الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الخامسة] :
الإيمان بالملائكة تَبَعٌ للعلم، وكلما زَادَ العِلْمُ بالعقيدة وبالنصوص زَادَ الإيمان بالملائكة لمن وفَّقَهُ الله
عز وجل.
ولهذا نقول: الناس متفاوتون في إيمانهم بملائكة الله عز وجل وليسوا جميعاً سواء في ذلك، والتفاوت سَبَبُهُ تفاوت العلم، فكلما كان العلم أكثر كان الإيمان أكثر؛ لأنَّ الإيمان هنا معناه التصديق، فإذا عَلِمَ فَصَدَّقَ وآمَنَ جزمَاً فإنَّ إيمانه يزيد على غيره.
وهذا من أَوْجُهِ معنى زيادة الإيمان ونقصانه في مجموع خصال الإيمان.
لهذا نقول: الإيمان بالملائكة المستحب درجات كثيرة؛ السعي في البحث عن ذلك هذا من الإيمان المستحب، ثُمَّ إذا علم وَجَبَ عليه أن يؤمن.
وطلب العلم في هذا ومعرفته ومعرفة أحوال الملائكة وكيف يعبدون الله عز وجل ويخافونه وخوفهم من الله عز وجل وامتثالهم لأوامره ونحو ذلك، طلب ذلك والسعي فيه هذا من العلم المستحب، فإذا عَلِمَ شيئاً من ذلك وجب عليه الإيمان به؛ لأنَّ الحجة قامت عليه.
مِنَ المسائل أيضاً المتصلة بزيادة الإيمان بالملائكة وتفاوت الناس فيه أنَّ الإيمان بالملائكة له أَثَرٌ على العبد المؤمن.
وهذا الأثر تارَةً يرجع إلى التّوحيد والعلم، وتارَةً يرجِع إلى السلوك والعمل، وتارة يرجع إلى خصال الإيمان أو أركان الإيمان الأخرى.
الجهة الأولى التوحيد والعلم:
فإنَّهُ يعلم أنَّ الملائكة كما وصفهم الله عز وجل بأنهم عباد {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، وأنهم مع كونهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ؛ لكنهم يخافون الله عز وجل ويعبدونه عبادة دائمة، وخوفهم من الجليل عز وجل مع قربهم منه سبحانه وتعالى، وهذه فيها إبطال لدعوى من عَبَدْ الملائكة أو قال إنهم بنات الله كما وصف الله عز وجل قولهم بقوله {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] ، و {الْجِنَّةِ} هنا هم الملائكة في أحد الأقوال وأصح الأقوال، والنَّسَبْ يعني أَنَّ الملائكة بنات الله، وهذه جاء مُصَرَّحَاً بها في آيات كثيرة كما في قوله {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] ، وكذلك قوله {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] ، إلى آخر الآيات في هذا.
المقصود أنَّ في الإيمان بالملائكة إبطال لدعوى كل من عَبَدَ غير الله عز وجل؛ لأنهم يعبدون غير الله عز وجل إما في ظَنِّهِمْ أنهم عبدوا الملائكة وهم يعبدون الجن أو عبدوا الأشجار والأوثان وهم يعبدون في الحقيقة أهواءهم والجن سيطرت عليهم، فكلُّ عبادة تَوَجَّهَت إلى غير الله عز وجل فإنّ الإيمان بالملائكة ومعرفة ما عليه الملائكة يدل على بطلان تلك العبادة.
ولهذا ذكر الله عز وجل في آخر سورة سبأ إشارَةً إلى هذا الأصل الذي يحتاج بيانه إلى تفصيل لقوله عز وجل {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبإ:40-41] ، وهذا يعم جميع أنواع عبادة غير الله عز وجل.
كذلك في توحيد الله عز وجل في خصال العبادة من الخوف والمحبة وإتباع الأمر والنهي هذه كلها الإيمان بالملائكة ومعرفة أحوال الملائكة تزيد العبد معرفةً بخصال التوحيد؛ لأنَّ أهل السماء الذي هم ملائكة الله عز وجل كاملو توحيد الله عز وجل واتِّباعِهِمْ لأمره ونهيه سبحانه وتعالى.
الجهة الثانية وهي جهة السلوك والعمل:
فللإيمان بالملائكة أثر، وذلك أنَّ الملائكة لمن آمن بهم على وجه التفصيل فإنَّهُ يعلم أنَّ ثَمَّ ملائكة يكتبون ما يصدر من الإنسان كما قال سبحانه {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11-12] فكونهم يكتبون، وكذلك {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، هذا يجعل إحسانه للعمل ومراقبته لربه في لفظه وفي عمله أعظم لأنه يعلم أنه معه قرين يلازمه لا ينفكّ عن كتابة شيء.
