الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسئلة:
س1/
…
ج/ الله جعل المؤمنين شهداء على الكفار، فالإشهاد قائم، أنا مُشْهَدٌ على كل مخالف للرسالة، مُشْهَدٌ على كل مخالف لدليل الوحدانية، كل مؤمن لما كان مؤمناً مستسلماً للرسالة هو مُشْهَدٌ على غيره، مُشْهَدٌ على المخالف، فهو إشهاد، {وَأَشْهَدَهُمْ} يعني جعل بعضهم شهيدا على بعض، لذلك يوم القيامة سمى الشهداء يشهدون.
س2/ بعض أهل العلم يستشهد بقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} يعني على أنَّ الذي يفعل الشرك ولو كان جاهلاً فإنه يكون مشركاً لهذه الآية، قال فإنه قد أُخذ عليه الميثاق إذ هو عالم، فما تعليقكم؟
ج/ هذا هو الذي بحثنا الكلام عليه، هذا قول ليس بصحيح، وهو مخالف لظاهر الآية، وسبب الاشتباه هو الذي ذكرنا أنه الربط ما بينه وبين الميثاق يعني هذا، هو أخذ الألفاظ على مسألة الميثاق.
س3/ هل هناك ميثاق أول وميثاق غيره أم هو ميثاق واحد؟
ج/ ثَمَّ ميثاق سابق هو الذي نؤمن به الذي جاءت به الأحاديث وهو أنَّ الله استخرج ذرية آدم من ظهره؛ لكن إيش معنى هذا الميثاق؟
الله أعلم بحقيقته، ثُمَّ هناك عهود مؤكدة لكل فئة من بني آدم؛ فآدم أُخِذَ عليه عهد موثق لطاعة الله ?، كذلك ذرية آدم القريبين، كل رسول أُخذ عليه ميثاق، وأخذت على أمته المواثيق بأن تطيع وهكذا؛ يعني هذه مواثيق لفظية وعهود بما أنزل الله ? من الكتب وبعث من الرسل.
س4/ كيف يكون أهل الفِرَقِ متّفقين على الميثاق، وهناك من الفِرَقِ من يأخذ بالقرآن فقط، والقرآن لم يأتِ بالميثاق؟
ج/ هل هناك من الفِرَقْ من يأخذ بالقرآن فقط؟ يعني من الفِرَقِ القديمة، هل فيه أحد؟ أنا ما أعرف؛ يعني من الذي يأخذ بالقرآن فقط؟
أنا ودي أستفيد؛ لأنَّ الخوارج يأخذون بالقرآن والسنة، الرافضة بالقرآن والسنة، المعتزلة القرآن والسنة، المرجئة، القدرية، كلهم يأخذون بالقرآن والسنة، لكن السّنة يحتجون في العقائد بالمتواتر لا بالآحاد، الآحاد مقبولة عندهم لكنها تفيد الظن لا العلم، على تفصيل الكلام المعروف لديكم في هذا.
س5/ أورد الألباني -حفظه الله- الأحاديث في المسألة في السّلسلة الصحيحة، وقد جمعها وحقَّقَهَا وبَيَّنَ الصحيح منها.
ج/ أنا ما أدري عن بحث الشيخ ناصر؛ لكن المسألة تحتاج إلى نظر فيما قال لأنها راجعة إلى نَظَرٍ في المتن ونَظَرٍ في الإسناد، النظر في الإسناد غير النظر في المتن، النظر في المتن يحتاج إلى معرفة تفاسير الآية وأن لا يَحْمِلْ الآية على الأحاديث، يعني لابد من مراجعة البحث حتى نشوف إيش وصل إليه.
س6/ اتضح عدم دخول الآية في الميثاق فما معنى الميثاق الذي ذكره أهل العلم؟
ج/ معنى الميثاق هو العهد لكن إيش هذا العهد؟ إيش حقيقته؟
قال العلماء: معناه الفطرة؛ الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
فإذاً مسألة الميثاق ما فيه شيء غريب، هو الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة) ، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ؛ يعني جَعَلَهُم مفطورون عليها لما أخَذَ الميثاق.
فإذاً مسألة الميثاق -يعني العهد- لما استخرجت الذرية معناه الفطرة السابقة وهكذا، يعني الميثاق ما فيه شيء جديد، الميثاق ليس فيه شيء جديد عن غيره ولا يتميز بشيء.
