الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسئلة:
س1/ هذا يسأل عن أدلة المعتزلة عن مرادهم؟
ج/ أدلة المعتزلة كثيرة، مما استدلوا به أنَّ الله عز وجل قال {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] ، ونحو ذلك فذكر الجَعْلْ، والجَعْلْ قالوا هو بمعنى الخلق {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] ، يعني خلق، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] ، يعني خلق وهكذا، والجواب على كلامهم معروف وهو أنَّ الجعل في اللغة إذا تعدى إلى مفعول واحد صار بمعنى خلق، وإذا تعدى إلى مفعولين صار بمعنى صيّر (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) يعني صيّرناه قرآنا عربيا يعني غير خلقناه، والآيات على هذا كثيرة وهذا من أضعف حججهم لأنها منقوضة باللغة.
س2/ ما رأيكم فيمن قاس الكلام على الاستواء؟
ج/ ذكرت لكم في إشارة أو ربما إني ما ذكرتها؛ لكن منهج السلف في الكلام أنَّ الكلام قديم النوع حادث الآحاد؛ يعني أصل صفة الكلام لم يزل الله ـ متصفا بها سبحانه وتعالى، واتصافه بالكلام أول ـ، اتصافه بالكلام أزلي، ولذلك يقولون كلام الله عز وجل قديم النوع حادث الآحاد.
وكلامه نوعان عز وجل:
كلام كوني قدري: وهذا الذي به تكون الأشياء ويتصرف ـ في ملكه وهو الذي جاءت فيه الاستعاذة: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. وفي مثل قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] ، ونحو ذلك من الآيات هذه الكلمات الكونية القدرية.
والنوع الثاني من كلام الله عز وجل الكلام الشرعي الديني وهو الذي تَعَبَّدَ الناس عز وجل أن يعملوا به في العمليات وأن يصدقوا بأخباره.
طبعاً هذا منهج الأشاعرة يقولون هذا قديم؛ كله قديم.
س3/ هل القرآن الكريم حروفه ومعانيه مكتوب في اللوح المحفوظ؟
ج/ نعم، كما قال سبحانه {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، وقال عز وجل {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:75-78] الله عز وجل جَعَلَ القرآن في اللوح المحفوظ مكتوباً قبل أن يتكلم به فما في اللوح المحفوظ هذه مرتبة الكتابة، مرتبة الكتابة لا علاقة لها بالكلام كما أنَّه سبحانه جعل في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء وفيه ثَمَّ تقدير سنوي وتقدير عمري وتقدير يومي إلى آخره، فكذلك جعل الله عز وجل كلامه الذي هو القرآن، جعله في اللوح المحفوظ تكرمَةً له ويصان، يعني مجموعاً كاملاً، ثم هو عز وجل تكلم به فسمعه منه جبريل.
ولهذا نقول إنَّ ترتيب الآيات في السور توقيفي، وكذلك ترتيب السور توقيفي، ما يجوز أن نقول الترتيب اجتهادي، لأنه هكذا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت به العرضة الأخيرة الموافقة لما في اللوح المحفوظ والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في أول الأمر البقرة ثم النساء ثم آل عمران كما جاء في حديث حذيفة وغيره، فهذا في الأمر الأول، ثم لما كَمُلَ القرآن وتمت آياته وعُرِضَ على النبي صلى الله عليه وسلم، عَرَضَه النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل في العرضة الأخيرة على هذا الترتيب والصحابة كتبوه على ما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا كانت إذا جاءت آية قال صلى الله عليه وسلم (اجعلوها بعد آية كذا وقبل آية كذا) كما هو معروف.
س4/ هل نزل القرآن من الله إلى جبريل منطوقاً أو مكتوباً؟
ج/ لا، منطوقاً يعني مسموعاً سمعه جبريل، أما المكتوب فلا علاقة لجبريل عليه السلام به، هذا من أقوال الأشاعرة أنهم قالوا إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ، وقاله السيوطي وغيره، وهذا باطل لأن الكتابة لا علاقة لجبريل بها، جبريل سمع فأدى.
س5/ من سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وأن يطلب له المغفرة من الله بعد موته، هل هذا شرك؟
ج/ الجواب نعم، هو شرك اكبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُدعى بعد موته، فطلب الدعاء من الميت، وطلب الدعاء بالإغاثة أو الاستسقاء؛ يعني أن يدعو الله أن يغيث، أو أن يدعو الله أن يغفر، أن يدعو الله أن يعطي ونحو ذلك، هذا كله داخل في لفظ الدعاء والله عز وجل قال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] ، والذي يقول إنّ هذه الصورة وهي طلب الدعاء تخرج عن الطلب الذي به يكون الشرك شركا فإنه ينقض أصل التوحيد كله في هذا الباب، فكل أنواع الطلب؛ طلب الدعاء يعني طلب الدعاء من الميت، طلب المغفرة من الميت، أو طلب الدعاء من الميت أن يدعو الله أن يغفر، أو طلب الإغاثة من الميت أو طلب الإعانة أو نحو ذلك كلها باب واحد هي طلب، والطلب دعاء فداخلة في قوله تعالى {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] ، وفي قوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، وفي قوله {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] ، ونحو ذلك من الآيات، فالتفريق مضاد للدليل، ومن فهم من كلام بعض أئمتنا التفريق أو أن هذا طلب الدعاء من الميت أنه بدعة لا يعني أنه ليس بشرك بل هو بدعة شركية؛ يعني ما كان أهل الجاهلية يفعلونه، وإنما كانوا يتقربون ليدعوا لهم، لكن أن يُطْلَبَ من الميت الدعاء هذا بدعة ما كانت أصلا موجودة لا عند الجاهليين ولا عند المسلمين فحدثت فهي بدعة ولاشك، ولكنها بدعة شركية كفرية وهي معنى الشفاعة، إيش معنى الشفاعة التي من طلبها من غير الله فقد أشرك؟
الشفاعة طلب الدعاء، طلب الدعاء من الميت هو الشفاعة.
نكتفي بهذا القدر نلتقي إن شاء الله، وفقكم الله لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد. (1)
(1) انتهى الشريط الثامن.
: [[الشريط التاسع]] :
الأسئلة:
س1/ قال: ما حكم سب الدهر؟
ج/ سب الدهر محرم؛ لأنه إيذاء لله عز وجل، كما قال عز وجل في الحديث القدسي (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)(1) ، فسب الدهر بمعنى أن يَتَنَقَّصَهَ أو أن يَنْسُبَ إليه الأفعال القبيحة وأشباه ذلك، هذا في الواقع لا يتوجه إلى الدهر؛ لأنَّ الله يُقَلَّب الدهر، الدهر ليس يفعل شيئا، وإنما يتوجه إلى من جعل الدهر على هذه المثابة، ومن جعل الدهر بهذه الصفة وهو الله عز وجل، لهذا قال (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) ، فمسبة الدهر حرام وإيذاء لله عز وجل.
