الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الخامسة] :
في قوله (أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) لفظ (الْعَالَمِينَ) يريد به هنا من له رُوحْ من المُكَلَّفين
.
(بِقَبْضِ أَرْوَاحِ العَالَمِينَ) يعني من له روح من المكلفين دون غيرهم، وذلك لِدِلَالَةْ ظاهر الآية على ذلك بقوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} {يَتَوَفَّاكُمْ} الخطاب للمُكَلَّفين من الجن والإنس.
ولفظ (العَالَمينَ) له في القرآن عدة إطلاقات:
1-
الإطلاق الأول: وهوالمعروف وهو أنه اسم لكل ما سوى الله عز وجل، وهذا هو الذي يُذْكَرْ عند قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يقول العلماء: العالمون اسم لكل ما سوى الله عز وجل، فكل ما سوى الله عَالَمْ وأنا واحِدٌ من هذا العالم.
لكن هذا الاستدلال أو هذا التفسير ليس تفسيراً وحيداً؛ يعني ليس إطلاق لفظ (العَالَمينَ) على هذا المعنى فقط، فإنَّ العالمين كلفظ في الكتاب والسنة يطلق على هذا المعنى ويُطْلَقُ إطلاقات أُخَرْ.
2-
الإطلاق الثاني: أنَّهُ يراد بـ (العَالَمينَ) الناس الذين تُشَاهِدُهُم، كما في قوله عز وجل {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} ، ومعلومٌ أنَّ {الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} لا يشمل الملائكة لأنهم ليسوا بإناث ولا يشمل الجن لأنهم لا يدخلون في هذا اللفظ.
فقوله {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} يعني به عز وجل أو معنى الآية يعني الناس الذين يأتُونَهُم ويَرَونَهُم.
3 -
الإطلاق الثالث: يأتي لفظ (الْعَالَمِينَ) ويُرَادُ به أهل الزمان الواحد من الإنس والجن، أهل الزمان الواحد يقال لهم عالمَوُنْ، وهذا يُسْتَدَلُّ عليه بقول الله عز وجل {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] ؛ يعني بهم بني إسرائيل اخْتِيرُوا على العالمين المراد بهم أهل الأرض في ذلك الوقت، أهل ذلك الزمان من الجن والإنس، وقد اختار الله عز وجل بني إسرائيل على علم لأنَّهم أصلح ذلك الزمان.
وهذه الإطلاقات الثلاث موجودة أيضاً في السنة.
ومن أهل العلم من يُقَسِّمْ هذا التقسيم ومنهم من يقول إنَّ المراد هو الأول فقط.
وهذا الإطلاق الأول (عَالَمْ) وهو أنَّ كل ما سوى الله عز وجل عَالَمْ وأنا واحد من هذا العالم، هذا عامٌّ يُرَادُ به الخصوص في مواضع.
وهذا وَجْهْ هو قوي وواضح؛ يعني أنَّ السياق يَدُلُّ على إخراج بعض ما دل عليه العموم، فقول الله عز وجل {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} معلومٌ أنَّهُ لا يدخل فيهم الجن ولا يدخل فيهم من ليس مُشَاهَدَاً لهم إلى آخره، فلم يأتوا كُلَّ ذَكَر وإنما أَتَوا بعض الذكور الذين رَأَوهُمْ، فيكون هذا من العام الذي أُرِيْدَ به الخصوص، كذلك قوله {وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} يُرَادُ به العَالَموُن الذين في زمانهم فهذا من العام المخصوص؛ لأنهم لم يُفَضَّلُوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يُفَضَّلُوا على الملائكة فيكون هذا من العام المراد به الخصوص.
المقصود من ذلك أنَّ قوله هنا (الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ) يُرَادُ به العالَمون الذين لهم روح ومن المكلّفين.
نقف عند هذا إن شاء الله تعالى، ونكمل غَدَاً بإذن الله.
وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ، الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ.
وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
قال رحمه الله هنا (وَنُؤْمِنُ
…
بِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا، وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ)
هذه الجملة تقريرٌ لما يجب الإيمان به بما دلّ عليه النص من الكتاب والسنة من أنَّ القبر يُعَذَّبُ أهلُه فيه ويُنَعَّمُ أهله فيه، فما بين مُعَذَّبٍ ومُنَعَّم، وما بين مُعَذَّبٍ دائماً وما بين مُنَعَّم دائماً.
