الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
: [[الشريط الأول]] :
مقدمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُواً أحد، واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فهذا الدرس شروعٌ في شَرْحِ مُخْتَصَرٍ في العقيدة؛ مُخْتَصَرٍ مهمّ لأنَّ أهل العلم يُحَبِّذُونَ إقْرَاءَهُ وشرحه ويؤكدون على أهمية ما اشتمل عليه من مسائل الاعتقاد بلفظٍ مُوجَز وبيانٍ حَسَنْ.
وهذه العقيدة التي نبتدئ شرحها في هذه الدروس هي عقيدة العالم المحدِّث: أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ، وهي المسماة بالعقيدة الطحاوية نسبةً إليه.
وهي عقيدةٌ موافقة في جُلِّ مباحثها لما يعتقده أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة، كما سيأتي في بيانه إن شاء اللهُ تعالى.
وهذه العقيدة الطحاوية ذَكَرَ عددٌ من أهل العلم أنَّ أتْبَاعَ أئمة المذاهب الأربعة ارتضوها؛ وذلك لأنها اشتملت على أصول الاعتقاد المُتَّفَقِ عليه بين أهل العلم، وذلك في الإجمال لأنَّ ثَمَّ مواضع اُنتُقِدَت عليه كما سيأتي بيانه.
وأبو جعفر الطحاوي من علماء الحديث المعروفين ومن الفقهاء المشهورين أيضاً، وكان شافعياً تَفَقَّهَ على المُزَنِي رحمه الله تلميذ الشافعي، ثم انتقل في الفروع من مذهب الشافعية إلى مذهب الحنفية فصار في المذهب حنفي المذهب إلا أنَّهُ لا يتعصب لقول أبي حنيفة ولا يُقَلِّدُهُ؛ بل صنيع العلماء المحققين أنْ يتابعه فيما ظهر فيه الدليل وأن يأخذ بالدليل إذا خالف قول الإمام.
وجرت مناظرة في ذلك، أو جرى حوارٌ في ذلك بين الطحاوي وبين أحد العلماء في مصر من الحنفية، فقال الطحاوي في مسألة بغير قول الإمام أبي حنيفة، فذاك قال له: ألست من أتباع أبي حنيفة؟
قال: بلى، ولكني لا أقَلِّدُهُ؛ لأنَّهُ لا يُقَلِّدُ إلا عصبي - يعني متعصباً -.
فقال الآخر وغبي أيضاً - يعني لا يقلد من أهل العلم إلا عصبيٌ أو غبي -.
فصارت الكلمة مثلاً في مصر تداولها الناس في مقولة هذين العالمين، وذلك يدل على تحرّي أبي جعفر الطحاوي للحق وعلى ابتغائه له.
وهو في الفروع كما ذكرنا حنفي المذهب، وأما في الأصول ففي الجملة هو على مذهب أهل السنة والجماعة أتباع أهل الحديث والأثر إلا في مسائل تَبِعَ فيها مُرجئة الفقهاء.
وفي جُمَلِ كلامه في هذه العقيدة يوافق معتقد السلف إلا في المواضع التي ذكر فيها مسألة الإيمان في تعريفه حيث قال (والإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان) وقال (وأهله في أصله سواء) وهذه من مقالة المرجئة، وقد ذكر هو في صدر عقيدته هذه أنَّ هذا الُمعتَقَد الذي كتبه هو اعتقاد أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهذا ظاهر فيما ذَكَرَ من مسألة الإيمان.
* فنقول: هذا الكتاب -كما سيأتي- كتابٌ مشتملٌ على أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بعبارةٍ حسنة جيدة وبتقريرٍ لها طيِّب، إلا في مسائل انتُقِدَتْ عليه.
ولهذا كان بعض مشايخنا عافاهم الله وخَتَمَ لهم برضاه يقول: هذه عقيدة الطحاوي ولا يقال هذه عقيدة أهل السنة والجماعة إذا أُرِيدَ الجميع، لأنّه ثَمَّ مسائل خالف فيها معتقد أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر في الأصول وفي التعبير عن الاعتقاد كما سيأتي بيانه.
وهذه العقيدة اهتَمَّ بها علماؤنا لأجْلِ شَرْحِهَا العظيم؛ وهو شَرْحُ ابن أبي العز الحنفي من تلامذة الحافظ ابن كثير صاحب شرح العقيدة الطحاوية المشهور بينكم.
على أنَّ هذه العقيدة لها شروحٌ كثيرة، فالماتريدية شَرَحُوهَا بشروحٍ متنوعة، ووجَّهُوا الكلام فيها على معتقد أتباع أبي منصور الماتريدي.
