الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسئلة:
س1/يقول نريد أن نرجع إلى مرجع في مسألة إعجاز القرآن؟
المسألة طويلة الذيول وما ذكرت متفرق بين مراجع كثيرة.
س2/ ما هي عقيدة أبي العتاهية؟
ج/ رحم الله أبا العتاهية، فهو من الصالحين، ولا تسل عن شيء ليس فيه مصلحة، أبو العتاهية شاعر من الشعراء الزهاد وشعره وديوانه مطبوع.
س3/ هل يوجد في القرآن ألفاظ أعجمية، وما معنى {حم} ، {المر} ؟
ج/ الجواب: الكلمات الأعجمية في القرآن، أعجمية الأصل لكنها عربية الاستعمال، ومعلوم أنّ العرب لما استعملوا هذه الكلمات صارت عربية كالسندس والإستبرق وأشباه ذلك؛ لأنها لم تأت على أوزان العرب.
فأهل العلم في هذه المسألة لهم قولان:
- منهم من ينفي وجود الكلمات الأعجمية أصلاً.
- ومنهم من يقول هي موجودة لكنها بالاستعمال صارت عربية، وهذا هو الصحيح.
أما الأحرف المقطعة في أوائل السور {الم} ، {الر} ، {حم} فهي دالة على إعجاز القرآن، فالحجة فيها عظيمة {الر} ، {الم} فصيحة ألفاظُها؛ يعني هذه الأحرف من حيث الاستعمال، ودالة على أعظم أنواع الإعجاز، أو على دليل عظيم من أدلة الإعجاز، كيف؟
{المر} ، {حم} ، {كهيعص} هذه الأحرف هي الأحرف التي بها يتكلم العرب وينشئون بها الكلام الذي يفاخرون به، فأشعار العرب من هذه الأحرف، وكلمات العرب وخطب العرب من هذه الأحرف، وما تفاخروا فيه من البيان والبلاغة والخطاب والفصاحة إنما هو مكوَّن من هذه الأحرف.
فالله عز وجل في أول بعض السور افتتحها بالأحرف المُقَطَّعَة لينبه أنّ هذا القرآن كلماته وآياته من هذه الأحرف التي بها تنشئون كلامكم البليغ الذي تتحدون به، فَهَيَّا استعملوا هذه الأحرف في إنشاء كلام مثل هذا القرآن.
ولهذا تجد أنَّ الأحرف المقطعة في افتتاح السور أغلبها والغالبية العظمى منها يكون بعد ذكر الأحرف المقطعة ذكر الكتاب والقرآن، لا تجد سورة فيها ذكر الأحرف المقطعة إلا وفيها ذكر القرآن، والأغلب أن تكون بعد الأحرف المقطعة مباشرة.
خُذ مثلا {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1-2] ، {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [1-2]، {حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1-2] ، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1] ، {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد:1] ، إذاً فكلما ذُكِرَتْ الأحرف ذُكِرَ بعدها الكتاب، وتارة تكون بعد ذلك كسورة مريم {كهيعص} يأتي ذكر القرآن بعدها.
فإذاً إيراد هذه الأحرف المقطعة في أوائل السور لتحدي العرب في تكوين كلام من هذه الأحرف التي يكونون منها كلامهم وينشئون بها خطبهم وأشعارهم وأن يعارضوا القرآن بمثل هذا الكلام.
س4/ ما رأيكم بمن يقول إنَّ الله ليس له لغة بدليل أنه يخاطب جميع البشر كلٌ حسب لغته؟
ج/ نقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللغة اصطلاحية، اللغة من آيات الله {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] ، البشر احتاجوا للغات ليتفاهموا بينهم، الله عز وجل هو الذي خلق البشر وخلق لغات البشر وجعل اختلاف الألسن دليلاً على عظم الباري عز وجل.
الله سبحانه أعظم من أن يقال فيه إنه يتكلم بكل اللغات، أو أنه ليس له لغة أو نحو ذلك.
الله عز وجل أعظم وأجل من ذلك أو نحو ذلك، {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]ـ.
س5/ ما رأيك بقول الشخص للآخر لك خالص شكري؟
ج/ الجواب: نبهنا عليه مرارا أنّ الشكر عبادة؛ الشكر عبادة لله عز وجل، أمر الله بها {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ، {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] ، ولما أمر الله عز وجل به فهو عبادة عظيمة من العبادات التي يتقرب إلى الله عز وجل بها، والعبادات من الدين، والدين الخالص لله عز وجل، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] ، فلا يجوز أن يقال لأحد: لك خالص شكري لأنَّ خالص الشكر لله سبحانه وتعالى، أو: لك خالص تحياتي. مع خالص تحياتي أو: خالص تقديري. هذه كلها لله عز وجل، خالص التحيات وخالص التقدير والقدر والتعظيم، وخالص الرجاء، ومثل ما يقول وفيك خالص رجائي، الرجاء والشكر، ومثل هذه الأشياء هي عبادة وخالصها لله عز وجل.
فلا يجوز أن يقول القائل مثل ما هو شائع في كثير من الرسائل والمكاتبات وتقبل خالص شكري وتقدري؛ لأن هذا إنما هو لله عز وجل.
فالشكر الخالص لله، يقال للبشر ولك عظيم شكري، أو يقال له مع عظيم شكري لك، مع جزيل شكري، ونحو ذلك، نعم يُشْكَرْ البشر على ما يقومون به من أنواع الخير، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)(1) ، فالذي لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل.
أسأل الله ـ أن يتقبل مني ومنكم، وأن يزيدنا من العلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (2)
(1) أبو داود (4811) / الترمذي (1954)
(2)
انتهى الشريط التاسع.