س7/ هل الإشكال بين الآية والأحاديث جاء من قوله تعالى {إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا} [الأعراف:173] ؟
ج/ لا، هذه ما لها علاقة؛ لأنَّ الآية قال {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني لئلا تقولوا يوم القيامة، أقام الله هذه الدلائل بالربوبية وأقام دلائل الوحدانية لئلا تقولوا يوم القيامة أو تحتجوا بالغفلة، ولئلا تحتجوا بالتقليد، {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:173] فلا تحتجوا بالغفلة ولا تحتجوا بالتقليد، فثمَّ فِطْرَة مَرْكُوزَة ورُسُل أُرسِلَتْ إليكم تدلكم بهذه الفطرة المركوزة على حق الله أ، فليس ثَمَّ إذاً حجة لأولئك، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة وأبان المحجة، ولله الحمد والمنة.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
بسم الله، نحمد الله جل جلاله على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي لا تعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيداً:
فبين يدي هذا الدرس نجيب عن بعض الأسئلة.
الأسئلة:
س1/ هل يجوز الدعاء بهذه الصيغة: أسأل الله أن يوفقك إن شاء الله؟
ج/ الدعاء الأصل فيه أن يكون المرء إذا دعا عازماً في المسألة غير متردد، ظانّا بالله ? الظن الحسن؛ وهو أنَّه يجيب الدعاء ولا يرد العبد، وكلّما قوي يقين العبد بإجابة الدعاء كلما كان هذا من أسباب الإجابة.
وتعليق الدعاء أو السؤال بالمشيئة يخالف عزم المسألة، ولهذا لما قال رجل (اللهم اغفر لي إن شئت) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت. وليعزم المسألة فإن الله لا مُكره له» (1) فتعليق الدعاء بالمشيئة الأصل فيه أنه خلاف أدب الدعاء، والله ـ لا مكره له على إجابة الدعاء حتى تُعَلِّقَهُ بالمشيئة.
لكن إن كان تعليقه المشيئة ليس المقصود به التعليق، إنما المقصود به التبرك فهذا لا بأس به.
وبعض أهل العلم يرى أنَّ قوله (إن شاء الله) في مثل هذا لا بأس به؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لَّما زار رجلا! وهو مصابا بالحمى فقال له «طهورٌ إن شاء الله» (2) ، فأجاب الرجل بجواب سيئ، المقصود أنه يُسْتَدَلُّ بقوله «طهور إن شاء الله» على أنَّه لا بأس أن يُعَلَقَ الدعاء بالمشيئة.
والأول هو الأوْلى، وللمسألة مزيد تفصيل لا يناسب هذه الأجوبة المختصرة.
س2/ هل يصحّ أن يُطْلَقَ على المسلم بأنه هالك إذا مات؟
ج/ إذا كان الهلاك بمعنى الموت فلا بأس، إذا كان إطلاق الهلاك بمعنى الموت فلا بأس، أما إذا قال إنّ فلاناً هلك ويعني به أنه آل به الأمر إلى عذاب أو نحو ذلك، فهذا لا يُجْزَمْ لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار ولا بعذاب ولا برحمة إلا من شهِد له الله أبذلك أو نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولهذا مما درج عليه العلماء في تدريس علم الفرائض أنهم إذا ذكروا قسمة المسائل يقولون هلك هالك عن، ثُمَّ يذكرون الوَرَثة.
نكتفي بهذا، نعم اقرأ
(1) البخاري (6339) / مسلم (6988) / أبو داود (1483) / الترمذي (3497) / ابن ماجه (3854)
(2)
البخاري (3616)
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ.
هذه الجُمل من هذه العقيدة المباركة شروعٌ من الطحاوي رحمه الله في مسألة القَدَرْ.
ومسألة القَدَرْ والبحث فيها من المسائل العظيمة جداً؛ لأنَّ الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة وبين المخالفين كثير ومتنوّع.
والطّحاوي لم يُرَتِّب الكلام على مسألة القَدَرْ ولم يتناوله تناولا منهجيا واضحا بيِّناً بل فرَّقَهُ وذَكَرَ جُمَلاً منه، ولهذا فإننا سنذكر إن شاء الله تعالى كل ما يتصل ببحث القدر في هذا الموضع إنْ اتسع له الوقت، ونُحيل فيما نستقبل على هذا الموضع الذي نأتيه عند قوله (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ) .
قال (وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ الْعَدَدُ وَلَا يُنْقُصُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ.)
هذه الجملة أخذها انتزاعاً من عدد من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتلك الأحاديث متنوعة وثابتة في أَنَّ الله جل جلاله خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وعَلِمَ ما هم عاملون، وأنَّ الله سبحانه قَبَضَ قَبْضَةً إلى النار وقبض قبضة إلى الجنة، وأنّ الله سبحانه لما استخرج ذرية آدم من ظهره قال (هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار) فلا يُزاد من ذلك العدد ولا يُنقَصْ، والأحاديث في هذا كثيرة متنوعة.
لكن المراد من ذلك هو ذِكْرُ أعظم مراتب الإيمان بالقدر ألا وهي مرتبة العلم.
