الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ قِيلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ، وَالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ، فَقَالَ:" لَا حَرَجَ ".
وَقَوْلُهُ: سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.
وَالْمَحْفُوظُ: تَقْدِيمُ الرَّمْيِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
[بَحْثٌ فِي نَحْرِهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ]
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ، وَكَانَ يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى. وَكَانَ عَدَدُ هَذَا الَّذِي نَحَرَهُ عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ، ثُمَّ
أَمْسَكَ وَأَمَرَ عليا أَنْ يَنْحَرَ مَا غَبَرَ مِنَ الْمِائَةِ، ثُمَّ أَمَرَ عليا رضي الله عنه أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجِلَالِهَا وَلُحُومِهَا وَجُلُودِهَا فِي الْمَسَاكِينِ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْجَزَّارَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا، وَقَالَ نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا، وَقَالَ:" مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ".
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أنس رضي الله عنه قَالَ: " «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَجَعَلَ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ، لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ» ".
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ.
قَالَ أبو محمد ابن حزم: مَخْرَجُ حَدِيثِ أنس عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْحَرْ بِيَدِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ بُدْنٍ، كَمَا قَالَ أنس، وَأَنَّهُ أَمَرَ مَنْ يَنْحَرُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى تَمَامِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ زَالَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَمَرَ عليا رضي الله عنه فَنَحَرَ مَا بَقِيَ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أنس لَمْ يُشَاهِدْ إِلَّا نَحْرَهُ صلى الله عليه وسلم سَبْعًا فَقَطْ بِيَدِهِ، وَشَاهَدَ جابر تَمَامَ نَحْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْبَاقِي، فَأَخْبَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بِيَدِهِ مُنْفَرِدًا سَبْعَ بُدْنٍ كَمَا قَالَ أنس، ثُمَّ أَخَذَ هُوَ وعلي الْحَرْبَةَ مَعًا، فَنَحَرَا كَذَلِكَ تَمَامَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، كَمَا قَالَ غرفة بن الحارث الكندي
أَنَّهُ شَاهَدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ قَدْ أَخَذَ بِأَعْلَى الْحَرْبَةِ، وَأَمَرَ عليا فَأَخَذَ بِأَسْفَلِهَا، وَنَحَرَا بِهَا الْبُدْنَ ثُمَّ انْفَرَدَ علي بِنَحْرِ الْبَاقِي مِنَ الْمِائَةِ، كَمَا قَالَ جابر. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وأبو داود، عَنْ علي قَالَ:«لَمَّا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، فَنَحَرَ ثَلَاثِينَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَنِي فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا» .
قُلْنَا: هَذَا غَلَطٌ انْقَلَبَ عَلَى الرَّاوِي، فَإِنَّ الَّذِي نَحَرَ ثَلَاثِينَ: هُوَ علي، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ سَبْعًا بِيَدِهِ لَمْ يُشَاهِدْهُ علي، وَلَا جابر، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ أُخْرَى، فَبَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ ثَلَاثُونَ، فَنَحَرَهَا علي، فَانْقَلَبَ عَلَى الرَّاوِي عَدَدُ مَا نَحَرَهُ علي بِمَا نَحَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عبد الله بن قرط، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ ". وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي. قَالَ: وَقُرِّبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٌ خَمْسٌ فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ؟ فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ خَفِيَّةٍ لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ مَا قَالَ؟ قَالَ:" مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ» ".
قِيلَ نَقْبَلُهُ وَنُصَدِّقُهُ، فَإِنَّ الْمِائَةَ لَمْ تُقَرَّبْ إِلَيْهِ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَرْسَالًا، فَقُرِّبَ مِنْهُنَّ إِلَيْهِ خَمْسُ بَدَنَاتٍ رَسَلًا، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّسَلُ يُبَادِرْنَ وَيَتَقَرَّبْنَ إِلَيْهِ لِيَبْدَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أبي
بكرة فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وَإِلَى جُزَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا، لَفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
فَفِي هَذَا أَنَّ ذَبْحَ الْكَبْشَيْنِ كَانَ بِمَكَّةَ، وَفِي حَدِيثِ أنس أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
قِيلَ: فِي هَذَا طَرِيقَتَانِ لِلنَّاسِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ: قَوْلُ أنس، وَأَنَّهُ ضَحَّى بِالْمَدِينَةِ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَأَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ، فَفَصَّلَ أنس، وَمَيَّزَ بَيْنَ نَحْرِهِ بِمَكَّةَ لِلْبُدْنِ، وَبَيْنَ نَحْرِهِ بِالْمَدِينَةِ لِلْكَبْشَيْنِ، وَبَيَّنَ إِنَّهُمَا قِصَّتَانِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذَكَرَ نَحْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، إِنَّمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ نَحَرَ الْإِبِلَ، وَهُوَ الْهَدْيُ الَّذِي سَاقَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ نَحْرِ الْغَنَمِ هُنَاكَ بِلَا سَوْقٍ، وجابر قَدْ قَالَ فِي صِفَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّهُ رَجَعَ مِنَ الرَّمْيِ، فَنَحَرَ الْبُدْنَ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَنَّ قِصَّةَ الْكَبْشَيْنِ كَانَتْ يَوْمَ عِيدٍ، فَظَنَّ أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى فَوَهِمَ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ ابْنِ حَزْمٍ، وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُ، إِنَّهُمَا عَمَلَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، فَذَكَرَ أبو بكرة تَضْحِيَتَهُ بِمَكَّةَ، وأنس تَضْحِيَتَهُ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَذَبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ الْغَنَمَ، وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ، كَمَا قَالَتْ عائشة:«ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ» ، وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَفِي " صَحِيحِ مسلم ": «ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عائشة بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ» .