: [[الشريط العاشر]] :
الأسئلة:
س1/ ما حكم تعليق المشيئة على أمر متأكِدٍ أنه واقع كقوله هذا فلان الواقف أمامك إن شاء الله، كذلك حكم تعليقها على أمر قد حصل وانتهى؛ كقوله أكلتم إن شاء الله؟
ج/ المشيئة في استعمال المسلم على درجتين:
الدرجة الأولى: أنه يُقْصَدُ بها حقيقة التعليق؛ يعني أنَّ ما سيفعله مُعَلَّق بمشيئة الله كما قال عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقال {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23-24] ، فإذا كان الأمر يُعَلَقُ على المستقبل فإنه يتأكد استعمال المشيئة، يعني أن يُعَلَّق الأمر على مشيئة الله؛ لأنَّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الدرجة الثانية: أن تكون (إن شاء الله) لتأكيد تحقق الأمر بمشيئة الله؛ لأنَّ الأمر وقع ووقوعه ليس بمشيئتي ولكن بمشيئة الله، فلا بأس أن يُؤَكَدَ أي أمر وقع بكلمة (إن شاء الله) ويقصد بها أنه تحقق ووقع بمشيئة الله عز وجل، وعلى هذا جاء في القرآن قول الله عز وجل {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] ، بعد أن دخلوا، وكقوله عز وجل {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح:27] .
بالمناسبة بتعليق المشيئة: الكلمة المعروفة التي تروى عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لما حض الناس على جهاد التتر، فقال (إنكم منصورون) فقال له أحد القضاة (قل إن شاء الله) قال (إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا) ، يعني أنتم منصورون والنصر بمشيئة الله يتحقق، وهذا لأجل أن الله عز وجل وعد عباده ووعده حق أن ينصرهم {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:59] ، وقال عز وجل {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] ، وقال {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] ، ونحو ذلك من الأدلة.
س2/ ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المكروهات وترك المستحبات، مثل أن يترك الإنسان النوافل بعد الصلاة، فإذا حاجه أحد قال: هذا بقضاء الله وقدره؟
ج/ القدر لا يجوز الاحتجاج به على المعايب، فإذا كان ثَمَّ فِعْلْ للإنسان فيه عيب من ترك فريضة أو فعل محرم، أو من ترك نافلة أو فعل مكروه، فإنه لا يجوز أن يحتج على ذلك بالقدر.
وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصايب؛ إذا أصيب الإنسان بمصيبة عَلَّقَ ذلك بقدر الله عز وجل؛ لأنه في تعليقه للقدر تطمئن النفس ويكمل الإيمان والهدى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ، ما شاء الله كان، قدر الله وما شاء فعل، هذا في المصائب.
أما في المعايب فإنَّ هذا من وسائل الشيطان؛ لأنَّ الاحتجاج بالقدر على المعايب ليس فيه في الحقيقة حجة، بل حجة على صاحبه الذي احتج به؛ لأنَّ الإنسان مُخَيَرْ هل يعمل هذا أو يعمل الأمر الثاني؟ فكونه اختار أحد الأمرين بإرادته التي توجهت إلى أحد الأمرين، وبقدرته التي توجهت إلى أحد الأمرين، فإن احتجاجه بالقدر حينئذ احتجاج للخروج من التَبِعَة؛ لأنه كان عنده إرادة، ولو صح الاحتجاج بالقدر في المعايب ما بقي معنى للتكليف ولا للحساب؛ لأنّ هذا هو معنى قول الجبرية.
س3/ ما الفرق بين معجزات الأنبياء القرآن وهل معجزات الأنبياء معجزة بنفسها كالقرآن أم لا؟
ج/ معجزات الأنبياء ومنها معجزات المصطفي صلى الله عليه وسلم، ذكرنا أنها آيات وبراهين ودلائل، فلفظ المعجزة لفظ حادث، ولهذا تارة يقع الإشكال في توجيه بعض الأمور؛ لأنه يُنْتَقَل من استعمال العلماء لها في أحد معانيها أو في كثير من معانيها إلى أن تُجعل حقيقة شرعية عامة، وهذا يُنتبه له، فإنَّ كلام العلماء تقرير للحقائق فإذا كان الاستعمال الاصطلاحي لهم في الألفاظ لم يأت في القرآن ولا في السنة فينبغي أن يُجْعَلَ بِقَدَرِه، وألا يُزاد على ما استعملوه فيه، ولهذا لفظ المعجزة -كما ذكرنا لكم- لم يأت في القرآن ولا في السنة، وإنما فُهِمَ ذلك فهما وهذا الفهم صحيح إذا قُدِّرَ بَقَدَرِهِ الشرعي ولم يُنتقل عنه إلى ما لم يأت به دليل.
ولهذا نقول آيات الأنبياء والبراهين الدالة على صحة رسالاتهم وعلى أنهم مرسلون من عند الله وأنَّ ما جاؤوا به حق، هذه كلها دليل صدقها في نفسها؛ لأنها شيء خارج عن قدرة الإنس والجن في ذلك الزمان جميعا، فكل معجزة، كل آية، كل برهان، اقترن بدعوى النبوة فهو خارج عن قدرة الإنس والجن جميعا، في النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي جميع الأنبياء والمرسلين؛ لأننا نقول إنَّ كل نبي يُخَاطَبُ به؛ يعني يُخَاطَبُ برسالته الإنس الذين بعث فيهم وكذلك يُخَاطَبُ برسالته من سمع رسالته من الجن، فلهذا يقع الإعجاز وتقع الحجة بأن تكون الآية والبرهان خارجا عن مقدور الإنس والجن جميعا.
وهذا هو في آيات وبراهين الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، وكذلك في القرآن، فكلها آية وبرهان حجته في نفسه قاطِعٌ في نفسه لمعارضة المعترض.
وتدبر هذا في جميع الآيات التي أوتيها الأنبياء والمرسلون عليهم صلوات الله وسلامه
والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ، بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ، كما نَطق به كتابُ ربِّنا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ.
وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا، فإنَّهُ مَا سَلِم في دينه إلَاّ مَنْ سَلَّمَ لله عز وجل ولرسُولِه صلى الله عليه وسلم، وردَّ علْمَ ما اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلى عَالِمِهِ.
هذه المسألة مسألة عظيمة جداً، وهي مسألة رؤية الرب عز وجل في الجنة.
ورؤية الله جل جلاله في جنات النعيم هي أعلا ما يَلتذُّ به أهل الجنة، فأهل الجنة أعلا نعيمهم رؤية وجه الله عز وجل، وذلك لأنه منتهى الجمال؛ ولأنّ في الرؤية الرضا، ولأنّ في الرؤية الإكرام، ولأنّ في الرؤية صلاح القلب برؤية محبوبه عز وجل.
فكل أنواع الجمال التي يتعلق بها المتعلقون إنما هي بعض جمال صفات الرب عز وجل؛ يعني أنها شيء من جمال الصفات، كما أن رحمة الله عز وجل منها جزء يتراحم به الناس.