ولكن شرح ابن أبي العز وجَّهَهَا توجيهاً سلفيا تابِعَاً فيه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وطريقة ابن القيم - رحمهما الله تعالى - وأجاد في ذلك بحيث صار هذا الشرح مرجعاً في علم الاعتقاد بعامة، ودافع الشارح عن المصَنِّفْ الطحاوي في مواضع مما عبَّرَ فيه بغير ما ينبغي من التعبير أو فيما قرَّرَهُ في مسألة الإيمان، بما هو معروفٌ في موطنه وسيأتي بحثه إن شاء الله تعالى عند التعرض لعبارات المصنف.
هذا الكتاب أو هذه الرسالة والنبذة؛ العقيدة الطحاوية فيها كما ذكرنا ذِكْرُ الاعتقاد بعامة ولكنَّهُ أُخِذَ عليه أنه لم يُرَتِّبْهُ، ولهذا وقع الكلام على الصفات مُفَرَّقاً، ووقع الكلام على القدر مُفَرَّقَاً، ووقع الكلام على الإيمان مُفَرَّقاً، وهكذا في نظائر هذه المسائل.
فهي كانت شبيهةً بالإملاء على ما جاء في قلب المؤلف رحمه الله وأجزل له المثوبة - دون ترتيبٍ علميٍ يجمَعُ المسائلَ بعضَهَا إلى بعض؛ يجمع النظير إلى نظيره، والشبيه إلى شبيهه.
ولهذا وَقَعَ كلام الشارح علي بن علي بن أبي العز الحنفي وقَعَ كذلك تَبَعاً للأصل غير مرتَّبْ.
وذَكَرَ في أواخر شرحه أنه تَمَنَّى أنْ لو رَتَّبَ هذا الشرح على ترتيب أركان الإيمان، ثم ما يتصل بذلك من الكلام، ليكون أبلغ في الانتفاع؛ فيجعل الكلام في الألوهية مُتَتَابِعَاً، والكلام في الصفات مُتَتَابِعَاً، والكلام في الإيمان مُتَتَابِعَاً، وفي القدر مُتَتَابِعَاً، وفي النبوات مُتَتَابِعَاً إلى آخر ذلك.
وهذا لو حصل لكان أنفع وأدعى لاستحضار شرح تلك المسائل.
هذه العقيدة أيضا على جلالتها ووَجَازَةِ ألفاظها تحتملُ شرحاً طويلاً كما صنع الشارح ابن أبي العز الحنفي، وتَحْتَمِلُ شَرْحَاً متوسطاً، وتحتمل شرحاً مُخْتَصَرَاً، ولما كُنَّا قد شرحنا عدداً من كتب العقيدة في سِنِيِّنَا التي مَرَّتْ، رأيت -والتوفيق بيد الله عز وجل أن أجعل الكلام عليها ليس على طريقة الشارح في الاستطراد في ذكر الشرح وإدخال المسائل بعضها في بعض، ولكن على طريقةٍ مرتبة متعلقة:
- أولا: بألفاظ المُصَنِّفْ.
- ثانياً: بالمسائل التي أورَدَهَا المُصَنِّفْ.
- وثالثا: بتحقيق القول في أنَّ ما ذَكَرَهُ هو مذهب أهل السنة والجماعة.
- ورابعا: في أدلة ما ذكره من المسألة.
- خامسا: في ذِكرِ تفريعاتِ تلك المسألة على اعتقاد أهل الحديث والأثر.
- وسادساً: في ذِكر الأقوال المخالفة؛ أقوال أهل الفِرَقْ، وأدلَّتِهَا والرد عليها.
وكما تنظر في هذا التقسيم يحتمل تطويلاً كبيراً، ويحتمل توسطاً، ويحتمل اختصاراً.
فأسأل الله عز وجل أن يوفقني لما ينفعكم وأن ينفعكم بما تسمعونه إن شاء الله وأرجوا أن يكون منكم الاجتهاد في متابعة الشرح والتَّفْرِيْعْ على هذه المسائل من جهة النظر في الشروح، وكلام شيخ الإسلام وابن القيم وأئمة الدعوة رحمهم الله تعالى جميعا؛ لأنَّ في بحثك بعد الدرس ومراجعتك للدرس ما يُؤَكِّدُ هذه المسائل ويُبَيِّنُهَا، لأنَّ التطويل والتفصيل قد يُذهِبُ بَعضُه بعضاً عند المبتدئ والمتوسط، لكن إذا راجعت وأكدت على نفسك بالمراجعة المستمرة الأسبوعية كان في ذلك إن شاء الله تعالى خير كثير واستحضارٌ لتلك المسائل.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فهيِّئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم لا يسير إلا ما يَسَّرْتْ، ولا سَهْلَ إلا ما جعلته سَهْلَاً، أنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وسددنا في القول والفهم والعمل إنك على كل شيء قدير. نعم
قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- رحمه الله:
هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
هذه المقدمة اشتملت على مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ هذه عقيدة، والعقيدة فَعِيلَة بمعنى مَفْعُولْ؛ يعني مَعْقُودَاً عليه.