ولذلك يُحْسِنُ قوله ويُحْسِنُ عمله ما استطاع، وإذا أذْنَبَ فإنه يستغفر وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً؛ لأنّ الملائكة تكتب هذا وهذا و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] .
الجهة الثالثة وهي أَنَّ الإيمان بالملائكة له أثر في أركان الإيمان الأخرى:
فإنَّ الملائكة لمن آمن بهم عَلِمْ أَنَّ منهم المُوَكَلْ بالوحي، وجبريل عليه السلام هو المُوَكَلْ بالوحي.
وهذا الوحي ما هو؟
هو كُتُبُ الله عز وجل ووحيه على أنبيائه، فصار ثَمَّ صلة بين الإيمان بالملائكة والأنبياء، الإيمان بالملائكة والكتب.
ولهذا المعنى جَمَعَ الطحاوي-فيما يظهر لي- بين هذه الثلاثة في هذا الموضع لأنَّ كل واحدة منها تدل على الأخريتين البقيتين، الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة، وكل واحدة تدل على البقية.
ومن ثمرات الإيمان بالملائكة الإيمان بالكتب، ومن ثمرات الإيمان بالكتب الإيمان بالأنبياء وإلى آخره، فهذه كلها متصلة جميعاً.
من الملائكة من هو مُوَكَلْ -وهو إسرافيل- مُوَكَلْ بالبعث يعني بالنفخ في الصور، منهم الموكل بالموت إلى آخره، هذا يرجع إلى الإيمان باليوم الآخر.
ميكائيل مُوَكَلْ بالقطر وهذا يرجع إلى الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
منهم الموكل بالأجنة {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آلأ عمران:6] يأتي ملك فيقول: يا ربي أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد أمريض أم سليم؟
فيقضي الله ما يشاء ويكتب الملك، فإذاً لها صلة بالقَدَرْ.
فلهذا نقول: إنَّ الإيمان بالملائكة صار من أركان الإيمان:
- لكثرة الأدلة الدالة على ذلك.
- ولأن الإيمان بالملائكة يدل على الإيمان بجميع الأركان الأخرى.
لهذا صار الإيمان بالملائكة بعد الإيمان بالله مُبَاشَرَةً.
الإيمان بالله هذا يدل على الجميع، والإيمان بالملائكة يدل على الجميع.
وكذلك الإيمان بالكتب يدل على الجميع، والإيمان بالرسل يدل على البقية، والإيمان باليوم الآخر يدل على الإيمان بالقدر.
هذه كلمات مختصرة حول الإيمان بالملائكة؛ لكن الموضوع طويل ومهم ولابد أن تطَّلِعُوا عليه بتوسع في بعض الكتب التي ذكرت لكم، خاصة كتاب الدكتور الأشقر فإنه مفيد جداً في هذا الباب.
هناك مسألة تَطَرَّقْ إليها الشارح وهي مسألة المفاضلة بين الملائكة والأنبياء.
والشارح قال: كان الأَوْلَى أن لا أدخل فيها.
شيخ الإسلام قال: كنتُ أظُنُّ أَنَّ البحث فيها، أنَّ المسألة من المسائل المبتدعة -يعني التفضيل- حتى رأيت البحث فيها سُنِّياً أثرياً ومع ذلك فإني لا أحب الخوض في هذه المسألة؛ لأنه لا يندرج تحتها عمل.
ومن أراد الإطلاع ينظر في الفتاوى في بحث في نحو أربعين صفحة أو أكثر في هذه المسألة.
لكنّ الذي يهمّ طالب العلم في العقيدة السلفية أن لا يُقِرْ من قال بتفضيل الملائكة مُطْلَقَاً، فهذا القَدْرْ مهم أن لا يُقِرِّ بِهِ، إما أن يُسْكَتْ عنها، وإما أن يقال فيها بقول جمهور أهل السنة وهو بتفضيل الأنبياء وصالح المؤمنين على الملائكة، وأما الخوض في الزيادة والأدلة والتفصيل والردود هذا من العلم الذي يُترك لعدم الحاجة إليه الآن.
نكتفي بهذا القدر، ونلتقي إن شاء الله الأسبوع القادم بارك الله فيكم، وفقني وإياكم إلى ما فيه رضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.