وكذلك جمال الحق عز وجل في ذاته وصفاته وأفعاله من جماله أفاض على هذا الوجود، فصارت الأشياء جميلة لما أفاض عليها عز وجل من جماله ـ، كما قال ابن القيم رحمه الله:
وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان
من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان
فكل جمال يطمع إليه الطامع وتتعلق به نفس المُتَعَلِّقْ من جمال مخلوقات الدنيا أو من أنواع الجمال والتلذذ في الجنة فإنه ليس بشيء عند الرؤية والتلذذ بمن أفاض ذلك الجمال، وأفاض تلك اللذات على من شاء من خلقه.
ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّ الرؤية لله عز وجل هي الغاية التي شَمَّرَ إليها المشمرون.
فإذا كانت الجنة غاية في تشمير المشمر وفي تَعَبُّد العابد، فإنَّ أعلى نعيم الجنة وأعظم نعيم الجنة أن يرى المؤمنون ربهم عز وجل، كما قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، نظرت إلى الرحمان فاكتست الوجوه نظرة وجمالا وبهاء وحسنى تبارك ربنا وتعالى.
قال (والرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ)
يعني أنَّ الرؤية ثابتة، وهي حق لا مِرْيَة فيه، ولا شك فيه، وهي حق لأهل الجنة فأهل الجنة يرون ربهم عز وجل ويتلذذون بذاك النعيم.
قال (بِغَيْرِ إحَاطَةٍ ولا كَيْفيَّةٍ)
فنفى الإحاطة؛ لأنَّ رؤية الله عز وجل لا يمكن أن تكون بإحاطة للمرئي، كما قال سبحانه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] ، فرؤية الله عز وجل رؤية عيان؛ لكن لا يمكن أن يُحَاطَ بالله عز وجل رؤية كما لا يمكن أن يحاط بالله عز وجل علماً {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] ، ولكن أصل العلم بالله عز وجل ثابت، وكذلك الرؤية لا يحاط بها فلا تُدْرَكْ؛ لا تُدْرِكُ الربَّ عز وجل الأبصار، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، ولكن أصل الرؤية موجود.
فالمنفي إذاً في الآيات الإحاطة، وهذا ليس في الرؤية وحدها ولكن في كل صفات الله عز وجل؛ فإنَّ الله سبحانه بذاته وبصفاته لا يحاط به علماً ولا يحاط بالله عز وجل إدراكاً ورؤية.
قال (ولا كَيْفيَّةٍ) يعني لا تُكيَّفُ رؤية الناس لربهم عز وجل؛ وإنّما هي حق على ما جاء في الأدلة، والكيفية منفية؛ لأنَّ رؤية الناس لله عز وجل -يعني بالناس المؤمنين في الجنة- فإنَّ رؤية المؤمنين لله عز وجل في الجنة تبع لصفاته، وصفات الرب عز وجل لا تُعْرَفُ كيفيتها.
فرؤية الرائي للرب عز وجل في دار النعيم والخلود والسعادة ليست رؤية إحاطة ولا تُكَيَّفْ بكيفية:
- لأنَّ الله عز وجل في علوه لا يُعْلَمُ كيف ذلك.
- ولأنَّ الله عز وجل في رؤية المؤمنين إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك.
- ولأنَّ الله عز وجل في كشف الحجاب الذي يحجبه عن رؤية الخلق إليه لا تُعْلَمُ كيفية ذلك.
فربنا أعلى وأعظم مما يدور في الذهن أو مما يحوم عليه الخاطر أو يتوهمه المتوهم.
فلذلك نُثْبِتُ الرؤية دون نظر في كيف تكون هذه الرؤية، لكنها رؤية بالعيان رؤية بالعينين ليست رؤية قلب، وإنما هي رؤية عينين، كما سيأتي ذلك في الأدلة.
وكما استدل المصنف رحمه الله بقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا)
ذكرنا لكم أنَّ هذا من الذي استعمله أهل العلم كثيراً أن يُنْسَبَ القول والنطق والكلام للقرآن يعنون بذلك من تكلم به وهو الرب عز وجل، فقوله (كما نَطق به كتابُ ربِّنا) لا بأس به ويستعمله كثير من أهل العلم من المحققين والأئمة.
قال عز وجل ( {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ) هذه الآية فيها إثبات رؤية أهل الجنة للرب عز وجل وأنَّ وجوه من رأى الرب عز وجل ستكون (نَاضِرَةٌ) يعني حَسَنَة بَهِيَّة تعلوها النُّضرة والنَّضرة، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (نضّر الله امرَأً -امرؤا- سمع مقالتي فأداها كما سمعها)(1) الحديث، دعا له بنضارة الوجه يعني بالحسن والبهاء والزينة والجمال وهذا إنما هو لأهل الإيمان.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} يعني يوم القيامة تلك الوجوه ناضرة حسنة بهية، وتلك الوجوه {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ناظرة إلى الرب عز وجل؛ يعني رائية ربها عز وجل، تنظر الوجوه إلى الرب عز وجل.
ووجه استشهاد المصنف بآية سورة القيامة من ثلاثة وجوه:
1 -
الوجه الأول:
أنَّ النظر عُدِّي بـ (إِلَى) ، وتعدية النظر بـ (إِلَى) تفيد أنَّ معناه الرؤية -كما سيأتي بيان ذلك في المسائل-.
قال ناظرة إلى ربها، وناظرة،والنظر يأتي لمعاني فإذا عدي بـ (إِلَى) كان المراد رؤية العِيَان.
2 -
الوجه الثاني:
أنه جَعَلَ النظر إلى الرب عز وجل مضافاً على الوجوه، فجعل الوجوه هي التي تنظر إلى ربها، قال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالوجوه ناظرة إلى ربها، ومحل الرؤية والنظر في الوجه هو العينان.
3 -
الوجه الثالث:
أنه قال {يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} ، والنضرة: وهي الحسن والبهاء والسرور والحبور الذي يعلو الوجوه والاطمئنان، هذا إنما يكون بالرؤية لأنها منتهى النعيم واللذة، لا من الانتظار الذي لا يُدْرَى هل بعده نعيم أم بعده غير ذلك.