حيث ذَكَرَ أنَّ الله سبحانه عَلِمَ عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار، وكذلك عَلِمَ أفعالهم.
(فعَلِمَ العدد) : يعني عَلِمَ الأفراد وعَلِمَ الأعمال.
والأعمال يدخل فيها القول والعمل والاعتقاد والأحوال جميعا، من جميع تصرفات أصحاب الجنة وأصحاب النار.
وهذا فيه إجمال لذكر هذه المرتبة العظيمة وهي مرتبة العلم.
قال بعدها (وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)
هذه الجملة ثبتت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم «اعْمَلُوا فكُلٌّ مُيَسرٌ لما خُلِقَ لَه» (1) يعني بذلك قول الله عز وجل {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] .
ومعنى (كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) أنَّ الله عز وجل خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء أهل السَّعَادة سَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة، خَلَقَ النار وخَلَقَ لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، فهؤلاء سَيُيَسَّرُونَ للعسرى؛ لعمل أهل الشّقاوة.
وقوله (كُلٌّ مُيَسَّرٌ) لا تفيد الجَبْرْ؛ وإنما يعني أنَّ الله سبحانه علِمَ أنّ هؤلاء سيعملون بعمل أهل النار وكَتَبهُمْ من أهل النار، وأنهم لِمَا في نفوسهم من الخُبْثْ سيكونون من أهل النار، فسيتركهم الله عز وجل لأنفسهم؛ يعني سيخْذُلُهُمْ، فإذا خذلهم يُسِّر لهم سبيل الضلال.
يعني أنَّ التيسير لأهل الجنة فيه زيادة فضل والتيسير لأهل النار فيه سلب الفضل.
وهذا يعني أنْ لا جَبْرَ، وأَنَّ الجميع مُعامَلُون بعدل الله عز وجل، وأنَّ أهل الجنة عاملهم الله سبحانه وتعالى زيادة على عدله بأن منحهم فضلاً ويَسَّرَ لهم وأعانهم على الخير.
قال (وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ)
الأعمال بالخواتيم يعني بذلك ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «فإنّ أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلُها، وإنّ أحدهم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (2) لهذا كان كثير من السلف إذا ذَكَرُوا الخاتمة بَكَوا كثيراً، وقال بعضهم (قلوب الأبرار مُعَلَّقَةٌ بالخواتيم يقولون بماذا يُختَمُ لنا؟)(3)
وهذا التعلق بالخواتيم، وهذا الإيمان بهذا النوع من القدر، يجعل العبد المؤمن صاحب يَقَظَة وحرص على إيمانه؛ لأنّ الله سبحانه لا يظلم النّاس شيئاً، والعبد يُيَسَر لعمل أهل الشقاوة إذا اختار هذا الطّريق، فإذا جاهد نفسه فإنّ الله سبحانه أعظم فَضْلَاً ومِنَّةً وكرماً، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ، وقال سبحانه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] .
[.....] .
يعني مدافعة نوازع الباطن في النفس.
قال (وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ)
يعني أنَّ السّعيد هو من جعله الله سعيداً إذْ قَضَى عليه أنْ يكون من المخلوقين، وهذا يُشير به إلى حديث (نفخ الروح وأنَّ الملك يأتي إلى الجنين ويقول: يا ربي شقي أو سعيد؟ ويؤمر بكَتْب أربع كلمات، بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) (4) .
وهنا في قوله (بِقَضَاءِ اللَّهِ) ، (مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) يعني به القدر.
وهذا على أحد الوجهين أو أحد القولين في أنَّ القضاء والقدر بمعنى واحد، وسيأتي تفصيل لهذه الجملة والفرق بين القضاء والقدر.
وهذا أيضا هو معنى قوله (وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللَّهِ) .
ولهذا نقول: إنَّ هذه الجملة فيها تقريرٌ لمرتبة العلم، والكلام على هذه المرتبة يمكن أن نرتّبه لك في مسائل:
_________
(1)
سبق ذكره (215)
(2)
سبق ذكره (211) في قوله صلى الله عليه وسلم (لا هو في النار)
(3)
شعب الإيمان (866) / حلية الأولياء (10/121) / تاريخ دمشق (20/191)
(4)
البخاري (3208) / مسلم (6893) / أبو داود (4708) / ابن ماجه (76)
[المسألة الأولى] :
أنَّ عِلْمَ الله جل وعلا كما ذكر (عَلِمَ اللَّه فِيمَا لَمْ يَزَلْ) يعني أنَّ عِلْمَ الله أزلي وأبدي، وأنَّ عِلْمَهُ سبحانه أوّل، وهذه كلّها بمعنى واحد.
[المسألة الثانية] :
أنّ عِلْمَ الله جل جلاله من حيث هو صِفَةٌ له سبحانه مُتَعَلِّقٌ بكل شيء، كما قال سبحانه {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] ، وقال {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال أيضاً أ {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] وقال سبحانه {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ، ونحو ذلك من الآيات.