وَفِي " السُّنَنِ ": «أَنَّهُ نَحَرَ عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَقَرَةً وَاحِدَةً» .
وَمَذْهَبُهُ: أَنَّ الْحَاجَّ شُرِعَ لَهُ التَّضْحِيَةُ مَعَ الْهَدْيِ، وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: الطَّرِيقَةُ الْأُولَى، وَهَدْيُ الْحَاجِّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَةِ لِلْمُقِيمِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَصْحَابَهُ جَمَعُوا بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَةِ، بَلْ كَانَ هَدْيُهُمْ هُوَ أَضَاحِيهِمْ، فَهُوَ هَدْيٌ بِمِنًى، وَأُضْحِيَةٌ بِغَيْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ عائشة: ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ، فَهُوَ هَدْيٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْأُضْحِيَةِ، وَأَنَّهُنَّ كُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ، وَعَلَيْهِنَّ الْهَدْيُ، فَالْبَقَرُ الَّذِي نَحَرَهُ عَنْهُنَّ هُوَ الْهَدْيُ الَّذِي يَلْزَمُهُنَّ.
وَلَكِنْ فِي قِصَّةِ نَحْرِ الْبَقَرَةِ عَنْهُنَّ وَهُنَّ تِسْعٌ إِشْكَالٌ: وَهُوَ إِجْزَاءُ الْبَقَرَةِ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ.
وَأَجَابَ أبو محمد ابن حزم عَنْهُ بِجَوَابٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ عائشة لَمْ تَكُنْ مَعَهُنَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٌ، وَعِنْدَهُ لَا هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ، وَأَيَّدَ قَوْلَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مسلم مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، فَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِي، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:" «دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ» ". قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّنَا، أَرْسَلَ مَعِيَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْدَفَنِي، وَخَرَجَ إِلَى
التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَقَضَى اللَّهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ.
وَهَذَا مَسْلَكٌ فَاسِدٌ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ عَنِ النَّاسِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، أَنَّ الْقَارِنَ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، كَمَا يَلْزَمُ الْمُتَمَتِّعَ، بَلْ هُوَ مُتَمَتِّعٌ حَقِيقَةً فِي لِسَانِ الصَّحَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْأَخِيرَ مِنْ قَوْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، جَاءَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مسلم " مُصَرَّحًا بِهِ، فَقَالَ حَدَّثَنَا أبو كريب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة رضي الله عنها. . . فَذَكَرَتِ الْحَدِيثَ. وَفِي آخِرِهِ: قَالَ عروة فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ قَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا. قَالَ هشام: وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا صَدَقَةٌ.
قَالَ أبو محمد: إِنْ كَانَ وَكِيعٌ جَعَلَ هَذَا الْكَلَامَ لهشام، فابن نمير، وعبدة أَدْخَلَاهُ فِي كَلَامِ عائشة، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ثِقَةٌ فَوَكِيعٌ نَسَبَهُ إِلَى هشام؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ هشاما يَقُولُهُ، وَلَيْسَ قَوْلُ هشام إِيَّاهُ بِدَافِعِ أَنْ تَكُونَ عائشة قَالَتْهُ، فَقَدْ يَرْوِي الْمَرْءُ حَدِيثًا يُسْنِدُهُ، ثُمَّ يُفْتِي بِهِ دُونَ أَنْ يُسْنِدَهُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا بِمُتَدَافِعٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّلُ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ لَا يُنْصِفُ وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ ثِقَةٍ فَمُصَدَّقٌ فِيمَا نَقَلَ. فَإِذَا أَضَافَ عبدة وَابْنُ نُمَيْرٍ الْقَوْلَ إِلَى عائشة، صُدِّقَا لِعَدَالَتِهِمَا. وَإِذَا أَضَافَهُ وَكِيعٌ إِلَى هشام، صُدِّقَ أَيْضًا لِعَدَالَتِهِ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ، وَتَكُونُ عائشة قَالَتْهُ وهشام قَالَهُ.