فكون الأوجُهْ بالنظر صارت ناضرة، يعني حَسَنَة بَهِيَّة دَلَّ على أَنَّ هذا إنما هو الرؤية لأنه أثر الرؤية، وأما مجرد الانتظار فليس كل مُنْتَظِرٍ للرب عز وجل يُنضَّر وجهه، بل مِنَ المُنتظِرْ مَنْ يكربس في جهنم والعياذ بالله، وسيأتي مزيد بيان أوجه الاستدلال في المسائل إن شاء الله تعالى.
قال (وتَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ)
(تَفْسيرُهُ) يعني تفسير النظر إلى الرب عز وجل عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ.
التفسير هنا يراد به أحد نوعي التفسير:
وذلك أنَّهُ جَعَلَ الرؤية حق ونفى في الرؤية التي هي حق ويثبتها: الإحاطة والكيفية.
فدل على أنَّهُ يُثْبِتُ معنى الرؤية الذي يعلمه السامع للكلام من ظاهر الكلام.
فلما نفى الإحاطة والكيفية دلَّ على أَنَّ قوله (الرُّؤْيةُ حقٌّ لأهلِ الجَنَّةِ) أَنَّ الرؤية على ظاهرها.
وهذا هو المعنى الأول للأشياء، هو المعنى المتبادر للذهن في الصفات.
نقول هذا على ما يتبادر إلى الذهن، فصفة الرحمة معروفة، وصفة الكلام معروف إلى آخره.
والنوع الثاني من التفسير هو التفسير لتمام المعنى وللكيفية.
فإنَّ تمام المعنى والكيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال سبحانه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، على مَنْ وَقَفَ هنا، فأراد بالتأويل الذي هو التفسير تمام المعنى والكيفية.
فإذاً تفسير النظر إلى وجه الله الكريم، تفسير النظر إلى الرب الكريم عز وجل بتمام معناه لا نعلمه، تفسيره على ما أراده الله تعالى، هو حق، وتمام المعنى لا نعلمه كيف ذلك.
كيف تُعْطَى العيون القدرة.
النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أرأيت ربك؟ قال (نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ) ؟ (2) وقال (رَأَيْتُ نُوراً)(3) كما في الصحيح من حديث أبي ذر، وموسى عليه السلام سأل ربه قال {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] ، قالت طائفة من السلف: كَشَفَ الله عز وجل من الحجاب قدر هذه؛ أنملة واحدة، فساح الجبل، فَرُدَّ طلب الرؤية على موسى لأنَّهُ لن يقدر على ذلك،كذلك قال صلى الله عليه وسلم (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(4) .
فإذاً الناس ليس عندهم القدرة على الرؤية، فكيف تكون عندهم القدرة على الرؤية؟ وكيف تكون قُواهُم؟ وكيف تكون قُدَرُهُم؟ وكيف يُعطون؟ وعلى أي حال تكون الرؤية وتفسير ذلك على تمام معناه؟
هذا كله لا يُعْلَمْ كما قال (تَفْسيرُهُ) -يعني بتمام معناه بما يزيد على إثبات الرؤية وأنها حق - على ما أراد الله تعالى وعلمه، لا ندخل في ذلك متأولين ولا متوهمين، كما ذكر بعد ذلك.
وهذه الكلمة تشبه ما ذكره ابن قدامة وغيره عن الإمام أحمد وعن الإمام الشافعي في الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الصفات؛ صفات الرب عز وجل، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى.
وهذه استدل بها بعض أهل التأويل على أنهم - يعني الإمامين - يعنون بذلك التأويل.
لا كيف فلا نكيف الصفات.
ولا معنى لا نثبت المعنى بل نفوض المعنى والكيفية.
وهذا ليس بمراد، بل المراد من قولهم لا كيف ولا معنى أنَّ إمرار الصفات كما جاءت معناه إثبات الصفات على ما دل عليه ظاهر الكلام؛ لأنَّ الصفة لا تُثْبِتُهَا إلا بما دل عليه ظاهر الكلام.
ونفي الكيفية عن الصفة يعني الكيفية التي نحا إليها المجسمة.
ونَفْيُ المعنى بقولهم لا كيف ولا معنى؛ يعني المعنى الذي ذهب إليه المؤؤلة الذي يخالف ظاهر الكلام، ويخالف الإمرار كما جاءت.
فإذاً الإمرار كما جاءت بما يُفْهَمْ، فمن كيَّف فقد صار مجسماً أو صار مكيفاً، ومن تأول المعنى فقد دخل في الكلام بما يخرج اللفظ عن ظاهره.
لهذا قول القائل لا كيف ولا معنى؛ يعني لا كيف كما يقول المجسمة ولا معنى كما يقول المؤولة بما يُخْرِجُ تلك الآيات والأحاديث عن ظاهرها المتبادر منها من إثبات صفات الرب عز وجل والأمور الغيبية بعامة، وهذا كما قال هنا (تَفْسيرُهُ عَلى ما أرادَهُ الله تَعالَى وَعَلِمَهُ) .
قال (وكلُّ ما جاءَ في ذَلك مِنَ الحديث الصَّحيح عَن الرسولِ صلى الله عليه وسلم فهو كما قال)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم رؤية المؤمنين لربهم عز وجل بالتواتر.
عُدَّ ذلك متواترا في أكثر من عشرين حديثاً جاءت عن المصطفي صلى الله عليه وسلم في إثبات الرؤية، بأحاديث متنوعة، مختلفة في ألفاظها وفي طرقها عن عدد كبير من الصحابة، فهي متواترة.
ولهذا كَفَّرَ طائفة من أهل السنة من أنكر رؤية الرب عز وجل لأنه إنكار للمتواتر من القرآن وللمتواتر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال (فهو كما قال، وَمَعناهُ على ما أراد، لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا، ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) .
(لا نَدْخلُ في ذلك مُتَأَوِّلين بِآرَائنا) يعني نُخْرِجْ هذا الظاهر بتأويل.
(ولا مُتَوَهِّمِينَ بأهْوَائنَا) بما يجعل للرؤية كيفية مُعَيَّنَة، فَنُثْبِتْ الرؤية بكيفية أو لأجل الكيفية ننفي الرؤية كما ذهب إليه المعتزلة وكما ذهب إليه المجسمة.