والمسائل منقسمة إلى أخبار وأحكام كما قال عز وجل {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] .
تمت كلمة الله على هذين القسمين: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
والأخبار يجب تصديقها.
فما كان مرجعه إلى التصديق والإيمان به ولا دخل للعمليات به فإنه يُسَمَّى عقيدة؛ لأنّ مرجعه إلى علم القلب.
فسُمِّي هذا عقيدة لأنه معقودٌ عليه القلب - يعني كأنَّهُ دخل إلى القلب فعُقِدَ عليه فلا يخرج منه من شدة الاستمساك به ومن شدة الحرص عليه - لأنْ لا يخرج أو ينفلت.
وهذا اللفظ لفظ (العقيدة) كما ذكرتْ راجعٌ إلى علم القلب؛ لأنه هو الذي يُعْقَدُ الشيء الذي فيه، وأمَّا العمليات فهذه من الإيمان -كما هو معروف- لكن مورِدُهُا عمل الجوارح، لذلك لم تدخل في العقيدة.
وهناك ألفاظ مرادفة للعقيدة للدلالة على ما ذكرنا وهي: التوحيد، السنة، الشريعة، وأشباه ذلك:
- فمنها ما يكون مختصًّا بالعقيدة كالتوحيد.
- ومنها ما يكون لها ولغيرها كالسنة والشريعة، فإنَّ لفظ الشريعة يشمل العقيدة أيضاً؛ لأنَّ الله عز وجل بَيَّنَ لنا أنَّ الأنبياء اجتمعوا على شريعةٍ واحدة فقال عز وجل {شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] ، فهذه شريعةٌ أُجْمِعَ عليها بين المرسلين، والمقصود بها التوحيد والعقيدة الواحدة.
وتأتي الشريعة ويُرَادُ منها العمليات كما قال عز وجل {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] ، وكما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال (الأنبياءُ إِخْوة لعَلاّتٍ الدين واحد والشرائع شَتّى)(1) .
نخْلُصُ من ذلك إلى أنَّّ التصانيف في العقيدة قد تكون باسم: العقيدة أو باسم التوحيد أو باسم السنة أو باسم الشريعة كما هو موجودٌ فعلاً في تصانيف أئمة أهل السنة والجماعة.
_________
(1)
البخاري (3443) / مسلم (6279)
[المسألة الثانية] :
قوله (أهلُ السنَّة والجماعة) أهل السنة والجماعة، هذا لفظٌ أُطْلِقَ في أواخر القرن الثاني الهجري على أتْبَاعِ الأثر والمخالفين للفِرَقْ المختلفة الذين خرجوا عن طريقة الصحابة والتابعين.
وأول من استعمله بعض مشايخ البخاري - رحمهم الله تعالى - وجَمَعَ بين لفظين، بين (السنة) و (الجماعة) ؛ لأنَّ هناك من يدَّعِي اتّباع السنة ولكنه لا يكون مع الجماعة، وهناك من يدعو إلى الجماعة بلا اتِّبَاعِ سنة.
فصارت طريقة أهل الحديث والأثر أتباع السلف الصالح مشتملة على شيئين: اتِّبَاعْ السنة والجماعة.
وكلٌ منهما في الحقيقة لازمٌ للآخر، فاتّباع السنة هو اتّباع الجماعة، واتّباع الجماعة هو اتّباع السنة، وذلك لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَحَّ عنه في الحديث الذي في السنن أنه قال (وَسَتَفْتَرِقُ هذه الأمَّة عَلَى ثلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. كُلّهَا فِي النّارِ، إِلاّ وَاحِدَةً. وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)(1) .
فصارت الفِرَقْ في النار؛ يعني مُتَوَعَّدَةْ بدخولها في النار، والناجية فرقة واحدة هي الجماعة، وهم المتبعون للسنة الممتثلون لقول النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيين مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)(2)
…
الحديث.
وإذا أُفْرِدَ أهل السنة فقد يُطْلَقُ ويُرَادُ بهم ما يقابل الرافضة والشيعة.
لأنَّ لفظ (أهل السنة) يطلق ويراد به ما يخالف التَّشيُّع، ويُطلق ويراد به أهل الحديث والأثر.
ولهذا زادوا على السنة (الجماعة) ، مع أنَّ كلاً منهما ملازمٌ للآخر لأجل أن يكون هناك تحديد في الإطلاق، فيكون المراد بالإطلاق ما يخالف الفرق كلها: الرافضة والخوارج والجهمية، المرجئة والقدرية، والجبرية إلى آخر أصول الفرق.