وقوله عز وجل في الحديث القدسي (وأنا الدهر) لا يُفهم منه أنَّ الدهر من أسماء الله عز وجل؛ بل يعني أنَّ الذي سب الدهر وقعت مسبته على الله عز وجل؛ لأنَّ الله ـ هو الذي يُصرِّف الدهر كيف يشاء.
إذا تبين ذلك وقد ذكرنا مرارا أنّ وصف الدهر بأوصاف مما يقع فيه من الأوصاف المشينة ليست مسبّة للدهر، فقول القائل هذا يوم أسود أو هذا الشهر شهر نحس أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بمسبة للدهر لأن هذا وصف لما يقع في الدهر لما يقع في اليوم أو لما وقع فيه، لما يقع في الشهر أو لما وقع فيه، وهذا كما قال عز وجل {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] ، وقال سبحانه {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16] فوصف الله عز وجل الأيام التي عذب بها الكفرة أنها أيام نحيسة، فمثل هذا ليس بسب للدهر؛ لأنه وصف لما وقع فيه بالإضافة إلى المخلوق.
س2/ قال: هل يدخل في سب الدهر قول القائل الدهر باطل والزمان غدار ونحو ذلك؟
ج/ الجواب: نعم لأنَّ هذا من التنقص، وهذا من سب الدهر؛ لأنَّ الدهر لا يبغي على أحد ولكن الذي دَبَّرَ الدهر وقَدَّرَ فيه ما قَدَّرَ هو الله عز وجل.
س3/ هل آية الرجم المعروفة تعتبر من كلام الله، غير أنها منسوخة ولا يجوز التعبد بتلاوتها؟
ج/ الجواب: نعم، كل آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من كلام الله عز وجل، سواء أكانت باقية أم كانت منسوخة، كما قال عز وجل {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] ، وفي القراءة الأخرى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فالآية التي نُسِخَتْ قرآن ولكن نُسِخَتْ تلاوتها والتعبد بذلك، وحكمها منسوخ، وهذا إذا كانت منسوخة، وأما إذا لم تكن الآية منسوخة فإنه قد تُترك آية بغير النسخ كما قال {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .
س4/ يستخدم بعض الكُتاَّب ألفاظ منسوبة إلى القرآن كقولهم: (قال القرآن) ، أو (تحدث القرآن) ، (فَنَّدَ القرآن هذه الشبهة) ، هل يصح الحكم عليها بأنها متفرعة عن القول بخلق القرآن؟
ج/ الجواب: لا؛ لأنّ هذه الكلمات جرت على ألسنة كثير من أئمة أهل العلم السابقين، يقولون قال القرآن، ورد القرآن ونحو ذلك، فينسبون الفعل إلى القرآن، ومعلوم أنَّ القرآن كلام الله عز وجل، ففي الحقيقة القائل هو الله عز وجل، كأنهم قالوا قال الله في القرآن، تحدث الله في القرآن، وردّ الله في القرآن، وأشباه ذلك.
س5/ كان من الردود على المعتزلة في الدرس الماضي أنهم إذا أرادوا تأويل صفة الكلام فإنه يترتب عليه نفي الصفات التي أثبتها المعتزلة، مع أنه قد تقرر في كثير من الدروس أنَّ المعتزلة لا يثبتون أي صفة من الصفات، فما الجواب؟
ج/ الجواب: أنَّ الذي قَرَّرْنَاهُ وهو المعروف أنَّ المعتزلة يثبتون ثلاثة صفات، وأنَّ الذين لا يثبتون إلا صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق هم الجهمية.
وكل من أثبت صفة من الصفات ونفى الباقي فإنه يُطْعَنْ بإثباته على ما نفاه.
مثلا يقال لمن أثبت صفة الوجود قالوا إنَّ الله عز وجل ليس له إلا صفة الوجود فقط؛ الوجود المطلق، يقال له: لم نفيتَ غيرها من الصفات؟ لم نفيت صفة العلم؟ لم نفيت صفة الكلام؟ لم نفيت صفة المحبة؟ بل سيقول: إنَّ هذه الصفات تستلزم المشابهة التمثيل أو التشبيه، فيقال: لم؟ فيقول: لأن المخلوق يتكلم، فكيف نقول إنَّ الله يتكلم والمخلوق يتكلم، معناه فيه تشبيه. يقول: إنَّ الله يحب والمخلوق يحب معناه أنَّ هذا فيه تشبيه. فكذلك يقال: الصفة التي أثبتها وهي الوجود أيضا مشتركة، فالمخلوق موجود وتقول الله عز وجل موجود.
المعتزلة يثبتون القدرة لله عز وجل، والمخلوق عنده قدرة، فما الفرق ما بين ما أثبت وما بين ما نفى؟
(1) البخاري (4826) / مسلم (6000) / أبو داود (5274)
الوجود أيضا مشترك فيه التشبيه، إذا قلنا إنَّ وجود الصفة من حيث هي في المخلوق وفي الله عز وجل أنَّ هذا تشبيه فإذاً الوجود فيه تشبيه، فالله عز وجل موجود والبشر موجودون، إذاً ثَمَّ تشبيه، فالصفة التي أثبتها فيها تشبيه وهو يريد أن ينفي التشبيه أن ينفي الصفات الأخرى لأجل التشبيه.
كذلك نأتي للأشاعرة نقول أنتم أثبتم سبع صفات السمع والبصر والعلم والكلام والإرادة إلى آخره، فنقول لم أوَّلتم صفة الوجه؟ لم أوَّلتم صفة اليدين؟ لم أوّلتم صفة الغضب، صفة الرضا، صفة المحبة، صفة الرحمة، إلى غير ذلك، يقولون؛ لأنّ هذه تستلزم التشبيه، فنقول: كذلك صفة السمع تستلزم التشبيه، كذلك صفة البصر تستلزم التشبيه، كذلك صفة الإرادة؛ الله عز وجل يريد والإنسان يريد، لماذا نقول إن هذا فيه تشبيه؟ يجيب الجميع منهم على اختلاف فرقهم بأن إرادة الله عز وجل مختلفة عن إرادة المخلوق، بأن قدرة الله عز وجل مختلفة عن قدرة المخلوق.