فالمعتزلة توهموا أنَّ الرؤية تكون بكيفية فنفوا، والمجسمة توَهَّمُوا أَنَّ الرؤية تكون بكيفية فأثبتوها على تلك الكيفية.
إذا تبين لك هذا المعنى العام لكلام الماتن رحمه اللهففي هذه المسألة العظيمة، مسألة الرؤية مسائل:
_________
(1)
أبو داود (3660) / الترمذي (2656) / ابن ماجه (230)
(2)
مسلم (461) / الترمذي (3282)
(3)
مسلم (462)
(4)
مسلم (79) / ابن ماجه (195)
[المسألة الأولى] :
أنَّ المؤمن في تَعَلُّقِهِ بربه عز وجل في عبادته سبحانه بأنواع العبادة القلبية والعملية يرى أنّ الإنعام عليه بأن يكون من أهل الجنة هذا أعظم الإنعام؛ لأنَّ من دخل الجنة قد رضي الله عنه ومَتَّعَهُ بملاذِّها وحبورها وسرورها وأفاض عليه الزيادة وهي رؤية وجه الله الكريم.
ومن أحب تَعَلَّقَ بالمحبوب، وإذا تَعَلَّقَ القلب بالمحبوب لم يهدأ له بال ولا يقر له قرار حتى يلقى محبوبه راضياً عنه متمتعاً بلذة النظر إليه ومحادثته وتحيته، كما قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:43-44] ، فهذا أعلى أنواع التمتع.
والقلب إذا خشع لله عز وجل وتلذذ بتلاوة القرآن وبالصلاة، وعلم أنَّ هذه من اللذات الحاضرة التي هي التلاوة والصلاة، فكيف بأعظم اللذات وهو رؤية الرب عز وجل وهي الغاية كما ذكر العلماء التي شَمَّرَ إليها المُشَمِّرُون، الذين تعلقت قلوبهم بالرب عز وجل.
[المسألة الثانية] :
أنَّ أهل السنة والجماعة جعلوا الرؤية حق، والرؤية بالعينين.
وهذه الرؤية جاءت فيها آيات كثيرة وأحاديث متواترة عنه صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل التفسير من الصحابة والتابعين على القول بالرؤية، ولم ينكرها أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ومن الأدلة على أنَّ الرؤية حق:
قول الله عز وجل {لَاّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]، وقوله عز وجل {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ،وقوله عز وجل {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ، وقوله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ،وقوله عز وجل عن الكفار {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ،وقوله عز وجل {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، ونحو ذلك من الأدلة.
وكذلك الأدلة التي فيها ذِكْرُ لقاء الله عز وجل كلها صالحة للاحتجاج بها على رؤية الله سبحانه، كقوله سبحانه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، فَسَّرَهَا طائفة من العلماء من السلف فمن بعدهم بأنَّ لقاء الله برؤيته وهو المعروف لغة.
وكذلك في قوله عز وجل {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44] قال ثَعْلَبْ -وهو من علماء اللغة المبرزين العارفين-: أجمع أهل اللغة على أنَّ اللُّقْيَا هاهنا هي الرؤية، وذلك لأنَّه لا يمكن ملاقاة وتحية وخطاب باللغة إلا برؤية، والأدلة على ذلك متنوعة، في كل دليل فيه ذكر الرؤية لله عز وجل أو فيه ذكر اللقاء، أو ما فُسِّرَ بالسنة برؤية الله عز وجل.
وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكما ذكرت لكم الأدلة كثيرة جداً بلغت مبلغ التواتر، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم (إِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ يوم القيامة كَمَا تَرَوْنَ البدر ليلة التمام لَا تُضَامّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)(1) .
والحديث الآخر قال فيه صلى الله عليه وسلم (هل تَرَوْنَ الشمس في وسط النهار، هل تُضَامّونَ فيها؟) قالوا: لا. قال (هل تَرَوْنَ القمر ليلة الْبَدْرِ، هل تُضَامّونَ فيه؟) قالوا: لا. قال (فإِنّكُمْ ستَرَوْنَ رَبّكُمْ كما تَرَوْنَ الشمس وسط الظهيرة لا تُضَامّونَ فيها وكما تَرَوْنَ القمر ليلة التمام لا تُضَامّونَ فيه)(2) .
وفيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ، من حديث صهيب ا، قال صلى الله عليه وسلم في حديث طويل (الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم)(3) .
وأيضا في الباب قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة (جنتان من ذهب وما فيهما، وجنتان من فضة وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا أن يُكشف الحجاب)(4) .
نسأل الله سبحانه المنّ والكرم لرؤيته عز وجل، وأن يغفر لنا ذنوبنا وآثامنا، وأن نلقاه وهو راض عنا، سبحانه إنه جواد كريم.
هذه الآيات والأحاديث فيها تقرير لقول أهل السنة واضح الدِلالة.
ولا نخوض في ذلك بتقرير الأوجه اللغوية لما ذُكر لأنه بتكاثرها وتواردها بلغت مبلغ القطع في هذه المسألة، حيث إنَّ المسالة ليست بخفية حتى قال الإمام أحمد لمن قال له إنَّ فلاناً ينكر الرؤية قال: كافر، كافر. يعني لأنَّ هذه لا تحتمل التأويل، وليس ثَمَّ فيها شبهة.
(1) البخاري (554) / مسلم (1466) / أبو داود (4729) / الترمذي (2551) / ابن ماجه (177)
(2)
مسلم (469) / الترمذي (2554) / ابن ماجه (179)
(3)
مسلم (467) / الترمذي (2552) / ابن ماجه (187)
(4)
البخاري (4878) / مسلم (466) / ابن ماجه (186)
[المسألة الثالثة] :
أنَّ قول أهل السنة في الرؤية؛ أنَّ الرؤية حق لأهل الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة.
والرؤية التي للمؤمنين هي رؤية سرور وتلذذ وإكرام.
واختلف أهل السنة في رؤية الله عز وجل في الموقف:
- هل هي للمؤمنين وحدهم.
- أم للمؤمنين والمنافقين.
- أم للناس جميعا، على ثلاثة أقوال.
وكل الأقوال في مذهب أهل السنة - يعني قال بها طائفة -.