وقد ذكرنا لكم في أول شرح الواسطية تفصيل معنى أهل السنة والجماعة، ومعنى الجماعة؛ وجماعة الدين وجماعة الأبدان بما يُرجع في ذلك إليه.
(1) أبو داوود (4596) / الترمذي (2640) / ابن ماجه (3993)
(2)
أبو داوود (4607) / الترمذي (2676) / ابن ماجه (42)
[المسألة الثالثة] :
أنّ هذه العقيدة التي ذكرها الطحاوي رحمه الله بُنيت على مذهب فقهاء الملة:
أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن.
وهؤلاء عند أهل الحديث والأثر وافقوا السنة والجماعة في أكثر المسائل، لكنَّهُم خالفوهم في أصلٍ عظيمٍ من أصول الدين ألا وهو الإيمان، ولهذا أُطْلِقَ عليهم مرجئة الفقهاء.
فهُم مرجئة لأنَّ كلامهم في الإيمان كلام المرجئة لأنهم أرجَؤُوا العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا (إنّ أهله في أصله سواء) ، وقيل لهم مرجئة الفقهاء؛ لأنهم فقهاء، اشتهروا بذلك.
فإذن يظهر من هذا التقديم أنَّ هذا المُؤَلَّفْ مبنِيٌّ على كلام أهل السّنة والجماعة بعامة، وعلى مذهب مرجئة الفقهاء في الإيمان بخاصة.
وهذا هو الواقع فِعلاً؛ فإنَّ كلامه في الإيمان هو كلام المرجئة.
فإذاً قوله (أهل السنة والجماعة) يُدخِل فيهم المرجئة؛ مرجئة الفقهاء.
وهذا منه يدل على أنَّ مدلول (أهل السنة والجماعة) يشمل أهل الحديث والأثر ويشمل الماتُريدية والأشاعرة، وهذا باطل.
وهذا القول صَرَّحَ به بعض الشُّرَّاحْ من المتقدمين ومن المتأخرين كالسَّفَّاريني في (لوامع الأنوار)(1) حيث قال في فصلٍ له (اعلم أنَّ أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف؛ أهل الحديث والأثر والأشاعرة والماترودية) .
وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ أهل السنة والجماعة هم الذين أخذوا بالسنة والجماعة في كل أصول المسائل.
وأعظم المسائل التي حصل فيها الاختلاف أولاً هي مسألة الإيمان ومسائل الأسماء والأحكام، فخالَفَ فيها الخوارج، كما هو معلوم، ثم تَبِعَ ذلك ظهور المرجئة إلى آخر ما حصل.
فإذاً هذه المسألة -مسألة الإيمان- من مسائل الأصول العظيمة فلا يكون من نفاها -يعني من نفى دخول العمل في مسمى الإيمان- على طريقة أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر؛ لمخالفة قولهم للنصوص الكثيرة الدالة على أنَّ العمل من الإيمان كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
(1) لوائح الأنوار البهية. كما في المنجد في اللغة والأعلام.
[المسألة الرابعة] :
قوله (وما يعتقدون من أصول الدِّين) هذه الكلمة (أصول الدِّين) يُعبَّرُ بها عن العقيدة لأنَّ التعبير عن العقيدة صار فيه اشتراك.
فيُعَبَّر عنها -عن العقيدة- عند أهل الحديث بما ذكرنا لك من العبارات: العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة، وعَبَّرَ عنها المخالفون بِعِلْمِ الكلام.
والذين تركوا الفلسفة وما أصَّلَهُ علماء الكلام في بيان العقيدة إلى ما دَلَّ عليه كلام مُعَظَّمِيهم كالأشعري والماتريدي عَدَلُوا عن (علم الكلام) إلى (أصول الدين) .
لأنَّ كلمة أصول الدين فيها مخالفة للفظ علم الكلام المذموم، وفيها تَوَسُطْ ما بين الألفاظ الشرعية (السنة، العقيدة، التوحيد، الشريعة) وما بين قولهم: علم الكلام.
فأَتوا بهذا اللفظ الذي هو بيْن اللفظين.
ولهذا نقول هذا اللفظ إن كان دليله ومَأخَذُهُ هو مَأْخَذْ التوحيد والسنة والعقيدة والشريعة فلا بأس باستعماله، ولهذا يستعمله أهل السنة والجماعة، ويريدون به المعنى الصحيح وهو أنَّ (أصول الدين) المقصود بها أصول الإيمان الستة وما يَنْدَرِجُ في ذلك من المسائل الأصلية والتّبَعِيَّة.