فعِلْمُ الله أمتعلق بكل شيء، وكلمة (بِكُلِّ شَيْءٍ) هذه فيها شمول للأشياء.
والشيء يُعرَّف بأنه ما يصح أن يُعلَمَ أو ما يصح أن يَؤُولَ إلى أن يُعْلَمْ.
فإذاً ما سيقع سواءً كان من جليل الأمر أو من حقيره هذا سَيَؤُولُ إلى العلم، وأيضاً يصح أن يُعلم ويصح أن يؤول إلى العلم ما لم يقع.
لهذا نقول: إنَّ علم الله جل جلاله بالأشياء شامل، وأنَّ عِلْمَ الله ? بالأشياء أَوَّلْ؛ لكن بَدَأَ حيث أراد الله ? أن يوجَد ذلك الشّيء، أو أن يكون الأمر على هذا النّحو، أو أن لا يكون هذا الأمر.
يعني أنّ الله ـ عَلِمَ أحوال الأشياء على التفصيل وعلى الإجمال لَمَّا أراد خلقها وإيجادها ـ.
والله سبحانه يعلم تلك الأشياء على ما هي عليه، وعِلْمُهُ بها أوَّل، وإذا قلنا إنَّ علمه ـ بها شامل وأنه ? عَلِمَ تلك الأشياء إذْ تَوَجَّهَتْ الإرادة إليها فإنَّ ذلك العلم لم يسبقه جهالة.
وهذه من أصول المسائل أيضاً؛ لأنّ عِلْمَ الله جل جلاله لم يسبقه جهالة، وهذه تنفعك في البحث مع القدرية؛ نفاة العلم.] (1)
وقولنا: لم يسبقه جهالة؛ يعني لا في الأزل، فإذا قلنا: عَلِمْ، ليس معناه أنه قبل ذلك كان جاهلاً بهذا الشيء، لم؟
لأنه لم يكن شيئاً إلا لمَّا تَوَجَّهَت الإرادة إليه، فلما توجهت الإرادة إليه بأنه يكون أو لا يكون أو إذا كان كيف يكون فإنه سبحانه عِلْمُه بذلك سابق.
فإذاً عِلْمَ الله ? لم يسبقه جهالة، لا حين توجه إلى الإرادة ولا حين وقع مشيئةً كونيةَ.
والإرادة في قولنا: توجّهت إليه الإرادة، ليست هي الإرادة الكونية المتعلقة -يعني التي تعرفونها التي هي المشيئة، إذا تعلقت بشيء كان- وإنما هي إرادة القدر؛ يعني تقدير الأشياء بأنَّ هذا سيكون أو لا يكون وأن هذا سيخلقه الله أو لا يخلقه الله؛ يعني الإرادة المرتبطة بالحكمة والتقدير في إيقاع الأشياء في أوقاتها.
(1) قال الشيخ صالح إجابة عن سؤال وجه إليه في الدرس الحادي والعشرون: هذه كلمة أردت بها التوضيح، وأشكلت على كثير من الإخوان، وهي سليمة في نفسها صحيحة؛ لكن لأجل عدم الاستيعاب أتركوها، وهي للإيضاح ليست للاعتقاد، هي للإيضاح، كلمة للإيضاح فاحذفوها من كتاباتكم، وإن أمكن أيضا من التسجيل لئلا يوقع الناس في اللَّبس.
[المسألة الثالثة] :
أنَّ مرتبة العلم من أنْكَرَهَا كفر، ومراتب القدر أربعة كما تعلمون:
- أولها العلم.
- ثم الكتابة.
- ثم عموم المشيئة.
- ثم عموم خلق الله ? للأشياء.
والمرتبة الأولى وهي العلم من أنْكَرَهَا كَفَر.
وعِلْمُ الله ـ -كما ذكر لك الطحاوي- أنه عَلِمَ أهل الجنة وعَلِمَ أهل النار؛ يعني عَلِمَ حال المكلفين وعددهم وصفاتهم، وعَلِمَ أيضاً أعمالهم، هذا القدر المتعلق بالمكلَّفين.
وأيضا علم الله ? بكل شيء حتى بغير المكلفين على التفصيل.
[المسألة الرابعة] :
أنَّ المنكرين للعلم -علم الله عز وجل السابق- خَرَجُوا في زمن ابن عمر رضي الله عنه، فقال ابن عمر في حقهم لمن سأله (أعلمهم أني منهم بريء) وذكر حديث الإيمان -يعني حديث جبريل الطويل المعروف، وفيه من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره-.
وهؤلاء كانوا يقولون إنّ الله عز وجل لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها؛ يعني أنّ الأمر أُنُفْ مُستَأْنَفَ يقع ثم يُعْلَمْ.