وكما قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: إنَّ الخلاف في هذه المسألة -يعني هل يرى الكفار ربهم يوم القيامة أو لا يرونه؟ هل يراه المنافقون أو لا يرونه؟ - لا ينبغي أن تكون من المسائل التي يُشَدَّدُ فيها الخلاف؛ بل الأمر فيها خَفِي، هذا نص عبارته.
والمذاهب فيها كما ذكرت لكم ثلاثة:
- فجمهور أهل السنة والحديث على أنَّ الرؤية للمؤمنين في عرصات القيامة.
- وقال طائفة (1) للمؤمنين والمنافقين، وممن ذهب إلى ذلك ابن خزيمة كما نصًّ عليه في كتاب التوحيد
- القول الثالث: أنَّ الرؤية للجميع، للمؤمنين والمنافقين والكفار.
واستدلوا على ذلك بأنَّ الكافر يُحْجَبْ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، قالوا: فكونه حُجِبَ يومئذ دلَّ على أنَّه قبل ذلك لم يكن محجوباً؛ لأنَّ الكلام في الآخرة، وأما في الدنيا فالكل محجوب عن رؤية الرب عز وجل.
وهذه الأقوال جَمَعَتْ النظر في الرؤية.
ويبقى أنَّ رؤية الرب عز وجل نوعان:
1 -
النوع الأول: رؤية إكرام ولذة ونعيم وإنعام وحبور وسرور، فهذه للمؤمنين في الجنة وللمؤمنين في عرصات القيامة، فهي من الطمأنينة لهم.
2 -
والنوع الثاني رؤية حساب وتقرير وتعريف، فهذه هي التي يمكن أن يقال: إنها مرادة في حديث المنافقين فيما ثبت في الصحيح (أنَّ الله عز وجل يأتي الأمة وفيه منافقوها، ثم يأتيهم في غير الصورة التي رأوها من قبل، ثم يأمرهم بالسجود فلا يسجدون، فيقولون نحن هنا حتى يأتي ربنا، ثم بعد ذلك يكشف الرب عن ساق، فيعرفونه فيسجد المؤمنون، ويبقى من لم يكن مخلصا في الدنيا يريد أن يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا)(2) فهذا يدل على أنّ هذه الرؤية رؤية تعريف ورؤية حساب وهذا النوع من الرؤية لا ينبغي أن يكون الخلاف فيه؛ لأنَّ الحديث دل عليه.
فإذاً الرؤية التي نقول: إنه أجمع أهل السنة على أنها للمؤمنين هي رؤية التنعم والتلذذ، وفي ضمن ذلك رؤية التعريف.
وأما رؤية الله عز وجل للتعريف والحساب فهذه كُلٌ يراه بحسب حاله والله أعلم بكيفية ذلك وتفسيره.
أما الكفار فعامة أهل العلم إلا من شذَّ وقلَّ يقولون إنَّ الكافر لا يرى الله عز وجل لا رؤية تعريف ولا رؤية تلذذ من باب أولى؛ لأنَّ الكافر محل العذاب والنكال.
وأجابوا عن استدلالهم بقوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، بأَّن هذا استدلال بالمفهوم، بمفهوم (يَوْمَئِذٍ) ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وهم محجوبون في الدنيا عن الرؤية وكذلك محجوبون في الآخرة عن الرؤية.
وكلمة (يَوْمَئِذٍ)، ليس لها مفهوم كما قال عز وجل {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وكما في قوله {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] ، وفي آيات كثيرة عُلِّقَتْ أشياء تحصل يوم القيامة بـ (يَوْمَئِذٍ) ، وقد يكون جنسها أو بعض أفرادها يحصل في الدنيا إما بالعموم أو بالخصوص.
المقصود من رد الاستدلال أنه كلمة (يَوْمَئِذٍ) ليس لها مفهوم، لا نفهم منه أنهم حُجِبُوا يومئذ فمعنى ذلك أنهم قبل ذلك يعني قبل الحجب يومئذ لم يكونوا محجوبين، بل كانوا محجوبين ثم صاروا محجوبين لكن توعَّدَهُم بين حالهم بقوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيم) ، فحُجِبوا ثم صاروا صالين للجحيم.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر.
(2)
البخاري (7439) / مسلم (472)
[المسألة الرابعة] :
مذاهب الناس في الرؤية متعددة، منها -يعني من خالف قول أهل السنة- أشهرها مذهبان:
1 -
المذهب الأول:
مذهب من منع الرؤية وتأَوَّلَ كل النصوص الواردة في ذلك: وهم المعتزلة، قبلهم الجهمية، والخوارج بعامة، والإمامية من الروافض؛ بل الروافض بعامة؛ لأنَّ الزيدية ينكرون الرؤية كقول المعتزلة.
وهذا القول له حججه واستدلالاته ستأتي.
2 -
المذهب الثاني:
مذهب من أثبت الرؤية ولكن قال: الرؤية ليست إلى جهة، وإنما تكون إدراكاً، وهذا هو قول الأشاعرة ومن نحا نحوهم.
فردُّوا قول المعتزلة في أنَّ الرؤية ممتنعة بإثباتها، ووافقوهم في أنَّ ليس على العرش رب وأنَّ الله سبحانه ليس في جهة - جهة العلو - فقالوا الرؤية لا إلى جهة.
وكيف تكون رؤيةً إذاً وليست إلى جهة؟
أما قول المعتزلة والخوارج، ويُشْهِرُ هذا القول في زمننا هذا طوائف الروافض والزيدية والإباضية من الخوارج ويستدلون له.
فمن أدلتهم:
1-
قوله عز وجل حينما سأل موسى عليه السلام الرؤية {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] ، إلى آخره، قالوا: وجه الاستدلال أنَّه نَفَى رؤية الله عز وجل، وموسى الكليم أحق الناس بالرؤية، والنفي بلن يفيد التأبيد.
*والجواب عن هذه الحجة التي أدلى بها أوائل المعتزلة من شابههم إلى يومنا هذا: أنَّ النفي بلن في اللغة لا يفيد التأبيد، وإنما يفيد النفي المجرد.
وأما من قال إنه يفيد التأبيد وهو الزمخشري في الكشاف وفي كتابه المفصل في النحو فإنه باطل، وردَّه ابن مالك في الكافية الشافية بقوله:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ****** فقوله اردد وسواه فاعضدا
وردَّهُ أيضا ابن هشام في أوضح المسالك قال: ولا تفيد تأبيد النفي خلافا لمن قاله.
