الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الثانية] :
قوله (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) هذا المقصود منه إلى قرب قيام الساعة
؛ يعني إذا كان يوجد ولي أمر مسلم وجماعة وإمام وأناس يَحُجُّون ويُجَاهدون.
والذي دَلَّتْ عليه الأحاديث أنه يُتْرَكُ ذلك قبل قيام الساعة ولا يبقى في الأرض من يقول الله الله؛ يعني أطع الله أطع الله أو اتق الله اتق الله.
وهذا كثير عند أهل العلم حتى في العقائد يذكرون إلى قيام الساعة، ويريدون به ما يَقْرُبُ مما هو زمن وجود المؤمنين.
[المسألة الثالثة] :
قوله (لَا يُبْطِلُهُمَا شَيْءٌ وَلَا يَنْقُضُهُمَا) يعني لا يُبْطِلُ الحج شيء من معصية الولاة ولا ينقض الحج والجهاد مع ولاة الأمر شيء من فجورهم أو نَقْصِهِمْ؛ لأنَّ هذه من العبادات العظيمة فلا تبطل بمخالفة المرء على نفسه؛ بل يجب القيام بها الحج مع المسلمين والجهاد مع المؤمنين بأمرٍ عام.
وهذا الأصل الذي ذُكِر -تذكرونها في أول الكلام- مضى عليه هَدْيُ الصحابة رضوان الله عليهم، فقد حَجَّ عدد من الصحابة أو حَجَّ الصحابة في عهد بعض ولاة بني أمية وكان فيهم من النقص ما فيهم؛ بل أُمِّرَّ الحجاج بن يوسف الثقفي على الحجيج من قبل والي بني أمية -والحجاج معروف بسفكه للدماء وظلمه وعدوانه وعدم رعايته للعلماء ولا لنفوس المؤمنين- مع ذلك أُمِّرَّ على الحج، وكان عالم الحج ابن عمر رضي الله عنه -لأنه كان هدي السلف أن يكون ثَمَّ أمير وثَمَّ عالم يفتي الناس-، فكان ابن عمر هو الذي يُفْتِي الناس، وقيل للحجاج لا تعمل شيئاً من أمور الحج إلا بأمر ابن عمر -يعني في مناسك الحج-، فحج معه ابن عمر وصلى وراءه في حجة الوداع -يوم عرفة أتاه عند زوال الشمس وقال: أُخرج، قال: أفي هذه الساعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم سنة أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فخرج فخطب الناس ثم صلى بهم الظهر والعصر، وكان ممن صلى خلفه ابن عمر وطوائف من الصحابة وسادات التابعين (1) .
فهذا الأصل كثير عند السلف كانوا يفعلونه، وتَلَقَوهُ جيلاً بعد جيل في مُضِيِّ الحج والجهاد مع ولاة الأمر مهما كانت مرتبتهم؛ لأنَّ ذلك فيه إعلام للدين وإعانة على الحق والهدى.
(1) سبق ذكره (450)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَهُمْ عَلَيْنَا حَافِظِينَ)
نؤمن أي نُصَدِّقُ ونعتقد وجود الكرام الكاتبين كما أخبرنا ربنا عز وجل بذلك وهم الملائكة الذين كَرَّمَهُم الله عز وجل بأنواع التكريم، وجعلهم مُوَكَّلين بابن آدم يكتبون عمله؛ ما يصدر منه من قول أو عمل.
فهؤلاء الذين يُقَارِنُونَنَا من الكَتَبَة نؤمن بهم؛ لأنَّ الله عز وجل أخبرنا عنهم وأخبرنا عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا فرعٌ للإيمان بموجود الملائكة أصلاً، فهذا تبعٌ لركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالملائكة، وقد مَرَّ معنا أنَّ الإيمان بالملائكة له درجتان:
1 -
الدرجة الأولى: إيمانٌ واجبٌ وفرض إجمالي وتفصيلي.
2 -
الدرجة الثانية: إيمانٌ بما أخبر الله عز وجل مُطلقاً ما علمنا وما لم نعلم، وما جاء في السنة ما علمنا وما لم نعلم، وكل من بلغه شيء وجب عليه الإيمان به.
فالإيمان بالكرام الكاتبين ليس شرطاً في صحة الإيمان، ليس رُكْنَاً في صحة الإيمان بحيث إنَّ من قال ليس ثَمَّ من يكتب من الملائكة، فيُقَال إنه لم يصح إيمانه بل هو كافر، إلَّا إذا عُرِّف بالآيات والأحاديث فأنكر فهنا له حُكْمُ أمثاله من المنكرين ما في الكتاب أو السنة، وإنما الإيمان الذي يتحقق به ركن الإيمان بالملائكة كما ذكرنا لكم، هو أن يؤمن بوجودهم وأنهم يعبدون الله لا يُعْبَدُون.
