الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسئلة:
س1/ هل جاء في الأثر أنَّ الرجل إذا فعل معصية ولم يتب قبل ست ساعات فإنه يُكْتَبْ عليه ذنب وإن تاب بعدها فلا ذنب عليه؟
ج/ جاء في تفسير قول الله عز وجل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، أنَّ العبد المؤمن إذا فَعَلَ السيئة قال الملك المُوَكَّلْ بالكتابة انتظروا فلعله يتوب أو يفعل حسنةً لمحوها، هذا جاء في الأثر لكن ما أستحضر صحة ذلك.
س2/ حديث «من فاتته العصر فقد حبط عمله» (1) هل هو صحيح، ومن رواه؟
ج/ هو صحيح وقد رواه مسلم وهذا اختلف العلماء فيه، والظاهر منه أنّ قوله «من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله» يعني خرجت عن وقتها، يعني أخرجها عن وقتها كلها، يعني بعد المغرب.
حَبِطَ عمله يعني العمل الذي يقابل هذه الصلاة، ليس مطلق العمل أوكل العمل، لأ.
ومن أهل العلم من قال العمل الذي هو عمل الصلاة ولو صلاها لأنها حابطة.
س3/ ما المراد بحديث «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» (2) ؟
ج/ يعني أنَّ هذا الذنب الذي عمله من عظمه أنَّه كأنه فقد أهله وماله، يعني لو فقد أهله وماله كان أهون عليه.
س4/ الفتوى التي انتشرت باستحلال الربا، أي أنَّ بعض العلماء قال إنَّ الربا حلال، أو الفوائد البنكية حلال؟
ج/ هناك فرق بين القول بأنَّ الربا حلال وبين قول أنَّ الفوائد البنكية حلال.
فمن قال إنَّ الربا حلال فهو كافر، لكن الفوائد فيها الخلاف، فالخلاف فيها قديم.
وأوَّلْ من أباحها فيما أعلم الشيخ محمد عبده المصري، ولم يُؤَلِفْ فيها لكن أَلَّفْ فيها الشيخ محمد رشيد رضا رسالة معروفة مطبوعة بعنوان (الربا والمعاملات المالية) ، ذَكَرْ في إباحة الفوائد، وليس الفوائد فقط حتى القروض التي فيها فائدة إذا كان المسألة ما فيها ظلم، إذا كان ما فيها استغلال للضعيف.
قالوا لأنَّ الله عز وجل علَّلَ التحريم بالظلم فقال {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] ، وربا الجاهلية كان فيه استغلال لحاجة الضعيف.
لكن إذا كانَ ترك المال للبنك فيه قوة للبنك، ترك المال له فيه قوة له، كون بنك يعطيك ما فيه استغلال لحاجتك، وإنما فيه أنَّهُ أعطاكَ، ما استغل حاجتك، لأنك أنت أصلاً لست محتاج، لكن هو أعطاك لقاء عمله بالمال أو أقرض قروض ليست لاستغلال الحاجة إنما هي للإنتاج، يعمل استثمار، مصانع إلى آخره.
محمد رشيد رضا كتب فيه كتاب كبير ومشهور (الربا والمعاملات المالية في الإسلام) فيرى أنَّ هذه كلها ما فيها ظلم من الغني الذي هو صاحب البنك لصاحب المال، وإنما هذه فيها إعطاء وإعانة له فليست محرمة.
وهذا أخذه مجموعة عن المصريين ومجموعة من علماء سوريا، وكثيرين أخذوه.
لهذا نقول مسألة الفوائد البنكية هذه القول بإباحتها قول ضعيف والأدلة تشمل هذا وهذا، والتعليل بعدم الظلم، يعني الجواب عن هذا يطول، وقول جمهور أهل العلم بل عامة أهل العلم من عدم إباحتها لا هي ولا القروض الشخصية هذا هو الصواب.
لكن معرفتك للخلاف مفيدة في عدم الدخول في التكفير، لأنَّ الذي يُكَفَّرْ به ما هو؟
هو ما أُجْمِعْ عليه وهو ربا الجاهلية؛ يعني يعطيه قرض مثل ما قال قتادة ومجاهد وجماعة يعطيه قرض حسن ثُمَّ إذا أتى وقت السداد قال له جاء وقت السداد إما أن تقضي وإما أن تُرْبِيْ، ويكون هذا غالباً من الغني للفقير استغلالاً لحاجتة، فهو يعرف أنه لا يستطيع، فهذا الذي فيه ظلم وفيه إذلال إلى آخره.
هذا المجمع عليه وهو ربا الجاهلية والذي جاء فيه النص.
فهذا من أباحه فهو كافر، يعني إباحة ذلك كُفْرْ، أما المسائل الثانية ربا القروض وربا الاستثمار والفوائد فهذه ما فيها تكفير فيها صواب وغلط، لكن ما فيها تكفير، وهذه مهمة.
مثل شيخ الأزهر لما أباحها فهو مسبوق، كلامه فيها أضعف من كلام رشيد رضا، رشيد رضا أصَّلْهَا تأصيل يعني فيه شبهة.
س4/ذكر العلماء لفظ الحد لله، فما المراد به؟
ج/ الحد لله عز وجل يريدون به أنَّ الله سبحانه وتعالى غير مختلط بخلقه، فالله عز وجل قالوا بِحَدْ يعني أنه غير مختلط بالخلق، غير ممازج لخلقه؛ لأنه لو كان ممازجاً كان ما صار فيه حد، لكن بِحَدْ يعني ثَمَّ حَدٌ ينتهي إليه الخلق، الخلق فيه حد ينتهون إليه ويبقى رب العالمين، هذا معنى بِحَدْ.
س5/ هل قال أحدٌ منهم أنه أراد به العلو؟
هو العلو من ضمنه، فهو أوضح المسائل تطبيقاً، يعني استوى على عرشه.
قال بحد؟
قال نعم بحد، مثل ما قال سفيان وغيره وحماد بن سلمة، بحد يعني أنه مستوي على عرشه بذاته عز وجل غير ممازج لخلقه غير مخالط لخلقه، هذا معنى بحد.
قال نعم، بحد؛ يعني غير مخالط منفصل.
قال نعم بحد؛ يعني فيه حد ينتهي الخلقُ إليه، فيكون ما ثمَّ إلا رب العالمين.
س6/ الذي يقيم الحجة هل [.....] ؟
ج/ ما هو شرط المهم يكون عالما.
(1) البخاري (553) / النسائي (474)
(2)
البخاري (552) / مسلم (1448)
س7 /ممكن يكون لا يعرفه يعني؟
لا، ما يعرفه ما يصلح، لابد يكون عالماً معروفاً.
س8 /هل يعني الذي تقام عليه الحجة عارف الذي يقيم عليه الحجة؟
لا يعرفه شخصاً، هو يعرف أنه عالم وليس جاهلاً، فمثلاً اثنين [.....] ، لا يكفي، لابد يكون عالماً، وهذه تختلف، إقامة الحجة تختلف، فيه مسائل التي يمكن أي واحد -المعلوم من الدين بالضرورة- أي واحد يقيم، لكن في المسائل الخفية التي فيها شبه.
س9/هل الناس في البلاد العربية ينطبق عليهم حكم الأعجمي لأنهم قد ابتعدوا عن اللسان العربي من ناحية فهم الألفاظ والمعاني؟
العلماء لا ينطبق عليهم، العلماء الذين درسوا اللغة ودرسوا النحو وهو عالم يعرف العقيدة ودَرَسْ، هذا القرآن كافي في حقه؛ لأنه مفرط كونه ما عرف، لكن العوام وأشباه العوام هؤلاء يحتاجون إلى بيان.
س10/ آحاد الناس ما يُكَفِّرُونَ أحداً، فقط التكفير يقتصر على العلماء والقضاة و [.....] ؟
يعني في المسائل التي تحتاج إلى إقامة الحجة، لكن المعلوم من الدين بالضرورة.
يعني مثلا شخصٌ قال لأحد من المسلمين الخمر حلال.
هذا يكفِّرُهُ لأنَّ هذا لا يحتاج إلى استدلال، معلوم من الدين بالضرورة.
لكن تجيء المسائل الخفية أو المسائل التي تحتاج إلى إقامة الحجة، المسائل الخفية يعني النادرة أو التي تحتاج إلى إقامة الحجة، فما دام فيه إزالة شبهة فلا بد من عالم يزيلها أو يحكم.
لكن المعلوم من الدين بالضرورة الذي لا يُحْتَاجْ فيه إلى استدلال أصلاً.
وهذه فيها تفصيلات تختلف باختلاف البلاد والأماكن.
س11/ذكر شيخ الإسلام في مسألة حفظ [..]
…
لما قال إنه [.....] ذكر كلام قال لو كان كَفَّرَهْ لكان مثلاً سعى في قتله؟
كلام شيخ الإسلام صحيح، حتى هو يقول أنا أقول للمخالفين لو قلت بما تقولون به لَكَفَرْتُ؛ لأنَّهُ عنده العلم الواضح، يقول للمخالفين لو قلت بما تقولون به لكفرت، فهذا أصل مهم.
س12/إيش معنى تكفير الشافعي لحفص الفرد؟ (1)
ما كَفَّرَهُ عيناً.
س13/لكن هو قال كفرت بهذا؟
كَفَرْتْ يعني لم يحكم عليه بالردة، كَفَرْتْ يعني هذا من باب الوعيد، لكن ما حَكَمْ عليه بالردة في نفسه، يعني المقالة هذه التي قلتها أنت كفرتَ بها، كفرتَ بقولك هذا.
لكن هل معنى كَفَرْتْ أنه جَعَلَ هذا الكفر مستديماً معه يعني خَرَجْ من الإسلام به؟
هذه لابد فيها إقامة الحجة، فإنه إذا كان اكتفى بذلك وأقام الحجة عليه خلاص يصير مرتد.
فإذاً ظاهر كلام ابن تيمية الذي قلته الآن أنه يقول أن الشافعي ما حكم عليه بالردة.
يقول شيخ الإسلام: قال له كَفَرْتْ من باب الوعيد لأن مقالته مقالة كفر؛ لكنه ما حكم عليه.
س14/بما أَنَّهُ ناقشه، ألا يكون قد أقام عليه الحجة؟
والله كلام ابن تيمية ما يساعد بهذا، ما يساعد أنه كفّره.
س15/ التسخط على المصيبة هل يكون في الألفاظ فقط؟
ج/ التسخط معروف، التسخط منافي للصبر، باللسان تكلم باللسان، أو الجوارح يضرب، أو في قلبه يظن الظن السوء بالله عز وجل.
يقول ما الذي أتاني، أنا لا أستاهل هذا، غيري أولى مني.
هل هو باللسان فقط؟
التسخط له ثلاثة، الصبر له ثلاثة موارد، وكذلك التسخط له ثلاثة موارد، تسخط بالقلب، تسخط باللسان، تسخط بالجوارح.
س16/ [.....] ؟
ج/ هو غلط كلامه، كلام الطحاوي ما هو صحيح، إذا كان أراد به ما نكفره بأي ذنب حتى يستحله، يدخل فيه الشرك بالله، يدخل فيه السجود للأوثان، مسبة النبي صلى الله عليه وسلم ومسبة الله فكلامه غير صحيح، إنما ظاهر السياق أنه أراد مخالفة الخوارج والمعتزلة، الخوارج والمعتزلة كلامهم في إيش؟ في الكبائر العملية، لذلك بذنب يعني من الذنوب العملية أو بمجرد ذنب أو بكل ذنب.
س17/ بالنسبة للقضاء والقدر، أحياناً تحدث المصيبة بسبب فعل الإنسان، مثل أن يسعى فيها أو يسعى في بعض أسبابها، كأن يكون إنسان باعَ شيئاً واستعجل في بيعه ثم اكتشف أنه أخطأ في بيعه، ثم جلس يقول يا ليتني لم أبعه أو ما أشبهه، فهل هذا معارض للقضاء والقدر؟
ج/ أولا الرضا له جهتان:
- الرضا بفعل الله عز وجل، بتصرف الله في ملكوته هذا واجب.
- والثاني الرضا بالمصيبة بالذنب، الرضا بفقد المال، الرضا بالمرض هذا مستحب ولا يقدر عليه كل أحد.
فالرضا بقضاء الله عز وجل الرضا بفعل الله سبحانه وتعالى، تصرف الله في ملكوته يعني حيث هو من فِعْلٌ الله عز وجل يرضى ولا يسخط تصرف الله في ملكوته.
لكن يسخط المصيبة، يسخط المرض، لكن يقول الله عز وجل ما شاء فعل هذا ملكه وأنا عبد من عباده؛ لكن إذا نظر إلى المصيبة سخطها إذا نظر إلى المرض سخطه، فهذا مستحب أنه يرضى بالمصيبة.
(1) سنن البيهقي الكبرى (19690) / حلية الأولياء (9/113) / درء تعارض العقل والنقل (4/5)
ولهذا مسائل الرضا فيها قال سبحانه وتعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] .
قوله هنا (في كتاب) و (قدر) و {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} هذا تعليق أنَّ عدم اليأس وعدم الفرح يَعْظُمْ ويُوجَدْ بقوة إذا قوي إيمان العبد بفعل الله.
المقصود الواجب هو الرضا بفعل الله، أما الذي يسميه العلماء الرضا بالقضاء، يعني كون الله عز وجل قضى هذا الشيء، أما المقضي المصيبة ما هو واجب بل هو مستحب، يختلف فيها الناس، ناس رضاها دائم وناس يرضى ساعة وساعة ما يرضى، يختلف الناس، والله المستعان.
س18/ عبارة ليس بالإمكان أبدع مما كان، قد يُكَفَّرْ قائلها؟
ج/ قد يُكَفَّرْ به إذا عنى شيئا، إذا عنى ليس بالإمكان أبدع مما كان أن الله عز وجل لا يقدر أن يخلق أجمل من هذا الكون، هذا كفر؛ لأن هذه الكلمة قد يقولها القائل وتحتمل معنىً صحيحا وقد يقولها وتحتمل معنى باطلا، وقد تصير كفر.
إذا قال ليس في الإمكان أبدع مما كان يعني وجود هذه الطبيعة ما يمكن يكون فيه أحسن منها، ما يمكن أن الله أن يخلق أجمل من هذه أعوذ بالله، الله تعالى على كل شيء قدير.
س19/ «لا يدخل الجنة قاطع رحم» هل معناها أنه لا يدخلها مطلقا؟
ج/ يعني لا يدخلها أولا؛ بل هو متوعد بالعذاب على قطعه الرحم حتى يُطهَّر هذا من أحاديث الوعيد.
س20/ الفخر بالأحساب هل يلحق بالطعن في الأنساب في الكفر وهل هناك ضابط؟
ج/ لا، هذا فعل جاهلي، هو فقط من خصال الجاهلية وليس كفراً، هذا من خصال الجاهلية منها ما يصل إلى أنها كفر يعني من جهة أنها ذنب عظيم إلى آخره، ومنها من الخصال التي تركها واجب مثل التفاخر مثل التطاول.
أما الضابط فليس فيها ضابط، فما دام أنه مسلم وحقق التوحيد فليس جاهلي، هذا أصل.
قد يأتيه خصلة تكون من خصال الجاهلية مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر «أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية» ، فقد يكون في المسلم في المؤمن خصلة من خصال أهل الجاهلية، خصلة واحدة خصلتين، ثلاثة، عشرة؛ لكن ما يقال فلان جاهلي، جاهلي معناه أنك سلبته [.....] ، أما أن تقول فيك جاهلية تفاخر بالأحساب الطعن بالأنساب تقول فيك جاهلية هذا صحيح.
سبحانك اللهم وبحمدك. (1)
(1) انتهى الشريط السابع والعشرون.
: [[الشريط الثامن والعشرون]] :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
الأسئلة:
س1/ هل هناك فرق بين فهم الحجة والاقتناع بالحجة؟
ج/ هذا مرّ معنا الجواب عليه (1) وهو أنَّ فهم الحجة الذي لا يُشترط في إقامة الحجة هو الاقتناع، كونه اقتنع أو لم يقتنع هذه ليس شرطاً؛ لكن المهم أن تُقَام عليه الحجة بوضوح وبدليل لأنه إذا قلنا بشرط الاقتناع معنى ذلك أنه لا يكفر إلا المعاند، والأدلة دَلَّتْ في القرآن والسنة على أنَّ الكافر يكون معانداً ويكون غير معاند، يكون مقتنع وأحياناً يكون غير مقتنع عنده شبهة لا زالت عنده ولكن لم يتخلص منها لأسباب راجعة إليه.