وهذا الأصل في الإيمان بعذاب القبر وبسؤال منكر ونكير وفتنة القبر، قد دَلَّ عليه القرآن والسنة وتظاهرت الأدلة وتواترت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الدلالة على أنَّ القبر والبرزخ يكون فيه عذاب ويكون فيه نعيم للإنسان المكلَّف على ما يَحْكُمُ الله عز وجل به على الميت.
وأصل هذه المسألة في إيرادها في العقائد لأجل أنَّ طائفةً من المعتزلة والجهمية والفلاسفة وأهل الكلام يُنْكِرُونَ عذاب القبر ويُنْكِرُونَ السؤال والفتنة، وذلك لعدم إيمانهم بِدِلَالَةِ السنة والحديث على ذلك، ويتأولون ما جاء في القرآن مما يَدُلُّ على عذاب القبر.
ومن جنس المسائل السابقة فإنّ تقرير هذه المسألة في العقائد له أوجه:
1-
الوجه الأول: أنَّ عذاب القبر وفتنة القبر أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد؛ لأنَّهَا لا تُدرَك بالنظائر ولا تُدرِكها العقول؛ بل تَحَارُ فيها العقول، فيجب الإيمان بها والتسليم على نحو ما جاء في الخبر الصادق في الوحي.
2-
الوجه الثاني: أنَّ الأدلة من الكتاب والسنة دَلَّتْ على حصول العذاب في القبر والنعيم فيه، وعلى السؤال والفتنة في القبر، وهذه في كثرتها معنىً تَدُلُّ على تواتر الدليل بثبوت العذاب وأنَّ دار البرزخ محل للنعيم وللعذاب على الإنسان، وإذا كان كذلك فيجب التسليم لما دَلَّ عليه الدليل، فكيف إذا كان متواترا معنىً أو متواتراً لفظاً وهو أعلاه.
3-
الوجه الثالث: أنَّ المخالفين خَالَفُوا في هذا ممن يُحَكِّمُونَ العقل ويَرُدُّونَ عَالَم الغيب إلى عَالَم الشهادة، ويقيسون الأمور الغيبية على الأمور المُشَاهَدَة، ويُحَكِّمُونَ العقل فيما جاءت به النصوص في أنَّ هذا يُعْقَلْ وأنَّ هذا لا يُعْقَلْ فيحملونه على العقول.
فلأجل مخالفة الضالين ممن ذكرنا من طوائف من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام وبعض فقهاء السنة إمَّا في كل المسألة أو في بعضها نَصَّ عليها وصارت من مسائل العقائد التي يُعْلِنُ أهل السنة الإيمان بها وتقرير ما دلت عليه.
وكما ذكر لك الطحاوي هنا أنَّ هذا الإيمان سِمَةٌ لأهل السنة والجماعة المُسَلِّمِينَ للنُّصُوص، وأنه تَبَعٌ لما جاء في الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَصَّ الطحاوي على الأخبار ولم يذكر الآيات؛ لأنَّ الأخبار متواترة معنىً في الدلالة عليه، وأما الآيات فإنها قليلة وهي مجال للأخذ والتأويل عند من تَأَوَّلَ، والحجة هنا ظاهرة فيما تواترت بها السنة.
فيجب أن يكون على ما أوْرَدَهُ هنا يجب أن يكون الاستدلال قائماً على الكتاب والسنة؛ لكن إن كان المُعَارِضْ يَتَأَوَّلُ أحد الأدلة فإنه يُسْتَدَلُّ عليه بما لا يكون مجالاً لِتَأَوُّلِهِ فيه، وهذا هو الذي صنعه الطحاوي رحمه الله هنا.
والأَدِلَّة التي دَلَّتْ على هذا الأصل من كتاب الله عز وجل ومن السنة كثيرة، يمكن أن تُراجَع في كتاب الروح للعلامة ابن القيم أو في شرح ابن أبي العز لهذا المتن، ونذكرمنها:
1 -
قول الله عز وجل لمَّا ذَكَرَ آل فرعون قال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] .
2 -
وقال أيضاً عز وجل {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] .
3 -
وقال عز وجل أيضاً {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال:50-51] .
4 -
في آية الأنعام {وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] فقوله عز وجل هنا {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} هذا متعلقٌ بإخراج الرُّوحِ من بدن الكافر، و {الْيَوْمَ} دِلَالَة على بداية العذاب وهو بداية الحياة البرزخية.
5 -
وكذلك من الأدلة في القرآن قول الله عز وجل {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:48] ، ويَعْنِي بـ {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} العذاب الأكبر يوم القيامة، وهو ما يكون في البرزخ، وهكذا في أنواعٍ من الأدلة.
