الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْعُمْرَةَ إِلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ وَوَفَّرَ نَفْسَهُ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ مَعَ مَا فِي تَرْكِ ذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ بِأُمَّتِهِ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَبَادَرَتِ الْأُمَّةُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالصَّوْمِ وَرُبَّمَا لَا تَسْمَحُ أَكْثَرُ النُّفُوسِ بِالْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ حِرْصًا عَلَى تَحْصِيلِ الْعُمْرَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَتَحْصُلُ الْمَشَقَّةُ، فَأَخَّرَهَا إِلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ كَانَ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ خَرَجَ مِنْهُ حَزِينًا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ:( «إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي» ) ، وَهَمَّ أَنْ يَنْزِلَ يَسْتَسْقِي مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ، فَخَافَ أَنْ يُغْلَبَ أَهْلُهَا عَلَى سِقَايَتِهِمْ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[لَمْ يَعْتَمِرْ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً]
فَصْلٌ
وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أبو داود فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عائشة، ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ: عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ» ) قَالُوا: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذِكْرَ مَجْمُوعِ مَا اعْتَمَرَ، فَإِنَّ أنسا،
وعائشة، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَغَيْرَهُمْ قَدْ قَالُوا: إِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا بِهِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَرَّةً فِي شَوَّالٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهْمٌ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَنْهَا، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ، فَإِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ بِلَا رَيْبٍ: الْعُمْرَةُ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَى الْعَامِ الْقَابِلِ، فَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ ذَلِكَ الْعَامَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ فِي سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ وَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا قَالَ أنس، وَابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ؟ وَلَكِنْ لَقِيَ الْعَدُوَّ فِي شَوَّالٍ وَخَرَجَ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ، وَقَضَى عُمْرَتَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ الْعَامَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَمَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَيَّامِهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ لَا يَشُكُّ وَلَا يَرْتَابُ فِي ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَسْتَحِبُّونَ الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إِذَا لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قِيلَ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ مالك: أَكْرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَخَالَفَهُ مطرف مِنْ أَصْحَابِهِ، وَابْنُ الْمَوَّازِ، قَالَ مطرف: لَا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدِ اعْتَمَرَتْ عائشة مَرَّتَيْنِ فِي شَهْرٍ، وَلَا أَرَى أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلَا مِنَ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ فِي مَوْضِعٍ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصٌّ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، اسْتَثْنَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا يُعْتَمَرُ فِيهَا: يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَاسْتَثْنَى أبو يوسف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ خَاصَّةً، وَاسْتَثْنَتِ الشَّافِعِيَّةُ: الْبَائِتَ بِمِنًى لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَاعْتَمَرَتْ عائشة فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ. فَقِيلَ للقاسم: لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ؟ فَقَالَ: أَعَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَكَانَ أنس إِذَا حَمَّمَ رَأْسَهُ
خَرَجَ فَاعْتَمَرَ.
وَيُذْكَرُ عَنْ علي رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» ) . وَيَكْفِي فِي هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْمَرَ عائشة مِنَ التَّنْعِيمِ سِوَى عُمْرَتِهَا الَّتِي كَانَتْ أَهَلَّتْ بِهَا، وَذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُقَالُ: عائشة كَانَتْ قَدْ رَفَضَتِ الْعُمْرَةَ، فَهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّتْ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ قَضَاءً عَنْهَا ; لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ رَفْضُهَا. وَقَدْ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ( «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» ) وَفِي لَفْظٍ ( «حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا» ) .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": ( «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: ارْفُضِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي» ) ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ ( «انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي» ) وَفِي لَفْظٍ ( «أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ» ) ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَفْضِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ ارْفُضِيهَا وَدَعِيهَا، وَالثَّانِي: أَمْرُهُ لَهَا بِالِامْتِشَاطِ.
قِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ ارْفُضِيهَا: اتْرُكِي أَفْعَالَهَا وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا، وَكُونِي فِي حَجَّةٍ مَعَهَا، وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ:(حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا) لَمَّا قَضَتْ أَعْمَالَ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ: ( «يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» ) ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ لَمْ يُرْفَضْ، وَإِنَّمَا رُفِضَتْ أَعْمَالُهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا بِانْقِضَاءِ
حَجِّهَا انْقَضَى حَجُّهَا وَعُمْرَتُهَا، ثُمَّ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، إِذْ تَأْتِي بِعُمْرَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَصَوَاحِبَاتِهَا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ إِيضَاحًا بَيِّنًا، مَا رَوَى مسلم فِي " صَحِيحِهِ "، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عروة، عَنْهَا ( «قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهِلَّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا قَضَيْتُ حَجِّي، بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجُّ وَلَمْ أُهِلَّ مِنْهَا» ) فَهَذَا حَدِيثٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالصَّرَاحَةِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْ مِنْ عُمْرَتِهَا، وَأَنَّهَا بَقِيَتْ مُحْرِمَةً حَتَّى أَدْخَلَتْ عَلَيْهَا الْحَجَّ، فَهَذَا خَبَرُهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا، كُلٌّ مِنْهُمَا يُوَافِقُ الْآخَرَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَفِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» ) دَلِيلٌ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي التَّكْرَارِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ كَالْحَجِّ لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً لَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَرِّقْ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رحمه الله، (عَنْ علي رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: اعْتَمِرْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً) وَرَوَى وَكِيعٌ، عَنْ إسرائيل عَنْ سويد بن أبي ناجية، عَنْ أبي جعفر قَالَ، (قَالَ علي رضي الله عنه: اعْتَمِرْ فِي الشَّهْرِ إِنْ أَطَقْتَ مِرَارًا) وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سفيان بن أبي حسين، عَنْ بَعْضِ وَلَدِ أنس، (أَنَّ أنسا كَانَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَحَمَّمَ رَأْسَهُ، خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَ) .