س2/ ما الدليل على أخذ جبريل عليه السلام القرآن من الله تعالى مباشرة، لا من اللوح المحفوظ وأنَّ الله كلمه به؟
ج/ الدليل على ذلك أنَّ الله عز وجل نسب القرآن وأضاف القرآن إلى نفسه تكليما به قال عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] . {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} فسَمَّاهُ كلاماً له عز وجل، وقال سبحانه وتعالى في ذكر جبريل {وَإِنَّهُ} أي في القرآن وجبريل {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192-195] ، ودلّ على أنَّ هذا التنزيل تنزيل سماع لا تنزيل كتابة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «إذا قضى الله الوحي في السماء سُمِعَ له كجر سلسلة على صفوان» (2) إلى آخر الحديث، فيكون جبريل أول من يفيق فيقولون ماذا قال ربكم، لا، فتفيق الملائكة فينفذ ذلك فيهم.
«إذا قضى الله الوحي في السماء برزت الملائكة بأجنحتها في السماء خضعانا لقوله فينفذهم في ذلك» يعني إلى قوله «فتقول الملائكة ماذا قال ربكم فيقول جبريل عليه السلام «الحق وهو العليّ الكبير» فالوحي يسمعه جبريل عليه السلام ثم يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قول من قال من الأشاعرة إنه يأخذه من اللوح المحفوظ، فهذا ليس بصحيح وليس من أقوال أهل السنة البتة؛ لأنَّ ما في اللوح المحفوظ من القرآن هذا مجموع على جهة الكتابة، والقرآن له جهتان:
- جهة سماع.
- وجهة كتابة.
جهة كلام من الله عز وجل يُسمع، وجهة كتابة.
وجهة الكتابة هي ما في اللوح المحفوظ من القرآن بأجمعه من أوله إلى آخره، وجبريل عليه السلام لا ينتقي هذه الآية يأخذها وينزلها في الوقت المحدد، ثم يأخذ الآية الأخرى وينزلها في الوقت المحدد، وإنما هو وحي الله عز وجل.
قال سبحانه {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعُه الأصوات، فقد جاءت المجادلة تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حجرتي لا أسمعها (3) ، وهذا مصيرٌ من عائشة رضي الله عنها إلى أنَّ الله عز وجل سمع ذلك منها فقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} .
المقصود من ذلك أنَّ تنزيل القرآن تنزيل سماع، أما الكتابة فهي موجودة في ثلاثة أشياء:
1 -
موجودة في اللوح المحفوظ كما قال عز وجل {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79]، وقال عز وجل {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، هذه الأولى.
2 -
والثانية في الكتابة ما هو موجود في بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا على القول بصحة أثر ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك.
- والثالث المكتوب في المصاحف التي بين أيدي المسلمين.
هذه ثلاثة كتابات، والكتابة ليست تكليما وإنما هي كتابة.
وحيثما وجد في اللوح المحفوظ أو في بيت العزة أو في المصاحف كله كلام الله عز وجل ينسب إلى الله عز وجل أو يضاف إلى الله عز وجل إضافة صفة إلى موصوف.
س3/ قال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] ، ما المقصود بالمعصية هل هي الصغائر أم الكبائر أم الشرك؟
ج/ المعصية هذه التي توعّد الله عز وجل عليها بدخول النار والخلود فيها والعذاب المهين هي الكفر بالله عز وجل والشّرك الأكبر والردة عن الإسلام والعياذ بالله، هذا هو الذي يترتب عليه ذلك.
(1) انظر (360)
(2)
البخاري (4701) / أبو داود (4738) / الترمذي (3223) / ابن ماجه (194)
(3)
النسائي (3460) / ابن ماجه (188)
والكبائر والصغائر داخلة في عموم المعصية {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يدخل فيها الكبائر والصغائر؛ لكن قوله {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} هذا يدُلُّ على أنَّ هذه المعصية هي المعاصي التي لا يدخلها التكفير، وهي الكبائر إن مات مصرًّا عليها ولم يتب؛ يعني ولم يشأ الله عز وجل أن يغفر له والكفر والشرك كما ذكرتُ لك.
إذاً فالآية فيها الكبائر التي لم يَتُبْ منها مثل القتل مثل شرب الخمر ونحو ذلك، هذه إذا مات المسلم وهو يفعلها ولم يتب منها فإنه تحت المشيئة إن شاء الله عز وجل عفا عنه وإن شاء عَذَّبَهْ، وهذا يدخل في العذاب.
{خَالِدًا فِيهَا} الخلود في القرآن نوعان:
- خلود أبدي.
- وخلود أمدي.
الخلود في اللغة واستعمال القرآن على ذلك أنَّ الخلود معناه المكث الطويل، إذا مَكَثَ طويلا قيل له خالد، ولذلك العرب تسمي أولادها خالداً تفاؤلاً بطول المكث، بطول العمر، سَمَّوهُ خالداً؛ يعني أنه سيعمر عمراً طويلاً، وليس معنى الخلود يعني أنه خلود ليس معه انقطاع، وإنما هذا يُمَيَّزْ بالأبدية لهذا في الآيات ثَمَّ آيات فيها {أبدًا} ، وثَمَّ آيات ليس فيها الأبدية، فلما جاء في القتل قال {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، أجمع أهل السنة على أنَّ الخلود في هذه الآية ليس أبدياً لأنَّ مرتكب الكبيرة يخرج من النار بتوحيده.
والآيات التي فيها الخلود الأبدي واضحة كقوله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، لا، الآيات متعددة ما استحضرتها الآن، فإذاً الخلود نوعان في القرآن.
شيخ الإسلام ابن تيمية له بحث في هذا، لكن لا يُسَلَّمْ له. (1)
س4/ لو قال لي شخص: أنتم يا أهل السنة والجماعة متناقضون في تقسيماتكم؛ كيف تقولون إنَّ الله نُثْبِتْ له صفة العلو بذاته وفي نفس الوقت تقولون إنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، والنزول من الصفات الفعلية، فهل هذا إلا جمعٌ بين نقيضين؟
ج/ ليس أهل السنة الذين قالوا بهذا، الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي أثبت العلو لله عز وجل بذاته، وهو الذي أخبر بنزول الرّب عز وجل في آخر كل ليل، فإذا كان ثَمَّ تناقض فنُعِيذْ من يقول هذا أن ينسب التناقض للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله هل هذا إلا جمع بين النقيضين هذه مشكلة كل مؤوّل وكل مُحَرِّفْ هذا السؤال يمثل مشكلته.
وهي أنَّ المُؤَوِّلْ مُشَبِّهْ، ما أوَّلَ إلا لأنه شبَّه، قام في ذهنه أنَّ إثبات الصفة فيه مشابهة ومماثلة لما يعلمه من اتصاف المخلوق بالصفة، ثُمَّ شَبَّهَ ثُمَّ نَفَى.
ما ينفي أحد في مجال الصفات والعقائد إلا أنه شَبَّهَ قبل، وإلا كيف تنفي؟
أنت لا تَقُلْ إنَّ الكيفية تعلمها أصلاً أو أنَّ الكيفية لها مماثل فيما ترى أو فيما رأيت، كيفية اتصاف الرب عز وجل بصفاته لا يعلمها أحد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فلا نعلم حقيقة اتصافه بالصفة ولا كيفية اتصافه بالصفة.
فإذا قال قائل: هذا يمتنع إننا نقول أنه عز وجل عالٍ بذاته سبحانه وتعالى وأنه ينزل، يقول هذا جمع بين النقيضين؛ فمعناه أنه شَبَّهْ.
لأنه عَدَّهُ جمعاً بين النقيضين لماذا؟
لأنه جَمْعٌ بين النقيضين في حق بعض المخلوقات، وليس كل المخلوقات؛ لأنه يمكن أن ينزل المخلوق ويبقى عالياً، ينزل المخلوق ويبقى عالياً؛ لكن النزول مع الاستواء على العرش هذا من خصائص الله عز وجل، لكن المخلوق يمكن أن ينزل وأن يكون عالياً بذاته مثل الملائكة ينزلون وهم في العلو، أما الاستواء على العرش مع النزول هذا خاص بجلال الله عز وجل.
فإذاً إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية، من قال هذه تجمع مع هذه، هذا فيه تناقض، كيف؟
هذا معناه أنَّهُ شَبَّهْ، اسْتَحْضَرْ من الصفة مماثلة اتصاف المخلوق بها ثم نفى، وهذه مشكلة كل المؤولة.
س5/ أيهما أعظم جُرْمَاً وذنباً الحلف بغير الله أو الزنا؟
ج/ الحلف بغير الله كفر والزنا ليس كفراً، ومعصية سمَّاها الله عز وجل كفراً هي أعظم من معصية لم يسمها الله عز وجل كفراً، وهذا المقصود به من حيث الجنس يعني جنس الحلف بغير الله وجنس الزنا.
لكن لو تطبقه على شخص لا يسوغ التطبيق، تقول هذا حَلَفَ بغير الله وهذا زنى، معناه هذا أبشع من هذا، فإنَّ هذا لا يُطَبَّقْ في كل نواحي الموازنة هل هذا أعظم أو هذا أعظم المقصود به النوع، أما إذا أتيت إلى الأفراد فهذا يختلف باختلاف الأحوال.
س6/ هل الذبح أمام أو عند قدوم الضيف شرك، حيث إنَّ بعض من ينتسب إلى أهل العلم يقول إذا كان على وجه الإكرام يجوز ذلك؟
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن والعشرون.
ج/ الذبح إراقة الدم من أعظم القربات لله عز وجل؛ لأنَّ الذي أجرى الدم في هذا المخلوق هو رب العالمين، فالدم هو الحياة، جريان الدم هو الحياة، فإراقته إنما تكون تقرباً لمن وهب هذه الحياة ووهب هذه الأنعام التي ينتفع بها الإنسان، التقرب بإراقة الدم إذا كان لمخلوق فهو كفر بالاتفاق، تقرّب بإراقة الدم لمخلوق تقرباً له تعظيماً له هذا كفر بالإتفاق، هذا شرك من جهة العبادة، فإنْ سَمَّى غير الله عز وجل عليه صار مما أُهِل لغير الله به فرجع إلى الشك في الربوبية والاستعانة.
الذي يحصل عند البادية في بعض البادية أنهم إذا أرادوا أن يُكْرِمُوا ضيفاً -وليس كل ضيف- الضيف الذي يعظمونه أو سلطان أو أمير أو نحو ذلك، فإنهم يذبحون الذبيحة ليسيل الدم أمامه وهو يرى، وهذا جرت عادتهم أنَّ هذا على جهة التعظيم للقادم لا على جهة الإكرام، يُكْرِمون أضيافهم بالذبح وراء البيت بالذبح في أي مكان؛ لكن كونه ينحر الإبل والدم يضرب بقوة والضيف يأتي، هذا لا يفعلونه إلا للمُعَظَّمْ فيهم، وهذا نوع تقرب للمخلوق بهذا الدم، ما نقول تقرب لكن هو نوع تقرب، ولذلك حَكَمَ العلماء على أنَّ هذه الذبيحة ليست مباحة بل هي ميتة، لا يجوز أكلها، ويجب الإنكار على من فعل ذلك، سواء فعله مع سلطان أو مع أمير أو فَعَلَهُ مع رئيس قبيلة أو فعله مع ضيف معتاد ممن يُعَظَّمْ؛ يعني ليس من هؤلاء، فإنه لا يجوز الأكل منها، إذا ذبحها أمامه ضابطها أن ينحر الإبل ويضرب الدم وهذا يدخل أمامه وهو يرى لدخوله.
لكن لا يدخل في ذلك وهو جالس مثلاً في المكان أو في الخيمة أو في البر، هو جالس ثم دعوه على الكل فصاروا ذبحوا الذبيحة وهو ينظر إليها؛ لكن الضابط هو إراقة الدم وسيلانه وهذا يتحرك وهذا يقدم مثل ما حصل قريباً، نسأل الله عز وجل العافية والسلامة، هذا كله محرم وكبيرة من الكبائر وبعض حالاته يكون شركاً في هذا؛ لكن على كل حال هذه الذبيحة محرمة ميتة لا يجوز الأكل منها.
س19/ لُوحظ في الآونة الأخيرة على بعض الشباب الملتزم الأخذ من اللحية تخفيفاً، فما حكم هذا العمل؟ وما حدود اللحية؟، وهل يُصَلَّى وراء الإمام الرسمي؟ آمل التكرّم بتفصيل مسألة بدعية الأسابيع المتكررة: المساجد الشجرة إلى آخره؟
ج/ أما حكم الأخذ من اللحية، فحلق اللحية حرام بالإجماع نص ابن حزم على تحريم حلق اللحية بالإجماع، وكذلك غيره، وعلماء المذاهب الأربعة يختلفون في هذه المسألة من حيث تحريم الحلق أصْلاً.
والذي دَلَّتْ عليه الأدلة الواضحة في السنة بألفاظ مختلفة أنّ إعفاء اللحية مأمور به قال صلى الله عليه وسلم «خالفوا المجوس أعفوا اللحى وحفوا الشوارب» وفي رواية أخرى قال «أرخوا اللحى» (1) ، وفي رواية ثالثة قال «وفّروا اللحى» (2) ، وقال «أكرموا اللحى» ، وهذا يدل على أنَّ هذه الأمور مأمور بها، وأنَّ حلق اللحية حرام، وقد روى ابن السعد أيضاً وغيره أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المجوس وكان حالق اللحية وكان موفّر الشارب جداً فانصرف عنه صلى الله عليه وسلم فلما أقبل عليه قال له «من أمرك أن تفعل هذا؟» فأجابه الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم «ولكن الله أمرني أن آخذ من هذا» يعني شاربه «وأعفي هذه» (3) يعني اللحية.
إذا تقرر هذا فما هو حد الإعفاء لغةً وشرعاً الذي يحصل به الإعفاء، وهل معنى الإعفاء أنه لا يجوز أخذ شيء من اللحية، للعلماء في ذلك أقوال:
- الإمام أحمد وأصحابه ذهبوا إلى أنَّ إعفاء اللحية بتركها على حالها سنّة، وأنّ الأخذ منها إذا لم يكن إلى حد الحلق فإنه مكروه، وهذا هو الذي مدوّنٌ في مذاهبهم، والإمام أحمد كان يأخذ من لحيته كما ذكره إسحاق ابن هانئ في مسائله.
- والقول الثاني وهو المُفْتَى به عند علمائنا وذلك لظاهر الأدلة أنَّ معنى الإعفاء ألا يُؤْخَذَ منها شيء أصلاً بدليل قوله (وفّروا اللحى) ، (أكرموا اللحى) ، (أرخوا اللحى) وهذه كلها مأمور بها.
لكن ما هو حد الإعفاء هذا؟
الذين قالوا بأنَّ الأخذ من اللحية ليس مخالفاً للإعفاء، قالوا هذا الأمر، أعفوا، أرخوا، خالفه الصحابة بالأخذ بما زاد عن القبضة فَدَلَّ على أنَّ حد الإعفاء ليس مطلقاً؛ يعني بِأَنَّ من أَخَذَ فقد خالف الأمر بالإعفاء.
ولهذا ذهب جماعة من العلماء منهم الحنفية ونَصَرَهُ الشيخ ناصر الدين الألباني في هذا الوقت نصراً بالغاً بأنَّ حد اللحية إلى القبضة، وما زاد على ذلك فلا يُشْرَعْ، وهذا القول فيه ضعف ظاهر؛ لأنَّ من الصحابة من كان كث اللحية جداً وعظيمها وكانت لحيته تبلغ إلى صدره، كما ذُكر عن علي رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثَّ اللحية جداً ونحو ذلك مما يدل على أنَّ حد الإعفاء بالقبضة وأنه لا يجوز أن يُعْفِيَ أكثر من القبضة هذا قول يحتاج إلى أدلة واضحة في ذلك.