نقول إذاً نقول في باقي الصفات مثل هذا الأصل فكلام الله عز وجل يختلف عن كلام المخلوق ورحمة الله تختلف عن رحمة المخلوق فإثبات الصفات إثبات وجود؛ إثبات لفظ ومعنى لا إثبات كيفية، فلا اشتراك في الكيفية، الله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فكما أنه سبحانه له سمع يليق بجلاله وعظمته فكذلك له بصر يليق بجلاله وعظمته، له كلام يليق بجلاله وعظمته، وسمع الإنسان وبصر الإنسان وكلام الإنسان هذا يليق بحال الإنسان.
فإذاً الاشتراك في أصل الصفة، أما الكيفية وتمام المعنى فهذه لا اشتراك فيها.
فإذاً كل مؤول للصفات من الفِرَقْ يلزمه التناقض، كل من أول يلزمه التناقض؛ بل سيما أهل البدع دائماً في التناقض؛ لأنه يتناقض، ولو أعملوا القاعدة أننا نسلم للقرآن والسنة وما قاله السلف والصالح لما صار التناقض في أبواب الاعتقاد أبدا، ولكنهم تارة يثبتون وتارة يتأولون بعقولهم لأنهم خلطوا قولا سنيا وآخر عقليا.
س6/ هل معنى قول من قال إن! َ القرآن مخلوق أنه مثل أعضائنا وغير ذلك من المخلوقات؟
ج/ الجواب: لا، يقولون القرآن مخلوق؛ يعني أنّ الله سبحانه خَلَقَ هذا الكلام وسماه قرآن، أو أنّ الله عز وجل خلقه في نفس جبريل فعبر جبريل بذلك، ليس أن! َ ثَمَّ شيء مخلوق يعني له صفته ويُمَسْ ويُحَسْ مثل الأعضاء، لا، خَلَقَ هذا الشيء يعني أنه ليس صفة،له خلقه في نفس جبريل وعبر جبريل عما وجده في نفسه.
س7/ كيف نوفق بين كون الله تكلم بالقرآن وأنَّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ؟
ج/ الجواب: أنَّ مرتبة الكتابة أو جهة الكتابة للقرآن غير جهة الكلام، فالله عز وجل يعلم ما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14] ، فالله سبحانه يعلم أنَّ هذا القرآن -هذا الكلام- سينزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ هذا الذي سينزله مكتوباً في القرآن تشريفاً له وتعظيماً لمكانة هذا القرآن ولأنه حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، أما التكلم فكلام الله عز وجل بالقرآن إنما هو حين أراد أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم، أو حين أراد أن ينبهه.
أما نزول القرآن جملة إلى السماء الدنيا فهذا أيضا عند من قال به نزول مكتوب لا نزول مسموع.
فمن سمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر
قد مضى الكلام في الدرس الماضي عن كلام الله عز وجل، وعلى أنَّ القرآن كلام الحق ـ، وعلى أنّ القرآن كلام الله عز وجل بحروفه ومعانيه، وأنّ الله سبحانه تكلم به، فمنه بدأ وسمعه منه جبريل عليه السلام، فبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وتقدم لنا إبطالَ قول من قال إنَّ القرآن مخلوق، أو أنَّ القرآن عبارة عن كلام الله، أو من قال إنَّ كلام الله عز وجل نفسي وكلام الله عز وجل قديم، ونحو ذلك من أقوال أهل البدع والضلالات؛ من أقوال المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة وغلاة الصوفية، وتقدم لنا ذلك مختصرا في أوجه الرد على أولئك.
وفي مسألة الكلام النفسي ذكرنا بعض الأوجه، وسبق أن تقدم لنا في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية سبق ردود مزيدة على ما ذكرنا، وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على من قال بالكلام النفسي في تسعين وجها، في رسالة مطبوعة سميت (بالتسعينية) ؛ لأنها اشتملت على تسعين وجها تردّ قول من قال إن كلام الله عز وجل نفسي؛ يعني أنه لم يتكلم بصوت يُسمع وإنما ألقى ما أراده في رُوعِ جبريل.
قال الطحاوي رحمه الله (فمن سمِعَهُ-يعني القرآن- فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] ، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.)
هذه الجمل مشتملة على تقرير مسألة عظيمة وهي أنَّ كلام الله عز وجل لا يشبه قول البشر.
وكيف يشبه قول البشر وهو كلام الباري عز وجل الذي لا يشبه بصفاته البشر.
فالبشر لهم صفاتهم في كلامهم وفي سمعهم وبصرهم وإدراكاتهم وأعضائهم، والله عز وجل له صفاته في كلامه وفي سمعه وبصره وجميع صفاته فلا يشبه في صفاته -التي منها كلامه- لا يشبه صفات البشر.
فمن قال عن القرآن إنه قول بشر، أو إنه مخلوق، أو هو قول جبريل، أو نحو ذلك وليس بقول الله عز وجل، أو أنه كلام جبريل وليس بكلام الله عز وجل فإنّ هذا كافر بالله العظيم؛ لأنَّ من قال إنّ القرآن كلام بشر فإنَّ هذا كفر، كما قال سبحانه {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:25-26] لقول الوليد.
إذا تبين لك ذلك فإنهم قالوا أيضاً -أي المشركون- قالوا: إنما يُعَلِّمُه بشر كما قال سبحانه {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، فالذين أبوا هداية [.....] وأبوا الإذعان له وصفوا القرآن بصفات:
- قال بعضهم: هو كِهانة.
- وقال بعضهم: هو شعر.
- وقال بعضهم: هو قول البشر.
- وقال بعضهم: أساطير الأولين.
وكل هذه الأقوال يعلمون أنما هي لتنفير الناس عن قبول هذا القرآن، فلقد تواعد كما هو معلوم في القصة ثلاثة من كفار قريش ألا يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل قبل ذلك وكُلُّهُم كان يُرَادْ بالقرآن، ذهب أحد هؤلاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يسمع قراءته للقرآن، ولما ذهب وجد فلاناً وفلاناً فإذا بهم ثلاثة يسمعون القرآن لما له من سلطان على نفوسهم، ثم لما رجعوا تقابلوا في الطريق، فتواعدوا ألا يسمعوا مرة أخرى لهذا القرآن؛ لأجل أن لا يراهم بعض العامة وبعض الناس فلا يقبل قولهم في رد القرآن، ثم لما جاء من الليلة الثانية اجتمعوا أيضاً ثم صارت أيضاً ثالثة حتى رأوا أنهم لابد أن يتفارقوا على ذلك، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} [فصلت: 26 -27] .
كذلك لما أُرْسِلَ الوليد أو عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في شأن القرآن وأن يترك هذا الأمر، قال له: يا محمد إنْ أردت ملكا ملَّكناك، وإنْ أردت مالاً جمعنا لك من المال ما تكون به أغنى العرب، وإن أردت نساء نظرنا في أجمل نساء العرب فأتينا بهن إليك.