فكلمة (أصول الدين) كلمة مُرَكَّبَة مُضَافَةْ، ولذلك يقولون هي مُرِكَّبٌ إضافي؛ أُضيف فيه الأصل إلى الدين.
و (أصول الدين) كلمة معناها العقيدة.
يريدون بكلمة (أصول) ما يخالف الفروع وهي العمليات.
وإذا كان اللفظ محدثا أو مُصطَلحاً عليه فنقول لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح إذا كان لم يختص به أهل البدع، فاستعمله طائفة من علماء الحديث والسنة ويعنون به ما دلت عليه الألفاظ الشرعية؛ العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة.
فإذن (وما يعتقدون من أصول الدين) يعني المقصود بها أصول الإيمان المعروفة، وما يتصل بذلك من مباحث، وما خالف فيه أهل السنة أهل البدعة.
نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قوله (نقُولُ) هذا لأنه لا يُكْتَفَى في الاعتقاد باعتقاد القلب؛ بل لا بد من قول اللسان.
وأعظم قول اللسان وكافِيْهْ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لأنَّ العقيدة الصحيحة اعتقادٌ بالجنان، وقولٌ باللسان حتى يكون الإيمان صحيحاً، ثم امتثال العمليات في الأمر والنهي.
وقوله (مُعتَقدينَ) هذه حال من (نقُولُ) يعني أقول حَالَةَ كوني معتقدا هذا الكلام، عاقدا عليه قلبي، غير متردد فيه ولا مرتاب.
فـ (مُعتَقدينَ) ولو تأخرت فهي حال من الضمير في (نقُولُ) .
وقوله (بتوفيق الله) هذه استعانة بالله عز وجل أنْ يوفقه في القول الحق في ذلك.
والتوفيق اختلفت فيه التفسيرات بما سيأتي بيانه إن شاء الله مفصلاً في ذكر مسائل القدر، فأهل السنة لهم تفسير للتوفيق وللخذلان، وأهل البدع كلٌ له مَشْرَبُه في تفسير التوفيق والخذلان.
قال (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) اشتملت هذه الجملة على ذِكر التوحيد وعلى تفسيره.
وكلمة (التوحيد) هذه مصدر: وَحَّدَ، يُوَحِّدُ، تَوْحِيدًا؛ يعني جَعَلَ الشيء واحداُ.
قد جاء في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث معاذ (إنّك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يوحدوا الله)(1) ، وجاء أيضا في قول الصحابي رضي الله عنه (فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد)(2) في قوله لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك -التلبية المعروفة في أول الحج-، (فأهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد) ، فإذاً كلمة (التوحيد) جاءت في السنة.
ومعنى التوحيد كما ذكرنا جعل الشيء واحداً في اللغة، فتوحيد الله معناه أنْ تجعل الله واحداً.
واحِدْ فيما وحَّدَ الله عز وجل نفسه فيه فيما دلت عليه النصوص.
والنصوص دلَّت على أنَّ الله واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في إلهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته.
فالتوحيد إذاً في الكتاب والسنة راجع إلى توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، توحيد الأسماء والصفات، وهذا على التقسيم المشهور.
وقَسَمَهُ بعض أهل العلم إلى تقسيمٍ آخر وهو أنَّ توحيد الله ينقسم إلى قسمين؛ ينقسم:
- إلى توحيدٍ في المعرفة والإثبات.
- وإلى توحيدٍ في القصد والطلب.
وعَنَى بقوله (في المعرفة والإثبات) في معرفة الله عز وجل بأفعاله، وهذا هو الربوبية و (الإثبات) له فيما أثبت لنفسه، وهذا هو الأسماء والصفات.
وقوله (في القصد والطلب) وهو توحيد الإلهية.
وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات جاء في عبارات المتقدمين من أئمة الحديث والأثر، فجاء عند أبي جعفر الطبري في تفسيره وفي غيره من كتبه، وفي كلام ابن بطة، وفي كلام ابن منده، وفي كلام ابن عبد البر، وغيرهم من أهل العلم من أهل الحديث والأثر، خلافاً لمن زعم من المبتدعة أنَّ هذا التقسيم أحدثه ابن تيمية، فهذا التقسيم قديم يعرفه من طالع كتب أهل العلم التي ذكرنا.
إذا تقرر ذلك:
فمعنى توحيد الربوبية: اعتقاد أنَّ الله واحدٌ في أفعاله سبحانه لا شريك له.
وأفعال الله عز وجل منها خَلْقُه سبحانه، ومنها رَزْقُهُ وإحياؤه وإماتته وتدبيره للأمر وإغاثته للناس ونحو ذلك
يعني أنَّ توحيد الربوبية راجعٌ إلى أفراد الربوبية التي هي السيادة والتصرف في الملكوت.