ويدل على ذلك أنَّ الله عز وجل قال {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95] يعني الموت، فقال (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) فنَفَى بالتأبيد بكلمة (أَبَدًا) وباستعمال (لَنْ) نفى التمني، وأثبت أنهم يتمنونه يوم القيامة قال عز وجل {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يعني ليميتنا ربك قال (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) ، فدل على أنَّ نفيه بـ (لَنْ) وبكلمة (أَبَدًا) لم يفد التأبيد المستغرق للدنيا والآخرة معا.
فإذاً أفاد:
أولاً: أنَّ قوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا) أنه لَمَّا استعمل (أَبَدًا) دلَّ على أنَّ (لَنْ) لا تفيد التأبيد.
ثانياً: على أنَّ كلمة لن لَمْ تُفِدْ التأبيد؛ لأنهم تمنوا الموت في الآخرة، فدلت على أنها تفيد النفي في الدنيا.
2 -
ومن أدلتهم أنهم قالوا: إنَّ النظر في القرآن وفي اللغة يفيد الانتظار، وهو أصله، وليس أصل النظر الرؤية، فالآيات التي فيها ذكر النظر تفيد الانتظار.
فقوله عز وجل {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا} (1) يعني فهل ينتظرون وقوله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ؛ يعني منتظرة الفرج، ويستدلون عليه بقول الشاعر:
وجوهٌ يوم بدرٍ ناظراتٌ ****** إلى الرحمن يأتي بالفلاحِ
ناظرات إلى الرحمن، قالوا معناها منتظرات.
* وهذا القول في الاستدلال بمعنى النظر والإتيان عليه بهذا الشاهد اللغوي ليس على ما قالوا، وذلك أن اللغة فيها أفعال تختلف بالتعبير كثيرة جداً، فيكون للفعل معانٍ متعددة مختلفة بأنواع التعبير، ومنها فعل:
انْتَظَرَ ونَظَرَ، ومصدر ذلك واسم الفاعل ناظراً.
وتبيين ذلك أن يُقالَ -كما أوضحه الشارح وغيره من أهل اللغة- أَنَّ كلمة النظر وما اشْتُقَّ منها:
- تارَةً تتعدى بنفسها فيكون المعنى الانتظار؛ يعني تصل إلى المفعول بنفسها فيكون معناه الانتظار.
- وتارَةً تتعدى بـ (في) فيكون المعنى التفكر والاعتبار.
- وتارَةً تتعدى بـ (إلى) فيكون المعنى الرؤية، وقد يكون مع الرؤية الانتظار بحسب السياق، لكن لا يمكن أن تتعدى بـ (إلى) ويكون انتظاراً بلا رؤية، لا يمكن، ولم يأتِ في أي شاهد في لغة العرب ولا في القرآن ولا في السنة أنَّ النظر يتعدى بـ (إلى) ويكون معناه الانتظار المجرد من الرؤية،بل النظر إذا تَعَدَّى بـ (إلى) صار معناه الرؤية، وقد يكون على قِلَّةْ مع الرؤية الانتظار، وهذا له نظائر في اللغة يطول الكلام ببيانها.
فإذاً قوله عز وجل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، كونه عدّى اسم الفاعل (نَاظِرَةٌ) الذي يعمل عمل فعله عداه بـ (إِلَى) دل على أنَّ المراد الرؤية، وكونه أضاف النظر إلى الوجوه التي هي مكان الرؤية دلّ على أنَّ الرؤية تكون بآلة في هذا الوجه وهي العينان.
(1) فاطر:43، محمد:18.
3 -
من أدلتهم أيضا قوله عز وجل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، قالوا: فَنَفَى الإدراكَ، ونَفْيُ الإدراك مستلزم لانتفاء الرؤية.
& والجواب أنَّ هذا غلط كبير؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراك لا يستلزم انتفاء الرؤية، فإنَّه قد ترى الشيء ولا تدركه؛ يعني لا تحيط به، فهذه السماء نراها ولا أحد يشك في أنه يرى السماء، ولو قلت لأي أحد يرى السماء: هل تدرك السماء رؤية وتحيط بها؟
فسيكون جواب كل أحد: لا، يعني لا يدركها رؤية، وإنما يرى منها ما يمكنه أن يرى وكما قال عز وجل {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61-62] ووجه الدلالة أنَّهُ نفى الإدراك، ومع نَفْيِ الإدراك أثبت الله عز وجل الترائي وهو رؤية كل جمع لآخر فقال {فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ} هذا الجمع رأى الجمع وذاك الجمع رأى الجمع ومع ذلك {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فقال موسى (كَلَّا) يعني لن نُدْرَكْ يعني لن يُحاطَ بنا.
فنَفْيُ الإحاطة لا يستلزم أن تُنْفَى الرؤية؛ بل نَفْيُ الإحاطة يستلزم إثبات الرؤية نقيض ما قالوا، وهو الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية.
الوجه الثاني من الاستدلال عليهم بهذه الآية أنَّ نفي الإدراك ليس كمالاً، والقاعدة المعروفة أنَّ كل نفي في القرآن فكماله بإثبات ضده، فربنا عز وجل قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وذلك لكمال سعته سبحانه وتعالى وكمال علوه وكمال استغناه عن خلقه، إلى غير ذلك من أفراد صفات الجلال للرب عز وجل.
فلا يقال إنه لا يُدْرَك ويكون المراد كمالاً إلا وأَصْلُ ذلك ثابتاً، وهو أنه في محل من يُرَى أو في محل الرؤية.
مثال ذلك أنك لو قلتَ: إنني لم أر العقل، ولم أر الفهم، ولم أر القلب، ولم أر السمع، ولم أر الإبصار، وهكذا الصفات ولم أر الرحمة، ولم أر الرأفة، إلى آخرها، فإنَّ نفي هذه الرؤية ليس كمالاً في أنَّ هذه الأشياء تُرى، ولكنك عجزت.
لأنك متى ما قلت في شيء إنك تراه أو لا تدركه رؤيةً فإنما يكون كمالاً إذا كان في محل ما يمكن أن يُرَى.
أما الأشياء التي لا تُرَى أصلاً فإنه ليس من الكمال أن تَنْفِي الرؤية عنها.