(1) هذا اللفظ وما قبله في مسلم (626)
(2)
البخاري (5892)
(3)
الطبقات لابن سعد (1/449) / التمهيد (20/55)
ولو كان أنَّ الزيادة على القبضة لا تجوز كما ذهب إليه الشيخ ناصر الدين الألباني -حفظه الله- لما خَصَّ الصحابة الأخذ من اللحية مما زاد عن القبضة بالنُّسك، ابن عمر كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد عن القبضة أخذه، لو كان مطلق أنه ما يعفي أكثر من القبضة فمعناه أنه لا يُخَصْ بالنسك؛ لأنَّ تخصيصه بالنُّسك هذا يدل على معنى آخر وليس على الإطلاق.
المقصود من ذلك أنَّ العلماء لهم في ذلك أقوال:
القول الأول ما ذكرته لك من المفتى به عند علمائنا وهو أن الإعفاء بأنَّهُ يتركها على حالها، طبعاً إلا في حالة التشويه وهذه حالات نادرة.
والقول الثاني أنَّ الحلق يحرم وأنَّ تركها على حالها مستحب، والأخذ منها مكروه؛ يعني تَرَكَ فيه الأفضل.
والقول الثالث هو أنَّ الزيادة على القبضة لا يجوز؛ بل بدعة وهو قول الشيخ ناصر الدين الألباني، وهو قول ليس له حظ من الدليل.
[.....]
راجعة إلى كلمة (إعفاء) ما حدّه في اللغة؟ الأقرب من حيث النّظر وفعل الصحابة أنّ الإعفاء ما له حد؛ لكن المأمور به أن لا يكون المرء مشابهاً للذين يحلقونها أو يَقُصُّونَهَا شديداً؛ لأنَّ النووي رحمه الله ذكر خصال إثنا عشرة أو عشر خصال في اللحية مذمومة، ومنها أشياء يُوَافَقُ عليها ومنها الأخذ منها شديداً وهذا من فعل المجوس ومنها حلقها، وهو من المعاصي لكن ليست كبيرة، حلق اللحية ليس من الكبائر.
نكتفي بهذا القدر، وتعذورنا على الإجابة على الأسئلة لكن لعل فيها فائدة إن شاء الله تعالى. (1)
(1) انتهى الشريط الثامن والعشرون.
: [[الشريط التاسع والعشرون]] :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة:
س1/ يقول: إذا كان لفظ الحَنَفِي من ألْفَاظِ الأضداد التي تُطْلَقْ على الميل والاستقامة، فلماذا لا يقال من الأصل إنَّ إبراهيم عليه السلام كان مستقيماً على التوحيد ولا يقال مائلاً عن الشرك؟
ج/ لفظ (الحَنَفْ) في اللغة هو الميل، والحنيف يعني المائل، والرجل به حَنَفْ إذا كان به ميل في ساقيه أو في إحدى ساقيه، والأمور التي قال فيها العرب ونطقت العرب فيها بالأضداد؛ يعني أن تُطْلَقْ الكلمة وتُسْتَعْمَلْ في الشيء وفي ضده، هذا شائع في لغة العرب، وهو في اللغة يعني في اللّسان على نوعين:
- منها ما يُطْلَقُ على الشيء وعلى ضده ويُنْظَرُ فيه إلى التلازم؛ بمعنى أنَّ الشيء وضده متلازمان إذا وُجِدَ أحدهما وُجِدَ الآخر، ومن هذا الحنف، فيقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] ، فَمَنْ مال عن الشرك فإنه لا يميل عنه إلا إلى التوحيد؛ لأنه ليس ثَمَّ إلا توحيد وشرك، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] ، إذا فررت من الكائنات فإنك تفر منها إلى مُكَوِّنْ الكائنات؛ لأنه ليس ثَمَّ إلا هذا وهذا.
- النوع الثاني أن يُطْلَقَ بلا إرادة التلازم؛ بل من باب التفاؤل تَارَةً ومن باب آخر أو من أبواب أُخَرْ تارات أخر، مثل أن يُسمى اللديغ سليم، فاللديغ معروف لكن العرب قد تقول له سليم من باب التفاؤل، فكلمة سليم تُطْلَقْ على السالم وتُطْلَقْ على المريض، أُطْلِقَتْ على المريض من باب التفاؤل.
وهذه لها تأثير في فقه اللسان العربي فالعرب تارةً تطلقا من باب التلازم وتارةً تطلقها من باب التفاؤل وتارة لا من هذا ولا من هذا، في فِقْهٍ لهم في هذه الألفاظ.
إذا كان كذلك فلفظ الحنيف الذي جرى عليه السؤال لا يُتَصَوَّرْ أن يكون المرء حنيفاً أو حَنَفِيَاً أو حَنِيفِيَاً إلا أن يكون موحّداً؛ لأنه إذا مال عن الشرك فإنه يميل عنه إلى الحق وهو التوحيد، حنيف عن أهل الشرك مائل عن أهل الشرك فإنه لابد أن يميل عنهم إلى أهل التوحيد، ولو كان مَنْ مَالَ إليه إبراهيم عليه السلام وحده فإنه مع أُمَّةْ وليس مع واحد، وهكذا.
فإذاً الأصل في هذه أنها من باب التلازم، الحَنَفْ من باب التلازم.
ومنها كلمة -أيضا يُطلقها أهل نجد وربما بعضكم سمعها، وليسوا أهل نجد جميعاً وإنما هم أهل الدعوة، العامة منهم في أول الأمر- يقولون نحن أهل العُوجه، ما معنى العوجه؟
العوجه هذا من أسماء كلمة التوحيد، أهل العوجه؛ يعني أهل التوحيد، أهل ملة إبراهيم، أهل الحنيفية؛ لأنها عوجه عن طريق الشرك إلى طريق أهل التوحيد، وهذا هو التفسير الصحيح الذي فيها، مثل ما جاء في حديث وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة.
وَالْأَمْنُ وَالْإِيَاسُ يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ.
يُقَرِّرُ العلامة الطحاوي رحمه الله بهذا وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الأمر العظيم، وهو الأمن من مكر الله، واليأس من رَوحِ الله جل جلاله، وأنَّ اليأس هذا سبيل الكافرين، والأمْنُ مِنْ مكر الله سبيل أهل الشّهوات الذين لا يرقبون الله عز وجل ولا يرقُبُونَ صفات الرب جل جلاله.
والدليل على هذا الأصل قول الله عز وجل في الكافرين في اليأس {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، في قول يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] ، فنهاهم عن اليأس من رَوْحِ الله وعلَّلَ ذلك بأن هذا من خصال الكافرين.
وأما الأمن فالأمن من مكر الله عز وجل جاء النهي عنه في غير ما آية منها قوله تعالى في سورة الأعراف {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] .
والأمن من مكر الله كُفْرْ، واليأس من رَوْحِ الله كُفْرٌ أيضا كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) لأنَّ الله عز وجل وصف الكافرين والخاسرين الذين استحقّوا العقوبة منه والعذاب بأنهم يأمنون من مكر الله وييأسون من رَوْحِ الله عز وجل.
وأما أهل السنة والجماعة فهم لا يَأْمنون بل يخافون ذنوبهم ويخافون عقوبة الله عز وجل، ويعلمون أنَّ الله سبحانه خافته ملائكته وهم أقرب الأقربين وهم المقربون إليه عز وجل المُطَهَّرُونَ من دنس الآثام ومن رجس الذنوب يخافون ربهم، كما قال {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] ، وكما قال {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبإ:23] .
واليأس أيضا من روح الله هذا صفة أهل القنوط، فأهل السنة والجماعة بين هؤلاء وهؤلاء، لا يأمنون بل يخافون الله عز وجل ولا ييأسون بل يرجون.
وهذه راجعة إلى أنهم -يعني أهل الحق وأهل السنة- يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، كما وصف الله عز وجل أولياءَهُ المقربين بقوله {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] ، وهذه من صفات المتقين، وكذلك في قوله في سورة الأنبياء {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ، فجَمَعَ لهم بين الرّغب والرهب.
إذا تبين ذلك فإنَّ الأمن والإياس رِدَّةْ عن الدين كما قال (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) بضابط.
ومن المهم معرفة هذا الضابط؛ لأنه هو نكتة المسألة وعُقْدَتُها، وهو:
- أنَّ الأمن يكون كُفْراً إذا انعدم الخوف.
- واليأس يكون كُفْراً إذا انعدم الرجاء.
فمن لم يكن معه خوف من الله عز وجل أصلاً -يعني أصل الخوف غير موجود- فقد أَمِنَ فهو كافر.
ومن لم يكن معه رجاء في الله عز وجل أصلاً فقد يئس من روح الله فهو كافر.
إذاً الأمن والإياس مرتبطان؛ بل معناهما الخوف والرجاء.
الأمن لأجل عدم الخوف، واليأس لأجل عدم الرّجاء.
فمن كان عنده خوف قليل ويأمن كثيراً فإنه من أهل الذّنوب لا من أهل الكفر، فإن لم يكن معه خوف أصلاً فإنه كافر بالله عز وجل كما قال هنا (يَنْقُلَانِ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ) .
أما أهل التوحيد، أهل الذنوب من أهل القبلة فإنهم بِقَدْرِ ما عندهم من الذّنوب يكون عندهم أَمْنْ من مكر الله عز وجل.
فإذاً الأمن من مكر الله يتبعَّضْ، لا يوجد جميعاً ويذهب جميعاً؛ بل قد يكون في حق المعيَّنْ أنه يخاف تارة ويأمن تارة، يصحو تارة ويغفل تارة.
وكذلك في اليأس من رَوحِ الله يغلب على المرء الموحّد تارةً أنه ييأس إذا نظر إلى ذنبه، أو نَظَرَ إلى ما يحصل في مجتمعه أو ينظر إلى ما قضى الله عز وجل في هذه الأرض وعلى أهلها من الشرك مثلاً أو من الذنوب أو من الكبائر أو من القتل أو من الفساد فيأته اليأس، فإنْ غَلَبَ عليه اليأس بحيث انعدم الرجاء لنفسه أو للناس فإنه يكفر بذلك.
أما إذا وُجد عنده اليأس ووُجد عنده رجاء فإنه لا يخرج من الملّة.
فإذاً هنا ضابط الأمن والإياس الذي ينقل عن الملة هو ما ذكرته لك.
وأما المُوَحِّدْ المُعَيَّنْ من أهل الإيمان فإنه بحسب قوة يقينه يجتمع فيه أنَّهُ -يعني قد يكون عنده أَمْنْ بحسب ذنوبه-، ومن كَمَّلَ الإيمان وحقَّقَ التوحيد فإنه يخاف ولا يأمَنُ من مكر الله.
والأمن من مكر الله؛ يعني الأمن من استدراج الله عز وجل للعباد.
وقد وصف الله عز وجل بعض عباده بقوله {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (1) ، هذا الاستدراج يُحدِثُ الأمن، وما عُذِّبَتْ أمة إلا وقد أَمِنَتْ؛ لأنَّ الله عز وجل يبلوهم بالخيرات ويبلوهم بالسيئات ويبلوهم بالشر والخير فتنة ثُمَّ هم لا يتوبون ولا هم يَذَّكَّرُون.
فإذا وقع منهم الأمن وقعت عليهم العقوبة، نسأل الله عز وجل لنا ولإخواننا العفو والعافية.
فهذا ضابط المسألة. (وَسَبِيلُ الْحَقِّ بَيْنَهُمَا لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ) .
إذا تبين ذلك، فالواجب على كل مُوَحِّدْ، كل مؤمن: أن يُعَظِّمَ في قلبه جانب الخوف من الله عز وجل.
فلا يُفْلِحْ مَنْ أمِنَ الله على نفسه طرفة عين، الله عز وجل يُقَلِّبُ القلوب ويقلب الأبصار، وقال في وَصْفْ الأولين {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] .
يرى العبد أنَّ الخيرات تنفتح عليه وهم مُقِيم على الذنوب وهو مقيم على المعاصي وهو مقيم على الكبائر، سواء كان العبد فرداً أم كان مجتمعاً.
بنوا إسرائيل ادَّعَوا أنهم أحباب الله عز وجل وأنهم أبناؤه وأنه لا يُعَذِّبُهُم ولو حصل لهم تعذيب فإنما تمسهم النار أياماً معدودة، والله عز وجل عاقَبَ بني إسرائيل العقوبة العظيمة ولَعَنَهُم حيث قال سبحانه في سورة المائدة {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] ، الآيات.
فالواجب إذاً على المُوَحِّدْ أن يخاف ذنبه ولا ييأس من رَوْحِ الله.
كل أحد يُذنِبْ ولكن إذا أَذْنَبَ استغفر.
يخاف ذنبه ويخشى أنَّ الله عز وجل لم يقبل توبته، لم يقبل حوبته، لم يقبل إنابته، يرجو رحمة الله عز وجل ويخاف ذنوبه.
فما اجتمع هذان في قلب أحد إلا ونجا، وهو رجاء الرحمة وخوف الذنوب.
وهذا هو سبيل الحق الذي هو بين الأمن الإياس لأهل القبلة.
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الرّاغبين الرّاهبين الخاشعين، وأن يجنبنا الأمن كما أسأله أن يجنّبنا الإياس فإنه سبحانه على كل شيء قدير.
(1) الأعراف:182-183، القلم:44-45.
وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.
يُريد بذلك أنّ أهل السنة والجماعة خالفوا الخوارج والمعتزلة الذّين يوجبون للعبد النّار والخوارج الذين يُكَفِّرُونَ بالذنوب.
فقال: إنَّ العبْدَ لا يَخْرُجُ مِنَ الإيمَانِ بعد أن دَخَلَ فيه وصار مؤمناً إلا بجُحُودِ ما أَدْخَلَهُ فيه.
وهذا لأجل أنَّ أَعْظَمَ المسائل التي يَتَّضِحُ فيها الخروج من الإيمان هو الجَحْدْ، وإلا فهذا الحصر غير مراد للمؤلف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإذاً هذه الجملة فيها بيان مخالفة المُكَفِّرين بالذنوب من الخوارج وأشباههم أو الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه خالد مخلَّد في النار من الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.
إذا تبين هذا فهذه الجملة المهمّة فيها مسائل:
[المسألة الأولى] :
دليل هذه الجملة.
دليلها الإجماع؛ إجماع أهل السّنة والجماعة على أنَّ من دَخَلَ في الإيمان بيقين فإنه لا يَخْرُجُ منه إلا بِأَمْرٍ مُتَيَقَّنٍ مماثلٍ -يعني في اليقين- لما بِهِ دخل في الإيمان.
وهذا الإجماع له أدلته من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
[المسألة الثانية] :
هذا الحصر في كلام المؤلف ليس مراداً في أنَّهُ يقول (لا يخرج أحد من الإيمان إلا بالجحد) ، فينفي التكفير أو الحكم بالردة بالاستحلال أو بالإعراض أو بالشك أو بغير ذلك مما يُحْكَمُ على من أتى به مع قيام الشروط وانتفاء الموانع بالردة.
ودليل عدم إرادته للحصر أنَّهُ ذَكَرْ في المسألة الثالثة التي مضت أنَّ المؤلف تبعاً لأهل السنة لا يُكَفِّرُ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله فقال في المسألة التي مرت علينا قريبا (وَلَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبٍ، مَا لَمْ يَسْتَحِلَّهُ) واستحلال الذنب غير الجحد، الاستحلال صورة والجحد صورة، فدلَّ على أنَّ الطحاوي لا يريد بالحجد الحصر، ففيه ردّ على من حَصَرَ الردة أو الكفر بالتكذيب أو بالجحد.
[المسألة الثالثة] :
الجَحْدْ من الكلمات التي استُعْمِلَتْ في القرآن والتي جاءت في القرآن، ولها دلالتها في لغة العرب.
- فَدِلالة الجحد في اللغة: الجحد هو الرد والإنكار، جَحَدَ الشيء يعني رَدَّهُ أو أنْكَرَهُ، هذا من جهة اللغة
فيجتمع في اللغة مع التكذيب بالشيء ظاهراً أو مع التكذيب به باطناً.
- وأما في القرآن: فإنَّ الله عز وجل ذكر الجَحْدْ في عدة آيات، وبيَّنَ أَنَّ الجَحْدَ قد يجتمع مع التكذيب وقد لا يجتمع مع التكذيب، قال عز وجل في سورة الأنعام في وصف المشركين {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنبياء:33-34] فدل على أنهم لم يُكَذِّبُوا وجَحَدُوا.