فكل ما رَجَع إلى السيادة والتصرف في الملكوت رجع إلى توحيد الربوبية.
فالإيمان بتوحيد الربوبية معناه أنَّهُ إيمانٌ بأنَّ الله وحده لا شريك له هو المتصرف في هذا الملكوت أمْرَاً ونهياً، هو الخالق وحده، وهو الرَّزَاقُ وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده، وهو القابض الباسط وحده في ملكوته، إلى آخر مفردات الربوبية، كما قال عز وجل {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس:31] ، فأثبت أَنَّهُم أقروا بالرُّبُوبِيَّة، وأنْكَرَ عليهم أنهم لم يتقوا الشرك به وتَرْكَ توحيد الإلهية.
وتوحيد الإلهية: هو توحيد الله بأفعال العبيد.
التوحيد في القصد والطلب؛ بأن يُفْرِدَ العبد ربه عز وجل في إنابته وخضوعه ومحبته ورجائه، وأنواع عبادته من صلاته وزكاته وصيامه ودعائه وذبحه ونذره إلى آخر أفراد العبادة بما هو معلوم في توحيد الإلهية.
_________
(1)
البخاري (1496) / مسلم (130)
(2)
مسلم (3009) / ابن ماجه (3074)
وتوحيد الأسماء والصفات: هو جعل الله عز وجل واحداً لا مِثْل له في أسمائه وصفاته كما قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وكما قال {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وكما قال عز وجل {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] .
إذاً قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله) هنا ذَكَرَ التوحيد لأنَّ الخلاف قائمٌ فيه:
- ففي الربوبية قام الخلاف مع الدُّهْرِيَةْ والفلاسفة الذين يقولون: إنَّ هذا العالمَ قديم لم يزل، وأنه ليس له خالق، بل وُجِدَ هكذا العالم باتفاق، وغير ذلك من مقالات نُفاة الرب عز وجل.
وكذلك مخالفة للذين جعلوا الله رباً ولكن جعلوا معه شريكاً في الربوبية، وهم طوائف من الملل مختلفة، وفي هذه الأمة دَخَلَ ذلك في قول غلاة المتصوفة الذين يقولون:
إنَّ لهذا العالم فيه من يتصرف فيه من الأولياء والأقطاب الذين لكل بلد قطب يمنع ويعطي فيها ويرزق ويحيي ويميت، إلى آخر ما يعتقدون فيه.
- في الإلهية ثَمَّ من خالف.
- في الأسماء والصفات ثَمَّ من خالف كما سيأتي تفصيله.
هنا سؤال: وهو أنه قَدَّمَ القول في الاعتقاد في الله عز وجل، لم؟
والجواب عن ذلك أنه قدَّم ذلك لأمرين:
- الأمر الأول: أنّ الإيمان بالله مُقَدَّمٌ على غيره من أركان الإيمان كما قال عز وجل {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فَقَدَّمَ الإيمان بالله على غيره، وكما في قوله عز وجل {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:275] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المعروف (الإيمان أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ)(1) .
- الأمر الثاني: أنَّ الاعتقاد في الله عز وجل هو أصل الإيمان، وبه يصير المرء مؤمناً، بالاعتقاد في الله عز وجل بالوحدانية بما دَلَّتْ عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأَنَّ محمدا رسول الله، وأَنَّ ذلك هو أول واجبٍ على العبيد.
وفي هذا مخالفة للذين زعموا أنَّ أول واجبٍ على العبد -ويقدمونه في عقائدهم- أن يَعْرِفَ الله، أو أَنْ يستدل على معرفة الله، أو ما يسمونه بالنظر للتوحيد أو للمعرفة، أو بالقصد إلى النظر.
فلما كان أول واجب هو التوحيد قَدَّمَه، مخالَفَةً لمن قال إنَّ أول واجب هو أَنْ تنظر في الدلائل وفي الملكوت لمن كان أهلاً لذلك.
قال (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) ، (إنَّ الله واحدٌ) ، لفظ (واحدٌ) هذا من أسماء الله الحسنى، كما قال الله عز وجل {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] ، وأيضا من أسمائه الحسنى الأحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
و (واحدٌ) يعني أنه لا شريك له، ولذلك كانت كلمة (لا شريكَ لَهُ) هذه مؤكِّدَة تأكِيْدَاً بعد تأكيد.
قال الحافظ ابن حجر وغيره في قوله (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) هذا تأكيد بعد تأكيد لبيان عِظَمِ مقام التوحيد.
وكلمة (واحدٌ) هذه راجعة عند أهل الاعتقاد إلى أَحَدِيَّتِه سبحانه.
ونقول الصحيح أنه لا فرق بين واحد وأحد.