فقال صلى الله عليه وسلم له هذا الذي عندك، اسمع، فتلا عليه صدر سورة فصلت {حم (1) تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1-4] ومر صلى الله عليه وسلم في التلاوة حتى بلغ قوله تعالى {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] .
فالتفت إليه الرجل فقال حسبك الآن، فرجع إلى قومه.
فلما رأوه مقبلاً، قالوا لقد أتاكم فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فلما حضر، قالوا ما عندك يا فلان؟
قال: إني سمعت كلاماً ليس هو بالشعر، وليس هو بالكهانة، وليس هو بالكلام الذي نألف، إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطُلاوة -أو طَلاوة أو طِلاوة مثلثة- وإنَّ أسفله لمورق، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يُعلا عليه.
فتبيَّنَ بذلك أنَّ أولئك الذين قالوا هو كهانة وهو شعر وهو قول البشر أنهم هم الذين ردوا على أنفسهم {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] .
هذه المسألة يمكن أن نمرّ عليها فيما ذَكَرْ بشيء من التقرير العام كما فعل الشارح؛ لكن هذه المسألة متصلة ببحث عظيم، وهو بحث (دلائل النبوة) ؛ لأنَّ كون القرآن لا يشبه كلام البشر ولا يشبه قول البشر هو المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن وأنَّ القرآن مُعْجِزْ.
وهذه ولاشك مسألة مهمة قلّ بل نَدَرَ أن تَتَعَرَّضَ لها كتب العقائد، ولها صلة ببحث دلائل النبوة فهي في التوحيد؛ لأنَّ صلتها تارة بدلائل النبوة من كون القرآن مُعْجِزاً ودليلاً على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه منزل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله عز وجل وهو أنَّ القرآن لا يشبه كلام البشر وأنَّ كلام الله عز وجل ليس ككلام البشر.
فلا بأس إذاً أن نقرر هذه المسألة وهي المسألة الموسومة بإعجاز القرآن؛ لأجل ندرة الكلام عليها في كتب العقائد مُفَصَّلَة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذه الدروس المختصرة.
لتقرير هذه المسألة وهي مسألة إعجاز القرآن، وقد تكلم فيها أنواع من الناس من جميع الفرق والمذاهب، نجعل البحث فيها في مسائل، نقول:
[المسألة الأولى] :
أنَّ لفظ الإعجاز لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في القرآن وفي السنة أنّ ما يعطيه الله عز وجل للأنبياء والرسل وما آتاه محمد صلى الله عليه وسلم هو آية وبرهان على نبوته.
فلفظ المعجزة لم يأتِ كما ذكرنا من قبل في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظٌ حادث ولا بأس باستعماله إذا عُنِيَ به المعنى الصحيح الذي سيأتي.
الذي جاء في القرآن الآيات والبراهين؛ لكن العلماء استعملوا لفظ الإعجاز لسبب، وهو:
أنَّ القرآن تَحَدَّى الله عز وجل العرب بأن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، فلما تَحَدَّاهُمْ فلم يَغْلِبُوا، ولم يأتوا بما تَحَدَّاهُمْ به، فدل ذلك على عجزهم، وذلك بسبب أنَّ القرآن مُعْجِزٌ لهم فلم يأتوا بمثله، قال عز وجل {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، وقال عز وجل {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:13-14] .
إذا تبين ذلك فالتحدي لمَّا وَقَعَ وعَجِزُوا، وهم يريدون أي وسيلة لمعارضة القرآن وإثبات أنه قول البشر، {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} ، ائتوا بمثله، {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} ، لما عَجِزُوا سَمَّى العلماء فِعْلَهُمْ ذلك أو عجزهم سموه: مسألة إعجاز القرآن؛ لأجل التحدي وعجز الكفار أن يأتوا بمثله.
[المسألة الثانية] :
أنَّ كلام الله عز وجل هو المُعْجِزْ، وليس أنَّ الله عز وجل أعْجَزَ لأجل السماع، أعْجَزَ لما أنزل القرآن.
والفرق بين المسألتين أنَّ الإعجاز صفة القرآن، ولكن لا يقال أنَّ الله عز وجل أعْجَزَ البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن؛ لأنَّ هذا القول يتضمن، بل يدل على أنهم قادرون لكنَّ الله عز وجل سلبهم القدرة على هذه المعارضة.
فإذاً الإعجاز والبرهان والآية والدليل في القرآن نفسه لم؟
لأنه كلام الله عز وجل، ولا يقال إنَّ الله عز وجل أعْجَزَ الناس، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو صرفهم عن ذلك، كما هي أقوال يأتي بيانها.
فإذاً تنتبه على أنَّ تعبير أهل العلم في هذه المسألة أنَّ القرآن آية، فآية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآية رسالته القرآن.
بل محمد صلى الله عليه وسلم لمَّا سَمِعَ كلام الله عز وجل خاف صلى الله عليه وسلم، فلما فَجَأَه الوحي وهو بغار حراء فأتاه جبريل فَقَالَ له: اقْرَأْ، قَالَ (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) فَقَالَ اقْرَأْ، قَالَ:(مَا أَنَا بِقَارِئٍ)، قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1-2] (1) إلى آخر ما أُنْزِلْ في أول ما نبئ النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع بها صلى الله عليه وسلم يرجُف بها فؤاده؛ لأنَّ هذا الكلام لا يشبه كلام أحد، ولم يتحمله صلى الله عليه وسلم لا في ألفاظه ومعانيه ولفظه، ولا في أيضا صفة الوحي والتنزيل، فما استطاع صلى الله عليه وسلم أن يتحمل ذلك فرجع بهن -يعني بالآيات- يرجف بها فؤاده صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة.
إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء الوحي لم يتحمل هذا الذي جاءه، لم؟
لأنه كلام الله عز وجل، وأما كلام البشر فإنه يتحمله لما سمع منه.
(1) البخاري (3) / مسلم (422)
[المسألة الثالثة] :
أقوال الناس في إعجاز القرآن.
مسألة إعجاز القرآن -كما ذكرنا- لها صلة بدلائل النبوة.
والقرآن مُعْجِزْ لمن؟
للجن والإنس جميعاً؛ بل معجز لكل المخلوقات، لم؟
لأنه كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معْجِزَاً، راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان.
فاختلف الناس في وجه الإعجاز لأجل أَنَّ إعجاز القرآن دليل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في أقوال:
1 -
القول الأول:
ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام، قالوا:
إنَّ الإعجاز في القرآن إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرِفُوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله عز وجل، لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفهم جميعاً عن معارضته.
وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تَمْلِكُ هؤلاء جميعا وهي قوة الله عز وجل.