وشبهتهم -شبهة القدرية هؤلاء- أنهم قالوا: إنّ الله سبحانه عَلَّقَ أشياء في القرآن بالعلم الذي ظاهره أنَّه لم يكن قبل ذلك عالماً، وذلك من مثل قوله ? {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] ، وهذا فيه تعليق الأمر بعلمٍ سيحصل، قال {إِلَّا لِنَعْلَمَ} يعني أنه قبل ذلك -يعني كما يقولون- لم يكن يعلم من سيتّبع ممن سينقلب على عقبيه.
وهذا الإيراد في الاستدلال بالآية هو استدلال بالمتشابه وتركٌ للمحكمات.
ولهذا يُرَدُّ عليهم هذا الاستدلال بأنَّ هذه الآية تُفهَمْ مع الآيات الأُخَرْ التي فيها عِلْمُ الله ? بكل شيء، حتى قبل وقوع الأشياء كما قال سبحانه {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وكما ذكرتُ لك أنَّ الشيء يُعَرَّف بأنه ما يؤول إلى العلم؛ ما يصح أن يُعْلَمْ أو يؤول إلى العلم.
وكذلك يُسْتَدَلُّ عليهم بقوله {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23] والأحاديث الكثيرة التي فيها عِلْمُ الله ? بأهل الجنة، وعِلْمُ الله ? بأهل النار، وعلمه بعمل العاملين، ونحو ذلك قبل خلق الخلق.
ويُستَدَلُّ أيضاً عليهم بقوله سبحانه {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} ، وبقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32] ، والآيات في ذلك كثيرة التي فيها ذكر العلم بلفظ {كَانَ} ؛ {كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
إذاً يكون الرد على القدرية من وجهين: (1)
1-
الوجه الأول: هو أنَّ ذلك اتِّبَاع للمتشابه وترك للمحكم وذكرنا المُحْكَمَات.
2-
الوجه الثاني: أنَّ معنى الآية {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] ومعنى قوله تعالى {وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} ، وقوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال:66] ، ونحو ذلك هو ظهور علم الله عز وجل؛ لأنَّ علم الله سبحانه وتعالى خَفِيْ، ولا يُحَاسِب العبد إلا على ما ظهر من علم الله عز وجل المتعلق بالعبد، وإلا فلو أُنِيط ذلك بعلم الله الباطن دون ظهور الشيء في الواقع المتعلق بالمكلف لكان للمكلف حجة في رد التكليف.
ولهذا الآيات التي فيها ذِكْرُ العِلْمْ اللاحق أو ما سيأتي المقصود منه ظهور العلم.
(العلم الذي سيأتي) يعني العلم الذي سيظهر.
أما علم الله عز وجل المشتمل على ما خَفِيَ وما ظَهَرَ، أو عِلْمُ الله السّابق واللاّحق فهذا [.....] بعلم الله عز وجل للأشياء الذي هو مرتبة من مراتب القدر.
فإذاً في قوله {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} يعني إلا ليظهر علمنا في المكلفين، فيظهر علمنا فيمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه، حتى تكون حجة على هذا العبد.
كذلك {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} هذا مرتبط بالتّشريع.
وعِلْمُ الله عز وجل الشّامل -يعني الظاهر والباطن- هذا متّصف الله عز وجل به؛ لكن لا يكون معه التّدرج في التشريع.
فالله سبحانه وتعالى جعل العبد المؤمن يقاتل عشرة، ثم ظَهَرَ عِلْمُهُ فيهم أنهم ضعفاء فخفّف، فالتخفيف إذاً مسألة شرعية لما ظَهَرَ عِلْمُ الله الباطن بحالهم فهنا شَرَعَ لهم التّخفيف.
وهذا يعني أنّ الآيات هذه تدل على ظهور علم الله عز وجل.
وظهور علم الله عز وجل فيهم مُناط بأمرين:
1-
الأمر الأول: أن تنقطع الحجة من العبد على التكليف والحساب.
2-
الأمر الثاني: أن يُشَرَّع وتظهر الشريعة أو تُسن الأحكام.
وهؤلاء القدرية هم الذين قال فيهم السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أنكروه كفروا وإن أقرّوا به خُصِمُوا) .
والقدرية هؤلاء سُمُّوا قَدَرِيَّة لأنهم ينفون القَدَرْ.
ونفي القَدَرْ قد يتوجه إلى نفي مرتبة من مراتبه، أو إلى نفي أكثر من مرتبة.
فَمِمَّنْ نفى أكبر المراتب وأعظمها وهي العلم، هؤلاء هم القدرية الأوائل الذين يقال لهم القدرية الغلاة.
ومن هؤلاء -يعني من القدرية- الذين ينفون مرتبة عموم الخلق كالمعتزلة.
والقدرية في ذلك مراتب، وقد لخَّصَ شيخ الإسلام أصناف القدرية بقوله في تائيته القدرية:
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُرَّاً معشر القدرية
سواء نفوا أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا في للشريعة
يعني أنَّ أعظم تلك الفرق التي تُدْعَى القدرية، الذين ينفون القدر، وهم الغلاة نفاة العلم أو المتوسّطون وهم المعتزلة ومن شابههم.
(1) الرد على القدرية لم يذكره الشيخ في هذا الشريط وإنما ذكره إجابة لسؤالٍ في الشريط 17، ثم نبَّهَ الشيخ إلى أنَّه نسي ذكرها في الرد على القدرية، لذا قمت بوضعه في هذا الموضع.
[المسألة الخامسة] :
أنّ عِلْمَ الله عز وجل شامل لكل شيء، هذا يفيد المؤمن في إيمانه بالقدر، وهو أنه سبحانه عَلِمْ الأشياء، وعَلِمَ حال العبد، وعَلِمَ ما ستكون عليه هذه الأمور جميعاً من دقائقها وتفاصيلها وإجمالها.
وهذا يعني أنه ليس ثمَّ شيء يقع على وجه الصدفة بلا ترتيب سابق ولا تقدير سابق.
فإذا كان الله عَلِمْ فإنَّ معنى ذلك أنه سبحانه جعل هذا الذي عَلِمَ أنَّهُ سيقع على وفق ما يشاؤه، على وفق الحكمة البالغة؛ لأنَّ الرب المتصرف ذا الملكوت لا يقع في ملكه إلا ما يشاء أن يقع، فإذا كان عَلِمْ وأيقن العبدُ هذا العلم الشامل الكامل فإنه يوقن بعده بالحكمة العظيمة.
ولهذا مسألة الحكمة من وجود الأشياء مرتبطة بالقدر عِلْماً ونفياً:
- فحكمتة ـ مرتبطة بالقدر علماً؛ لأنَّ الله ـ عليم؛ ولأنه سبحانه ما شاء كان.
- ومرتبطة بالقدر نفياً في أنَّ الخوض في الحكمة خوضٌ في القدر.
ولهذا قال الطحاوي في آخر كلامه (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ)
وقال في آخرها أيضا (فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ) إلى أن قال (1)
: [[الشريط السابع عشر]] :
(فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ) ، وهذه هي التي يُشكِلُ على البعض كيف دَخَلَتْ في القدر، وهي مسألة الحكمة.
إذا قال المرء لم حصل كذا؟ ولم قُدِّرَ كذا؟ أو لم صار الأمر على هذا النحو؟ لم صار هذا غنياً وهذا فقيراً؟ ولم صار هذا مريضاً وصار ذاك صحيحاً؟
كيف انتقل هذا السؤال في القَدَرْ وصار المتشكك من القدرية؟
لأنَّ المتشكك ينفي الحكمة، ولو أيقن بعموم العلم وعموم المشيئة لأيقن بحكمة الله عز وجل الماضية، وأنَّهُ لا شيء يقع إلا والله سبحانه وتعالى عَلِمَهُ قبل أن يقع وأَرَادَهُ كَونَاً وشَاءَهُ، وهذا يعني أنه لن يقع إلا على وفق حكمة الله جل جلاله، فلهذا صار السائل في مسائل القدر بـ: لم؟ مُعَارضِاً للقدر.
ولهذا قال لك ابن تيمية في البيت الذي ذكرته لك آنفا (أو ماروا في الشريعة) يعني أنَّ القدرية منهم من يُمَارِي في الشريعة، يماري يعني يشكك ويجادل ويسأل وكذلك قال بعدها:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ
فإنَّهمُو لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
فأهل الجاهلية عارَضُوا الشريعة بـ: لم؟ والمتشككون عارَضُوا أفعال الله عز وجل بـ: لم؟
إذاً فمِن أعظم مراتب الإيمان بالقدر، الإيمانُ بعلم الله عز وجل الشامل للأشياء، الشامل لكل شيء.
فإذا أيقن العبد بهذا، بعموم العلم، وعَلِمَ معنى ذلك، أيقن أيضاً بحكمة الله عز وجل واستسلم لقدر الله ولم يخض فيه بالسؤال؛ لأنَّ القدر سر وهو مرتبط بعلم الله عز وجل.
يوضّح لك ذلك أنَّ الله جل جلاله قصَّ علينا في القرآن قصة الخَضِرْ مع موسى عليه السلام أو عليهما السلام.
فالخَضِرْ مع موسى اختلفا واعترض موسى على الخَضِرْ، وسبب الاعتراض عدم العلم، لمَّا كان موسى في تلك المسائل أنْقَصَ علماً من الخَضِرْ واعْتَرَضَ حُجِبَ عن علمٍ زائد.