وهذه كما ذكرنا لك ربما تَأَوَّلَهَا المُعَارِضُ من الفِرَقِ الضالة؛ لكن كثرتها وظهور كلام السلف فيها يدلّ على أنها في عذاب القبر والبرزخ.
وأما السنة فهي كثيرة جدا منها:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» (1) .
2 -
3 -
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما مَرَّ على قبرين «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير» (3) فأثبت أنهما يعذبان.
4 -
وذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ المسؤول «يُضْرَبْ إذا لم يحسن الجواب بمطرقة أو بمِرْزَبَّةٍ من حديد يسمعها من يليه إلا الجن والإنس» (4) .
5 -
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر» (5) .
6 -
ومنه أيضاً سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة بأنواع الأدعية للميت أن يقيه الله عز وجل عذاب القبر، وربما دعا لصغير لم يبلغ الحلم أن يقيه الله عذاب القبر (6) .
والأدلة في السنة على هذا كثيرة جداً كما ذكرنا تبلغ مبلغ التواتر المعنوي المختلف.
فإذاً الأدلة على ذلك من الكتاب متنوعة، ومن السنة متواترة، وهذا يُثبت هذا الأصل العظيم، ويكون فيه أعظم رد على المخالفين من الفِرَقِ الضالة.
إذا تبيَّن ما قرَّرَهُ هنا الماتن نذكر هاهنا عدَّة مسائل:
(1) الترمذي (2460)
(2)
المسند (18557)
(3)
البخاري (218) / مسلم (703)
(4)
أبو داود (4753)
(5)
مسلم (7392) / النسائي (2058)
(6)
النسائي (1983)
[المسألة الأولى] :
قوله (بِعَذَابِ الْقَبْرِ) عذاب القبر اسم (1) لما بعد الموت، وقيل عنه عذاب القبر تَغْلِيباً، وقد يكون عذاباً في القبر وقد يكون عَذَابَاً في غير القبر.
يعني أنَّ من فارَقَتْ روحه جسده فإنَّهُ إمَّا أن يُنَعَّمْ وإما أن يُعَذَّبْ، وغالب الناس من جميع الملل والنِّحَلْ والديانات يُقْبَرون، فلذلك صارت سِمَةً للمسألة اسم نعيم القبر أو عذاب القبر، وإلا فحقيقتها عذاب البرزخ ونعيم البرزخ؛ لأنَّ الحياة المقصود بالتَّنَعُّمِ أو العذاب فيها هي الحياة الثانية وهي الحياة البرزخية.
فالحياة ثلاث:
- الحياة الدنيا.
- والحياة البرزخية.
- والآخرة.
والمقصود هنا الحياة البرزخية ولذلك من دُفِنَ أو من لم يُدْفَنْ وأُحْرِقَ وذُرَّ أو من أُكِل فَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ أو مَنْ رُمِيَ في البحر ولم يُقْبَرْ أو إلى آخره، أو من رُفِعَ في مكان ولم يُجْعَلْ تحت الأرض في قبر، فالجميع صاروا إلى حياةٍ برزخية.
فإذاً قول العلماء عذاب القبر أو ما جاء في الدليل في بعض النصوص من تسميته عذاب القبر هذا من باب التغليب؛ لأنَّ غالب الناس يُدْفَنُون.
وقوله هنا (لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا) يعني بِحَسَبِ عِلْمِ الله عز وجل فيه، فمن هُوَ أهل للعذاب عُذِّبْ، ومن هو أهل للنعيم صار في نعيم.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع والثلاثين.
[المسألة الثانية] :
عذاب القبر مُسَلَّطٌ على الإنسان المُكَلَّفْ، والإنسان المُكَلَّفْ اسْمْ لِرُوحِهِ وجَسَدِهِ، ولذلك الأدلة التي دَلَّتْ على حصول عذاب القبر تتناول الروح والجسد معاً، فالعذاب والنعيم يقع على الروح ويقع على الجسد.
يقع على الروح مُتَّصِلَةً بالجسد بنوع من الاتصال الذي يصلح للحياة البرزخية، ويقع على الروح مُجَرَّدَة، وربما على البدن مُجَرَّدَاً؛ يعني على البدن وحده ونحو ذلك.
ذكر هذا طائفة من العلماء لأجل دِلَالَةْ النصوص على هذا وهذا.
والظاهر أنَّ العذاب والنعيم وما يحصل في البرزخ يقع على الإنسان بروحه وجَسَدِه؛ لكن تَعَلُّقْ الروح بالجسد هنا يختلف، لهذا صار قول أهل السنة والجماعة أنَّ العذاب يقع على الروح وعلى الجسد، وأنَّ النعيم أيضاً في المقابل للروح وللجسد.
