الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْفَرْقُ بَيْنَ قِصَّةِ الظَّبْيِ وَقِصَّةِ الْحِمَارِ أَنَّ الَّذِي صَادَ الْحِمَارَ كَانَ حَلَالًا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ، وَهَذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَلَالٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ، وَوَكَّلَ مَنْ يَقِفُ عِنْدَهُ، لِئَلَّا يَأْخُذَهُ أَحَدٌ حَتَّى يُجَاوِزُوهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ فِي عَدَمِ الْحِلِّ، إِذْ لَوْ كَانَ حَلَالًا لَمْ تَضِعْ مَالِيَّتُهُ.
فَصْلٌ
ثُمَّ ( «سَارَ حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِالْعَرْجِ، وَكَانَتْ زِمَالَتُهُ وَزِمَالَةُ أبي بكر وَاحِدَةً، وَكَانَتْ مَعَ غُلَامٍ لأبي بكر، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إِلَى جَانِبِهِ، وعائشة إِلَى جَانِبِهِ الْآخَرِ، وأسماء زَوْجَتُهُ إِلَى جَانِبِهِ، وأبو بكر يَنْتَظِرُ الْغُلَامَ وَالزِّمَالَةَ، إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ لَيْسَ مَعَهُ الْبَعِيرُ، فَقَالَ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ فَقَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ أبو بكر: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ. قَالَ: فَطَفِقَ يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَسَّمُ، وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ، وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَيَتَبَسَّمَ» ) . وَمِنْ تَرَاجِمِ أبي داود عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، بَابٌ " الْمُحْرِمُ يُؤَدِّبُ غُلَامَهُ ".
[بحث في لحم الصيد للمحرم]
فَصْلٌ
ثُمَّ «مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأَبْوَاءِ، (أَهْدَى لَهُ الصعب بن جثامة عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» ) . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " أَنَّهُ ( «أَهْدَى لَهُ حِمَارًا وَحْشِيًّا» ) ، وَفِي لَفْظٍ لمسلم (لَحْمَ حِمَارِ وَحْشٍ) .
وَقَالَ الحميدي: كَانَ سفيان يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ: ( «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَحْمُ حِمَارِ وَحْشٍ» )، وَرُبَّمَا قَالَ سفيان: يَقْطُرُ دَمًا، وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَكَانَ سفيان فِيمَا خَلَا رُبَّمَا قَالَ: حِمَارُ وَحْشٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى لَحْمٍ حَتَّى مَاتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: شِقُّ حِمَارِ وَحْشٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: رِجْلُ حِمَارِ وَحْشٍ.
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جعفر، عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الصعب ( «أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمَارِ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْمُ» ) . قَالَ البيهقي: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَكَأَنَّهُ رَدَّ الْحَيَّ وَقَبِلَ اللَّحْمَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فَإِنْ كَانَ الصعب بن جثامة أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحِمَارَ حَيًّا، فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ حِمَارِ وَحْشٍ، وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمَ الْحِمَارِ، فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَإِيضَاحُهُ فِي حَدِيثِ جابر. قَالَ: وَحَدِيثُ مالك أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ حِمَارًا أَثْبَتُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ حَدَّثَ لَهُ مِنْ لَحْمِ حِمَارٍ.
قُلْتُ: أَمَّا حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جعفر، فَغَلَطٌ بِلَا شَكٍّ، فَإِنَّ الْوَاقِعَةَ وَاحِدَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَ الرُّوَاةُ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، إِلَّا هَذِهِ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ الْمُنْكَرَةَ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي كَوْنِ الَّذِي أَهْدَاهُ حَيًّا، أَوْ لَحْمًا، فَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى لَحْمًا أَوْلَى لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِيَهَا قَدْ حَفِظَهَا، وَضَبَطَ الْوَاقِعَةَ حَتَّى ضَبَطَهَا: أَنَّهُ يَقْطُرُ دَمًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ لِلْقِصَّةِ حَتَّى لِهَذَا الْأَمْرِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ بَعْضَ الْحِمَارِ، وَأَنَّهُ لَحْمٌ مِنْهُ، فَلَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: أَهْدَى لَهُ حِمَارًا، بَلْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى لَحْمًا، تَسْمِيَةً لِلَّحْمِ بِاسْمِ الْحَيَوَانِ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، هَلْ هُوَ عَجُزُهُ، أَوْ شِقُّهُ، أَوْ رِجْلُهُ، أَوْ لَحْمٌ مِنْهُ؟ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشِّقُّ هُوَ الَّذِي فِيهِ الْعَجُزُ، وَفِيهِ الرِّجْلُ، فَصَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهَذَا وَهَذَا، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ قَوْلِهِ:" حِمَارًا "، وَثَبَتَ عَلَى قَوْلِهِ:" لَحْمَ حِمَارٍ " حَتَّى مَاتَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَهْدَى لَهُ لَحْمًا لَا حَيَوَانًا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَكْلِهِ لَمَّا صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ، فَإِنَّ قِصَّةَ أبي قتادة كَانَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَقِصَّةُ الصعب قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مِنْهُمُ: المحب الطبري فِي كِتَابِ " حَجَّةِ الْوَدَاعِ " لَهُ. أَوْ فِي بَعْضِ عُمْرِهِ وَهَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ.
وَفِي قِصَّةِ الظَّبْيِ وَحِمَارٍ يزيد بن كعب السلمي البهزي، هَلْ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ فِي بَعْضِ عُمْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ؟ فَإِنَّ حَمْلَ حَدِيثِ أبي قتادة عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ، وَحَدِيثِ الصعب عَلَى أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ، زَالَ الْإِشْكَالُ، وَشَهِدَ لِذَلِكَ حَدِيثُ جابر الْمَرْفُوعُ:" «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ» "