ولذلك صار السؤال -سؤال الاعتراض- مُرْتَبِطَاً بالعلم، فإذا كان الخَضِرْ أعلم من موسى، وموسى حُجِبَ بالسؤال فدلَّ على أنَّ السؤال في أفعال الله أو السؤال في قدر الله أو السؤال في تصرفات خلق الله عز وجل أنَّ هذا اعتراض على العلم.
وإذا كان الله عز وجل هو العليم بكل شيء فإنَّهُ لا يجوز للعبد أن يعترض على علمه وعلى حكمته بـ: لم؟
لهذا قال في آخر الكلام هنا (فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني قوله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] .
هذه بعض المسائل في كلامه على مرتبة العلم.
(1) انتهى الشريط السادس عشر.
[ثم قال (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ) ]
يعني أنَّ القَدَرْ -وهو تقدير الأشياء- هذا سِرْ إذْ هو تصرُّف الرب جل جلاله في ملكوته، وتصرف الرب جل جلاله في ملكوته مما يختص به الله جل جلاله فلم يُطْلِع عليه أحداً ولم يطَّلِع أحد على ذلك، حتى أكرمُ عباده من الملائكة لا يدرون ما مصيرهم، لا يدرون ماذا يقضي الله في السماء، لا يدرون ما مصير أهل الأرض إلى غير ذلك، وكذلك أنبياء الله لا يدرون ولا يدرون عن الغيب ولا متى يموتون، إلى آخر ذلك.
المقصود أنّ القَدَرْ -وهو كما سيأتي تعريفه تقدير الله للأشياء- أنَّ هذا مما اختص الله عز وجل به، فلا أحد يعلم ما القَدَرْ، وما الذي قُدِّرْ، وما الذي كُتِبْ، وما الذي جعله الله عز وجل مكتوباً في اللوح المحفوظ أو مكتوباً في صحف الملائكة، هذا عِلْمُهُ عند الله عز وجل، وهو من مفاتح الغيب العظيمة التي قال الله فيها {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59] .
والقَدَرْ معنى كونه سراً أنّه لا يمكن أن يُطَّلَعَ عليه إذ هو سرٌّ عند الله عز وجل، والله سبحانه لم يُطْلِع على ذلك أحداً فمعنى ذلك أنّه لن يَطَّلِعَ أحد على ذلك ولو خاض فيه.
ومبنى القدر على صفات الله عز وجل:
- مبنى القدر على العلم.
- مبنى القدر على عموم المشيئة.
- مبنى القدر على عموم الخلق.
- مبنى القدر على حكمة الله عز وجل.
[.....] وعموم مشيئته، وإلى أي شيء تَتَوَجَهْ لا يعلمها العبد، وعموم خلقه عز وجل من أشياء إذا توجّه الشيء لا يعلمه العبد إلا بعد أن يقع، وحكمة الله لا يعلمها العبد.
إذاً فصارت أنحاء القدر الأربعة لا يعلمها العبد، فكيف إذاً يمكن له أن يخوض في القَدَرْ؟
فصار الأمر إذاً إلى الاستسلام.
وهذا هو الذي أراده الطحاوي فيما قال، قال (وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يعني في القدر المبني على الأربعة أشياء التي ذكرتُ لك (التَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وَسُلَّمُ الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ) .
إذا تبين هذا فيمكن أن نُجْمِلْ أو نُقَسِّم الكلام على القدر في مسائل كثيرة، نذكر منها ما يناسب الوقت بعض الأشياء.
قال (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ)
نقول إنه تحتها مسائل، هي مسائل بحث القدر جميعاً يمكن أن نجعلها في هذا الموضع.
[المسألة الأولى] :
القَدَرْ يمكن أن يُعرَّف بأنه: تقدير الله للأشياء قبل وقوعها، وعلمه الأوّل بكل شيء، وكتابته لذلك -يعني للمقادير- في اللوح المحفوظ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعموم خلق الله للأشياء كلها.
هذا لا ينطبق عليه حد التعاريف عند أهل التعاريف؛ لكن هذا يعُمْ ويَضُمْ كل مراتب الإيمان بالقدر الأربعة.
[المسألة الثانية] :
الإيمان بالقدر إيمانٌ بما دَلَّ القرآن والسنة عليه مما يتصل بالقدر، وذلك إيمانٌ بأربع مراتب:
- المرتبة الأولى: العلم.
- المرتبة الثانية: الكتابة.
- المرتبة الثالثة: عموم المشيئة.
- المرتبة الرابعة: خلق الله عز وجل للأشياء كلها.
@ أما المرتبة الأولى العلم: فأدلتها كثيرة ذكرنا لكم بعضاً منها.