فإذاً الصَّرْفَةْ التي تسمع عنها، القول بالصَّرْفَةْ؛ يعني أنَّ الله صَرَفَ البشر عن معارضة هذا القرآن، وإلا فإنَّ العرب قادرون على المعارضة.
وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنّظّام وجماعة بما هو معلوم.
وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين:
- الدليل الأول سمعي نقلي من القرآن.
- والدليل الثاني عقلي.
@ أما الدليل الأول وهو الدليل القرآني: فهو قول الله عز وجل {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ، فالله عز وجل أثْبَتَ أَنَّ الإنس والجن لو اجتمعت على أنْ تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معيناً في الإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك؛ لأنَّ اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء.
فالله عز وجل بيّنَ أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معيناً وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن.
فأثْبَتَ لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون مع قُدَرِتهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معيناً على المعارضة.
وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصَّرْفَةْ.
@ أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي: أنَّ الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أنَّ الإعجاز يُنْسَبْ ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله عز وجل.
فلا يقال إعجاز الله بالقرآن، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن.
فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أنَّ القرآن مُعْجِزٌ في نفسه، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة.
لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن.
فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصْفٌ للقرآن علمنا بُطلان أن يكون الإعجاز صفة لقدرة الله عز وجل؛ لأنّْ من قال بالصرفة بأنّْ الله سلبهم القدرة هذا راجِعٌ الإعجاز -يعني تعجيز أولئك- راجع إلى صفة القدرة وهذه صفة ربوبية.
فإذاً لا يكون القرآن مُعْجِزَاً في نفسه، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله عز وجل على ذلك.
وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء.
لهذا المعتزلة المتأخرون ذهبوا على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأنَّ قولهم لا يستقيم لا نقلاً ولا عقلاً.
2 -
القول الثاني:
من قال القرآن مُعْجِزٌ بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنَّ البلاغيين يُعَرِّفُونَ الفصاحة بقولهم:
فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه ومن غرابته
فالقرآن مشتمل على أعلا الفصيح في الألفاظ.
ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع كلام العرب في خطبهم وأشعارهم، وجدوا أنَّ كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات ولا في خطب العرب ولا في نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائماً في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأنَّ العرب عاجزون.
وهذا ليس بجيد؛ لأنَّ القرآن اسم للألفاظ والمعاني، فالله عز وجل تَحَدَّى أن يُؤْتَى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعاً وبصورة الكلام المتركبة.
فإذاً كونه مُعْجِزَاً بألفاظه نعم لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها.
3 -
القول الثالث:
من قال إنَّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق.
مثل ما يقول الجاحظ وغيره؛ يعني فيما ساقه في كتاب الحيوان يقول: الشأن في المعاني أما الألفاظ فهي ملقاة على قارعة الطريق.
يعني أنَّ الألفاظ يتداولها الناس؛ لكن الشأن في الدِلالة بالألفاظ على المعاني.
وهذا لاشك أنه قصور لأنَّ القرآن كما ذكرنا مشتمل على فصاحة الألفاظ وعظمة المعاني جميعاً. (1)
4 -
القول الرابع:
من قال إنَّ القرآن مُعْجِزٌ في نظمه، ومعنى النظم هو الألفاظ المتركبة والمعاني التي دلت عليها الألفاظ وما بينها من الروابط.
يعني أَنَّ الكلام يُحْتَاجُ فيه إلى أشياء، يُحْتَاجُ فيه إلى ألفاظ وإلى معانٍ في داخل هذه الألفاظ يُعَبَّرُ بها، يُعَبَّرُ بالألفاظ عن المعاني وإلى رابط يربط بين هذه الألفاظ والمعاني في صور بلاغية، وفي صور نحوية عالية، وهذا المجموع سماه أصحاب هذا القول النَّظم.
وهذا هو مدرسة الجُرجاني المعروفة، العلامة عبد القادر الجرجاني فيما كتب في دلائل الإعجاز وفي أسرار البلاغة.
وهذا القول لَمَّا قال به الجرجاني وهو مسبوق إليه من جهة الخطّابي وغيره يعني في كلمة، هو أراد به الرد على عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني، فإنه ألف كتاب المغني وجعل مجلداً كاملا في إعجاز القرآن، وردّ عليه بكتاب دلائل الإعجاز وأنَّ الإعجاز راجع إلى اللفظ والمعنى والروابط؛ يعني إلى النظم،نظم القرآن جميعا، المقصود بالنظم يعني تآلف الألفاظ والجمل مع دلالات المعاني البلاغية واللفظية وما بينها من صلات نحوية عالية.
وهذا القول قول جيد؛ ولكن لا ينبغي أن يُقصر عليه إعجاز القرآن.
5 -
القول الخامس:
من قال إنَّ إعجاز القرآن فيما اشتمل عليه.
فالقرآن اشتمل على:
- أمور غيبية لا يمكن أن يأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأمر الماضي وبأمر المستقبل.
- واشتمل القرآن أيضا على أمور تشريعية لا يمكن أن تكون من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
- واشتمل القرآن على هداية ومخالطة للنفوس لا يمكن أن تكون من عند بشر.
وهذا قول لبعض المتقدمين وجمع من المعاصرين بأنَّ القرآن محتمل على هذه الأشياء جميعاً.
ولكن هذا القول يُشْكِلْ عليه أَنَّ إعجاز القرآن الذي تُحُدِّيَت به العرب، والعرب حينما خوطبوا به،خوطبوا بكلام مشتمل على أشياء كثيرة، وكان التحدي واقعاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة أو بعشر سور مثله مفتريات كما زعموا، وهذا يؤول إلى ما تميزت به العرب، وهو مسألة البلاغة وما تميزوا به من رِفعة الكلام وفصاحته وبلاغته.
والعرب لم تكن متقدمة عارفة بالأمور الطبية ولا بالأمور الفلسفية ولا بالأمور العقدية ولا بالغيبيات، وليس عندهم معرفة بالتواريخ على تفاصيلها ونحو ذلك، حتى يقال إنَّ الإعجاز وقع في هذه الجهة؛ لكنهم خوطبوا بكلام من جنس ما يتكلمون به -يعني من جهة الألفاظ والحروف-؛ لكنهم عجزوا عن الإتيان بذلك لأنه كلام الله عز وجل.
6 -
القول الأخير –والأقوال متنوعة؛ لأنَّ المدارس كثيرة-:
أنَّ القرآن مُعْجِزْ لأنه كلام الله عز وجل، وكلام الله عز وجل لا يمكن أن يشبه كلام المخلوق.
وهذا القول هو الذي ذكره الطحاوي هنا،قال (عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته-التي منها القرآن- ليسَ كالبشر) .