قُلْتُ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ اللَّائِقَةُ بِظَاهِرِيَّتِهِ، وَظَاهِرِيَّةِ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ لَا فِقْهَ لَهُ فِي عِلَلِ الْأَحَادِيثِ، كَفِقْهِ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ أَطِبَّاءِ عِلَلِهِ، وَأَهْلِ الْعِنَايَةِ بِهَا، وَهَؤُلَاءِ لَا
يَلْتَفِتُونَ إِلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ ذَوْقُهُمْ وَمَعْرِفَتُهُمْ، بَلْ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّيَارِفِ النُّقَّادِ، الَّذِينَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى خَطَإِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ، أَنَّ عبدة وَابْنَ نُمَيْرٍ لَمْ يَقُولَا فِي هَذَا الْكَلَامِ: قَالَتْ عائشة، وَإِنَّمَا أَدْرَجَاهُ فِي الْحَدِيثِ إِدْرَاجًا، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِمَا، أَوْ مِنْ كَلَامِ عروة، أَوْ مِنْ هشام، فَجَاءَ وَكِيعٌ، فَفَصَّلَ وَمَيَّزَ، وَمَنْ فَصَّلَ وَمَيَّزَ فَقَدْ حَفِظَ وَأَتْقَنَ مَا أَطْلَقَهُ غَيْرُهُ، نَعَمْ لَوْ قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ وعبدة: قَالَتْ عائشة، وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ هشام، لَسَاغَ مَا قَالَ أبو محمد وَكَانَ مَوْضِعَ نَظَرٍ وَتَرْجِيحٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ تِسْعًا وَهِيَ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَهَذَا قَدْ جَاءَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، أَحَدُهَا أَنَّهَا بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَهُنَّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ ضَحَّى عَنْهُنَّ يَوْمَئِذٍ بِالْبَقَرَةِ، وَالثَّالِثُ دَخَلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدَدِ مَنْ تُجْزِئُ عَنْهُمُ الْبَدَنَةُ وَالْبَقَرَةُ، فَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وأحمد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَقِيلَ عَشَرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ إسحاق.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «قَسَمَ بَيْنَهُمُ الْمَغَانِمَ فَعَدَلَ الْجَزُورَ بِعَشْرِ شِيَاهٍ» .
وَثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «ضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ وَهُنَّ تِسْعٌ بِبَقَرَةٍ» .
وَقَدْ رَوَى سفيان عَنْ أبي الزبير، عَنْ جابر، «أَنَّهُمْ نَحَرُوا الْبَدَنَةَ فِي حَجِّهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَشَرَةٍ» وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مسلم وَلَمْ يُخْرِجْهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ قَوْلَهُ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ مَعَنَا النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ» .
وَفِي " الْمُسْنَدِ ": مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الْأَضْحَى، فَاشْتَرَكْنَا فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةً، وَفِي الْجَزُورِ عَشَرَةً» . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» .
وَقَالَ حذيفة: شَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَقَرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ:
إِمَّا أَنْ يُقَالَ: أَحَادِيثُ السَّبْعَةِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَدْلُ الْبَعِيرِ بِعَشَرَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، تَقْوِيمٌ فِي الْغَنَائِمِ لِأَجْلِ تَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَنْ سَبْعَةٍ فِي الْهَدَايَا، فَهُوَ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ، وَالْأَمْكِنَةِ، وَالْإِبِلِ فَفِي بَعْضِهَا كَانَ الْبَعِيرُ يَعْدِلُ عَشْرَ شِيَاهٍ، فَجَعَلَهُ عَنْ عَشَرَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا يَعْدِلُ سَبْعَةً، فَجَعَلَهُ عَنْ سَبْعَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أبو محمد: إِنَّهُ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً لِلْهَدْيِ وَضَحَّى عَنْهُنَّ بِبَقَرَةٍ وَضَحَّى عَنْ نَفْسِهِ بِكَبْشَيْنِ وَنَحَرَ عَنْ نَفْسِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ هَدْيًا، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَهْمِ وَلَمْ تَكُنْ بَقَرَةُ الضَّحِيَّةِ غَيْرَ بَقَرَةِ الْهَدْيِ، بَلْ هِيَ هِيَ، وَهَدْيُ الْحَاجِّ بِمَنْزِلَةِ ضَحِيَّةِ الْآفَاقِيِّ.