الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْجُمْهُورُ: دَعْوَى التَّخْصِيصِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا تُقْبَلُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ:" «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» "، إِشَارَةٌ إِلَى الْعِلَّةِ. فَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِهِ لَمْ يُشِرْ إِلَى الْعِلَّةِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. وَقَدْ قَالَ نَظِيرَ هَذَا فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَقَالَ:" «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، بِكُلُومِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ". وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِمْ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " «كَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " وَلَمْ تَقُولُوا: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِشُهَدَاءِ أُحُدٍ فَقَطْ، بَلْ عَدَّيْتُمُ الْحُكْمَ إِلَى سَائِرِ الشُّهَدَاءِ مَعَ إِمْكَانِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّخْصِيصِ فِيهِ. وَمَا الْفَرْقُ؟ وَشَهَادَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْمُعَادُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى حَالَةٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْحَدِيثُ، لَكَانَتْ أُصُولُ الشَّرْعِ شَاهِدَةً بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[مُتَابَعَةُ سِيَاقِ حَجَّتِهِ صلى الله عليه وسلم]
فَصْلٌ
عُدْنَا إِلَى سِيَاقِ حَجَّتِهِ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا، بِحَيْثُ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ، أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَأَفَاضَ بِالسَّكِينَةِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ زِمَامَ نَاقَتِهِ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرْفَ رَحْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ:" «أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ» " أَيْ: لَيْسَ بِالْإِسْرَاعِ.
وَأَفَاضَ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَدَخَلَ عَرَفَةَ مِنْ طَرِيقِ ضَبٍّ، وَهَكَذَا كَانَتْ عَادَتُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ -فِي الْأَعْيَادِ، أَنْ يُخَالِفَ الطَّرِيقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكْمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَدْيِهِ فِي الْعِيدِ.
ثُمَّ جَعَلَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ لَيْسَ بِالسَّرِيعِ وَلَا الْبَطِيءِ. فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً وَهُوَ الْمُتَّسَعُ، نَصَّ سَيْرَهُ، أَيْ: رَفَعَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا أَتَى رَبْوَةً مِنْ تِلْكَ الرُّبَى، أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ.
وَكَانَ يُلَبِّي فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ، لَمْ يَقْطَعِ التَّلْبِيَةَ. فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ نَزَلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ، وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقَالَ لَهُ أسامة: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ:" «الصَّلَاةَ - أَوِ الْمُصَلَّى - أَمَامَكَ» ".
ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَتَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْأَذَانِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ وَتَبْرِيكِ الْجِمَالِ، فَلَمَّا حَطُّوا رِحَالَهُمْ أَمَرَ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ بِإِقَامَةٍ بِلَا أَذَانٍ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ، وَرُوِيَ بِإِقَامَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، كَمَا فَعَلَ بِعَرَفَةَ.
ثُمَّ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَمْ يُحْيِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلَا صَحَّ عَنْهُ فِي إِحْيَاءِ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ شَيْءٌ.