ولهذا حقيقة الجحد عند أهل السنة والجماعة مرتبطة بالقول لأجل هذه الآية قال {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} يعني باطناً {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يعني ظاهراً، وهذا مرتبط بالقول لأنهم رَدُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
والخوارج ذهبوا إلى أنَّ الجحد يكون بالقول وبالفعل معاً، فعندهم أنَّ الجحد يكون بالقول كقول أهل السنة، ويكون أيضاً بالفعل فيدُلُّ الفعل على جحده.
* وهذا خلاف ما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة من أنَّ الجحد ليس مورده الفعل؛ لأنَّ الفعل مُحْتَمِلْ يَدْخُلُهُ التأويل ويَدْخُلُهُ الخطأ ويَدْخُلُهُ أشياء كثيرة، وأما القول فإنه يقين وواضح؛ لأنّه دخل في الإيمان بالقول -بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله-، فلا يخرُجُ منه إلا بجحودِ ما أدخله فيه، وما أدخله فيه كان قولاً أعلنه، وجَحْدُ ما أدخله فيه هو رَدُّهُ وتكذيبه أو إنكاره لما دخل فيه.
وهذه الكلمة كلمة الجحد من الكلمات التي يَحصُلُ فيها خلط وخَلَلْ، والواجب الرُّجوع في فهمها إلى دلالة الكتاب والسنة وإلى ما أجمع عليه سلف الأمة.
[المسألة الرابعة] :
أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في تأصيل قولهم في الإيمان -الذي سيأتي في المسألة التي بعدها- خالفوا الخوارج والمرجئة.
وكذلك أيضاً في إخراجهم الواحد من أهل القبلة من الإيمان خالفوا الخوارج والمرجئة.
لهذا ثَمَّ ارتباط ما بين الدخول والخروج من جهة اليقين.
ولهذا المؤلف الطحاوي ذكَرَ لك تنبيه على هذا بقوله (وَلَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ.) ، ولم يقل إلا بالجحد أو إلا بالجحود فيكون مُطْلَقَاً؛ بل قال (إِلَّا بِجُحُودِ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ) ، وذلك لأنَّهُ إذا ثبت الأمر بيقين لم يَزُلْ بالشك؛ بل لابد في زواله من يقين يماثل الأول، والمكفِّرات وما يُحْكَمُ على الواحد من أهل القبلة فيه بالردّة اختلف فيه الفقهاء والعلماء؛ لكن يجمع ذلك أنه لا يُخَصُّ عند أهل السنة بالجحد.
ولهذا نقول: الذين قيَّدُوا التكفير وإخراج العبد من الإيمان بالجحد فقط-يعني دون الاستحلال ودون الشّك ودون الإعراض إلى آخره- هؤلاء ذهبوا إلى أنَّهُ لا يَكْفُرُ إلا المعاند المكذّب ظاهراً كحال الكفّار والمشركين، وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّ الله عز وجل بيّن أنَّ كُفْرَ من كَفَرَ من العرب:
- بعضهم من جهة الإعراض.
- وبعضهم من جهة الشك.
- وبعضهم من جهة الجحد ظاهراً والاستيقان باطناً وهو العناد.
ولهذا نقول: إنَّ المرجئة هم الذين قالوا: لا يخرج المرء من الدين إلا بالتكذيب فقط، فلابد من التكذيب، والتكذيب قد يكون مع الجحد، وقد يكون الجحد بلا تكذيب كما نصت عليه الآية {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] .
إذا تبين هذا: فأصلُ قول المرجئة في الإيمان -كما سيأتي- أنَّ الإيمان أصله الاعتقاد، فلذلك جعلوا المُخْرِجَ منه التكذيب.
ومَنْ أضاف الاعتقاد والقول جعل المُخْرِجْ التكذيب والجحد، مثل كلام الطحاوي هنا؛ لأنَّهُ يأتي أنَّ الإيمان عنده هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، فيجعل التكذيب مُخْرِجَاً ويجعل الجحد مُخْرِجَاً لعلاقة التكذيب بالاعتقاد وعلاقة الجحد بالإقرار باللسان.
وأما أهل السنة الذين خالفوا المرجئة في هذه المسألة العظيمة؛ فقالوا إنَّ الركن الثالث من أركان مسمى الإيمان وهو العمل أيضا يدخل في هذا، وهو أنَّهُ يَخْرُجُ من الإيمان بِعَمَلٍ يعمله يكون من جهة اليقين مُخْرِجَاً للمرء مما أدخله فيه من الإيمان، وهذا سيأتي مزيد تفصيل له.
فإذاً أهل السنة عندهم المُخْرِجَات من الإيمان:
- منها التكذيب وهو أعظمها.
- ثم الجحد.
- ثم الإعراض وهو الذي جاء في قوله عز وجل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة:22]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف:3] ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24] .
- ومنه الشّك، الريب، يرتاب ما عنده يقين، المؤمن هو من لا يرتاب، أما إذا ارتاب لا يدري أمحمدٌ صلى الله عليه وسلم رسول أم لا؟ فإنَّ هذا صفة المنافق وهو المُعَذَّبْ في قبره بقوله حيث يقول: ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذه جُمَلْ يأتي لها مزيد بيان.
وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
يريد بالإيمان: الإيمان الذي أمَرَ الله عز وجل به الناس والذي يصير به المرء معصوم الدم والمال.
فَعَرَّفَ الإيمان بأنه (الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، وهذا التعريف من جهة مورد الإيمان وهو اللسان والجنان، فيتعلق باللسان عبادة الإقرار في الإيمان ويتعلق بالجنان عبادة التصديق في الإيمان.
وهذا التعريف من جهة المورِدْ هو المشهور عن الطائفة التي يسميها العلماء مرجئة الفقهاء، وهم الإمام أبو حنيفة ومن تبعه من أصحابه، ومنهم أبو جعفر الطحاوي صاحب هذه العقيدة.
وهذه الجملة مما وافَقَ فيه المؤلف الطّحاوي المرجئة وقَرَّرَ فيها عقيدتهم.
وطريقة أهل السنة ومذهب أهل الحق خلاف هذا لأدلةٍ كثيرة في هذا الموطن.
إذا تبين ذلك من جهة أنَّ الطحاوي في هذا الموطن لم يُقَرِّرْ عقيدة أهل السنة والجماعة وإنما ذَكَرَ مُعْتَقَدْ طائفته وهم الحنفية في هذه المسألة، وهو قول المرجئة -مرجئة الفقهاء- فإننا نقول: لابد من بيان لهذا الأصل العظيم وذلك يُرَتَّبُ على مطالب أو مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ الإيمان لفظٌ مُسْتَعْمَلٌ في اللغة قبل ورود الشرع.
والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع حالان:
- الأول: الحال العُرْفِي.
- والثاني: الحال الأصلي.
والحال العرفي جعلناه الأول لِقُرْبِهِ.
والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني لأنه بعيد؛ يعني من جهة العموم.
وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونه الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية، فإنَّ الألفاظ المُستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجاز، ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها.
مثال ذلك لفظ الدّابَّةْ، فإنه في اللغة الأصلية- في لغة العرب في الاستعمال العام- الدابة كل ما يَدُبُّ على الأرض سواءٌ أكان يَدُبُّ على بطنه أم يَدُبُّ على رجلين أم يَدُبُّ على أربع، ودلّ على هذا قول الله عز وجل {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يعني من الدواب {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45] .
ثم خُصَّتْ في الاستعمال العُرْفي بأنَّ الدابة هي ذات الأربع التي تُرْكَبُ في الاستعمال، يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو إلى آخره، فهذه تسمى حقيقة عرفية، والمعنى الأول يسمى حقيقة لغوية.
فإذاً صارت الحقيقة العرفية أخص من الحقيقة اللغوية.
اللغة دائماً تكون عامة، ثُمَّ الناس يُقَيِّدُونَ المعنى اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه في الاستعمال، فتكون الحقيقة العرفية دائماً أضيق من الحقيقة اللغوية.
ثُمَّ لمَّا أَتَى الشرع ظهرت ما سَمَّاهُ العلماء الحقيقة الشرعية، أو ما سَمَّاهُ طائفة ممن ألَّفَ في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية.
الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جُعِلَ لها معانٍ لأجل سبب مجيء الإسلام. (1)
من الأمثلة على ذلك لفظ السجود:
ففي اللغة لفظ السجود للخضوع والذل بحركة البدن.
وفي العُرْفْ أنَّ السجود يكون بالانحناء إمَّا بركوعٍ أو بما نسميه السجود؛ يعني وضع الجبهة على الأرض.
وفي الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض.
قال عز وجل لبني إسرائيل {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة:58] يعني راكعين؛ لأنَّ السجود العرفي يدخل فيه الركوع.
أمَّا في شريعة الإسلام صارت الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض.
هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان.
اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي حروفه واحدة:
فالإيمان والأَمْنْ والأَمان هذه كلماتها واحدة، (أَمْنٌ وأمان وإيمان) فاشتقاقها من حيث الأصل واحد، ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمْنْ في اللغة، والأمان يرجع إلى الأمْنْ وإلى الإيمان.
فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد وذلك من الأمن الذي هو المصدر.
ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن يعني في دلالة اللغة؟
لأنه من آمَنَ فقد أمِنَ، آمَنَ بالشيء أمِنَ على نفسه، آمَنْ يعني صدَّقْ استسلم أطاع إلى آخره فإنه يعتبر مُسْتسلما؛ يعني يُعْتَبَرْ أَمِنَ عدوه، لو آمَنَ بما قال عدوه صَدَّقَهُ فإنه يكون أَمِنَ غائلته.
إذا تبين هذا فهذا الأصل اللغوي الذي هو مجيء الاشتقاق من كلمة واحدة يدلُّكَ على أنَّ أصْلْ كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق من الأمن، ثُمَّ في الاستعمال العرفي -عُرْف العرب- (2) خَصَّتْ ذلك المعنى إلى أنَّ الإيمان هو التصديق، التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يَأْمَنُ معه.
وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع:
كقوله عز وجل في قصة يوسف مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] لاحظ الأَمْنْ يعني بِمُصَدِّقٍ لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل أنَّكَ لا تؤاخنا بما فعلنا، قال {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18] ، فما أعطاهم الأمْنْ.
كذلك قال عز وجل في قصة إبراهيم عليه السلام {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]{آمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَهُ تصديقاً جازماً تبعه عملٌ له بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومَه.
كذلك في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في سورة براءة قال {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61]{وَيُؤْمِنُ} أي يُصَدِّقُهُمْ فيما يقولون فيَأْمنون معه عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فالإيمان في اللغة اُستُعْمِلَ ويُرادُ به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائماً بين المعنى العرفي، الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية.
(1) لأجل مزيد من التفصيل في هذه المسألة استمع لشريط بعنوان: المصطلحات وأثرها في العلن والثقافة والرأي العام للشيخ صالح، وهو مفرّغ أيضا.
(2)
انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والعشرين.
جاء الشرع فَأَمَرَ الناس بالإيمان، فهذا الإيمان فيه كما ذكرنا لك أنَّ الحقيقة العرفية تخصيص للحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية أسباب زائدة، فيها زيادة عن الحقيقة العرفية، قد تكون تخصيصاً لها وقد تكون رجوع إلى أصل المعنى اللغوي وتكون أوسع منها.
فالإيمان في الشرع جاء بأنه مُتَّجِهْ إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخر أركان الإيمان الستة، وهذا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر عَرَفْنَا منه أنَّهُ لا يكون إلا بِعَمَلْ ولا يكون إلا بإقرار ولا يكون إلا بتصديق، قال عز وجل {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:136] ، {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّين وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} [البقرة:177] الآية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] .
فإذاً وَصَفَ الله عز وجل المطلوب من المؤمن بأنَّ المؤمن مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأيضاً أنه يعمل، وأيضاً أنه يقول بلسانه.
ولهذا جعل الله عز وجل الصلاة للدلالة على هذا الأصل، جعل الصلاة هي الإيمان فقال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، -نحن الآن نبحث هذا من جهة لغوية، من الجهة التأصيلية للكلمة لا من جهة التعريف- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} هذا استعمال لكلمة الإيمان ويراد بها الصلاة.
الصلاة هي الإيمان معنى هذا أنَّ هذا تخصيص لكونه تصديق، فهو ليس تصديقاً فقط، بل الإيمان صار صلاةً.
إذاً هذا من جهة الاستعمال اللغوي زاد على العُرْفْ ورَجَعَ إلى سَعَةِ اللغة، وهو تخصيص في الواقع للتصديق ببعض ما يشمله التصديق الذي يتبعه عمل.
إذا تبين هذا فيظهر لك أنَّ الإيمان في الشرع نُقِلَ عن الإيمان في العُرف، كما أنَّ الإيمان في العرف نُقِلَ عن الإيمان في اللغة.
فتأصيل الإيمان على أنه في اللغة هو إقرارٌ وتصديقْ ليس صحيحاً؛ لأنَّ الإيمان في اللغة أعم من ذلك، مثل ما ذكرنا لك، الإيمان ما يَجْلُبُ الأمن من عمل، من إقرار، من تصديق، من تصرف، من موالاة، كل ما يجلب الأمن فهو إيمان.
- في اللغة قُيِّد ذلك على نحو ما ذكرت لك من الآيات.
- في الشرع جاء تسمية الإقرار إيماناً، وجاء تسمية الاعتقاد إيماناً، وجاء تسمية العمل إيماناً.
فإذاً من حيث الدلالة اللغوية والدلالة العرفية والدلالة الشرعية تبيَّنَ لك أنَّ هناك اختلاف في معنى الإيمان.
المرجئة مع أهل السنة في هذه المسألة اختلفوا، وهذا الاختلاف طويل الذيول كما هو معلوم؛ لكنهم اتفقوا من حيث الأصول -أصول الفقه- على أنَّ الكلمة إذا اعتراها هذه الأمور الثلاثة: الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية اتفق الجميع -الحنفية مع الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم- اتفقوا على أن تُقَدَّمَ الشرعية، لماذا؟
لأنَّ الألفاظ الشرعية تخصيص، فلا يقول الحنفية -الذين قالوا في الإيمان بهذا التعريف- لا يقولون إنَّ السجود إذا أُمِرَ به فإنه يصلح بالركوع.
يعني مثلا لو قرأ القارئ القرآن وهو يمشي، ثم مَرَّتْ آية سجدة، فهل يركع ويُكْتَفَى بها؟ أم أنه يصير إلى السجود؟
السنة في السجود الشرعي، ولماذا؟
لأنَّ السجود جاء بهذا اللفظ الشرعي وبَيَّنَتْهُ السنة فإذاً يكون هو المراد لا السجود العرفي.
المسألة لها نظائر في الفقه في العقيدة في اللغة بعامة.
فإذاً نقول: اجتمعوا على أنَّ الحقيقة الشرعية مُقَدَّمَة، ثم هل تقدم اللغوية أو العُرْفِيَة؟
خلاف بينهم.
لهذا نقول: ما دام أنَّ الجميع اتفقوا على تقديم الحقيقة الشرعية، فما هي أدلة الحقيقة الشرعية في الإيمان؟ الأدلة على ذلك يطول الكلام عليها، ونرجئها مع تفصيلها في الكلام والمذاهب للدرس القادم، لكن نكمل المُقَدِّمَات.
أنا أريدك تفهم مسألة الإيمان لأنها مسألة مُشْكِلَة، وكثير ممن خاض فيها في هذا العصر ما أدرك حقيقة الفرق ما بين قول أهل السنة وقول المرجئة في هذا الباب.
[المسألة الثانية] :
الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم -كما ذكرنا لك- الذي يتبعه عمل يأمن معه المُؤْمِنْ الغائلة أو العقوبة إلى آخره.
وقولنا التصديق الذي معه عمل هذا تحصيل حاصل؛ لأنَّهُ إذا كان الشيء يلزَمُ منه العمل فإنه لا يُطْلَقُ لفظ مُصَدِّقَاً في اللغة على من صَدَّقَ حتى يعمل.
مثاله: أتى شخص وقال لآخر سيارتك الآن تُسْرَقْ.
فقال له الآخر: جزاك الله خيراً.
قال: لك فيها أموال ولك فيها أشياء وهي الآن تُسْرَقْ.
قال الآخر: جزاك الله خيرا وجَلَسَ ولم يتحرك.
فهل يُعْتَبَرُ في اللغة مُصَدِّقَاً؟
إذا كان قد صَدَّقَ الخبر فإنه لابد أن يتبعه بعمل يدلُّ على صدقه؛ لأنَّ الناس لا يُفَرِّطُونْ بأموالهم ولا يفرِّطُون بما فيه قوام حياتهم.
فإذا مَكَثَ وقال أنا مُصَدِّقْ، وهو ما ذَهَبَ، ما أتْبَعَهُ عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً في اللغة، ليس في الشرع، لا يسمى مُصَدِّقَاً في اللغة.
ودلَّ على هذا الأصل قول الله عز وجل في قصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل في سورة الصافات قال {قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، لاحظ العمل {فَلَمَّا} و {لَمَّا} انتبه لكلمة {لَمَّا} ، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] ، رؤيا الأنبياء حق، إذا رآها النبي صدَّقَ بأنها وحي من الله عز وجل.
لكن متى صار مُصَدِّقَاً بالرؤيا؟
لمَّا امتثل دلالتها {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وهذا تصديق لغوي وهو أيضاً تصديق شرعي.
إذاً فالإيمان في العُرْفْ - الحقيقة العرفية- ولو أرجعناه إلى التصديق فإنَّ حقيقة التصديق أن يكون معه عمل، فلا يُسَمَّى مُصَدِّقَاً من ليس يعمل أصلاً فيما صدّق به.
[المسألة الثالثة] :
يمكن أن يُضْبَطَ ما جاء في القرآن من استعمال الإيمان في الحقيقة اللغوية والعرفية والشرعية بضابط وهو أنه:
- إذا اقْتُرِنَ بالإيمان الأمَنْ ْأو كانت الدِّلَالَةُ عليه فإنَّ المراد به سعة المعنى اللغوي.
- وإذا عُدِّيَ الإيمان باللام في القرآن أو في السنة فإنَّ المراد به الإيمان العرفي؛ يعني اللُّغَوِي العرفي.
- وإذا عدي الإيمان بالباء، فإنه يراد به الإيمان الشرعي.
وهذه كل واحدة لها طائفة من الأدلة تَدُلُّ عليها.
1-
المعنى اللغوي: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] ، {آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ} هذا دلالة على عموم المعنى اللغوي.
2-
المعنى العرفي: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] ، لاحظ التعدية باللام {بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] يعني النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} هذا المعنى العرفي.
3-
الإيمان الشرعي: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} [البقرة:285] ، لاحظ الباء، عُدِّيَ الباء للدلالة الشرعية.
لماذا اختلفت التعدية؟
لأنَّ المطلوب اختلف.
كيف؟
@ الإيمان اللغوي ما دام أنَّهُ تصديق فتقول: العرب صَدَّقَ لفلان، تعديه باللام، صَدَّقَ لفلان، وتقول صَدَّقَ بكذا أيضا فتعديه بالباء
@ لكن الإيمان الشرعي آمن بكذا -لاحظ التعدية مُضَمَّنٌ أَقَرَّ بكذا -أَقَرَّ تتعدى بالباء في اللغة أليس كذلك؟ - أَقَرَّ بكذا، فتكون صحيحة، عمل بكذا صحيحة، صَدَّقَ بكذا صحيحة.
ولهذا لمَّا عُدِّيَ الإيمان في اللغة بالباء علمنا أنه ضُمِّنَ المعنى الأصلي في اللغة وزيادة تصلح للتعدية بالباء.
فالمعنى اللغوي يتعدى باللام، فلماذا عُدِّيَ بالباء تفريقاً ما بين الإيمان الشرعي والإيمان اللغوي؟
هو تضمين العمل للإيمان الذي هو زيادة على ما جاء في المعنى العُرفي.
هذا كثير: في القرآن وفي اللغة أنه يأتي الفعل ويراد منه معنى، ثم تختلف التعدية بالحرف فيُضَمَّنْ الفعل معنى فعل آخر.
سنضرب له مثالاً حاضر عندكم جميعاً وإن كان الأمثلة كثيرة لكن لقربه منكم.
مثلا تعلمون قول ابن القيم وابن تيمية وعدد من مشايخنا حفظ الله الجميع ورحم الأموات في قوله تعالى في المسجد الحرام {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، قالوا هنا ما معنى الإرادة؟
الهم، يعني الهم الجازم.
لماذا؟
قالوا لأنَّ الإرادة بنفسها تَتَعَدَّى، الإرادة المعروفة تتعدى بنفسها، تقول أردت الذهاب، أردت المجيء، أردت القراءة، ما تقول أردت بالقراءة، فلما قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} ، ما قال (ومن يرد فيه إلحاداً) ، بل قال {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} علمنا أنَّ كلمة {يُرِدْ} هذه فيها فعل يناسب التعدية بالباء وهو هَمَّ.
هَمَّ بكذا هَمَّ فلان بكذا هذا الذي يناسب.
ولذلك فسره الأئمة بأنَّ المراد بالإرادة هنا الهم الجازم فيُؤَاخَذْ عليه ولو لم يحقق الإرادة من كل وجه وإنما يَصْدُقُ عليه الهَمْ؛ إذا هَمَّ بالفعل، هَمَّ به صار داخلاً في الفعل.
نرجع هنا في اللغة {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] ، يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ لَهُ، تقول أنا أقررت لك، إيش أقول أقررت إياك؟
لا، أقررت بكذا؛ لكن لفلان، أقررت بفلان ولا أقررت لفلان ما قال؟
أقررت لفلان ما قال، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَ له، أَقَرَّ له، إلى آخره.
لاحظ هذا التصديق والإقرار الذي هو المعنى اللغوي؛ لكن جاء المعنى الشرعي في القرآن بزيادة عن التعدية باللام إلى التعدية بالباء قال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136] . ما قال آمنوا لله ولرسوله مع أنه قال في النبي صلى الله عليه وسلم {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61]، وقال في لوط {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قال {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} إلى آخره {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [النساء:136] .
فإذاً دَلَّنَا على أَنَّ هذا المعنى هو المعنى اللغوي، وزيادة عليه ما دخل فيه مما يناسب التعدية بالباء وهو العمل.
تقول عملت بكذا يعني آمنت بكذا فعملت به، آمنت بأنَّ الأمر واقع فعملت به؛ يعني عَمِلْتَ بما آمنت، فلذلك دخلت زيادة تعدية بالباء لتدلنا على أنَّ العمل دخل في مسمى الإيمان أصلاً، وهذه يأتي لها مزيد تفصيل في الأدلة إن شاء الله تعالى.
إذا تبين هذا فمن المهم في تأصيل هذه المسألة التي غَلِطَ فيها الكثيرون منذ نَشَأَتْ المرجئة، أن يُعرَفَ أنَّ الإيمان في اللغة في حقيقته تصديق وإقرار؛ لكن تصديق معه نوع عمل وليس لازماً في حقيقته؛ لكن لا يُسَمَّى تصديقاً حتى يكون معه عمل يأمن به، لصلته بالمعنى اللغوي العام.
أما في الشرع فهو إقرارٌ وتصديقٌ وعمل؛ لأنَّ الشرع جاء بزيادة على المعنى اللغوي في هذه المسألة العظيمة.
[المسألة الرابعة] :
تعريف الطحاوي لهذه المسألة وهي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) ، هذا فيه إخراج العمل أن يكون مورِدَاً للإيمان وقَصْرْ الإيمان من حيث المورد على الإقرار والتصديق، وهذا كما ذكرت لك مذهب مرجئة الفقهاء.
والمرجئة في هذه المسألة لهم أقوال متعددة أشهرها قولان:
1-
قول جمهور المرجئة وهو أنَّ الإيمان هو التصديق، ولا يلزم معه إقرار.
2-
ثُمَّ مرجئة الفقهاء -وذهب إليه الماتريدية والأشاعرة وجماعة- أنَّ الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
وسُمُّوا مرجئة لأنهم أرجؤوا العمل عن مسمّى الإيمان؛ يعني أخَّرُوهُ عن مسمى الإيمان، فجعلوا الإيمان متحققاً بلا عمل.
واستدلوا لمذهبهم بعدة أدلة من أشهرها قول الله عز وجل في آيات كثيرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهذا من أقوى أدلتهم على هذه المسألة، فعَطَفَ العمل على الإيمان، قالوا فهذا يدل على التغاير ما بين العمل وما بين الإيمان؛ لأنه لو كان عمل الصالحات في الإيمان لما قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فلمَّا عَطَفَ العمل على الإيمان قالوا دلَّنَا على تأخير العمل وإرجاء العمل عن مسمى الإيمان.
والجواب عن ذلك؛ يعني عن هذا الاستدلال بجواب مختصر ونرجئ الجواب المطول، الجواب عن ذلك أنَّ اللغة فيها:
& العطف بالواو ويُرَادُ بالعطف بالواو التَّغايُرْ:
والتغاير:
- تارةً يكون تغاير ذوات:
ومعناه أنك تقول مثلاً في اللغة: دخل محمد وخالد، فمحمد ذاته غير ذات خالد، هذا له حقيقة ذات وهذا له حقيقة، هذا يسمى تغاير ذوات.
- وتارةً يكون تغاير صفات.
تغاير الصفات تقول عندي مُهَنَّدٌ وصارمٌ وحسام، والذي عندك سيفٌ واحد يعني الذي عند العربي سيفٌ واحدٌ، لكن يقول:
مُهَنَّدٌ من جهة وصفه أنه صُنِعَ في الهند.
وصارمٌ من جهة شهرته وأنه يَصْرِمْ.
وحسام من جهة أنه من وَقَعَ عليه حَسَمَهُ وقتله.
منه في القرآن قال عز وجل في تغاير الصفات {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1] ، الكتاب هو القرآن، والقرآن هو الكتاب، عَطَفَ بالواو هل لتغاير الذوات، الكتاب شيء والقرآن شيء؟
لا أحد يقول بهذا من المتقدمين لا أحد يقول بهذا، فصار التعاطف هنا لتغاير الصفات {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} نُظِرَ فيه إلى جهة كونه مكتوباً باقياً، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} يعني أنه يُقْرَأُ ويُنْظَرُ فيه إلى التلاوة والقراءة فهذا تغاير صفات.
@ وتارةً يكون العطف بالواو لا لأجل التغاير ولكن تَغَايُرٌ ما بين الجزء والكل، وما بين العام والخاص:
فيُعْطَفْ الخاص على العام ويعطف العام على الخاص، ومثاله قول الله عز وجل في سورة البقرة {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} لاشك الملائكة غير الله عز وجل، الملائكة مخلوقة والرب عز وجل هو مالك الملك وخالق الخلق.
{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} الرسل منهم رسل من الملائكة، ومنهم رسل من {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] ، فالرسل هنا أعم من الملائكة لأنَّ منهم الرسل من الملائكة ومنهم الرسل من البشر.
فإذاً هنا صار عطفاً: عَطْفْ الكلي على الجزئي.
ثم قال {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} جبريل وميكال من الرسل أو لا؟
من الرسل.
من الملائكة؟
نعم.
فعطفهم، هل حقيقة جبريل وميكال غير الملائكة؟
لا، هذا تغاير صحيح؛ ولكن تغايرٌ بين حقيقة الجزء والكل والكل والجزء، وليس تغاير ذوات ولا تغاير صفات ولا تغاير حقيقة.
ومن هذا عَطْفُ الخاص على العام لأجل التغاير ما بين الجزء والكل بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ} [الكهف:107]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا} [مريم:96] ، الآيات كثيرة آمنوا وعملوا الصالحات، عَطَفَ العمل على الإيمان لأجل هذا وإلا فهو داخل في حقيقته.
هنا لماذا تُخَصُّ الخاص بالذكر بعد العام؟
لأجل التنبيه على شرفه.
فالعرب تَعْطِفُ الخاص على العام وتغاير في هذا لأجل التنبيه على شرف ما ذُكِرْ.
لأنك تقول مثلا جاءني المشايخ وسماحة الشيخ عبد العزيز، هل هو ليس من المشايخ؟
لكن هنا للتنبيه على شرفه أنه هو المقصود، جاءني المشايخ جميعاً وجاء المقصود أو المقدم فيهم إلى آخره تنبيهاً على شرفه ومنزلته إلى آخره.
فإذاً الاستدلال بهذا، هذا جواب مختصر ونذكر لكم بقية الأدلة والإجابة عليها فيما يأتي.
* أنا أردت بهذا التطويل اللغوي تأصيل المسألة لكم؛ لأنَّ مسألة الإيمان خاض فيها كثيرون في هذا العصر، كتبوا فيها كتابات سواء في الإيمان أو في التكفير، وهم لم يدركوا حقيقة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
فمنهم من أدخل مذاهب المرجئة في مذهب أهل السنة وقَصَرْ الكفر على التكذيب والإيمان على التصديق وإما قولاً أو باللازم.
ومنهم من ذهب إلى أنَّ الإيمان قول واعتقاد وأنَّ العمل ليس من الإيمان أصلاً كما هو قول المرجئة، والأقوال في هذا متعددة.
نسأل الله عز وجل أن يثبتني وإياكم على طريقة أئمتنا، وأن يَكُفَّ عنا الشر وأن لا يخذلنا وأن ينور بصائرنا وبسائر أحبابنا إنه جواد كريم.
نكتفي بهذا القدر ونكمل المرة القادمة.
وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.
قال رحمه الله (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذه الجملة من كلامه في تعريف الإيمان المقصود بها التعريف الشّرعي للإيمان عند الطحاوي رحمه الله.
والذي دَلَّتْ عليه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأئمة -أئمة أهل الحديث والسنة- أنَّ الإيمان قول وعمل.
وبعض أهل العلم يُعَبِّرْ بقوله (الإيمان قول وعمل ونية) كما قالها الإمام أحمد في موضع؛ ويعني بالنية الإخلاص يعني الإخلاص في القول والعمل.
وهذا الأصل وهو أنَّ الإيمان قول وعمل وُضِّحَ بقول أهل العلم:
الإيمان اعتقادٌ بالقلب يعني بالجنان، وقولٌ باللسان وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان.
فشمل الإيمان إذاً فيما دلت عليه الأدلة هذه الأمور الخمسة، وهي:
أنه اعتقاد، وأنه قول، وأنه عمل، وأنه يزيد، وأنه ينقص.
وتعريف الطحاوي للإيمان بقوله (هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ) هذا تعريفٌ بالمقارنة مع ما سبق فيه قصور، وهو موافقٌ لما عليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابُه، فإنهم لم يجعلوا العمل من مُسَمَّى الإيمان، وجعلوا الإيمان تصديق القلب وإقرار اللسان، وجعلوا الأعمال زائدة عن مُسَمَّى الإيمان مع كونها لابد منها ولازمة للإيمان.
فقول الطحاوي هذا ليس مستقيماً مع معتقد أهل السنة والجماعة وأتباع أهل الحديث والأثر، وفيه قصور لأنه أخرَجَ العمل عن تعريف الإيمان.
وكون العمل من الإيمان له أدلةٌ كثيرة من الكتاب والسنة أظن أني قدمت لكم بعضها قبل رمضان:
ومنها في هذا المقام قول الله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، ويعني بالإيمان الصلاة، فسمى الصلاة إيماناً والصلاة عمل.
وقال أيضا عز وجل {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
وقال {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] . دَلَّتْ الآية على أنّ الإيمان له حقيقةٌ هي الاعتقاد والإيمان بهذه الأركان الخمسة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} فإذا كان العمل ناشئاً عن هذه، فإنه لا يُتَصَوَّرْ الانفكاك ما بين العمل والإيمان، ولهذا في آية البقرة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} جَعَلَ العمل هو الإيمان لأنّه منه ولأنه ينشأ عنه.
فنفهم إذاً أنَّ قوله {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (1){الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ونحو ذلك، بما فيه عَطْفْ العمل على الإيمان -كما قدّمنا آنفاً- أنَّ هذا عَطْفُ الخاص بعد العام وعَطْفُ الجزء بعد الكل، وهذا كثير في القرآن وفي اللغة كما قدمته لك.
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال لوفد عبد القيس لما أتوه في المدينة قال «آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله وحده» ثم فَسَّرَهٌ بأركان الإيمان ثم قال «وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (2) وهذا -أداء الخمس- عمل فجعله تفسيراً للإيمان.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (3) فجعل الإيمان:
- له قولْ مرتبط بالنطق.
- وله عمل الذي هو إماطة الأذى عن الطريق-يعني الذي هو نوع العمل-.
- وجَعَلَ له عمل القلب وهو الحياء.
ففي هذا الحديث مَثَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم شُعَبْ الإيمان بثلاثة أشياء منها القول ومنها الاعتقاد أو عمل القلب ومنها عمل الجوارح.
ويأتي مزيدُ بيان لهذا الأصل في المسائل إن شاء الله تعالى.
ثُمَّ زيادة الإيمان ونقصانه دلَّ على الزيادة قول الله عز وجل {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2]، وكذلك قوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وكذلك قوله {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] ، ونحو ذلك مما فيه زيادة، وإذا كان فيه الزيادة فإنه لابد أن يكون فيه النقص بمقابل ما تُرِكَ مما يسبب الزيادة في الإيمان.
_________
(1)
الشعراء:227، ص:24، الإنشقاق:25، التين:6، العصر:3.
(2)
البخاري (87) / أبو داود (4677)
(3)
البخاري (9) / مسلم (162)
ولهذا بعض الصحابة لما ذَكَرَ زيادة الإيمان وذَكَرَ نقصانه قال (إذا سَبَّحْنَا الله وحمدناه وذكرناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا فذلك نقصانه)(1) .
فزيادة الإيمان ونقصانه دل عليها قول الله عز وجل والسنة وقول الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن هذا يتقرر أنَّ قول الطحاوي (وَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ.) هذا يوافق قول مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام المعروف، وأصحابه ممن أخرجوا العمل عن كونه جزءا من الماهيَّةْ؛ عن كونه ركناً في الإيمان.
إذا تقرّر هذا فإنَّ في مسألة الإيمان مباحث كثيرة جداً، وذلك لكثرة الخلاف في هذه المسألة وطول الكلام عليها وكثرة التصانيف التي صنفها السلف ومن بعدهم في هذه المسألة؛ لكن يمكن تقريب هذه المسألة لطالب العلم في مسائل:
(1) عن عمير بن حبيب بن خماشة أنه قال ((الإيمان يزيد وينقص قيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرناه وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه)) مصنف ابن أبي شيبة (30327) / شعب الإيمان (56)
[المسألة الخامسة] :
الإيمان يجمع:
- أولاً: الاعتقاد بالقلب، وهو الذي يسميه المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو يسميه العامة التصديق.
- ثانياً: قول اللسان.
- ثالثاً: عمل الجوارح والأركان.
- رابعاً: الزيادة.
- خامساً: النقصان.
هذه خمسة أشياء فيها اختلف المنتسبون إلى القبلة على أقوال:
1-
القول الأول:
هو أنَّ الإيمان تصديقٌ فقط، وهذا هو قول جمهور الأشاعرة، وهو أيضاً قول أبي منصور الماتريدي والماتريدية بعامة.
وهذا مبنيٌ منهم على أنَّ القول ينشأ عن التصديق، وعلى أنَّ العمل ينشأ عن التصديق، فَنَظَرُوا إلى أصله في اللغة بحَسَبِ ظنهم، وإلى ما يترتّب عليه فجعلوه التصديق فقط.
واستدلوا له بعدة أدلة مما فيه أنّ الإيمان تصديق كقوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وهذه أمور غيبية والإيمان بها يعني التصديق بها، وغير ذلك من الأدلة التي فيها حَصْرْ الإيمان بالغيبيات، والإيمان بالغيبيات يُفْهَمْ على أنه التصديق.
وهؤلاء يُسَمَّونَ المرجئة، وهم المشهورون بهذا الاسم.
ومن المرجئة طائفة غالية جداً وهم الذين جعلوا الإيمان ليس التصديق بالقلب ولكن هو المعرفة بالقلب، وهو القول المنسوب إلى الجهمية وغلاة الصوفية كابن عربي ونحوِهِ ممن صَنَّفُوا في إيمان فرعون.
2-
القول الثاني:
من قال إنَّ الإيمان قول باللسان فقط، وهؤلاء يُسَمَّونَ الكَرَّامِيَّة -بالتشديد-.
الكَرَّامِيَّة يُنْسَبونَ إلى محمد بن كرّام، وهذا يقول: الإيمان هو الإقرار باللسان.
لم؟
قال لأنَّ الله عز وجل جَعَلَ المنافقين مخاطَبِينَ باسم الإيمان في آيات القرآن، فإذا نودي المؤمنون في القرآن فيدخُلُ في الخطاب أهل النّفاق، والمنافقون إنما أقرُّوا بلسانهم ولم يصدِّقُوا بقلوبهم فدخلوا في اسم الإيمان لهذا الأمر.
3-
القول الثالث:
هو مذهب مرجئة الفقهاء الذين قالوا: إنَّ الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، إقرارٌ باللسان وتصديق بالجنان، ويجعلونَ أنَّ الناس في التصديق -كما سيأتي- وفي أعمال القلوب أنهم واحد، فأعمال القلوب التي أصلها التصديق عندهم شيءٌ واحد، والعمل ليس من الإيمان عندهم يعني من حقيقة الإيمان وإن كان لا بد منه في تحقيق الإيمان، بخلاف أهل القولين السابقين يعني الماتريدية (1) .
: [[الشريط الثلاثون]] :
والأشاعرة والكرامية فإنهم يقولون أنَّهُ لو وَافَى بلا عمل فإنه ناجٍ، لو لم يعمل قط فإنه ينجو.
وأما مرجئة الفقهاء فيقولون لابُدَّ لَهُ مِنَ العمل فإذا ترك العمل فهو فاسقٌ، لكن [لا](2) يُدْخِلُونَهُ في مُسَمَّى الإيمان.
وأظن شبهتهم نَصْ أبي حنيفة في هذه المسألة وهو بَنَاهُ على أنَّ الذين خُوطِبُوا بالإيمان هم المؤمنون والمنافقون، والمنافقون ليس لهم عمل، عَمَلُهُم باطل، وإنما أَقَرُّوا باللسان فقط، والمؤمنون مُصَدِّقُونَ مُقِرُّونْ، فَجَمَعَ لهم ما بين -يعني بين الطائفتين- ما بين الإقرار باللسان والتصديق بالجنان؛ يعني في الخطاب الظاهر، وأما الأعمال فالحساب عليها آخر.
ومن أدلّتهم الأصل اللغوي الذي هو حَسَبْ ما قالوا أنَّ الإيمان هو التصديق، والإقرار أُخِذَ من زيادة في الشريعة لأنه لابد من قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
4-
القول الرابع:
هو قول الخوارج والمعتزلة وهو أنَّ الإيمان: اعتقادْ بالجنان أو تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح.
وهذا العمل عندهم بِكُلِّ مأمورٍ به، والانتهاء عن كلِّ منهيٍّ عنه.
فما أُمرِ َبه وُجُوبًا فيدخل في مسمى الإيمان بِمُفْرَدِهِ، وما نُهِيَ عنه تحريماً فيدخل في مسمَّى الإيمان بمفرده.
يعني أنَّ كلَّ واجبٍ يدخل في مسمى الإيمان على حِدَهْ، فيكون جزءاً وركناً في الإيمان، وكُلُّ محرمٍ في الانتهاء عنه يدخل في مسمى الإيمان بمفرده.
وبناءً على ذلك قالوا: فإذا تَرَكَ واجباً فإنه يكفر، وإذا فعل محرماً من الكبائر فإنه يكفر؛ لأنَّ جزء الإيمان وركن الإيمان ذَهَبْ.
فعندهم أنَّ هذا العمل جزء واحد، إذا فُقِدَ بعضه فُقِدَ جميعه.
وبين الخوارج والمعتزلة خلاف فيمن استحق النار بالآخرة ماذا يسمى في الدنيا؟
على القول المعروف عندهم:
- وهو عند الخوارج في الدنيا عند يُسَمَّى كافر.
- وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين لا يقال مؤمن ولا يقال كافر.
مع اتفاقهم على أنه في النار مخلدْ فيها لانتفاء الإيمان في حقه.
5-
القول الخامس:
هو قول أهل الحديث والأثر وقول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أنَّ الإيمان:
اعتقاد -ومن الاعتقاد التصديق-، وقول باللسان وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركانـ وأنه يزيد وينقص.
ويعنون بالعمل جنس العمل؛ يعني أنْ يكون عنده جنس طاعة وعمل لله عز وجل.
فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئاً واحداً إذا ذَهَبَ بعضه ذهَبَ جميعه أو إذا وُجِدَ بعضه وُجد جميعه؛ بل هذا العمل مُرَكَّبٌ من أشياء كثيرة، لابد من وجود جنس العمل.
وهل هذا العمل الصلاة؟ أو هو أيُّ عملٍ من الأعمال الصالحة بامتثال الواجب طاعةً وترك المحرم طاعةً؟
هذا ثَمَّ خلافٌ بين علماء الملة في المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا أو كسلاً.
* الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة:
- أنَّ أولئك جعلوا تَرْكَ أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرّم فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان.
- وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزءٌ من الماهية؛ لكن هذا العمل أبعاض ويتفاوت وأجزاء، إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه فإنه لا يذهب كله.
فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل؛ يعني أن يُوجَدَ منه عملٌ صالح ظاهراً بأركانه وجوارحه، يدلُّ على أنَّ تصديقه الباطن وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهراً.
وهذا مُتَّصِلٌ بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يُتَصَوَّرْ وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله عز وجل بالانقياد له بنوع طاعةٍ ظاهراً.
(1) انتهى الشريط التاسع والعشرون.
(2)
لعل الشيخ لم يقصد هذا الحرف وإنما أراد أنهم يُدْخِلُونَهُ في مسمى الإيمان إذ قال عن مرجئة الفقهاء في شرح العقيدة الواسطية/ الشريط (23) ما نصه ((فقالوا الايمان قول واعتقاد وأما العمل فليس من مُسَمَّى الايمان وإنما هو لازم له - يعني لابد أنه يعمل لكن لو لم يعمل ما خرج عن اسم الايمان)
[المسألة السادسة] :
الطحاوي هنا تَرَكَ العمل؛ يعني ما ذَكَرَ العمل في مسمى الإيمان، وكما ذكرتُ لك أنَّ العمل عند أهل السنة والجماعة داخِلٌ في مسمى الإيمان وفي ماهيته وهو ركن من أركانه.
والفرق بينهما يعني بين قول مرجئة الفقهاء -وهو الذي قرَّرَهُ الطحاوي- وبين قول أهل السنة والجماعة أتباع الحديث والأثر، الفرق بينهما:
- من العلماء من قال: إنه صُورِي لا حقيقة له؛ يعني لا يترتب عليه خلافٌ في الاعتقاد.
- ومنهم من قال: لا، هو معنوي وحقيقي.
ولبيان ذلك؛ لأنَّ الشارح ابن أبي العز رحمه الله على جلالة قدره وعُلُوِّ كعبه ومتابعته للسنة ولأهل السنة والحديث فإنه قَرَّرَ أنَّ الخلاف لفظي وصوري، وسبب ذلك أنَّ جهة النظر إلى الخلاف منفكَّة:
- فمنهم من ينظر إلى الخلاف بأثَرِهِ في التكفير.
- ومنهم من ينظر إلى الخلاف بأثرِهِ في الاعتقاد.
@ فمن نظر إلى الخلاف بأثرِهِ في التكفير قال الخلاف صوري، الخلاف لفظي.
لأنَّ الحنفية الذين يقولون هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان هم متّفقون مع أهل الحديث والسنة مع أحمد والشافعي على أنَّ الكفر والرِدَّةْ عن الإيمان تكون بالقول وبالاعتقاد وبالعمل وبالشك.
فهم متفقون معهم على أنَّ:
- من قال قولاً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر.
- ومن اعتقد اعتقاداً يخالف ما به دخل في الإيمان فإنه يكفر.
- وإذا عمل عملاً ينافي ما دخل به في الإيمان فإنه يكفر.
- وإذا شَكَّ أو ارتاب فإنه يكفر.
بل الحنفية في باب حكم المرتد في كتبهم الفقهية أشد في التكفير من بقية أهل السنة مثل الحنابلة والشافعية ونحوهم.
فهم أشد منهم، حتى إنهم كَفَّرُوا بمسائل لا يُكَفِّرُ بها بقية الأئمة كقول القائل مثلا سورةٌ صغيرة فإنهم يُكفِّرون بها، أو مسيجد أو نحو ذلك أو إلقاء كتاب فيه آيات فإنهم يُكَفِّرون إلى آخر ذلك.
فمن نَظَرَ -مثل ما نَظَرْ الشارح، ونَظَرْ جماعة من العلماء- من نَظَرَ في المسألة إلى جهة الأحكام وهو حكم الخارج من الإيمان قال:
الجميع متّفقون، سواءٌ كان العمل داخلاً في المسمى أو خارجاً من المسمى فإنه يكفُرُ بأعمال ويكفُرُ بترك أعمال.
فإذاً لا يترتّب عليه على هذا النحو:
1 -
دُخُولٌ في قول المرجئة الذين يقولون: بلا عَمَلٍ ينفع، ولا يَخْرُجُ من الإيمان بأي عَمَلٍ يعمله.
2 -
ولا يدخلون مع الخوارج في أنهم: يُكَفِّرونَ بأي عمل أو يترك أي واجب أو فعل أي محرم.
فمِنْ هذه الجهة إذا نُظِرَ إليها تُصُوِّرْ أنَّ الخلاف ليس بحقيقي؛ بل هو لفظي وصوري.
@ الجهة الثانية التي يُنْظَرُ إليها وهي أنَّ العمل -عمل الجوارح والأركان- هو مما أمَرَ الله عز وجل به في أن يُعْتَقَدَ وجوبُهُ أو يُعْتَقَدَ تحريمه من جهة الإجمال والتفصيل.
يعني أنَّ الأعمال التي يعملها العبد لها جهتان:
1-
جهة الإقرار بها.
2-
وجهة الامتثال لها.
وإذا كان كذلك فإنَّ العمل بالجوارح والأركان، فإنه إذا عَمِلَ:
- فإما أن نقول: إنَّ العمل داخِلٌ في التصديق الأول؛ التصديق بالجنان.
- وإما أن نقول: إنه خارجٌ عن التصديق بالجنان.
& فإذا قلنا إنَّهُ داخلٌ في التصديق بالجنان -يعني العمل بالجوارح باعتبار أنَّهُ إذا أقَرَّ به امتثل- فإنه يكون التصديق إذاً ليس تصديقاً، وإنما يكون اعتقاداً شاملاً للتّصديق وللعزم على الامتثال، وهذا ما خَرَجَ عن قول وتعريف الحنفية.
& والجهة الثانية أنَّ العمل يُمتَثَلُ فعلاً فإذا كان كذلك كان التنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات وبالأحاديث، لأنَّ حقيقة الإيمان فيما تُؤْمِنُ به من القرآن في الأوامر والنواهي في الإجمال والتفصيل أنَّكَ تؤمن بأنّ تَعْمَلْ، وتؤمن بأن تنتهي، وإلا فلو لم يدخل هذا في حقيقة الإيمان لم يحصل فرقٌ ما بين الذي دخل في الإيمان بيقين والذي دخل في الإيمان بنفاق.
يُبَيِّنُ لك ذلك أنَّ الجهة هذه وهي جهة انفكاك العمل عن الاعتقاد، انفكاك العمل عن التصديق هذه حقيقةً داخلةٌ فيما فَرَّقَ الله عز وجل به فيما بين الإسلام والإيمان.
ومعلومٌ أنَّ الإيمان إذا قلنا إنَّهُ إقرارٌ وتصديق فإنه لابد له من إسلام وهو امتثال الأوامر والاستسلام لله بالطاعات.
لهذا نقول إن مسألة الخلاف هل هو لفظي أو هو حقيقي راجعة إلى النظر في العمل.
هل العمل داخلٌ امتثالاً فيما أمر الله عز وجل به أم لم يدخل امتثالاً فيما أمر الله عز وجل به؟
والنبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنه يأمُرُ بالإيمان «آمركم بالإيمان بالله وحده» (1)، والله عز وجل أمر بالإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] . فالإيمان مأمور به، وتفاصيل الإيمان بالاتفاق بين أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء يَدْخُلُ شُعَبْ الإيمان، يَدْخُلُ فيها الأعمال الصالحة؛ لكنها تَدْخُلُ في المُسَمَّى من جهة كونها مأموراً بها، فمن امتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فقد حَقَّقَ الإيمان، وإذا لم يمتثل الأمر على الإجمال والتفصيل فإنه بعموم الأوامر لا يدخل في الإيمان.
وهذه يكون فيها النظر مُشْكِلَاً من جهة:
هل يُتصوَّرْ أن يوجد أحد يؤمن بالإيمان، يؤمن بما أنزل الله عز وجل ولا يفعل خيراً البتة، لا يفعل خيراً قط، لا يمتثل واجباً ولا ينتهي عن محرم مع اتساع الزمن وإمكانه؟؟
في الحقيقة هذا لا يُتَصَوَّرْ أن يكون أحد يقول أنا مؤمن ويكون إيمانه صحيحاً ولا يعمل صالحاً مع إمكانه، لا يعمل أي جنس من الطاعات خوفا من الله عز وجل، ولا ينتهي عن أي معصية خوفا من الله عز وجل، هذا لا يُتصَوَّرْ.
ولهذا حقيقةً المسألَةُ تَرْجِعُ إلى الإيمان بالأمر، الأمر بالإيمان في القرآن وفي السنة كيف يؤمن به؟ كيف يحققه؟
يحقق الإيمان بعمَلٍ، بِجِنْسِ العمل الذي يمتثل به، فَرَجَعَ إذاً أن يكون الامتثال داخل في حقيقة الإيمان بأمره، وإلا فإنه حينئذ لا يكون فرقاً بين من يعمل ومن لا يعمل.
لهذا نقول إن الإيمان الحق بالنص، بالدليل يعني بالكتاب والسنة بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبكتابه لابد له من امتثال، وهذا الامتثال لا يُتَصَوَّرُ أن يكون غير موجودٍ للمؤمن، أن يكون مؤمن ممكن أن يعمل ولا يعمل البتة.
وإذا كان كذلك، كان إذاً جزءاً من الإيمان لـ:
- أولا لدخوله في تركيبه.
- والثاني أنه لا يُتَصَوَّرْ في الامتثال للإيمان والإيمان بالأمر أن يؤمن ولا يعمل البتة.
إذاً فتحَصَّلْ من هذه الجهة أنّ الخلاف ليس صورياً من كل جهة؛ بل ثَمَّ جهة فيه تكون لفظية، وثَمَّ جهة فيه تكون معنوية.
والجهات المعنوية والخلاف المعنوي كثيرة متنوّعة، لهذا قد ترى من كلام بعض الأئمة من يقول أنَّ الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة صوري؛ لأنهم يقولون العمل شرط زائد لا يدخل في المسمى، وأهل السنة يقولون لا هو داخل في المسمى فيكون إذاً الخلاف صوري.
من قال الخلاف صوري فلا يُظَنْ أنَّهُ يقول به في كل صُوَرِ الخلاف، وإنما يقول به من جهة النظر إلى التكفير وإلى ترتب الأحكام على من لم يعمل.
أما من جهة الأمر، من جهة الآيات والأحاديث والاعتقاد بها والإيقان بالامتثال فهذا لابد أن يكون الخلاف حينئذ حقيقياً.
(1) سبق ذكره (402)
[المسألة السابعة] :
زيادَةُ الإيمان ونقصانُهُ اختلف فيها العلماء على أقوال:
1-
القول الأول:
وهو قول جمهور أهل العلم من أهل السنة ومن المرجئة ومن غيرهم، قول الجمهور من جميع الطوائف أنَّ الإيمان يزيد وينقُصْ.
2-
القول الثاني:
أنَّ الإيمان يزيد ولا ينقُصْ، وهذا منسوبٌ إلى بعض أئمة أهل السنة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على زيادته وهذا أمْرٌ لا يدخله القياس، فلا نقول بنقصانه لعدم ورود الدليل في ذلك.
3-
القول الثالث:
من قال إنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو قول طائفة من المرجئة ومن غيرهم.
* ولا ارتباط ما بين الإرجاء والخلاف في الثلاثة أركان الأولى وما بين القول بزيادة الإيمان وبنقصانه.
تارَةً تجد من ذهب إلى أحد الأقوال يقول بزيادته ونقصانه ومن ذهب إليه لا يقول بزيادته ونقصانه.
يعني مثلاً الأشاعرة الذي هم مرجئة والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه ومنهم من لا يقول بذلك لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان، هذا أمر زائد أَدْخَلُوهُ في البحث.
فإذاً لا أثر في الخلاف في مسألة زيادته أو نقصانه على كونه مرجئاً.
فإذا قال أحد (الإيمان ما يزيد ولا ينقص) فإن هذا لا يدل على كونه مثلاً مرجئاً؛ لكنَّهُ يدل على أنه ليس من أهل السنة.
إذا قال (الإيمان نقول بزيادته ونقصانه) فهذا لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، بل قد يكون مرجئاً.
فلا ارتباط بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان.
[المسألة الثامنة] :
عرَّف الإيمان بقوله إقْرارٌ باللِّسانِ، وتصديقٌ بالجَنَانِ، وقلنا في التعريف اعتقاد بالجنان.
والفرق ما بين التصديق والاعتقاد:
أنَّ التصديق شيء واحد؛ بمعنى أنَّهُ أمْرٌ واحد، عِبَادَةٌ واحدة.
وأما الاعتقاد فإنه يشمل أشياء كثيرة من أعمال القلوب.
لهذا قالت طائفة من السّلف في تعريف الإيمان (الإيمان قول وعمل) وهذا دقيق لأنه يشمل قول القلب وقول اللّسان.
(قول القلب) هو تصديقه وإخلاصه في الله عز وجل.
(وقول اللّسان) هو إعلانه الشّهادة.
وعَمَلْ: يشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
(وعَمَلُ القلب) من محبة الله عز وجل والتوكل عليه والخوف منه جل جلاله ورجاؤه والإنابة إليه وخشية الرّب جل جلاله ونحو ذلك من أعمال القلوب.
فإذاً ما يتّصِلُ بالقلب من أمور الإيمان ليست شيئاً واحداً، ليس هو التصديق فقط، بل ثَمَّ أشياء كثيرة في القلب، والتصديق هو أحدها.
ولهذا فإنَّ التفاضل -الزيادة والنقصان- زيادةٌ ونقصان باعتبار العمل الظاهر، وزيادةٌ ونقصان باعتبار عمل القلب الباطن.
فالناس يتفاوتون في الإيمان من جهة:
1 -
زيادته ونقصانه في أعمالهم الظاهرة وهي أمور الإسلام: من الصلاة والزكاة والصيام والحج والاستسلام لله عز وجل في الأوامر والانقياد ونحو ذلك والانتهاء من المحرمات.
2 -
وكذلك أعمال القلوب.
وأعمال القلوب نوعان:
- أعمالٌ واجِبَةُ الفعل.
- وأعمالٌ مُحَرَّمَةُ العمل أو واجبة الترك.
@ أما واجبة الفعل مثل: محبة الله عز وجل، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخشيته، والخوف منه، والطمأنينة له، ونحو ذلك من أعمال القلوب.
@ وما يجب تركه من أعمال القلوب المحرمات، محرمات أعمال القلوب التي هي الكِبْرْ والبَطَر وتزكية النفس وسوء الظن بالله عز وجل ونحو ذلك، هذه كلها يجب تركها.
فإذاً أعمال القلوب مشتملة على:
1 -
تصديق.
2 -
ومشتملة على أمور واجبٌ أن يعملها القلب، وأمور واجب أن ينتهي عنها القلب.
* وهذه كلها في الحقيقة متصلة؛ فالتصديق مُتَأَثِرٌ زيادَةً ونُقْصَانَاً بأعمال القلوب.
فأعمال القلوب تؤثر على تصديقه، فأعمال القلوب الواجبة إذا زادت محبته لله عز وجل زاد تصديقه، إذا زادت إنابته إلى الله وزاد خشوعه وخضوعه بين يدي الله وزاد توكله على الله سبحانه وتعالى زاد تصديقه وزاد يقينه.
وكذلك إذا انتهى عن المحرمات، خضع لله عز وجل، لم يكن مُتَكبرا، ذليلاً لله عز وجل، غير مترفع على الخلق، مُحِبَاً لسلامته -سلامة قلبه-، مُبْتَعِداً عما يفسد القلب، هذه كلها مؤثرة في تصديقه.
فإذاً رجع الأمر في زيادة الإيمان وفي نقصانه إلى زيادة الإيمان في أركانه الثلاثة ونقصان الإيمان في أركانه الثلاثة.
فإذاً زيادة الإيمان (يزيد بطاعة الرحمن) يعني:
- يزيد التصديق أو الاعتقاد بطاعة الرحمن.
- يزيد الإقرار باللسان بطاعة الرحمن.
- يزيد العمل بالأركان أيضا بطاعة الرحمن.
فزيادة الإيمان راجِعَةٌ للثلاثة جميعاً.
لأنَّ الزيادة: تارةً تكون بالعمل الظاهرمثل زيادة صلاة، زيادة صدقة، زيادة بر، زيادة جهاد في سبيل الله، طلب علم ونحو ذلك، فيَرْجِعُ هذا إلى التصدِيقِ وإلى الإقرار بزيادة.
فيكون تصديقه واعتقاده أكثر وأعظم وأمتن وأثبت وكذلك إقراره.
وهذا يُحِسُّهُ الإنسان من نفسه فإنه إذا زاد إيمانه زاد لَهَجُهُ بذكر به عز وجل تهليلاً وتسبيحاً وتحميداً وتكبيراً وتمجيداً.
المسائل كثيرة نرجئ البقية إلى موضعٍ آتٍ إن شاء الله.
قال بعدها (وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ.)
يعني به أنَّ المؤمن لا يُفَرِّقُ بين كلام الله عز وجل ولا بين السُّنَنِ، فكل ما جاء في الكتاب أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور العقيدة والشريعة هذا يجب التسليم له، وكله حق يجب الإيمان به، وذلك كما قال عز وجل في وصف اليهود {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ} [البقرة:85] الآية، وكذلك قوله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وكذلك قوله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء:150] .
فالواجب هو الإيمان بجميع ما أنزل الله عز وجل على رسوله في القرآن، وما صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة، فالكل حق صَدَرَ عن مشكاة واحدة، عن الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه.
(وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ، وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى)
هذه العبارة منه تقريرٌ لكلام أبي حنيفة وأصحابه الذين يُسَمَّونَ مرجئة الفقهاء في أنَّ الإيمان واحد؛ يعني أنَّهُ في أصل وجوده شيءٌ واحد، إذا دَخَلَ في الإيمان دَخَلَ بشيءٍ واحد، إذا وُجِدَ سُمِّيَ مؤمناً وإذا لم يوجد لم يُسَمَّ مؤمنا.
وهذا القدر القليل الذي هو الأصل نظروا إليه بأنه شيء واحد وأنَّ أهله في أصله سواء.
يعني أنَّ أصل الإيمان يتساوى فيه المؤمنون، فجعلوا إيمان الناس كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم، كإيمان أبي بكر، كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كإيمان الرسل جميعاً بل جعلوه كإيمان الملائكة جميعاً.
لمَّا كان أصل الإيمان واحداً -يعني ما يحصل به الإيمان أول الأمر- جَعَلُوا أهله في أصله سواء.
وهذا كما ذكرتُ لك راجع إلى أنَّ التصديق عندهم، وما يتصل به من أعمال القلب أنه شيءٌ واحد، وقد نَصَّ على ذلك أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر في أنَّ: التصديق واحد وأنَّ التوكل واحد والمحبة واحدة وأنَّ الخشية خشية القلب واحدة ونحو ذلك.
فجعلوا ما في القلب مما يَحصُلُ به الإيمان جعلوه شيئاً واحداً.
والذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة أنَّ أهل الإيمان متفاضلون فيما بينهم، فالله عز وجل فَضَّلَ بعض الرسل على بعض فقال سبحانه {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] . وتفضيل بعضهم على بعض نتيجة وسبب ونتيجة لسبب وهو تفاضلهم في الإيمان.
فالرسل منهم أولوا العزم وهم أعظم الرسل مقاماً وأرفع الرسل مكانَةً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ، فالرسل ليسوا في منزلةٍ واحدة عند الله عز وجل.
والتفاضل هنا يكون بالإيمان -بإيمان القلب- ويكون بإيمان الجوارح بفعلها.
وهنا جَعَلْ الطحاوي التفاضل بالأمور الظاهرة قال (بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ولكن هذا التفاضل هو بعض التفاضل؛ لكن القلب يكون بين هذا وهذا من التفاضل في أعمال القلوب وفي تصديق القلب ما ليس بمحدود.
ولهذا خصّ الله عز وجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأنه صَدَّقَ من بين سائر الصحابة، فقال عز وجل {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] ، فخَصَّهُ بالتصديق لأنَّ عنده تصديقاً زائداً عن غيره، وكذلك قوله عز وجل في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:17-20] فهذا الابتغاء الذي هو أصل الدخول في الدين الذي هو ابتغاء ما عند الله عز وجل خُصَّ به أبو بكر لأنَّ له في ذلك مزيداً ليس لغيره.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم «لو وُزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرَجَح إيمان أبي بكر» (1) وقال أيضاً التابعي الجليل أبو بكر شعبة القارئ المعروف (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صدقة ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه)(2) .
هذا الشَّيء الذي وَقَرَ في القلب الذي هو التصديق، الناس يعرفون أنَّ فلاناً وفلاناً من جهة تصديقهم للخبر يختلفون -أي خبر-.
فيأتي ثقة إلى أناس فيقول هذا حاصل، فهذا مُصَدِّقٌ وهذا مُصَدِّقٌ؛ لكن تصديق الأول يختلف عن تصديق الثاني من حيث قوته، من حيث الجزم به بقوة وثبات ويقين.
ولهذا أبو بكر رضي الله عنه حصل له من المقامات كما هو معروف في السيرة ما ليس لغيره.
هذا التصديق أيضاً فيه أشياء تؤثر فيه من جهة التفاضل كما سيأتي بيانه.
إذاً كلام الطحاوي فيما سمعت جعل التفاضُلَ بأمورٍ خارجة عن تصديق القلب، عن اعتقاد القلب، جعلها، الخشية الظاهرة والتقوى الظاهرة ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
إذا تبين هذا فنذكر على هذا عدة مسائل:
_________
(1)
فضائل الصحابة لاحمد بن حنبل (653) / شعب الايمان للبيهقي (36) / كشف الخفاء للعجلوني (2130) / إتحاف السادة المتقين للزبيدي (1/323) / مسند اسحاق بن راهويه (1266)
(2)
منهاج السنة (6/223)
[المسألة الأولى] :
أنَّ قوله (وَأَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) يُرَدُّ عليه بأنَّ أصل الإيمان:
- إما أن يكون لُغَوياً.
- وإما أن يكون شرعياً.
فإذا كان المراد الشرعي -يعني الإيمان الشرعي-، فإنّ الإيمان يَصْدُقُ على:
- ما به يدخل المرء فيه.
- وأيضاً يكون أصله فيما بعد ذلك من الزيادات.
بمعنى أنَّهُ يدخل في الإيمان بتصديقٍ وبكلمة، ثم بعد ذلك يكون تصديقه غَيْرَ تصديقه الأول، وتكون كلمته غيرَ كلمته الأولى.
فلهذا كلمة (أَصْله) فيها إجمال وعدم وضوح.
هل المقصود بالأصل أنه الأصل الشرعي حين دخل في الإسلام؟
أو المقصود الأصل الشرعي الذي يتابعه ويمشي معه، يعني يلازم الإنسان دائماً وأنه أصل واحد لا يزيد دائما؟.
هذا فيه إجمال، وأيضاً لا يتفق هذا وذاك، فلا يَتَّفِقُ أَصْلُ إيمانِهِ أَوَّلَ ما دَخَلَ مع أَصْلِ إيمانه الذي يصاحبه، وكُلُّ أحد يعرف من نفسه الفرق ما بين أصل الإيمان حين أسلم وأصل إيمانه حين رسخت قدمه وحَسُنَ إسلامه.