فكونك تنفي الرؤية عن الرحمة لا يعد هذا كمالا في الرحمة، وإنما هكذا وُجِدَتْ، كونك تنفي الرؤية عن الإبصار والإدراك لا يدل على كمال فيها.
فإذاً دَلَّ نَفْيُ الإدراك عن الرب عز وجل أنَّ نَفْيَ الإدراك لأجل أنه عظيم عز وجل فإنه يُرَى، ولكنه لا يُدْرَكْ.
والإدراك ينقسم إلى قسمين:
- إدراكٌ بِرُؤْيَةٍ
- وإدراك بعلمه
والإدراك بعلم: نَفَاهُ الله عز وجل في قوله سبحانه {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] .
وإدراك الرؤية: نفاه الله عز وجل في هذه الآية.
وهذه الآية في إدراك الرؤية لا في إدراك العلم، دلَّ عليها قوله بعد النفي {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] .
فكونه سبحانه {يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يعني يراها، وخَصَّ الإدراك بإدراك الأبصار لأنَّ الأبصار هي محل نَفْيِ الإدراك السابق، فقال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] ، فلما قال {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} دَلَّنَا على أَنَّ المنفي هو إدراك الرؤية لا إدراك العلم.
والأدلة التي استدلوا بها متنوعة كثيرة، لا نُشْغِلُكُم بها معروفة وهذه المسألة من أطول المسائل التي فيها الكلام، لكن دائماً المؤمن أحق بالحجة من غيره، وفهم الحجة يكون بالأناة، تتأنى في فَهْمِ احتجاج أهل السنة، فإننا -ولله الحمد- بتجرد لا نعلم مسألة قال فيها أهل السنة قولاً واستندوا فيها إلى الأدلة، ويكون ثَمَّ فيها شبهة لا في الأصول -أصول صفات الرب عز وجل - ولا في الغيبيات بعامة؛ لأنَّ قولهم مُبَرَّأْ من الهوى، لا يدخلون متوهمين بأهوائهم ولا متأولين بآرائهم وقلوبهم، وإنما يثبتون ما ثبت في الكتاب والسنة، وإنما هم مستسلمون لنصوص الوحي، كما سيأتي إن شاء الله في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
من العجيب أنَّ الحجج عند المعتزلة يحتجون بما ذكرنا ويَرُدُّونَ حُجَجَ أهل السنة على حسب أقوالهم بتفسير النظر كما قلنا بأنها ناظرة يعني منتظرة، إلى آخر ما ذكرت لكم.
لكنهم إذا أتت السنة والأحاديث في تفسير الآيات وفي إثبات الرؤية وهي بالغة مبلغ التواتر فإنهم يشرحون ولا يستطيعون حتى الإبانة عن وجه ربها.
يعني أنهم يقلقون ولا يحسنون إبانةً ولا تَفْقَهُ لهم قولاً.
وقد سمعت كلام بعضهم، سمعته بأُذُنَيَ وقرأت كلام بعضهم أيضاً بعينيَّ فما أحسنوا جواباً ولا خَلَصُوا إلى قول يردُّونَ به الأدلة من السنة.
لهذا قال طائفة من المحققين من أهل السنة: إنَّ تأويل نصوص المعاد والبعث والقبر والصراط والجنة والنار ونحو ذلك - ما يحصل يعني في عرصات يوم القيامة وما يحصل في السماء- أسهل بكثير من تأويل آيات وأحاديث الرؤية؛ لأنها بلغت مبلغ التواتر وأُكِدَتْ بأنواعٍ من التأكيدات، وبُيِّنَتْ بأنواعٍ من البيان بما يقطع معه السامع أنَّ المراد بها ظاهرها على حقيقتها حتى عند قول من يجيز القول بالمجاز أو التأويل الذي ينحو إليه ألئك، فإنَّ هذه لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على غيرها بقطع.
فإذن الحجة فيها قوية وقاطعة وإنما هو الهوى، نسأل الله عز وجل السلامة والعافية، ولكن يجب على المؤمن الموحد أن يعلم الأدلة ووجه الحجة حتى يدلي بحجته في تلك المسائل.
أما قول الأشاعرة في المسألة وهو أنهم قالوا يُرَى إدراكاً لا إلى جهة فإنه عجيب.
فإنَّ قول المعتزلة في نفي الرؤية أقرب إلى العقل من قول الأشاعرة - يعني إلى عقل وفهم السامع - خلافاً لقول الشارح إنَّ قول الأشاعرة أقرب إلى العقل من قول من نفى.
بل الحقيقة العكس:
من نَفَى الرؤية لأنه لا يثبت العلو قال ما دام أننا لا نثبت العلو فالرؤية لا يمكن أن تكون إلا إلى جهة.
الإنسان كيف يرى؟
لابد إلى جهة يراه، أما يرى شيئاً ليس أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله وليس بأعلى منه ولا أسفل منه فكيف يراه؟ وأين يراه؟
لا شك أنَّ هذا العقل يرده.
ولهذا نقول قول الأشاعرة إنه يُرَى لا إلى جهة؛ يعني لا يُرَى في جهة العلو ويُرَى إدراكاً، فإنَّ هذا ولو كان إثباتاً للرؤية فهو غير مقبول عقلاً ولا مقبول سمعاً.
والواجب إثبات النصوص التي جاء فيها ذلك وإثبات ما دلت عليه من أنَّ الرؤية تكون على ما أخبر الله عز وجل، وأنَّ الله سبحانه يطَّلع إلى أهل الجنة وأنه يكشف الحجاب فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى الرب عز وجل، وأنه سبحانه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وأنَّ عرش الرحمن فوق الجنة؛ يعني سقف الجنة، وهكذا في أدلة كثيرة.
فمن نفى علو الرحمن عز وجل وقال هو –سبحانه- في كل مكان، فكيف يُقْبَلُ إثباته للرؤية؟
لاشك أنَّ قول الأشاعرة عجيب وليس لهم حجة من جهة سمعية ولا من جهة عقلية، إلا شيئاً واحداً وهو أنهم أبطلوا: نفي علو الله عز وجل؛ وأنّه سبحانه في كل مكان وفرَّعُوا عليه أنَّ الرؤية لمَّا جاءت بها الأدلة قالوا يُرَى لا إلى جهة وهذا باطل.