والمتكلمون يُفَرِّقُونَ ما بين الواحد والأحد؛ أو واحد وأحد، فيُرْجِعُون الوَاحِدِيَّةْ للصفات، والأَحَدِيَّة للأفعال.
لكن الصحيح أنَّ اسم الله عز وجل الواحد يرجع إليه أَحديته سبحانه في الذات وفي الصفات وفي الأفعال؛ في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله (شريكَ لَهُ) هذا تفسير لـ (واحدٌ) وتأكيدٌ له.
ولهذا دلَّ قوله (إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) على أَنَّ التوحيد أعظم ما يُفَسَّرُ به نَفْيُ الشريك عن الله عز وجل، (نقُولُ في تَوحيدِ الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) فالتوحيد يُفسَّر بِضِدِّهِ وهو نفي الشرك كما قال الشاعر:
فالضد يظهر حسنه الضد ****** وبضدها تتبين الأشياء
فقد لا يستقيم معرفة التوحيد بتفاصيله إلا بالإيقان بِنَفْيِ الشرك بأنواعه.
لهذا نقول هنا قوله (لا شريكَ لَهُ) هذا عام يشمل نفي الشريك في الربوبية، ونفي الشريك في الألوهية، ونفي الشريك في الأسماء والصفات.
1 -
النوع الأول من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في ربوبيته:-
والشَّرِكَة في الربوبية راجِعَةْ إلى جعل المخلوق له من صفات الرب عز وجل في صفات الربوبية؛ يعني أنْ يَجْعَلَ للمخلوق تصرفاً.
إذا جعل للمخلوق تصرفاً في الكون مما يختص به الله عز وجل، فهذا ادِّعَاءٌ للشريك معه في الربوبية.
أو أن يعتقد أنَّ الله معه مُعِينٌ أو ظهير أو وزير.
(1) البخاري (50) / مسلم (102)
وهذا كله منفي، وكل هذا داخل في الاشتراك في الربوبية، كما قال عز وجل {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبإ:22] ، فذكر أنواع الاشتراك في الربوبية:
- إما شَرِكَةْ مستقلة {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني استقلالاً.
- أو معاونة.
- أو اتخاذ ظهير ووزير لله عز وجل.
وهذه المعتقدات موجودة في طوائف من هذه الأمة.
والإيمان بتوحيد الربوبية ونَفْيِ الشَّرِكَةْ في الربوبية على درجتين:
أ - الدرجة الأولى: واجبة على كل مُكَلَّف، ومن لم يأتِ بها فليس بموحّد، بل هو مشرك، وهو ما ذكرنا من الاعتقاد بأنَّ الله واحدٌ في ربوبيته؛ في أفعاله سبحانه، فهو الخالق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو المحيي المميت وحده، وهو النافع الضار وحده عز وجل، وهو مُدَبِّرُ الأمور وحده، وهو خالق الخَلق وحده، إلى آخر أفراد ذلك، وهذه واجبة على كل أحد.
ب - الدرجة الثانية: وهي مرتبةٌ للخاصة وأهل العلم وهي شهود آثار الربوبية في خَلْق الله عز وجل، وهذه بحيث لا يَرَى غير الله عز وجل مُؤَثِراً في هذا الملكوت، ولو كان تأثير معلولات عن عِلَلْ، أو تأثير مُسَبَّبَاتْ عن أسباب، فإنّه يَرَى أنْ لا مؤثر في الحقيقة ولا خالق إلا الله عز وجل، وينظر لذلك في الملكوت متفكراً، متدبراً.
وهذه حال الخاصة وهي مستحبة، وهي لأهل العلم ولأهل الإيمان، وليست واجبة على كل أحد، كما قال سبحانه {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:190-191] ، وكما وصف الله عز وجل بعض عباده بالتفكر والنظر والتدبر في خلق الله عز وجل، بل أمر بذلك في بعض الآيات بقوله {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] ، وكقوله {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} [الأعراف:184] ، وكقوله عز وجل {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبإ:46] ، فهذا التَّفَكُرْ في ربوبية الله عز وجل، في خلق الله يدل على توحيده في الربوبية، وهو حال الخاصة، كما قال الحسن البصري رحمه الله (عاملنا القلوبَ بالتفكر فأورثها التذكر، فرجعنا بالتذكر على التفكر، وحركنا القلوب بهما، فإذا القلوب لها أسماع وأبصار)(1) .
وهذه عند أهل البدع وأهل الكلام مطلوبة وواجبة لمن كان أهلاً لها.
فيوجِبُونَ النظر، ويوجبون التفكر، ولا يصح إيمان أحدٍ - عند طائفة منهم- ممن كان أهلا للنظر إلا بالنظر.
