الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كَرَاهَةُ إِطْلَاقِ أَلْفَاظِ الذَّمِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا]
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذَّمِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَمِثْلُ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ وَقَالَ:( «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ( «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» ) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ( «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ» )
فِي هَذَا ثَلَاثُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٌ.
إِحْدَاهَا: سَبُّهُ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَبَّ، فَإِنَّ الدَّهْرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، مُنْقَادٌ لِأَمْرِهِ مُذَلَّلٌ لِتَسْخِيرِهِ، فَسَابُّهُ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالسَّبِّ مِنْهُ.
الثَّانِيَةُ أَنَّ سَبَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلشِّرْكِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا سَبَّهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ قَدْ ضَرَّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرَرَ، وَأَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَطَاءَ، وَرَفَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّفْعَةَ، وَحَرَمَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْحِرْمَانَ، وَهُوَ عِنْدَ شَاتِمِيهِ مِنْ أَظْلَمِ الظَّلَمَةِ، وَأَشْعَارُ هَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ الْخَوَنَةِ فِي سَبِّهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ يُصَرِّحُ بِلَعْنِهِ وَتَقْبِيحِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ السَّبَّ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَإِذَا وَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ حَمِدُوا الدَّهْرَ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ. وَفِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَرَبُّ الدَّهْرِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ، الْخَافِضُ الرَّافِعُ، الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ، وَالدَّهْرُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَمَسَبَّتُهُمْ لِلدَّهْرِ مَسَبَّةٌ لِلَّهِ عز وجل، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً لِلرَّبِّ تَعَالَى، كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ( «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ» ) فَسَابُّ الدَّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا. إِمَّا سَبَّهُ لِلَّهِ، أَوِ الشِّرْكُ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الدَّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبَّ اللَّهَ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإِنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ» )
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ( «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلْعَنًا» )
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَخْزَى اللَّهُ الشَّيْطَانَ، وَقَبَّحَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُفْرِحُهُ، وَيَقُولُ عَلِمَ ابْنُ آدَمَ أَنِّي قَدْ نِلْتُهُ بِقُوَّتِي، وَذَلِكَ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى إِغْوَائِهِ، وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَيَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَغْيَظُ لِلشَّيْطَانِ.