@ المرتبة الثانية الكتابة: الكتابة ثَمَّ أدلة كثيرة عليها منها قوله تعالى {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، وفي قوله تعالى {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53] ، ودلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قدّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1) .
ومعنى الكتابة أنّ الله سبحانه كَتَبَ كلَّ شيء في اللوح المحفوظ، سواء ما يتعلق بالمكلفين أو ما يتعلق بغير المكلَّفين وذلك لعموم قوله {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] يعني ما في السماء والأرض.
والكتابة هذه المقصود بها الكتابة في اللوح المحفوظ؛ كتابة مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ.
ومن هذه الكتابة ثَمَّ أنواع من الكتابة تفصيلية لها: منها الكتابة العُمْرية، والكتابة السنوية، والكتابة اليومية، وأشباه ذلك مما دلت عليه الأدلة في القرآن والسنة.
@ المرتبة الثالثة مرتبة المشيئة: ويُعْنَى بها أنَّ ما شاء الله عز وجل كان، لا تُرَدُّ مشيئة الله عز وجل، وأنَّ الذي لا يشاؤه الله سبحانه ولو شاءه العبد ورَغِبَ فيه فإنه لا يقع، ودليلها قوله سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] ، وقوله سبحانه {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] .
والمشيئة مرتبطة بالكون؛ يعني أنَّ المشيئة كونية، فإذا شاء الله أن يقع هذا الشيء في هذا الوقت على هذه الصفة فإنّه يقع على ما شاءه الله عز وجل وأراده كوناً.
والمشيئة تساوي الإرادة الكونية.
ولهذا يُبْحَثْ هنا في مرتبة المشيئة الفرق ما بين المشيئة والإرادة.
وأهل السنة على أنّ مشيئة الله عز وجل هي إرادته الكونية، وأنّ الإرادة منقسمة إلى: إرادة شرعية دينية وإلى إرادة كونية، وأنَّ الله سبحانه قد يشاء الشيء كوناً؛ يعني يريده كوناً فيقع ولا يريده ديناً وشريعة.
فيجتمع إذاً في بعض الحالات إرادة وعدم إرادة، فيكون الفعل المعيّن مُرَادْ وغير مُرَادْ.
شاءه الله فوقع وأراده فوقع؛ ولكن لم يُرِدْهُ سبحانه ديناً وشريعة، وهذا فيما يَكرهه الله ولا يرضاه ديناً مثل كفر الكافر، معصية العاصي، ضلال الضال إلى آخره.
فإنّ الله سبحانه شاء الكفر من الكافر؛ لأنّه ما دام وَقَعَ فإنه قد شاءه وأراده كوناً؛ لأنه لا يحصل في ملكوته إلا ما أراده عز وجل كوناً؛ ولكن لم يرضه لم يُرِدْهُ ديناً؛ لأنَّ الله نهى في كتابه وعلى ألسنة رسله عن الكفر والفساد وبيَّن أنه لا يرضى ذلك ولا يحبه، كما قال {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ، وقال {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] .
وهذه هي المسألة المعروفة لدى كثير منكم بالفرق ما بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، وسيأتي لها مزيد بيان عند ذكر الرد على المخالفين في القدر إن شاء الله تعالى.
@ المرتبة الرّابعة مرتبة عموم خلق الله عز وجل للأشياء: وأنَّ الله سبحانه خالق كل شيء، وأنَّ طاعة المطيع خَلَقَهَا الله ومعصية العاصي خَلَقَهَا الله وأنَّ صلاة المصلي خَلَقَهَا الله كما خلق ذاته؛ يعني ذات المصلي فإنه يخلق أعمالهم.
وهذه يُسْتَدَلُّ لها بقول الله سبحانه {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، وبنحو قوله سبحانه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2] ، ونحو ذلك من الآيات.
وفي خصوص عموم خلق الله للعمل يُستدل بقوله سبحانه وتعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] ، وفي هذه الآية دليل على أنَّ عمل العامل خَلَقَهُ الله.
وذلك أنَّ كلمة {مَا} في الآية {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فيها وجهان:
1-
الوجه الأول: أنها مصدرية بمعنى أنّها تُقَدَّرْ مع ما بَعْدَهَا بمصدر؛ يعني يكون سبك الآية (والله خلقكم وعملكم) ، وهذا الوجه هو?الأصح فيها.
2-
الوجه الثاني: أنَّ {مَا} هنا موصولة بمعنى الذي فيكون المعنى (والله خلقكم والذي تعملونه) .
* وهي على كلٍ من الوجهين دالة على المراد في عموم خلق الله عز وجل للعبد.
ووضوح الدليل الأول يعني في كونها مصدرية، وقد يكون ثَمَّ بعض الاعتراض على الاستدلال بالوجه الثاني.
(1) سبق ذكره (61)