِي ثَوَابِهِ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ جَعَلَ صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ بِمَنْزِلَةِ صِيَامِ الدَّهْرِ، إِذِ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَامَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ قَطْعًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حُصُولُ هَذَا الثَّوَابِ عَلَى
تَقْدِيرِ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، إِنَّهُ يَعْدِلُ مَعَ صِيَامِ رَمَضَانَ السَّنَةَ، ثُمَّ قَرَأَ:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160][الْأَنْعَامِ: 160] ، فَهَذَا صِيَامُ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا تَعْدِلُ صِيَامَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ قَدْ يَجِيءُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا يَمْتَنِعُ فِعْلُ الْمُشَبَّهِ بِهِ عَادَةً، بَلْ يَسْتَحِيلُ، وَإِنَّمَا شَبَّهَ بِهِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ إِمْكَانِهِ، كَقَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ:( «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ، وَأَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ» ) ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عَادَةً، كَامْتِنَاعِ صَوْمِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا شَرْعًا، وَقَدْ شَبَّهَ الْعَمَلَ الْفَاضِلَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا يَزِيدُهُ وُضُوحًا: أَنَّ أَحَبَّ الْقِيَامِ إِلَى اللَّهِ قِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِصَرِيحِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ مَثَّلَ ( «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، بِمَنْ قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ» ) .
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: ( «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ حَتَّى تَكُونَ هَكَذَا وَقَبَضَ كَفَّهُ» ) وَهُوَ فِي " مُسْنَدِ أحمد "؟ .
قِيلَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ. فَقِيلَ: ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ حَصْرًا لَهُ فِيهَا، لِتَشْدِيدِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا، وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتِقَادِهِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ،