المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قوله (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار) - شرح العقيدة الطحاوية - صالح آل الشيخ = إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل

[صالح آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وَلا شيءَ مِثْلُهُ، وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ، وَلا إلهَ غَيْرُهُ)

- ‌ قوله (وَلا شَيْءَ يُعْجزُهُ)

- ‌قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ)

- ‌[المسألة الرابعة] :في إعراب كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (قَديمٌ بلا ابتدَاء، دَائمٌ بلا انْتهاء)

- ‌[المسألة الثانية] :ما ضابط كون الاسم من الأسماء الحسنى

- ‌ قوله (لا يَفنَى ولا يَبيدُ)

- ‌قوله (ولا يكونُ إلا ما يُريدُ)

- ‌ قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ)

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ)

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌ قولَه (وَإِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ المصطَفى، ونبيُّه المجْتَبى، ورَسُولُهُ المُرْتَضَى)

- ‌[المسألة الثالثة] :نبوة الأنبياء أو رسالة الرسل بما تَحْصُل؟ وكيف يُعْرَفُ صدقهم؟ وما الفرق ما بين النبي والرسول وبين عامة الناس أو من يَدَّعِي أَنَّهُ نبي أو رسول

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وإنَّه خَاتِمُ الأنبياءِ)

- ‌[المسألة الرابعة] :أنَّ ادِّعَاء الوحي كفر كدعوى النبوة، وهذا باتفاق أهل السنة

- ‌[المسألة الأولى] :أنَّ التفضيل بين الأنبياء جاء به النص كما قال عز وجل {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الخامسة] :أنَّ رؤية المؤمنين في الجنة لربهم عز وجل عامة بالإنس والجن، للرجال وللنساء، وللملائكة أيضاً

- ‌الأسئلة

- ‌الأسئلة

- ‌الأسئلة

- ‌قوله (فَإِنَّ رَبَّنَا عز وجل مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الثانية] :متى وقع الإسراء والمعراج

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الأولى] :أنَّ الحوض دلَّ عليه القرآن باحتمال، ودلَّت عليه السنة بقطع:

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ)

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ)

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وَالْعَرْشُ

- ‌ قوله (وَفَوْقَهُ)

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الخامسة] :الإيمان بالملائكة تَبَعٌ للعلم، وكلما زَادَ العِلْمُ بالعقيدة وبالنصوص زَادَ الإيمان بالملائكة لمن وفَّقَهُ الله

- ‌ الأسئلة

- ‌[المسألة الثانية] :الأنبياءُ والرُّسُلُ درجات في الفضل والمنزلة عند الله

- ‌[المسألة الخامسة] :من كَذَّبَ برسول بعد العلم به فإنه مُكَذِّبٌ بجميع الأنبياء والمرسلين

- ‌(وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)

- ‌ الأسئلة

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الحادية عشرة] :قوله (وَلَا نَقُولُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ) هذا فيه مخالفة للمرجئة

- ‌الأسئلة:

- ‌نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ، وَلَا نَأْمَنُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَنَسْتَغْفِرُ لِمُسِيئِهِمْ، وَنَخَافُ عَلَيْهِمْ، وَلَا نُقَنِّطُهُمْ

- ‌[المسألة الأولى] :أنَّ الرجاء للمحسن بالعفو وعدم الأمن والاستغفار للمسيء والخوف عليه، هذا عقيدة يتعامل بها المرء مع نفسه وكذلك مع المؤمنين:

- ‌[المسألة الثانية] :الرجاء للمحسن من المؤمنين بالعفو هذا يشمل كل أحد حتى من لم يَعْرِفْ لنفسه ذنباً

- ‌[المسألة الثالثة] :الجمع ما بين الرجاء للمحسن والاستغفار للمسيء هذا تَبَعْ لأصل عظيم وهو الجمع في العبادة ما بين الخوف والرجاء

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الثالثة] :الله عز وجل وليٌّ للعبد، والعبد أيضاً وليٌّ لله عز وجل

- ‌[المسألة الرابعة] :الأولياء قسمان فيما دَلَّتْ عليه الأدلة:- مقتصدون.- وسابقون مُقَرَّبون

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة

- ‌[المسألة الخامسة] :من لم يُغْفَرْ له ممن لم يتب فإنه يُشتَرَطُ لعدم خلوده في النار شرطان:

- ‌[المسألة السادسة] :الخلود في النار نوعان: خلودٌ أمدي إلى أجل، وخلودٌ أبدي

- ‌قوله (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ)

- ‌[المسألة الثالثة] :قوله (خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) هذا إذا كان إماماً مُرَتَّبَاً، ولم يكن بوسع المرء أن يختار الأمثل

- ‌الأسئلة

- ‌[المسألة الرابعة] :أننا مع ذلك كله فإننا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الأولى] :لفظ الأئمة وولاة الأمور مما جاء به الكتاب والسنة

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الثانية] :قوله (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) هذا المقصود منه إلى قرب قيام الساعة

- ‌[المسألة الخامسة] :في قوله (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) لفظ (الْعَالَمِينَ) يريد به هنا من له رُوحْ من المُكَلَّفين

- ‌[المسألة الأولى] :أنّ سؤال الملكين يقع عن ثلاثة أشياء:أولاً: عن ربه.ثانيا: عن دينه.ثالثا: عن نبيه

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الثانية] :لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ

- ‌[المسألة الثانية] :عقيدة خَتْمْ الوَلَايَةَ

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة التاسعة] :الكرامة إذا أعطاها الله عز وجل الولي فإنَّهُ ليس معنى ذلك أنَّهُ مُفَضَّلٌ وأعلى منزلة على من لم يُعْطَ الكرامة

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌ قوله (وَلَا مَنْ يَدَّعِي شَيْئًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ)

- ‌قوله (والفُرْقَةَ زَيْغاً وَعَذَاباً) :

- ‌الأسئلة:

- ‌الأسئلة:

- ‌[المسألة الأولى] :عِظَمِ شأن الدعاء

- ‌الأسئلة:

الفصل: ‌ قوله (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار)

وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ.

الحمد لله، وبعد:

قال العلامة أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة المباركة (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) .

قوله (الشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا) يعني ادَّخرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(لَهُمْ) يعني لأمته.

(حَقٌّ) يعني ثابتة كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ.

وأراد بقوله (ادَّخَرَهَا) ما جاء في الحديث الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لكل نبي دعوة مجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي مُدْرِكة منهم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (1) ، وفي رواية قال «وإني أخَّرتُ شفاعتي» (2) .

(أخَّرت شفاعتي) أو (اختبأت دعوتي) ، هذا يدل على أنَّهُ ادَّخَرَهَا لهم؛ يعني جعلها مُدَّخَرَةً مُرْجَأةً إلى يوم القيامة.

فالله ? جعل لكل نبيٍ شفاعَةً تحصل له جَزْمَاً بإكرام الله ? له وإذْنِهِ ومحْضُ تَفَضُّلِهِ سبحانه.

والنبي صلى الله عليه وسلم لأجل شِدَّةِ رحمته ورأفته بالمؤمنين ومعرفته بما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة أخَّرَ هذه الشفاعة إلى يوم القيامة.

قال (حَقٌّ) يعني ثابتة (كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ) .

والشفاعة هذه التي ادَّخرها لهم يُعْنَى بها بأول ما يُعْنَى الشفاعة العامة لأهل الموقف أنْ يُعجِّل الله ? لهم الحساب فيستريحون من العناء ويعرف كلٌ منزلته.

هذا معنى‌

‌ قوله (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ)

.

وفي هذه الجملة مسائل:

_________

(1)

البخاري (6304) / مسلم (512) / الترمذي (3602) / ابن ماجه (4307)

(2)

مسلم (514)

ص: 199

[المسألة الأولى] :

- الشفاعة في اللغة: من الشَّفْع وهو الزوج ضد الفرد؛ لأنَّ الدّاعي أو المُتَوَسِّطْ صار زَوْجَاً للسائل بعد أن كان السائل فرْدَاً، فَسُمِّيَ شَفِيعَاً؛ يعني سُمِّيَ شَفِيعَاً لأنه شفع؛ يعني صار زوجاً له؛ يعني صار ثانيا معه.

وحقيقة الشفاعة في اللغة هي السؤال، سؤال الشافع للمشفوع له في حاجةٍ ما وطلب ذلك.

فَرَجَعَتْ في اللغة إلى معنى السؤال والدعاء، فمن قال لأحد اشفع لي عند فلان؛ يعني اسأل لي واطلب لي، توسط لي ونحو ذلك.

- وأما في الاصطلاح: فالشفاعة اسم عام لكل دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم (1) يوم القيامة لأمته، فكل دعوى يدعو بها صلى الله عليه وسلم في العرصات يوم القيامة فإنها تعدُّ من الشفاعة.

يعني أنه إذا جاء في الحديث: فسألت الله لأمتي كذا، أو أسأل الله لأمتي، أو فأدعو الله لأمتي، هذه كلها شفاعة.

ولهذا أهل العلم جعلوا -لأجل ما جاء في الأحاديث- الشفاعة عدة أقسام لتنوع العبارات في ذلك.

(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر.

ص: 200

[المسألة الثانية] :

أنَّ الشفاعة في أحكامها قسمان:

- شفاعة في الدنيا.

- وشفاعة في الآخرة.

والذي أراده الطحاوي هنا الشفاعة في الآخرة لأنه عبَّر بقوله (الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ) .

ولكن لما كان ثَمَّ من يخالف في أحكام الشفاعة في الدنيا والآخرة وفي تأصيلها وفي العقيدة الصحيحة فيها يذكر العلماء هنا ما يتّصل بالشفاعة في الآخرة وأيضا الشفاعة في الدنيا، ويبيِّنون أحكام ذلك بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولعموم المكلّفين.

ص: 201

[المسألة الثالثة] :

الشفاعة في الآخرة اختلف فيها الناس إلى أقوال متعددة:

- فَثَمَّ شفاعة مُجْمَعْ عليها، وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف كما سيأتي.

- وهناك شفاعة أنكرها المعتزلة والخوارج وطوائف وهي الشفاعة لأهل الكبائر من الأمة في أن يعفو الله ? عنهم وأن يخرجهم من النار.

-وهناك أنواع من الشفاعة يختلف فيها نَظَرُ العلماء من أهل السنة ومن غيرهم لأجل ورود الدّليل عليها.

* وهذه الثالثة لا تُعَدُّ من الخلاف في العقيدة؛ لأنّه قد يُثْبِتُ الشفاعة من رَأَى صحة حديث وقد ينفيها آخر لعدم ثبوت الدليل عنده بذلك، فهي إذاً مأخذ اجتهاد.

ص: 202

[المسألة الرّابعة] :

أنَّ الشفاعة التي للنبي صلى الله عليه وسلم بما جاء في الأخبار يوم القيامة أنواع:

1-

أولاً: الشفاعة العظمى:

وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يُحَاسَبُوا، فإنَّ الناس يوم القيامة يمكثون زماناً طويلاً في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، ينتظرون الفرج وهم في شدة كرب وشدة حر وخوف وهلع، ينتظرون الحساب، وينتظرون تبيين المنازل، فيأتون إلى الأنبياء، يأتون إلى آدم يستغيثون به يطلبونه أن يشفع لهم، قال «فيأتون إلى آدم فيقولون له أنت أبونا ألا ترى ما نحن فيه اشفع لنا» فيعتذر عن ذلك متذكراً ذنبه عليه السلام، ثم يأتون إلى نوح فيسألونه، ثم يأتون إلى إبراهيم ثم يأتون إلى موسى ثم يأتون إلى عيسى عَلَيْهِم جميعا السَّلَامُ، كل أولئك يعتذرون وبعضهم يذكر سؤالاً له وبعضهم يذكر ذنباً له، كما جاء في الحديث الطويل المعروف حديث الشفاعة (1) .

ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صلى الله عليه وسلم «أنا لها، أنا لها» ، فيذهب فيخر تحت العرش بعد نزول الجبار أ) ، قال صلى الله عليه وسلم «فأحمد الله بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن» فيقال:«يا محمد ارفع رأسك وسل تُعطَ واشفع تشفع» الحديث.

وهذا فيه من جهة السياق ما يدل على أنَّ المراد من هذا السؤال أن يشفع لهم صلى الله عليه وسلم في تحقيق ما طلبوا، وإن لم يرد له ذِكْرٌ في الحديث، في تحقيق ما طلبوا وهو أن يحاسبوا وأن يرتاحوا من الموقف.

فهذه هي الشفاعة العظمى جاءت فيها عدة أحاديث، وعليها التفسير في قوله ? {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، وكما جاء في دعاء المجيب للأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدّته) .

(المقام المحمود) هو المقام الذي تحمده عليه الخلائق جميعا، ويُثْنِي عليه به صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق الذين وقفوا في الحساب، وهو مقام الشفاعة العظمى؛ لأنه بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته يرتاح الناس من ذلك الموقف العظيم الذي لا يُتَصوَّرْ ولا يَعرف هوله إلا من قام فيه، أعاننا الله ? على كرباته وأمننا وإياكم من الفزع الأكبر.

2-

ثانياًً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر:

وهذه قد جاء بها الدليل الخاص في قوله صلى الله عليه وسلم «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (2) .

وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له (يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟) فقال صلى الله عليه وسلم «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (3) خَرَّجَاه في الصحيحين، فقوله «أسعد الناس بشفاعتي» يعني سعيد الناس بشفاعتي، فـ «أسعد» أَفْعَل على غير بابها بمعنى (فَعِيل)، يعني سعيد الناس بشفاعتي كما قال سبحانه {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] ، ليس معناه أنهم أحسن مقيلاً من أهل النار، فيشترك أهل النار معهم في حُسْنِ مقيل، بل معنى قوله {أَحْسَنُ مَقِيلًا} يعني حَسَنٌ مقيلهم.

فأفعل ليس على بابها في المفاضلة؛ ولكنها بمعنى المصدر يعني حَسَنٌ مقيلهم، سعيد الناس بشفاعتي ونحو ذلك.

وهذه الشفاعة لأهل الكبائر لها نوعان؛ يعني لعموم اللفظ «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» نوعان:

أ - النوع الأول: قومٍ أَهْلُ كبائر رَجحت سيئاتهم على حسناتهم، فأُمِرَ بهم إلى النار فيَشفع فيهم صلى الله عليه وسلم في أن لا يدخلوا النار، فيُشفَّع فيهم صلى الله عليه وسلم.

ب - النوع الثاني: في أقوامٍ دخلوا النار فيشفع فيهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منها، فيخرجون منها كأنهم الحِمَمْ فيوضعون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في جانب السيل.

3 -

ثالثاً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أن يدخل أقوام الجنة بغير حساب ولا عذاب:

وهذه يُستدلّ لها بقول عُكَّاشة في حديثه (يا رسول الله أدعوا الله أن يجعلني منهم) قال (أنت منهم)(4) .

4 -

رابعاً: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات بعض أهل الجنة:

وهذه يذكرها أهل العلم، ولم يورِدُوا عليها دليلاً بيِّنا، وهي شفاعة متفق عليها حتى عند أهل البدع.

فيُسْتَدَلُّ لها:

@ بالإتفاق.

@ بما استدل به ابن القيم رحمه الله في شرحه على تهذيب سنن أبي داوود حيث قال (ويستدل لها بقوله صلى الله عليه وسلم لما صلى على أبي سلمة «اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين» (5) . فقوله «وارفع درجته» دعاء في الدنيا له وهذا معنى الشفاعة) .

(1) البخاري (3340) مسلم (501) / الترمذي (2434) / ابن ماجه (4312)

(2)

أبو داود (4739) / الترمذي (2435)

(3)

البخاري (99)

(4)

البخاري (5752) / مسلم (549) / الترمذي (2446)

(5)

مسلم (2169) / أبو داود (3118)

ص: 203

5-

خامساً شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم وصاروا على الأعراف، في أن يعفوا الله ? عنهم ويُدخلهم الجنة:

فهؤلاء يدخلون في عموم قوله ? {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] ، على أحد أوجه التفسير من أنَّ أصحاب الأعراف هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيُجعلون على رأس جبل بين الجنة والنار لأجل التساوي، إذا نظروا يمنة إلى الجنة سُرُّوا، وإذا نظروا شمالا إلى النار خافوا، فَيُشَفَّعْ فيهم صلى الله عليه وسلم إكراماً له في أن يجعلهم الله ? من أهل الجنة.

6 -

سادساً شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة:

فإنَّ الناس إذا جاوزوا الصراط يُحبسون في عرصات الجنة مدة، ثم يأتي صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة فيُفتح له، ويسأل الله ? قبل ذلك أن يأذن لأهل الجنة بدخولها، فيدخلون برحمة الله ?، ثم بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مُشَفَّع؛ يعني من حيث الجنس هو أول شافع وأول مُشَفَّع.

7 -

سابعاً شفاعته صلى الله عليه وسلم لأبي طالب عمِّه في أن يخفف الله ? عنه العذاب:

فيُشَفَّع فيه فيكون في ضحضاح من نار نعلاه من نار يغلي منهما دماغه، نعوذ بالله من عذابه.

هذه سبعة أنواع وبعض أهل العلم يجعلها ثمانية؛ لأجل أنَّ أهل الكبائر -كما ذكرنا لكم- نوعان، فيجعل شفاعته لأهل الكبائر يعدها نوعين من الشفاعة، وهي واحدة لأن الدليل فيها واحد.

ص: 204

[المسألة الخامسة] :

الشفاعة يوم القيامة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنبياء؛ بل تَشفع الملائكة ويَشفع المؤمنون بدرجاتهم: (العلماء والشهداء والصالحون يشفعون) ؛ كما ثبت في الصحيح أنَّ الله ? يقول يوم القيامة «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيأمر الله ? بأقوام في النار لم يعلموا خيرا قط أن يخرجوا» (1) إلى آخر الحديث؛ يعني أنَّ الشفاعة ليست خاصة بالأنبياء بل الملائكة تشفع كما قال ? في وصف الملائكة من حملة العرش وغيرهم {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5] ، وهذا استغفار قبل معاينة المصير والعذاب، وهم أرحم ومُتَوَلِّيْنَ لأهل الإيمان إذا رأوا العذاب ورأوا المصير.

قال «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون» فإذاً الشفاعة عامة فكل مؤمن صالح يشفع؛ يشفع في قريبه، يشفع في من شاء.

(1) مسلم (472)

ص: 205

[المسألة السادسة] :

الشفاعة لا تنفع عند الله ? مطلقا كما قال سبحانه {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، فليس كل شافع يُشفَّع وليست كل شفاعة تُقبل بل لا تنفع الشفاعة لا من الأنبياء ولا من الملائكة إلا بوجود شرطين فيها:

1-

الشرط الأول: أي يأذن الله للشافع أن يشفع.

2-

الشرط الثاني: رضا الرحمن أعن المشفوع له.

كما قال سبحانه {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال سبحانه {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] ، يعني فيمن تنفعه الشفاعة.

لهذا قال العلماء يُشترط لحصول الشفاعة وقبولها:

1 -

إذن الله جل جلاله

2 -

الرضا.

أ - أولاً: إذن الرحمن جل جلاله.

المقصود بالإذن: الإذن الشرعي والإذن الكوني.

فإنَّ العبد لا يبتدئ بالشفاعة كونَاً إلا بعد أن يشاء الله ? أن تقع منه الشفاعة كونَاً؛ يعني في الدنيا وفي الآخرة.

وكذلك لا بد لتحقيق هذا الشرط من الإذن الشرعي، فإذا شفع في من لم يُؤْذَنْ شرعاً بالشفاعة فيه، فإن الشفاعة لا تُقْبَلْ.

مثاله شفاعة إبراهيم في أبيه قال {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] فلم تنفعه، وقال سبحانه في حقه {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:114] ، فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه.

كذلك شفع نوح عليه السلام في ابنه {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] فأجابه الرحمن ? فـ {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] .

وكذلك شَفَعَ النبي صلى الله عليه وسلم في عمِّه وقال «لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عن ذلك» (1)، فنزل قول الله ? {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] .

فإذاً: ولو وقعت الشفاعة بإذن الله الكوني فإنها لا تنفع حتى يكون إذن الله الشرعي؛ يعني حتى تكون الشفاعة موافِقَةً للشرع.

موافِقَةً للشرع يعني الإذن الشرعي في صفتها وفي المشفوع له وفيما يكون في ذلك، وهذا الشرط مهم فيما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ب - ثانياً الرضا:

كما قال سبحانه {وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال ? في سورة الأنبياء في ذكر الملائكة {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] ، هذا الرضا هو:

- رضا الله ? عن الشافع....

- رضا الله ? عن المشفوع له.

@ فرضا الله عن الشافع في قوله {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] .

@ ورضا الله عن المشفوع له في قوله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى} ، وآية النجم في قوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] كذلك.

إذاً فالرضا شرط:

1 -

رضاه سبحانه عن الشافع، ولذلك الكافر لا يشفع....

2 -

رضا الله ? عن المشفوع له.

* ويرد على هذا شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فهي مستثناة من هذا الشرط لأجل أنَّ الله ? رضي نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فحصل من أبي طالب مِنَ الفعل ما فيه نوع رضا لله ? عن الفعل لا عن الفاعل.

فإذاً هو إيراد على الشرط، والجواب أنَّ هذا استثناء وسبب الاستثناء ما ذُكِر.

(1) البخاري (3884) / مسلم (141) / النسائي (2035)

ص: 206

[المسألة السابعة] :

أنَّ الشفاعة من المباحث العظيمة التي ضلَّ فيها فئام من الناس.

فضلت النصارى فيها، وضل مشركو العرب فيها، وضلّ مشابهو مشركي العرب من الذين يغلون في الأولياء والأنبياء والقبور فضلوا فيها، والجميع لسانهم قول المشركين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] .

ولهذا الشفاعة كما ذكرت لك لها جهتان في بحثها:

1 -

جهة تتعلق بالعقيدة والآخرة؛ وهي ما قدمنا ملخصاً ومختصراً في يوم القيامة.

2 -

جهة تتعلق بما يتصل بتوحيد العبادة وطلب الشفاعة من الأموات.

وتحقيقا لذلك المقام فنقول: إنّ طلب الشّفاعة من الإنسان أو من المخلوق هذه منقسمة إلى قسمين:

& الأولى شفاعة أَذِنَ بها الشرع.

& الثانية: شفاعة نهى عنها الشّرع.

?@ أما التي أذن بها الشرع فهي طلب الشفاعة ممن يملكها ويستطيع أداءَها وهو الحيّ الحاضر الذي يسمع، ولهذا سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلمأن يشفع لهم في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه حي حاضر يسمع.

وقد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لما جاءت المجاعة وأصاب الناس الكرب في عام الرَّمادة أنه قال لما استسقى بالناس (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا بنبيك، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك اللهم فأسقنا، يا عباس قم فأدعُ ربَّك)(1) .

فدل هذا على أنهم كانوا يطلبون الشفاعة من النّبي صلى الله عليه وسلم.

وطلب الشفاعة منه في حياته بمعنى طلب أن يدعو لهم ربّه أ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعواته الأصل فيها أنها مجابة، وقد يُرَدُّ بعضها لحكمة الله ?.

@ وأما التي نهى عنها الشرع فهو طلب الشفاعة من المخلوق الذي ليس بحي -ميت- أو هو غائب فإنه شرك بالله جل جلاله.

لماذا؟

لأنه طلب؛ لأنَّ حقيقة الشفاعة دعاء وطلب، فإذا سأل غيره الشفاعة، فهو سأل وطلب من المسؤول أن يسأل.

فإذاً حقيقة طلب الشفاعة أنها دعاء، ولذلك من طلب من الميت أن يدعو له، فإنه يدخل في عموم نصوص الدّعاء؛ لأنّ الطّلب دعاء.

ولهذا نقول: كل طلبِ شفاعة من الأموات أو الغائبين ممن لا يملكها أو لا يستطيعها أو لم يُؤذن له فيها شرعا في حياة البرزخ فإنّ هذه من الشرك بالله جل جلاله.

لكنّ الشُّبْهَة في الشفاعة كبيرة وتحتاج إلى إقامة الحجة على المخالف أكثر من غيرها من مسائل العقيدة.

المشركون لم يكونوا يطلبون من آلهتهم الدّعاء، لم يكونوا يطلبون من أوثانهم لتشفع ولكن كانوا يتقربون إليها لتشفع.

فإذاً صورة طلب الشفاعة من الميّت محدثة.

ولهذا يُعَبِّر كثير من أهل العلم عن طلب الشفاعة من الأموات بأنها بدعة محدثة؛ لأنّها لم تكن فيما قبل الزمان الذي أُحدثت فيه تلك المحدثات في هذه الأمة.

فإذاً تعبير بعض أهل العلم عنها بأنها بدعة، لا يعني أنها ليست بشرك؛ لأنَّ البِدَعَ منها ما هو كفري شركي ومنها ما هو دون ذلك.

تفاصيل مسألة الشفاعة من حيث تعلقها بتوحيد الإلهية مبسوط في شرح كتاب التوحيد كما هو معروف، والمقام في شرح العقيدة العامة لا يتسع لتفصيل الكلام على ذلك.

(1) ابن خزيمة (1421) / ابن حبان (2861) / المستدرك (5438)

ص: 207

[المسألة الثامنة] :

احتج المعارض والمخالف من المعتزلة والخوارج في أنَّ الشفاعة لأهل الكبائر لا تنفع، الشفاعة لمن في النار لا تنفع، بقول الله ? {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] .

ووجه الاستدلال عندهم من الآية أنَّهُ قال {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بالجمع، والذين يشفعون يوم القيامة هم الذين أذن الله لهم بالشفاعة وهم الأنبياء والمؤمنون، قالوا: فدلت الآية على أنَّ من في النار لا تنفعه الشفاعة -شفاعة الشافعين-، لأجل عموم لفظ الشافعين فهو عام في كل من يشفع.

والجواب عن ذلك:

1-

أولاً:

أنَّ هذه الآية جاءت في سياق ذكر الكفار وأنهم في النار، فقال ? {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48] ، فقوله {فَمَا} الفاء هنا ترتيبية تُرَتِّبُ النتيجة التي بعدها على الوصف الذي قبلها، والوصف الذي قبلها في الكافرين الذين وصفهم بقوله {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ووصفهم بقوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهؤلاء هم الكفار.

والمسألة التي هي الشفاعة لأهل الكبائر هي في مَنْ كان مسلماً، أما المكذّب بيوم الدين والذي لم يصحَّ إسلامُه فإنه ليس هو محل البحث.

فإذاً استدلالهم بالآية في غير محله؛ لأنَّ الآية يقول بها من يثبت الشفاعة لأهل الكبائر في أنَّ المشركين ولو شفع بعضهم لبعض وظنوا أنَّ آلهتهم تشفع فما تنفعهم شفاعة الشافعين؛ لأنهم مشركون كفرة، والكافر لم يرضَ الله ? عنه، ومن شرط الشفاعة الرضا.

فلو شفع على فرض أنَّ أحداً شفع لهم من أقربائهم فإنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، والله سبحانه إنما تنفع الشفاعة عنده لمن يأذن الله ? له ولمن يرضى.

2 -

ثانياً:

أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» هذه نص وليست بالظاهر؛ يعني لا يحتمل التأويل، وكذلك قوله «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ومن نفسه» (1) هذا فيه ظهور في الدلالة؛ لأنها تعم من قال لا إله إلا الله مخلصاً وصاحب الكبيرة قالها، وقد قال صلى الله عليه وسلم «أسعد الناس بشفاعتي من قال» يعني الذي قال ومن المقرر أنَّ الاسم الموصول في العربية وعند الأصوليين يعم ما كان في حيِّزِ صلته بظهورٍ في العموم.

ولهذا نقول: إنَّ من مَنَعَ الشفاعة لأهل الكبائر من المعتزلة والخوارج هذا لأجل مذهبهم الرّديء في أنَّ فِعْلَ الكبيرة كُفْرْ وأنه يوم القيامة يكون من أهل النار والعياذ بالله، وهذا باطل كما هو مقرّر في موضعه من مباحث الأسماء والأحكام في الإيمان.

(1) سبق ذكره مع ما قبله (203)

ص: 208

[المسألة التاسعة] :

أنّ الشارح ابن أبي العز رحمه الله في شرحه ذَكَرَ في هذا الموضع مسائل التوسّل بالجاه والتوسّل بالحق -يعني قول القائل: (بحق فلان) ، (بحق نبيك) ، (بحق عمر) ونحو ذلك، والتوسل بجاه فلان- وبَحَثَهَا بحثاً جيدا مُلَخَصاً من كتاب التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، فلابد من الإطلاع على ذلك الكلام، ومراجعة كتاب التوسل والوسيلة؛ لأنَّ لفظ التوسل يشتبه بالشفاعة، فبعضهم يجعل (أتوسّل إليك) بمعنى الشفاعة، فيكون توسلاً متضمناً الشفاعة أو متضمناً التّشفع أو طلب التشفع.

ولهذا في قول القائل: أسألك بحق فلان، هذا فيه تفصيل ويُرْجَعْ فيه إلى شرح الطحاوية وإلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه لا يناسب المتن؛ يعني لفظ الشفاعة التي ذكرها الطّحاوي رحمه الله، فهي فائدة استطرادية.

ص: 209

[المسألة العاشرة] : (1)

الأسباب التي بها يُحَصِّل المرء المسلم شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم جاءت بها الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ونذكر منها سببين:

1-

السبب الأول:

وهو أعظم الأسباب وأرجاها وهو التوحيد وإخلاص الدين والعمل لله جل جلاله وإسلام الوجه لله عز وجل.

وهذا قد دلَّ عليه ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال (يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم له «لقد علمت أن لن يسألني أحد عن هذا قبلك أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» (2) ، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «لكل نبي دعوة مجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي مدركة منهم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ونفسه» (3) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

2-

السبب الثاني:

متابعة المؤذن فيما يقول كما دل عليه الحديث الذي رواه البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال «من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن، ثم قال اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة» (4) .

فمن أسباب نيل شفاعته صلى الله عليه وسلم متابعة المؤذن بإخلاص وصدق؛ لأنّ ذلك دالٌّ على التوحيد وعلى الاستسلام لله ? في شرعه وأمره، فيقول مثل ما يقول المؤذن، ثم إذا ختم لا إله إلا الله قال مثل ما يقول ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته.

وهنا فيه زيادات مروية في بعض الروايات في دعاء مجيب المؤذن منها:

آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة (والدرجة العالية الرفيعة) ، وهذه الزيادة ضعيفة.

وكذلك زيادة أخرى: وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته (إنك لا تخلف الميعاد) . وهذه رواها البخاري في صحيحه في رواية الكُشْمَيْهَنِي وهي عند المحققين شاذة لا تصحّ عن البخاري لمخالفة الكُشْمَيْهَنِي لجميع رواة الصحيح.

وثَمَّ أسباب أخرى تجمعونها إن شاء الله تعالى فإنها من نفيس العلم جعلني الله وإياكم ممن ينال هذا الحظ العظيم وهو شفاعته صلى الله عليه وسلم.

لعلّ في هذا القدر كفاية.

(1) هذه المسألة نسي الشيخ ذكرها في هذا الموضع ثم نَبَّهَ عليها في الشريط الـ 16

(2)

سبق ذكره (203)

(3)

سبق ذكره (199)

(4)

البخاري (614) / أبو داود (529) / الترمذي (211) / النسائي (680)

ص: 210