[المسألة الثالثة] :
المخالف في تَعَلُّقْ الروح بالبدن هنا ربما كان من المنتسبين للسنَّة، فمن المنتسبين للسنة من العلماء من يقول العذاب على الروح والنعيم للروح وأما البدن فإنه لا يُعَذَّبْ ولا يُنَعَّمْ كما ذكرنا، ولهذا صارت أقوال أهل السنة في هذه المسألة؛ يعني المنتسبين للسنة ثلاثة أقوال:
1-
القول الأول: قول أهل السنة الذي دَوَّنوه في عقائدهم وقَرَّرَهُ أَئِمَّتُنَا أَنَّ العذاب -كما ذكرنا- والنعيم يقع على الروح والجسد معاً على هذا وهذا.
2-
القول الثاني: أَنَّهُ على الروح فقط دون الجسد، وهذا قول طائفة منهم ابن حزم، وطائفة من المعتزلة والأشاعرة وجماعة، هذه إضافة المعتزلة والأشاعرة، وأقوال أهل السنة يدخل فيها ابن حزم.
3-
القول الثالث: أَنَّ العذاب والنعيم يكون للروح والبدن ما دام باقياً، وأما إذا تحلل فإنه يكون العذاب والنعيم للروح فقط.
وظاهر الأدلة كما ذكرنا هو الأول وهو الذي قَرَّرَهُ الأئمة وللمسألة تفصيل وردود على ابن حزم وعلى غيره تُطْلَبْ من المطولات.
[المسألة الرابعة] :
الروح والبدن ذكر العلماء أن لها أربعة (1) أنواع من التعلق وهو:
1-
أنَّ الروح تتعلق بالبدن قبل الولادة وبعد نفخ الروح: وهذا التعلق ناقص ليس للروح فيه إدراكات ولا إحساس، ولهذا الجنين في بطن أمه لا يحصل له بكاء ولا ضحك، إلى آخره من الأشياء التي يُسْتَدَلُّ بها على حصول الإحساس عنده في روحه حيث تعلقت ببدنه.
2-
تعلق الروح بالبدن بعد الولادة: والروح تَتَنَمَّى معلوماتها وإدراكاتها مع الزمن، وتوحيدها وضِدُّهُ والشرك مع الزمن، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، إذا صُرف عن الفطرة فإنه يكون بالتعليم يَتَنَمَّى هذا في الروح، والبدن يتبع الروح في ذلك، فعنده من الاستعداد ما عند الروح فهو كالآلة وبينهما تَعَلُّق كبير؛ لكن الحياة المحسوسة للبدن من جهة النماء والاستعدادات إلى آخره والرُّوحُ هنا تبعٌ له.
3-
تعلق الروح بالبدن في البرزخ: الحياة البرزخية بعكس الحياة الدنيا؛ لأنَّ الروح هنا اكتملت، والبدن في انتهاء، وأما الروح فقد اكتملت، فالحياة للروح والبدن تَبَعْ؛ يَتْبَعُ الروح فيما يختص بالروح، فإذا تَنَعَّمَتْ الروح وَصَلَ إلى البدن من النعيم، وإذا تَنَعَّمَ البدن يحصل ويصل إلى الروح النعيم أو العذاب، ولك أن تقيس ذلك بالحياة الدنيا فإنه في الدنيا يحصل العذاب والنعيم للروح والبدن لا يصيبه ظاهراً عذاب أو نعيم؛ لكن يصل إليه لأجل تَعَلُّقْ الروح به والحياة في البرزخ للروح والبدن تبع؛ لأجل أنَّ النماء لا يكون للبدن بل يكون إلى زوال والروح مُسْتَقرُّها عند رب العالمين.
4 -
تعلق الروح بالبدن في الحياة الأخرى: وهي أنَّ الحياة للروح والبدن جميعاً في أكمل تَعَلُّقْ بحيث إنَّ الروح كاملة للبقاء والبدن كامل للبقاء، لا يعطب البدن بحيث يَفْنَى ولا تعطب الروح، فالحياة بينهما كاملة والتَّعَلُّقْ أكمل ما يكون، ولهذا في الحياة الآخرة النعيم والعذاب يقع على هذا وهذا في أكمل حال.
وقد جاء عن بعض السلف في ذكر العذاب أنَّ الروح والجسد اختصما يوم القيامة عند الحساب.
فقال الجسد للروح: أنْتِ أمرتني بالشر، ونهيتني عن الخير.