فلو مات المتأهل للنظر من غير نَظَرٍ لم يكن مؤمنا بربوبية الله عز وجل، وإنْ كانت تجري عليه أحكام أهل الإسلام في الدنيا فإنهم لا ُيجرُونَ عليه أحكام أهل الإسلام في الآخرة على تفصيل مذهب أهل الكلام في ذلك.
2 -
النوع الثاني من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في إلهيته:-
والإلهية معناها العبادة، يعني لا شريك له في عبادته، كما دلت عليها كلمة التوحيد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) .
فيعتقد أنَّ الله عز وجل ليس معه إله يستحق العبادة، وأنّ كل من أُدُّعِيَ فيه الإلهية وأنه يُعْبَدْ، فإنما عُبِدَ بالبغي والظلم والعدوان والتعدي.
وكل من أشرك بالله عز وجل فهو ظالمٌ أبشع الظلم وأكبر الظلم؛ لأنه سبحانه توعَّد أهل الشرك بالنار، بل أوجب لهم النار في قوله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وكما قال المسيح عليه السلام {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] .
لبيان هذا التوحيد وما يتصل به كتب توحيد العبادة المعروفة ومن أعظمها وأشملها كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
3 -
النوع الثالث من أنواع نفي الشريك في قوله (لا شريك له) نفي الشريك لله في الأسماء والصفات:-
وذلك بأنْ يعتقد أنَّ الله عز وجل لا شريك له في كيفية اتصافه بالصفات.
يعني لا مُماثِلَ له، ولا مشابه له في كيفية اتصافه بالصفات.
(1) يأتي ذكره (332)
(2)
سورة النساء في الآيتين:48 و116.
وأنه سبحانه لا شريك له في المعنى المطْلَقْ لصفاته سبحانه ولأسمائه، ولا مُشَابِهَ له في المعنى المطلق لأسمائه وصفاته.
وأنَّ اشتراك بعض خلقه معه سبحانه في الصفات إنما هو اشتراك في مطلق المعنى وفي أصله لا في المعنى المطلق ولا في كماله ولا في الكيفية.
فيعتقد أنَّهُ لا شريك له في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله سبحانه، بل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
لأجل هذا المعنى العام، عَطَفَ عليها المصنف بقوله (ولا شيء مثله ولا شيء يعجزه ولا إله غيره) كما سيأتي تفصيل الكلام على هذه المسائل في ذكر معنى هذه الجُمل الثلاث.
إذاً هذا إجمالٌ لمعنى التوحيد ونفي الشريك، ويأتي تفصيلها مع بيان كل مسألة:
توحيد الربوبية وأبحاثه، توحيد الأسماء والصفات وأبحاثه، توحيد الإلهية وأبحاث توحيد الإلهية.
بَقِيَ أن نقول: إنَّ في قوله (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ لَهُ) إنَّ هذه العبارة (لا شريكَ لَهُ) تفسيرها على طريقة أهل السنة ذكرناها.
وأمَّا أهل البدع فيقولون في تفسير (واحدٌ لا شريكَ لَهُ) عبارات مختلفة تجدونها في التفاسير، ويُكْثِرُ منها أهل البدع.
فيقولون في تفسير (واحدٌ) :
واحد في ذاته لا قسيم له، وواحدٌ في صفاته لا شريك له، وواحدٌ في أفعاله لا نِدَّ له.
وفي قولهم في أوَّلِهَا (واحد في ذاته لا قسيم له) هذه من التعبيرات المحدثة، وإن كان يمكن أن تَحْتَمِلَ معنَىً صحيحاً؛ لكن التوحيد والأَحَدِيَة تُفسَّرُ بواحديته سبحانه وأحديته في ربوبيته وإلهيته وفي أسمائه وصفاته.
وأهل البدع في التوحيد اختلفت عباراتهم؛ وسبب اختلاف عباراتهم في التوحيد أنهم نظروا في تعريف التوحيد إلى حال النصارى وأهل الملل، فَفَسَّرُوا التوحيد بما يخالِفُ ما عليه بعض الطوائف.
فقالوا (واحدٌ في ذاته لا قسيم له) يعني نفيا للأقانيم الثلاثة التي هي صُوَرْ لله عز وجل مختلفة كما هو اعتقاد النصارى أو طائفة من النصارى، وكذلك اعتقاد السِّنَوِيَّة والذين يقولون أنَّ ثَمَّ إلهين، هو إله واحد لكن له أُقنومان شيءٌ للخير وشيءٌ للشر.
والله ـ واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، واحدٌ في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ـ.
سيأتي إن شاء الله مزيد بيان لقول المخالفين في تفسير الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فيما نستقبل إن شاء الله تعالى.
نكتفي الليلة بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه أنْ يوفقكم لما يحب ويرضى، وأن يزيدني وإياكم من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يختم لنا برضاه، وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.