ثُمَّ الإيمان التفصيلي: فكل من سمع آية أو حديثاً صحيحاً واضحاً فيه الخبر بالغيبيات وجب عليه التصديق بذلك واعتقاد ما دل عليه.
والطحاوي فَرَّقَ الكلام على أركان الإيمان، وكثيرْ من العلماء الذين صَنَّفُوا في العقيدة ما رتَّبُوا الكلام على مسائل الاعتقاد بترتيبٍ منهجي؛ يعني ما جعلوا الكلام على الإيمان بالله وما يتّصل به أولاً ثم بالملائكة ثم بالكتب ثم بالرسل ثم بالقدر ثم باليوم الآخر، ثم انتقلوا إلى القسم الثاني إلى آخره؛ بل فرقوا ذلك.
وهذا راجع إلى ما درجوا عليه من أنَّ المرء يكتب عقيدته بحسب ما يحضُرُهُ من المسائل، ولم يقصدوا فيها الترتيب المنهجي وإلا فمسائل الإيمان بالملائكة الكاتبين أو بملك الموت هذا متصل بإيمان بالملائكة.
وهاهنا مسائل:
[المسألة الأولى] :
قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ) إلى آخره، أخَذَهُ من قول الله عز وجل {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، فوصفهم الله عز وجل بأنهم حَفَظَة علينا وبأنهم كرامٌ وبأنهم كتبة، والآيات التي تَدُلُّ لهذا الأصل متعددة -يأتي بيان بعضها إن شاء الله تعالى-.
لكن هاهنا على هذه الآية وعلى لفظ الطحاوي رحمه الله: وَصَفَ الله عز وجل الملائكة هؤلاء:
- الوصف الأول: بأنهم حَفَظَة على ابن آدم.
- الوصف الثاني: بأنهم كَتَبَة.
- الوصف الثالث: بأنهم يعلمون ما تفعلون.
@ أما الوصف الأول: وهو أنهم حَفَظَة على ابن آدم فَفَرْقٌ ما بين أن يكون حافِظَاً على ابن آدم وما بين أن يكون حافظاً لابن آدم -وسيأتي بيان الفرق في المسائل التي بعدها-، ففي هذه الآية أنهم حَفَظَة على ابن آدم؛ يعني يحفظون على ابن آدم ما يصدر منه.
@ ثُمَّ وَصَفَهُم بوصف ثانٍ: أنهم إذا حَفِظُوا على ابن آدم ما صَدَرَ منه فإنهم يكتبونه في صحُفْ عندهم بأيدي الملائكة، والملك مُوَكَّل بكتابة الحسنات والملك الآخر موكّل بكتابة السيئات.
فإذاً الكتابة منقسمة إلى كتابة للحسنات في صحف والكتابة للسيئات في صحف.
@ الوصف الثالث: أنَّهُ قال {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، والفعل الذي يفعله ابن آدم:
- يكون بقلبه فيشمل أعمال القلوب.
- ويكون بلسانه ويشمل ما يُحَرِّكُ به لسانه ولو لم ينطق به.
- ما يعمله بجوارحه المختلفة من الأيدي والأرجل والفرْج واللسان إلى آخره، فكل ما يعمله بجوارحه أيضاً تَعْلَمُهُ الملائكة.
هذه دلالة الآية.
هل يُكْتَبُ هذا كله؟
ظاهر الآية أنَّ هذا بأجمعه يُكْتَبْ.
وآية سورة (ق) فيها قول الله عز وجل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
{رَقِيبٌ} يراقبه.
{عَتِيدٌ} يعني مُعَدٌّ للحفظ عليه ولمراقبته، فكل شيء -يعني مما يلفظه- يُعْلَمْ فَيُكْتَبْ.
ودلالة آية الانفطار هذه تشمل الأصناف الثلاثة، وهذا هو الصحيح أنَّ الملائكة تكتب أعمال القلوب؛ لأنها أفعال، وتكتب عمل اللسان ونطق اللسان، وتكتب عمل الجوارح؛ وذلك لأنَّ عمل القلب منه ما هو واجب وهو إخلاصه ونيته وتوكله على الله وخوفه ورجاؤه ونحو ذلك، من أعمال القلوب، وهي أعظم العبادات التي يتعبد بها المرء رَبَّه هذه العبادات الجليلة.