فإذاً كلمة (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ) ، أصل الإيمان ما هو؟
هذه كلمة مجملة غير واضحة مرجعها غير واضح ولا دليل من الكتاب أو السنة على هذه الكلمة؛ يعني التعبير بأصل الإيمان وعدم التفريق فيما بين الإيمان اللغوي والشرعي.
[المسألة الثانية] :
أنَّ أصل الإيمان إذا قلنا هو التصديق، فإنَّ التصديق يتفاوت.
التّصديق نفسه الذي هو حد الإيمان -لأنهم عَرَّفُوا الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان- هذا التصديق الذي هو في تعريف الإيمان يتفاوت الناس فيه، وأيضاً يزيد في المعين وينقص.
وأسباب زيادة التصديق ونقصان التصديق أمور:
1 -
الأول: أنَّ مسائل الشّرع، مسائل الكتاب والسنة كثيرة، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العملية، وهذه كلها يجب الإيمان بها على الإجمال والتفصيل.
فإيمانُ وتَصْدِيْقُ مَنْ كَانَ مُقْتَصِرَاً على الإجماليات من جُهَّال المسلمين ليس كإيمان وتصديق من صَدَّقَ بكل ما عَلِمَهُ.
فالعَالِمُ تصديقُه مُجْمَلْ وتَصْدِيقُهُ مُفَصَّلْ بكل ما عَلِمَهْ، وأمّا الجاهل فتصْدِيقُهُ مُجْمل وما عَلِمَهُ من الشريعة قليلٌ صَدَّقَ به لكنه تصديقٌ ببعض الأمور.
فمن صَدَّقَ بكل الفروع -سواءٌ فروع العقيدة أو فروع الشريعة- من صَدَّقَ بها جميعاً فتصديقه أعلى ممن صَدَّقَ تصديقاً إجمالياً لا تفصيل فيه.
فإذاً نفس التصديق من جهة أوامر الشريعة والإيمان بالنصوص يختلف من جهة الإجمال والتفصيل.
2-
الثاني: الأعمال الظاهرة أيضاً امتثالاً للأوامر واجتناباً للنواهي تُؤَثِّرْ في التصديق ويؤثر فيها التصديق.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة ذات شرف يرفع إليه فيها الناس أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (1) كما في الصحيح، وفي مسند الإمام أحمد قال «إذا زنى العبد ارتفع الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا ترك عاود» (2) ، فإذاً هو حينما يفعل هذه الكبيرة، كبيرة الزنا أو كبيرة شرب الخمر أو كبيرة السرقة أو ما شابهها، حين يفعل، قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» ؛ لكن هنا هل زال تصديقه بالكلية؟
لا، لكن التصديق القوي المُسْتَحْضَرْ بالله عز وجل وبالدّار الآخرة وبعقابه والحساب والعذاب وما يكون بعد ذلك ومن العقوبات في الدنيا، هذا التصديق المتجزِّئ الكثير، هذا التصديق غاب عنه حين واقع المحظور، فلذلك قال «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» .
فإذاً الأعمال الظاهرة امتثالاً للواجب وانتهاءً عن المحرم هذه تزيد في التصديق، قال عز وجل {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2] ، وزيادة الإيمان ترجع إلى أركان الإيمان، إذْ تخصيص بعض الأركان دون بعض ليس عليه دليل، زيادة التصديق وزيادة العمل وزيادة الإقرار، وكذلك قوله عز وجل {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، {إِيمَانًا} هنا نكرة فتفيد الإطلاق في هذا المقام يعني إيماناً من جهة العمل وإيمان من جهة الإقرار وإيمان من جهة التصديق والاعتقاد.
3-
الثالث: أعمال القلوب مختلفة، الإنابة إلى الله عز وجل، ومحبة الرب سبحانه والخضوع له والتلذذ بمناجاته والأُنْسْ بتلاوة كتابه والتعرض لنفحاته في الأوقات الفاضلة، هذه أمور تزيد من اعتقاد القلب، وكل أحد يعلم من نفسه أنَّ حاله مع وجود هذه الأمور ومجاهدة النفس فيها ليس كحاله بدونها، وإيقانه بالجنة والنار وبالنعيم وبالعذاب وتوكُلُهُ على الله عز وجل ويقينه وقوّته في الإيمان تختلف فيما إذا تعاطى هذه العبادات وفيما إذا تهاون بها.
فإذاً إيقانه وتصديقه متصل بعبادات القلوب، وعبادات القلوب تزيد في التصديق والتصديق زيادته يؤثر فيها، فعمل القلب واحد، وإذا قلنا عمل القلب نسميه كذا ونسميه كذا فباعتبار التَّجْزِيء باعتبار الإيضاح؛ لكن في الحقيقة القلب شيء واحد، إذا جاءه التوكل قَوِيَ التصديق، إذا قَوِيَ التصديق قويت محبة الله عز وجل، إذا قويت محبة الله سبحانه وتعالى قويت الإنابة إليه وامتثال أوامره والرغبة فيما عنده.
فالقلب -إذاً- تفريقُ أعماله إنما هو للإيضاح والبيان، وإلا فكل عملٍ قلبيٍ مؤثر على العمل الآخر صِدْقَاً في الاعتقاد وإنابة وخضوع وامتثال ظاهر وامتثال باطن وإقرار وإيقان.
ولهذا تجد أنّ أعظم المؤمنين إيمانا أكثرهم خضوعاً وذلاً لله عز وجل وعدم ترفع على الخلق؛ لأنَّ هذا الذي في القلب بعضه يؤثر على بعض.
الصلاة يؤثر على الثواب فيها وعلى حُسنها تصديق القلب وخشية القلب وإنابته وحضوره إلى آخره، وكذلك هي تؤثر في هذه الأعمال.
(1) البخاري (2475) / مسلم (211)
(2)
الترمذي (2625) / المستدرك (56)
إذاً في التفريق ما بين أعمال القلوب هذا تصديق وهذا توكل وهذه خشية وهذه إنابة بأنه تفريق منطقي صحيح يعني بمعنى يمكن أن ترى هذه بلا هذه ولا صلة بينهما هذا بحثٌ نظري لا حقيقة له، فالإيمان -إيمان القلب- وأعمال القلوب مترابطة بعضها آخذٌ ببعض فإذا زاد التوكل زاد التصديق، وإذا قوي التصديق واليقين بأسباب الأعمال الظاهرة قوي التوكل قويت الخشية قويت المحبة قوي الرجاء ونحو ذلك.
فإذاً من أوجُهِ زيادة التصديق وزيادة أصل الإيمان -إذا صح التعبير موافقةً لأولئك- فإنه يُنْظَرُ فيه إلى تفاوت الأعمال؛ أعمال القلوب.
هذه بعض أسباب تفاوت الناس في تصديق القلب، وهناك أوجُهْ أخرى ذَكَرَهَا أهل العلم في مواطنها وخاصَّةً ابن تيمية في كتاب الإيمان؛ فإنه ذكر سبعة أوجه أو أكثر في تفاوت الناس في أصل الإيمان أو في التصديق أو في الاعتقاد، وأسباب الزيادة والنقصان بما يتعلق باعتقاد الناس. (1)
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثلاثين.
[المسألة الثالثة] :
قوله (وَالتَّفَاضُلُ بَيْنَهُمْ بِالْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) هذا صحيح؛ لكنَّهُ وجه تفاضل وليس كل أوجُهْ التفاضل.
(فالتفاضل قد يكون مِنَّةً مِنَ الله عز وجل وتَكَرُّمَاً أن يَمُنَّ على أحد بأن يكون أفضل من أحد، والله عز وجل يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
(ويكون التفاضل أيضاً بأمورٍ زمانية مثل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه زائدة عن الأمور التي ذكرها وهي (الْخَشْيَةِ وَالتُّقَى، وَمُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمُلَازَمَةِ الْأَوْلَى) ، وقد جاء في الحديث لمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة أو كما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم (1) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي في الصحيحين «لا تسبوا أصحابي -لما نِيلَ من عبد الرحمن بن عوف وهو من السابقين- فوالذي نفس محمد بيده فلو أنفق أحكم مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (2) يعني ولا نصف المد، وذلك فضل خاص زماني لأنهم اتّصلوا وصبحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الوجه الثالث: التفاضل يكون بأعمال القلوب دون الأعمال الظاهرة، فقد تكون الأعمال الظاهرة قليلة؛ لكن أعمال القلوب عظيمة.
وأعمال القلوب يُؤْجَرْ عليها العبد في الواجبات، ويُؤْجَرْ على الانتهاء عن المنهيات -منهيات أعمال القلوب من الكِبْرْ والبَطَرْ ورؤية النفس ونحو ذلك وسوء الظن بالله أو سوء الظن بالخلق يعني بالمسلمين-، ومنها أعمال يؤجر على فعلها ويأثَمْ على فعلها؛ يعني يؤجر على فعل بعض الأعمال ويأثم على فعل بعض الأعمال.
فإذا كان كذلك كان فعل القلب ميداناً للتفاضل، عمل القلب ميداناً للتفاضل.
لهذا يُرْوَى عن الحسن البصري رحمه الله أنه سئل: لماذا سَبَقَ الصحابة وفُضِّلوا مع أنّ عبادة من بعدهم يعني التابعين أكثر من عبادتهم؟ فقال الحسن (كانوا يتعبدون -يعني الصحابة- والآخرة في قلوبهم، وهؤلاء يتعبدون والدنيا في قلوبهم) .
العمل الظاهر واحد؛ بل ربما يكون أكثر، ولهذا صار الابتلاء بحسن العمل، وحُسْنُ العمل فيه الإخلاص وفيه المتابعة، وإذا اتّفق هذا وهذا في المتابعة، فهل يتّفقان في عمل القلب؟
وهل يتّفقان في الإخلاص؟ وهل يتّفقان في حسن العمل الباطن وفي الخشية والإنابة؟
لا يتفقون، هذا وهذا يصلون جنب بعضٍ وهذا وهذا يختلفون تماما.
هذه بعض المسائل المتعلقة بذلك، فتحصَّلَ من هذا أنَّ قوله (أَهْلُهُ فِي أَصْلِهِ سَوَاءٌ) ليس صواباً بل هو غلط، وليس إيمان الرسل كإيمان عامة أتباعهم، وليس إيمان الناس كإيمان الصحابة، وليس إيمان الصالحين كإيمان الفاسقين، وليس إيمان المُقَرَّبين كإيمان سائر خلق الله من المكلَّفين.
هذا فيه اختلاف فهم يختلفون أعظم الاختلاف في إيمانهم بالله وأسمائه وصفاته وربوبيته وألوهيته، وما في قلوبهم من العلم الإجمالي والعلم التفصيلي وما في قلوبهم من الأعمال الصّالحة وكذلك ما عملوه ظاهراً من الأعمال الصّالحة وانتهوا عما نهاهم الله عز وجل عنه، فهم يختلفون في ذلك أعظم الاختلاف.
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من أهل المقامات العالية في الإيمان، وأن يغفر لنا ذنوبنا الكثيرة وزللنا وتقصيرنا، وأن يبارك لنا في قليل أعمالنا، وأن يُصلح لنا نياتنا وذريّاتنا وأهلينا، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
(1) ابن ماجه (162)
(2)
البخاري (3673) / مسلم (6651)
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.
قال الطحاوي رحمه الله (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ.)
يقرّر الطحاوي مُعْتَقَدْ أهل السنة في أنّ وَلَايَةْ الرحمن متعلقة بكل مؤمن.
فأولياء الرحمن هم المؤمنون، وكلُّ مؤمن له نصيبٌ من وَلَايَةِ الله عز وجل التي وَعَدَ بها عباده المؤمنين المتقين.
وكذلك يُقَرِّرْ أنَّ التفاضل فيما بينهم يعني فيما بين المؤمنين إنما هو باتِّبَاعِهِم للقرآن وتقواهم وكثرة طاعتهم لله عز وجل، فمن كان أكْثَرَ طاعةً لله عز وجل وأحسَنَ طاعة وأتْبَعَ للقرآن فإنه أحقُّ بتفضيلٍ في ولاية الرحمن عز وجل له.
وهذا الأصل الذي قَرَّرَهُ الأئمة في عقائدهم في أنّ كل مؤمن وليٌ للرحمن عز وجل، ويتفاضلون في الوَلاية بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى هذا الأصل مُقَرَّرٌ في القرآن وفي السنة:
ففي كتاب الله عز وجل قال ربنا سبحانه وتعالى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-64] ، قال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، قوله {الَّذِينَ آمَنُوا} الأظهر فيها أنها نعت للأولياء؛ يعني منصوبة على أنها نعت للأولياء، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} ....المؤمنين المتقين، أو أنها بدل منه والأمر قريب.
فأولياء الله هم المؤمنون المتقون.
وكذلك قال الله عز وجل {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] ، فبيَّنَ الله عز وجل في الآية هذه أنَّ الله سبحانه هو ولي المؤمنين.
وكذلك قوله عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] .
وكذلك قوله عز وجل {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55-56] .
ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى، وهي أنَّ وَلَايَةَ الله عز وجل للعبد إنما هي بسبب إيمانه، وكل مؤمن له نصيبٌ من التقوى بحسب إيمانه، فإنه ما آمَنَ إلا طلباً للأمن، والأمن تقوى وخوف وخشية، يعني طلب الأمن تقوى وخوف وخشية.
إذا تَبَيَّنَ هذا الأصل وهو واضح في معتقدهم -يعني في مُعْتَقَدْ أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم- فهذه المسألة وهي: مسألة أولياء الرّحمن، ومسألة الكرامة، ومن هو الأكرم عند الله عز وجل، يمكن أن نُبَيِّنَها في مسائل:
[المسألة الأولى] :
الولي في اللغة: هو الناصر والمعين {إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] ، يعني إنَّ ناصري ومُعِيني الله عز وجل.
والوَلَايَةَ في اللغة -بالفتح- المحبة والنُّصْرَةْ.
والوِلَايَة -بالكسر- الإمارة أو السُّلْطَة.
يعني في غالب استعمال العرب، ومنه قول الله عز وجل {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف:44] ، يعني المحبة والنُّصْرَة يستحقها الرب جل جلاله.
وفي تعريف أهل العلم بما فهموا من الأدلة قالوا: الولي هو كلُّ مؤمِنٍ تقي ليس بنبي.
ويمكن أن تقولَ: كل مؤمن ليس بنبي؛ لأنَّ كل مؤمن له نصيب من التقوى.
لكن في الاصطلاح الخاص لابد من تكميل الإيمان والتقوى بحسب الاستطاعة، كما سيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله.
[المسألة الثانية] :
في دليل هذا الأصل وهو قول الله عز وجل {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] ، فجَعَلَ الرب عز وجل لمن أوْحَى إليه اسماً -وهو اسم النبي أو الرّسول- ولمن أطاع وآمن واتقى اسماً وهو أنَّهُ ولي، فصار اسم الولي غير اسم النبي، فهذا شيء وهذا شيء، وكل نبي له وَلَايَة بِحَسَبِه.
فإذاً الوَلَايَةُ داخلةٌ في النبوة لأنَّ النبوة أعظم وأرفع، والإيمان والتقوى هما سببا الوَلاية.
وإذا كان كذلك، فإنَّ المُتَقَرِرْ عند أهل السنة والجماعة: أنَّ الإيمان يتفاضل أهله فيه والتقوى يتفاضل أهلها فيها.
وإذا كان الإيمان مُتَفَاضِلاً والتقوى متفاضلةً فينتج من ذلك أنَّ وَلاية الله لعبده متفاضلة.
فيجتمع -إذاً- في حق المؤمن المُعَيَّنْ ما يُوجِبُ الولاية من الله عز وجل بإيجابه على نفسه ووعده الحق، وما يُسَبِّبُ العداوة.
فمادة الإيمان والتقوى أثرُهَا وَلَاية الله عز وجل لعبده وهي محبته له ونُصْرَتُهُ له.
ومادة الظلم والطغيان والذنب عليها وعيد من الله عز وجل بسلب الوَلَايَة الكاملة، فهذه تجتمع في حق المؤمن، من جهة يكون ولياً ومن جهةٍ يكون ظالماً لنفسه.