وهذا القول الذي أشار إليه لم يَتَفَرَّعْ إليه شارحوا هذه الرسالة سواء من السلفيين أو من المبتدعة من الماتريديين وغيرهم- في تقرير هذه المسألة، وهو من أرْفَع وأعظم الأقوال؛ بل هو القول الحق في هذه المسألة: أنَّ كلام الله عز وجل لا يمكن أن يشبه كلام البشر.
خذ مثلاً فيما يتميز به المخلوقات ترى فلاناً فتقول هذا عربي، وترى آخر فتقول هذا أوروبي، وترى ثالثا فتقول هذا من شرق آسيا، لم؟
لأنَّ الصفة العامة دَلَّتْ على ذلك، ولو أَخَذَ الآخِذْ يُعَدِّدُ أشياء كثيرة متنوعة دلته على أَنَّ هذه الصورة هي صورة عربي، وهذه الصورة صورة أوروبي، هذه الصورة الخَلقية صورة من شرق آسيا وهكذا.
فإذاً الصورة العامة بها تتفرق الأشياء، فالذي يدل على الفرقان ما بين شيء وشيء، وأهمها الصورة العامة له.
كلام الناس –إذا انتقلنا من الصورة الخَلقية- كلام الناس يختلف بعضه عن بعض.
قول الصحابة إذا سمعنا كلاما نقول هذا من قول الصحابة أو من قول السلف؛ لأنَّ كلامهم لا يشبه كلام المتأخرين، كما قال ابن رجب (كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة) .
فكلام السلف له صورة عامة تعلم أنَّ هذا من كلام السلف، فلو أتينا بكلام إنسان معاصر وبكلمات له كثيرة وقارناها بكلام السلف لاتضح الفرق.
فإذاً المخلوق البشر في كلامه متباين.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع.
إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام ابن تيمية، ترى كلام الشيخ محمد ابن عبد الوهاب في تقريره تقول هذا ليس بكلام مثلاً النووي، إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس هو كلام أبي حنيفة وهكذا.
فإذاً الكلام له صورة، له هيئة من سَمِعَهَا مَيَّزَ هذا الكلام.
وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي بأنَّ كلام الله عز وجل لا يشبه كلام البشر.
إذا تبين ذلك فإنَّ كلام الله عز وجل صِفَتُهُ، فهذا القرآن من سَمِعَهُ أيقن أنه ليس بكلام البشر.
ولهذا بعض الأدباء الغواة مثل ابن المقفع والمعري ونحو ذلك أرادوا معارضة القرآن بصورة أدبية فظهر؛ بل افْتَضَحُوا في ذلك فَغَيَّرُوا منحاهم إلى مَنْحَى التأثير إلى ما أشبه ذلك في كتبهم المعروفة وهي مطبوعة.
أرادوا المعارضة من جهة المعاني، من جهة الألفاظ، أن يأتوا شيء لكنهم افتضحوا لأنَّ كلام البشر لا يمكن أن يكون مثل كلام الله عز وجل.
العرب عندهم معرفة بالبيان، هم الغاية في البيان، هم الغاية في معرفة الفصاحة، هم الغاية في معرفة تركيب الكلام؛ لكنهم لما سمعوا القرآن ما استطاعوا أن يعارضوه لم؟
لأنَّ الكلام لا يشبه الكلام، لا يمكن، لا يمكن أن يعارضوا؛ لأنَّ كلام الله عز وجل لا يشبه كلام المخلوق.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إذاً:
ما نُقَرِّرُهُ هو أنَّ وجه الإعجاز في كلام الله عز وجل هو أَنَّ كلام الله ـ لا يشبه كلام البشر، ولا يماثل كلام البشر، وأنَّ البشر لا يمكن أن يقولوا شيئاً يماثل صفة الله عز وجل، والناس لا يستطيعون على اختلاف طبقاتهم وتنوِّع مشاربهم أن يَتَلَقَّوا أعظم من هذا الكلام، وإلا فكلام الله عز وجل في عظمته لو تَحَمَّلَ البشر أعظم من القرآن لكانت الحجة أعظم؛ لكنهم لا يتحملون أكثر من هذا القرآن.
لهذا تجد التفاسير من أول الزمان إلى الآن وكل واحد يُخْرِجُ من عجائب القرآن ما يُخْرِجُ، والقرآن كنوزه لا تنفذ ولا يفتر على كثرة الرد لا من جهة التِّلاوة ولا من جهة التفسير.
إذا تبين لك ذلك فكلام الطحاوي هذا من أنْفَسْ ما سمعت وأصح الأقوال في مسألة إعجاز القرآن وهو أنَّ الكلام لا يشبه الكلام.
إذا تبين هذا فنقول:
كلام الله عز وجل في كونه لا يشبه كلام البشر، له خصائص.
فأوجه إعجاز القرآن التي ذَكَرَهَا من ذَكَر، نقول هي خصائص لكلام الله عز وجل أوجبت أن يكون كلام الله عز وجل ليس ككلام البشر.
مثل ما يقول الواحد: هذا الشعر موزون، هذا البيت فيه كسر، لماذا؟، حرف واحد نقص قال فيه كسر، أو هذا البيت ما يمكن أن يكون كذا، لماذا؟
في هيئته العامة؛ لكن له برهان يأتيك، يقول لأنه كذا، وكذا، وكذا.
فلان بخصاله، دلنا بصفاته، حركاته تصرفاته على أنه ليس بعربي، هذه القضية العامة لم؟
له أدلة عليها؛ لكن هذه الخصائص العرب وما تميزوا به عن غيرهم.
يقول هذا الحديث ضعيف أو هذا الحديث معلول، ما وجه علته؟
مثل ما قال أبو حاتم وغيره ممن تقدمه: إنَّ أهل الحديث يعرفون العلة كما يعرف صاحب الجوهر الزيف من النقي.
أنت ترى هل هذا ألماس نقي أو ليس بنقي؟ يأتيك صاحب الخبرة ويقول هذا ألماس ليس بنقي، أنت ترى ما تعرف تُفَرِّقْ هل هذا نقي؟
هذا الكتاب طبعته طبعة حجرية، الذي لا يعرف ما يعرف، هذا الكتاب مطبوع في روسيا كيف عرفت أنه مطبوع وليس عليه اسم البلاد؟
هذا الكتاب مطبوع في بلدة كذا في الهند لماذا؟
عنده البرهان ولكن الصفة العامة هي هذه.
لهذا نقول وانتبه لهذا حتى تخلص من إشكال عظيم في هذه المسألة -مسألة إعجاز القرآن- لتنوع الخطاب فيها وتنوع المدارس فيها نقول:
إنّ كلام الله عز وجل ليس ككلام البشر، وكلام الله عز وجل له خصائص ميزته عن كلام البشر.
