الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَحَرَّاهُ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ صَوْمِ الشَّهْرِ أَوِ الْعُشْرِ مِنْهُ أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ وَفِطْرِ يَوْمٍ أَوْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ إِذَا وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: ( «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ» ) ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.
قِيلَ: نَقْبَلُهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى صَوْمِهِ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَنَرُدُّهُ إِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنَّهُ مِنَ الْغَرَائِبِ. قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[فَصْل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاعْتِكَافِ
لَمَّا كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مُتَوَقِّفًا عَلَى جَمْعِيِّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ، وَفُضُولُ الْمَنَامِ، مِمَّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتِّتُهُ فِي كُلِّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ، اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الصَّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنَ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشَّهَوَاتِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ، بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهِ الْعَبْدُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَلَا يَضُرُّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.
وَشَرَعَ لَهُمُ الِاعْتِكَافَ الَّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيَّتُهُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْوَةُ بِهِ، وَالِانْقِطَاعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالْإِقْبَالُ
عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ هُمُومِ الْقَلْبِ وَخَطَرَاتِهِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمُّ كُلُّهُ بِهِ، وَالْخَطَرَاتُ كُلُّهَا بِذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاللَّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ، فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إِنَّمَا يَتِمُّ مَعَ الصَّوْمِ، شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيَّامِ الصَّوْمِ وَهُوَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا قَطُّ، بَلْ قَدْ قَالَتْ عائشة:( «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ» ) .
وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إِلَّا مَعَ الصَّوْمِ، وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَعَ الصَّوْمِ.
فَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ: أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرَجِّحُهُ شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية.
وَأَمَّا الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ حَبْسُ اللِّسَانِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ.
وَأَمَّا فُضُولُ الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السَّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً، وَهُوَ السَّهَرُ الْمُتَوَسِّطُ الَّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَلَا يَعُوقُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ، وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرِّيَاضَاتِ وَالسُّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ
الْأَرْبَعَةِ، وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا الْمِنْهَاجَ النَّبَوِيَّ الْمُحَمَّدِيَّ، وَلَمْ يَنْحَرِفِ انْحِرَافَ الْغَالِينَ، وَلَا قَصَّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرِّطِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَدْيَهُ صلى الله عليه وسلم فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ، فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ.
كَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل، وَتَرَكَهُ مَرَّةً، فَقَضَاهُ فِي شَوَّالٍ.
وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الْأَوْسَطِ، ثُمَّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عز وجل.
وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبِّهِ عز وجل.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَهُ، فَأَمَرَ بِهِ مَرَّةً، فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجُهُ بِأَخْبِيَتِهِنَّ، فَضُرِبَتْ، فَلَمَّا صَلَّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ، فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ.
وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ
عَارَضَهُ بِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ.
وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبَّتَهُ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى بَيْتِ عائشة، فَتُرَجِّلُهُ، وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ، وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ. فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا، وَلَمْ يُبَاشِرِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَكَانَ إِذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ، وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرَّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ. وَاعْتَكَفَ مَرَّةً فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، وَجَعَلَ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرًا، كُلُّ