ثُمَّ من أعمال القلوب ما يكون من باب إتيان السيئات مِنَ: الهم، أو إرادة السيئة والعزم عليها، أو من المنهيات من سوء الظن بالمسلم، أو سوء الظن بالله عز وجل، أو نحو ذلك من الكِبْرْ إلى آخره من المنهيات.
والملائكة يعلمون هذا كله.
وعِلْمُهُمْ به، هل هو لقدرتهم عليه ذاتاً؟ أو لأنَّ الله عز وجل أقْدَرَهُمْ عليه لأنهم مُوَكَّلون بهذا الأمر؟
الظاهر هو الثاني؛ لأنَّ الملائكة ليس لهم سلطان على ابن آدم ولا علم بالغيب، وإنما الله عز وجل أقْدَرَ هذا الصنف من الملائكة بخصوصه على الإطلاع لأنهم موكلون بالكتابة، والقلب يُحَاسَبْ عليه الإنسان واللسان يُحَاسَبْ عليه وكذلك الجوارح يحاسب عليها.
فإذاً كل هذه تُكْتَبْ وحتى ما يكون من قبيل الهَمِّ الذي يَهُمْ به الإنسان فإنه يُعْلَمْ ويُحفَظْ، ثم هل يُكْتَبُ عليه أو يُكْتَبُ له؟
هذا فيه البحث المعروف لديكم في أنّ «الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» (1) والمقصود بـ (ما حدّثت به أنفسها) ما هو من قبيل الهم أو من قبيل الوسوسة أو من قبيل حديث النفس؛ لكن إذا انْتَقَلَ الهم أو حديث النفس إلى العزم والإرادة على الشرّ صار مُؤَاخَذاً عليه، إذا انتقل حديث النفس أو الهم هذا إلى شرف المكان وهو مكة فإنه يُؤَاخَذُ عليه في قول بعض أهل العلم وهكذا.
فإذاً {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} هذه عامة يمكن أن يُسْتَثْنَى منها ما تجاوز الله عز وجل لهذه الأمة عنه والباقي على عمومه.
وهذا مما يُعْظِمُ الخوف من حركات العبد وفي قلبه ولسانه وجوارحه، ويُعْظِمْ عند العبد المؤمن شأن الاستغفار فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْسَبُ له في المجلس الواحد أنه يستغفر ويتوب إلى الله مائة مرة؛ لأجل عِظَمْ ما يفعله وما تَعْلَمُهُ الملائكة، فإنَّ أشباهنا أعظم وأعظم وأعظم حاجة إلى كثرة الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل.
(1) البخاري (5269) / مسلم (347)
[المسألة الثانية] :
كثير من العلماء عند هذه المسألة -عند ذكر الكرام الكاتبين وعند الآية- يجعلون الكَتَبَة والحَفَظَة شيئاً واحداً، فيجعلون الجميع أربعة ملائكة:
- منهم اثنان للكتابة.
- اثنان للحفظ.
وهذا دَرَجَ عليه كثيرٌ من العلماء في شروحهم حتى شارح الطحاوية عندكم نَسَجَ على هذا المنوال.
وهذا الأمر يحتاج إلى نظر وجمع للنصوص والأحاديث حتى تُنْظَرَ في دلالتها، والذي يظهر لي بنوعٍ من التأمل وليس ببحثٍ مستفيض: أنَّ الملائكة الكتبة غير الحَفَظَة.
فالحَفَظَة يحفظون الإنسان، وأمَّا الكتَبَة فإنهم يحفظون عليه.
الحَفَظَة هم المُعَقِّبَات الذين ذكرهم الله عز وجل في قوله في سورة الرعد {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، أوجَهْ التفاسير فيها أنَّ معنى {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يعني يحفظونه بأمر الله؛ يعني يحفظونه وحِفْظُهُمْ له بأمر الله لهم أن يحفظوه، وفيه -يعني في الحفظة- قوله صلى الله عليه وسلم «يتعاقبون فيكم ملائكة أربعة بالليل وأربعة بالنهار فيجتمعون» (1) إلى أخر الحديث «فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون» (2)
: [[الشريط السابع والثلاثون]] :
وهذا الحديث يدل على أنَّ الحفظة هؤلاء يتعاقبون، منهم من يحفظ بالليل ومنهم من يحفظ بالنهار، وأنَّ هؤلاء يلتقون في وقت الصلاة، يعني في هذا الوقت من اليوم ثم يُفَارقون العبد.
وهذا خلاف ما دَلَّتْ عليه الآية الأخرى والأحاديث في وصف الملائكة الكَتَبَة في أَنَّهُم لا يُغَادرون ابن آدم ولا يفارقونه على أيّ حال كان فيها حاشا الجنابة.
فإذاً نقول: الذي يظهر من الأدلة التفريق في الحفظ ما بين الحفظ لابن آدم والحفظ عليه:
- فحفظ ابن آدم هذا عمل الملائكة الذين يتعاقبون؛ المُعَقِّبَات.
- وأما الحفظ عليه فهذا عمل الكَتَبَة.
والكَتَبَةُ اثنان: أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات.
وأما الحَفَظَة: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم أربعة يتعاقبون في الليل والنهار.
(1) البخاري (555) / مسلم (1464)
(2)
انتهى الشريط السادس والثلاثون.
[المسألة الثالثة] :
الإيمان بالكَتَبَة يقتضي الإيمان بأنَّهُمْ يَكْتُبُون؛ لأنَّ أصل المسألة الإيمان بالملائكة الكَتَبَة، ويقتضي ذلك الإيمان بأنهم يكتبونَ في صحف، وقد جاءت الأدلة في السنة أنَّ منهم من يكتب الحسنات ومنهم من يكتب السيئات.
وربما تنازعوا في كتابة بعض الأشياء فيحكم الله عز وجل بينهم.
والكتابة هذه في صحف الملائكة هذه هي التي تُجْمَعْ على العبد، وهي كتَابُهُ الذي يُجْمَعُ معه في عنقه إذا أُدْخِلَ القبر، وهو الذي جاء فيه قول الله عز وجل {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، وهي الصُّحُفْ التي يُحَاسِبُ الله عز وجل العبد بها فَيُقَرِّرُه على ما فيها من أعمال، وفيه أنَّهُ يَسْأَلُهُم ربنا عز وجل هل ظَلَمَكُم ملائكتي؟ فيقولون: لا يا رب، يعني بعد أن يُحَاسِبَهُم الرب جل جلاله.
وإذا كان كذلك فإنَّ مقتضى الإيمان بالكتابة وأنَّ الإنسان على ما في قلبه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة لسانه يُكْتَبُ له أو عليه، وحركة جوارحه يُكْتَبُ له أو عليه، فإنَّ عِظَمْ الإيمان بهذا الأصل يطلب العبد إلى أَنْ يَجعَلَ صحائفه ليس فيها إلا الخير، وإذا عمل شيئاً من السوء فليُعظْمِ ْالحسنات الماحية وليُعظْمِ الاستغفار الذي يمحو الله عز وجل به السيئات.
ولهذا صار من نتائج الاعتقاد الصحيح أنَّ العبد يكون أذل ما يكون لله عز وجل، فأصحاب العقيدة الحَقَّة يَذِلُّونَ لله عز وجل حتى ولو عَصَوا أو صار عندهم ما صار فإنهم أكثَرُ ذُلَّاً لله عز وجل؛ لأنَّ عندهم من الإيمان بالغيبيات واليوم الآخر وبالكتابة وبمعرفة الله عز وجل والعلم به وصفاته وما هو عليه جل جلاله من نعوت الجلال والكمال ما يوجب عليهم قسراً أن لا يكون في قلوبهم إعراض أو كِبْرْ أو طاعة للشيطان في البعد عن ربهم جل جلاله.
ولهذا الوصية للجميع أنّهم إذا عَلَّمُوا العقيدة فإنهم يُعَلِّمُونَهَا لأنَّ صلاح القلب به تَصْلُحْ الأعمال، وهذا واقع.
وأما أهل الكلام وأهل البدع فإنهم يُعَلِّمُونَ مسائل الاعتقاد كمسائل عقلية، مسائل عقلية ينظرون إليها نظراً عقلياً برهانياً، عقلياً أو نقلياً دون نظر في آثار ذلك، ولهذا تجد فيهم من قسوة القلوب ومن قلة العبادة، وترك التواضع، والكِبِرْ إلى آخره من الصفات المذمومة ما فيهم.
بخلاف أهل الحق من أهل السنة والحديث والعبادة، فإنهم ألْيَنْ قُلُوباً لأجل ما معهم من العلم بالله عز وجل، وأكثر تواضعاً للخلق، ونفع للعباد وخوف من الله عز وجل، لأجل صحة العقيدة أثمرت في قلوبهم وفي أعمالهم.
زادني الله عز وجل وإياكم من الهدى وغَفَرَ لنا ما كان منا من نقصٍ أو ضعف أو ذنب أو خطيئة إنّه سبحانه غفور رحيم.
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ)
مَلَكُ الموت الذي يقبض الأرواح ذَكَرَهُ الله عز وجل في القرآن في قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] ، فالإيمان به إيمانٌ بالملائكة وإيمانٌ بما ذَكَرَ الله عز وجل وأخْبَرَ به من ملك الموت بخُصُوصِهِ ومن الرُّسُل التي تتوفى نفس المؤمن.
فالإيمان بذلك فرض، والذين يُنْكِرُونَ الغيبيات ربما أنْكَرُوا حقيقة المَلَكْ الذي يقبض الأرواح، ومنهم من يقول: الروح إذا ذهبت فإنها تذهب إلى جسد آخر فَتَحِلُّ فيه، ونحو ذلك من أقوال الحلولية أو التناسخية أو ما أشبه ذلك ممن يرون التَّجَسُّدْ، يعني العودة إلى التَجَسُّد كما يزعمون من أهل القديم والحديث من المنتسبين للإسلام أو من ملل الكفر والضلال.
يريد الطحاوي رحمه الله بهذه الكلمة أن يقول: إنَّ أهل السنة والجماعة مُسَلِّمُونَ للنص فيؤمنون بملك الموت وأنه يقبض الأرواح وأنه مُوَكَّلٌ بها، مُفُوِّضٌ إليه قبض الأرواح، وهذا ظاهر في دلالة الآية على ما ذكرنا.
ونذكر عدة مباحث ومسائل:
[المسألة الأولى] :
ملك الموت جاء ذكره مَرَّة مُفْرَدَاً وجاء ذكره في موضع آخر في القرآن مجموعَاً بأنهم رسل في سورة الأنعام في قوله {إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت وجنود ملك الموت، فهو لهم كالملك أو كالأمير الذي يأمرهم ويطيعونه، هذا منهم من يقبض نفس فلان ومنهم من يقبض نفس فلان إلى آخره، فقوله عز وجل {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} هو بمعنى قوله {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام:61] ؛ لأنَّ ملك الموت ومن معه يمتثلون أمر الله جل جلاله.
[المسألة الثانية] :
متى يقبضون الروح هل هو بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ من الله عز وجل؟ أوإذا انتهى الأجل بما معهم من صُحُفْ بأنَّ أَجَلَ فلان ينتهي بالوقت الفلاني؟ خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة.
والذي يظهر هو الأول لأنَّهُم وُكِّلُوا والمُوَكَّلْ يقبض بأمر المُوَكِّلْ وهو الله جل جلاله.
[المسألة الثالثة] :
قوله (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) جاء فيه الآية نَصَّاً أنَّهُمْ مُوَكَّلُون، وهذا لا يعني أنَّ المُوَكِّلَ غائب أو أَنَّ المُوَكِّلَ قاصر؛ ولكنَّ الله عز وجل خلق الملائكة وجَعَلَ لهم هذه المهمة وغيرها من المهام للتَّعَبُّدِ لا لِنَقْصٍ في ملكوت الله عز وجل أو في صفاته جل جلاله؛ بل هو الكامل وله الصفات الكاملة سبحانه ولكن لأجل التَّعَبُّدِ بذلك.
وهذا فيه من الاعتقاد بتصرف الله عز وجل في ملكوته في جميع الخلائق ما يطول وصفه، إذا نُظِر إلى سَعَةِ ملك الله وسَعَةِ التصرفات في الملكوت وكثرة الملائكة وأنهم مُوَكَّلُون هذا بكذا وهذا بكذا إلى آخره.
[المسألة الرابعة] :
ذكر لك هنا الشارح ابن أبي العز كلاماً طويلاً في الكلام على الأرواح والروح وحقيقتها والنفس والفَرْقُ بينها وبين الروح، وهل الروح مخلوقة الآن، الأرواح مخلوقة أوغير ذلك من البحوث التي هي استطراد، لأجل ذِكْرْ الطحاوي لفظ (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) .
وتَبِعَ في ذلك؛ بل نقل نَصَّاً ما فتاوي ابن تيمية في الجزء الرابع من البحث في مسألة الروح والنفس والبحث في الآية {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، بما يُطَالَعُ ويُسْتَفَاد من كلامه إن شاء الله تعالى.
يعني مباحث الروح ليست من المباحث المهمة في فهم كلام الطحاوي في هذا الموضع.