ما هذه الخصائص؟
كل ما قيل داخل في خصائص القرآن:
- أولاً:
القرآن كلام الله عز وجل، واشتمل القرآن على ألفاظ العرب جميعاً.
تجد القرآن فيه كلمات بلغة قريش، وفيه كلمات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه بلغات كثيرة بلغة حِمْيَر، {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] ، قال ابن عباس (السمود: الغناء بلغة حمير) (1) .
بعض قريش خَفِيَ عليها بعض الكلمات مثل ما قال عمر رضي الله عنه لما تلا سورة النحل في يوم الجمعة -يعني في الخطبة-، تلا سورة النحل فوقف عند قوله تعالى {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:47] ، نظر فقال: ما التخوف؟ (2)
فسكت الحاضرون، فقام رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين التخوّف في لغتنا التَّنَقُّص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوّف الرَّحْلُ منها تامِكاً فردا كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ
(1) انظر تفسير الطبري (النجم:59)
(2)
انظر تفسير البيضاوي (النحل:47) / تفسير روح المعاني
تنقص، يعني {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} يعني يبدأ يتنقص شيئاً فشيئاً، ينقصون عما كانوا فيه من النعمة شيئاً فشيئاً، حتى يأتيهم الأجل، عمر القرشي خفيت عليه هذه الكلمة؛ لأنها بلغة أخرى.
هل يستطيع أحد من العرب أن يحيط بلغة العرب جميعاً؟
لا يمكن، أن يحيط بلغة العرب جميعاً بألفاظها وتفاصيلها لا يمكن.
ولهذا تجد في القرآن الكلمة بلغة مختلفة، وتجد فيه التركيب النحوي بلغة من لغات العرب، فيكون مثلاً على لغة حِمْيَرْ في النحو، أو على لغة [سَدُوسْ] في النحو، أو على لغة هذيل في النحو.
فإذاً الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية في القرآن تنوَّعت ودخل فيها كل لغات في العرب.
هذا لا يمكن أن يكون من كلام أحد، لا يستطيع أن يحيط هذه الإحاطة إلا من خَلَقَ اللغات وهو رب العالمين.
- ثانياً:
الألفاظ، كما ذكرنا ألفاظ القرآن بلغت الأعلى في الفصاحة، والقرآن كله فصيح في ألفاظه، والفصاحة راجعة إلى الكلمات جميعا؛ الأسماء والأفعال والحروف، حتى {الم} فصيح.
إذاً من خصائص القرآن التي دلت على إعجازه أنَّ ألفاظه جميعاً فصيحة، وما استطاع أحد من العرب الذين أنزل عليهم القرآن أن يعيبوا القرآن في لفظٍ مما فيه كما عابوا كلام بعضهم بعضاً، بل قال قائلهم: إنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطُلاوة. إلى آخر كلامه.
- ثالثاً:
من خصائصه المعاني، المعاني التي يتصورها البشر عند قول كلامه لابد أن يكون فيها قصور.
فإذا تكلم البشر في المعاني العَقَدِيَة فلابد أن يكون عنده لاشك قصور، إذا تكلم في المعاني التشريعية لابد أن يظهر خلل، إذا تكلم في المعاني الإصلاحية التهذيبية لابد أن يكون فيها خلل، ولهذا قال عز وجل {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .
فإذاً تَنَوُّعُ المعاني على هذا الوجه التام بما يناسب المعاني الكثيرة التي يحتاجها الناس يدل على أنَّ هذا كلام الله عز وجل؛ يعني أنه صفته.
هذه خصائص كلام الله عز وجل، فلو قيل تقديراً: إننا سنصف القرآن الذي هو كلام الله عز وجل وبه فارق كلام البشر فَسَتُعَدِّدْ هذه جميعا.
فهي خصائص أو أوجه للإعجاز بها صار القرآن معجزاً بجميعها، لا بواحدة منها.
- رابعاً:
أنَّ القرآن فيه النَّظم مثل ما قال الجُرْجَاني وهو من أحسن النظريات والكلام في إعجاز القرآن من جهة البيان.
القرآن فيه القِمَّةْ في فصاحة الألفاظ وفي البلاغة.
البلاغة مُتَرَكِّبَةْ من أشياء؛ مُتَرَكِّبَةْ من ألفاظ ومن معاني ومن روابط -الحروف التي تربط بين الألفاظ والمعاني وتصل الجمل بعضها ببعض-.
فالقرآن إذاً من أوجه إعجازه أو من صفاته وخصائصه أنَّ نظمه - يعني أنَّ ترتيب الكلام والآيات فيه وترتيب الجمل في الآية الواحدة - يدل على أنَّه الغاية في البيان، ولا يمكن لبشر أو لا يمكن للجن والإنس لو اجتمعوا أن يكونوا دائما على أعلى مستوى في هذا النظم.
ولهذا تجد أنَّ تفاسير القرآن حارت في القرآن، حتى التفاسير المتخصصة في النحو تجده ينشط في أوله تجده يعجز في آخره، ما تجده ينشط، آخر تجده في البلاغة يريد أن يبين بلاغة القرآن فيُجَوِّدْ في موضع ثم بعد ذلك تأتي مواضع يكسل، ما يستطيع أن يُبِينْ عن ذلك.
ولهذا قال من قال من أهل العلم: العلوم ثلاثة:
علم نضج واحترق.
وعلم نضج ولم يحترق.
وعلم لم ينضج ولم يحترق.
والثالث هو التفسير، لم ينضج ولم يحترق؛ لأنه على كثرة المؤلفات في التفسير وهي مئات فإنها لم تأتِ على كل ما في القرآن، لم؟
لأنَّ الإنسان يعجز، يعجز المبَيَّن أن يُبَيَّن عن كل ما في القرآن.
إذاً نظرية النظم التي ذكرها عبد القادر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة -على تفصيل ما فيها- لا شك أنها دالة على صفة من صفات القرآن.
- خامساً:
أنَّ القرآن له سلطان على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام.
ولكن القرآن له سلطان على النفوس بما تميز به من كلام الله عز وجل؛ لأنه كلام الله عز وجل، مثل ما صار السلطان على ذلك المشرك؛ يعني أنه يُرْغِمْ الأنوف.
وقد كان مَرَّةً أحد الدعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت:
كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قرعها للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟
فقال: هي القرآن.
وهذا لاشك إذا سمعت القرآن تجد له سلطان على النفس ينبئ النفس على الاستسلام له، إلا لمن ركب هواه.
هذا السلطان تجده في أشياء:
~ أولاً:
أنَّ آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- لم تُجْعَلْ آيات العقيدة على حِدَا، وآيات الشريعة على حدا؛ الأحكام، وآيات السلوك على حدا، إلى آخره؛ بل الجميع كانت هذه وراء هذه، فآية تخاطب المؤمنين، وآية أخرى تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس، وآية فيها العقيدة، وآية فيها قصص الماضين، وآية تليها فيها ما سيأتي، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وآية فيها التشريع، وثم يرجع إلى آية أخرى فيها أصل الخلق قصة آدم، وهكذا في تنوع.
وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأنَّ الأنفس متنوعة.
بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، تارة تتأثر بالمثل، تارة تتأثر بالقصة، تارة هي مُلْزَمَة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد.
فَكَوْنُ هذه وراء هذه وراء هذه تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواع ما تتأثر به.
وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خَلَقَ هذه النفس البشرية، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] .
فتجد أنَّ القرآن يحاصرك، فأيُّ إنسان أراد أن يفر لا يمكن أن يفر من القرآن، ستأتيه قوة بآية فيها وصف الكافرين، آيات فيها قوة في وصف المنافقين، آيات فيها قوة في وصف المؤمنين، آيات فيها العقيدة، فيها الماضي، فيها الحاضر، فيها النبوة، فيها الرسالة، فيها الدلائل، فيها حال المشركين، إلى آخر [.....] ما يحصر على النفس الحية والعقل الواعي الذي يتحرك وعنده همة يحصر عليه الهروب.
وهذا لا يمكن أن يحصره في أنواع النفس البشرية الواحدة إلا من خَلَقَ هذه النفس وتَكَلَّمَ بهذا القرآن لإصلاحها، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] .
فكيف إذاً بأنواع الأنفس المختلفة، هذا الذي يَصْلُحُ له الترغيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له الترهيب، وهذا الذي يَصْلُحُ له وصف الجنة، وهذا الذي ينشأ عنده الإيمان بالحب وإلى آخره، وذلك الذي ينشأ عنده الإيمان بالجهاد، ونحو ذلك.
~ ثانياً:
تنوع الأنفس وخطاب القرآن للناس جميعاً على تنوع أنفسهم هذا دليل على أنَّ هذا القرآن له سلطان على النفوس.
أيضاً تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ يعني رنات الكلام.
بعض الناس عنده شفافية في التأثر باللحن، بالرنات، بالصعود والنزول في نغمة الكلام، هذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.
لَبيد بن رَبيعة صاحب معلقة وصاحب ديوان مشهور، قيل له: ألا تنشدنا من قصائدك، لم وقفت عن الشعر؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران.
لأنَّ هذا الشيء هو له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال عز وجل {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42] ، وقال سبحانه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] .
- سادساً:
أنَّ القرآن فيه الفصل في أمور الغيبيات، فَثَمَّ أشياء في القرآن أُنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وكان أميا صلى الله عليه وسلم، ما لم يَظْهَرْ وجه بيانها وحجتها في كمال أُطْرِهَا إلا في العصر الحاضر، وهو ما اعتنى به طائفة من الناس وسموه الإعجاز العلمي في القرآن.
والإعجاز العلمي في القرآن حق؛ لكن له ضوابط، توسَّعَ فيه بعضهم فخرجوا به عن المقصود إلى أنَّ يجعلوا آيات القرآن خاضعة للنظريات، وهذا باطل؛ بل النظريات خاضعة للقرآن لأن القرآن حق من عند الله والنظريات من صنع البشر لكن بالفهم الصحيح للقرآن.
فثَم أشياء من الإعجاز العلمي حق لم يكن يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم على كمال معناها وإنما علموا أصل المعنى، فظهرت في العصر الحاضر في أصول من الإعجاز العلمي.
الإعجاز الاقتصادي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز العَقدي أشياء تكلم عنها الناس في هذا العصر -ما نطيل في بيانها- وكل واحدة منها دالة على أن هذا القرآن من عند الله عز وجل {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82] .
- سابعاً:
أنّ القرآن من صفاته أنّ الإنسان المؤمن كلما ازداد من القرآن ازداد حباً في الله عز وجل، وهذا راجع إلى الإيمان، وراجع إلى أنَّ صفة القرآن فيها زيادة في الهدى والشفاء للقلوب.
فالأوامر والنواهي والأخبار التي في القرآن هي هدى وشفاء لما في القلوب، كما قال سبحانه {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] ، وهذا سلطان خاص على الذين آمنوا في أنه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور في المسائل العلمية وفي المسائل العملية.
لهذا ما تأتي فتنة ولا اشتباه إلا وعند المؤمن البصيرة لما في هذا القرآن؛ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] .
فإذاً صفة كلام الله عز وجل في أنَّ المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعلم حدوده ويعلم معانيه، أنَّ عنده النور في الفصل في المسائل العلمية والعملية، وهذه لا يُلقاها إلا أهل الإيمان {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] ، {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82] ، وهذا أيضا سلطان خاص يزيد المؤمن إيمانا.
لهذا إذا تليت على المؤمن آيات الله عز وجل {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] ، زادتهم إيماناَ لما فيه من السلطان على النفوس.
إذا تبين لك ذلك فكلام الله عز وجل قديم النوع حادث الآحاد.
والقرآن من الحادث الآحاد وقت التَّنَزُّل كما قال عز وجل {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:2-3] إلى آخر الآيات.
يعني أنّ الله عز وجل تَكَلَّمَ به.
وكلام الله عز وجل أوسع من الكلام بالقرآن.
والقرآن جاء على هذا النحو؛ لأنه الذي يتحمله الإنسان، الإنس والجن لا يتحملون أكثر من هذا، وإلا لصار عليهم كَلَفَة وعَنَفَة.
بهذا يتبين لك ما ظهر لي من تحصيل أقوال أهل العلم في هذه المسألة العظيمة التي خاض فيها المعتزلة، وخاض فيها الأشاعرة، وقل بل نَدَرْ من أهل السنة من خاض فيها على هذا النحو، بل لا أعلم من جمع فيها الأوجه على هذا النحو في كتب العقائد؛ بل تجدها متفرقة في كتب كثيرة في البلاغة، وفي الدراسات في إعجاز القرآن، وفي التفسير، وفي كتب متنوعة.
وما أجمل قول الطحاوي رحمه الله رحمة واسعة (أَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر) وهذا هو الحق فالقرآن بصورته وهيئته وصفته لا يمكن أن يشبه قول البشر، حتى في رسمه وتنوع آياته وسوره لا يمكن أن يشبه قول البشر.
أسال الله عز وجل أن يغرس الإيمان في قلوبنا غرسا عظيما، وأن يجعلنا من أوليائه الصالحين، وأن يهيئ لنا من امرنا رشداً.