وقالت الروح للجسد: لو لم تفعل لما صار عليك العذاب.
فاختصما إلى المَلَكْ، فقال: المَلَكْ إنما مثلكما مثل رجلين أعمى لا يَرَى، ومُقْعَدْ لا يستطيع القيام، أتيا على بستان فيه من الثمار، فقال: المُقْعَدْ إني أرى كذا وكذا من الثمار ولكني لا أستطيع الوصول إليه.
وقال الأعمى: إني لا أرى شيئاً ولكني أستطيع الوصول إليه إنْ أرشدتني.
قال له المقعد احملني: وأنا أتناول لي ولك، فالعمل صار بينهما جميعاً.
قال الملك: فكذلك أنتما فلوما حالكما.
وهذا واقع؛ لأنَّ حقيقة الروح والبدن في تَعَلُّقِهِما لا يعلم مداه إلا رب العالمين؛ لهذا وجب التسليم لما دَلَّتْ عليه النصوص في حال الروح وفي حال البدن وفي تَعَلُّقِ هذا وهذا دون أخْذٍ بما يدل عليه العقل المخطئ.
(1) قال الشارح في شرحه للطحاوية بتحقيق أحمد شاكر صفحة 395: فالروح لها خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا.
الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه إلتفات البتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيمة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا، فالنوم أخو الموت.
فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.
[المسألة الخامسة] :
عذاب القبر هل هو عامٌّ لجميع فئات الأمة أم هو لبعض الفئات؟ يعني هل يشمل غير المُكَلَّفِين أم إنَّ عذاب القبر ونعيم القبر للمُكَلَّفِين؟
يعني من مات وهو صغير لم يبلغ سن التكليف أو مات وهو مجنون أو إلى آخره، ممن ليسوا محل التكليف، هل يحصل لهم في القبر نعيم أو عذاب؟
والجواب: أنَّ المُتَقَرِّرْ عند أئمة الإسلام أنَّ نعيم هؤلاء إذا لم يجر عليهم التكليف أنهم في ذلك تبع لحال آبائهم، فآباؤهم لمَّا كانوا مسلمين فإنَّ هؤلاء من أهل الجنة، فأطفال المسلمين الذين يموتون هم من أهل الجنة ومن أهل النعيم؛ لأنهم على الفطرة ولم يَجْرِ عليهم التكليف.
والصغير تُكْتَبُ له الحسنات لأنها فَضْلٌ من الله عز وجل ونِعْمَةْ، ولا تُكْتَبُ عليه السيئات لأنه لم يَجْرِ عليه القلم، فإذا عمل بحسنة تكتب له ويثاب عليها، وإذا عمل بسيئة فإنه لا يُؤَاخَذُ عليها لأنه لم يجر عليه التكليف، فيكون تَنَعُّمُهُ في القبر هو الأصل؛ لكن قد يُعَذَّبْ كما ثبت في السنة في الموطأ وغيره أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا لصبي أن يقيه الله عذاب القبر (1) ، فهل يكون معنى عذاب القبر هنا العذاب الذي يصيب المكلفين أو هو معنىً آخر؟
اختلف العلماء في ذلك -يعني علماء السنة-:
1-
القول الأول: إنَّهُ يُصِيبُهُ العذاب كما يُصِيبُهُ النعيم، والله عز وجل أعلم بما كان سيعمل لو كَبُر، وهذا قول طائفة من أهل السنة.
2-
القول الثاني: وهو الصحيح الذي عليه أهل التحقيق أنَّ العذاب هنا ليس المراد منه العذاب الذي يصيب الكبار وهو العذاب على السيئات؛ لأنَّ الصغير ومن مات وهو مجنون لم يُكَلَّفْ -يعني جُنَّ وهو صغير ثم كَبُر ولم يُكَلَّفْ وأشباه هؤلاء- فإنهم ليس عليهم سيئات حتى يُعَذَّبُوا عليها؛ لأنَّ هذا الأصل واضح أنَّ القلم لا يجري إلا مع البلوغ.
فإذاً تُفهم أحاديث الدعاء للصغار بأن يقيهم الله عذاب القبر كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لصغير بقوله «اللهم قِهِ عذاب القبر» أنَّ العذاب هنا هو الألم الذي يحصُلُ للمدفون، والألم ليس دائماً في مقابلة سيئات عَمِلَهَا فقد يكون من أنواع الآلام التي الله أعلم بها مما يحصل في القبر كضمته أو أشباه ذلك مما يكون فيه من الموجعات؛ لكن الألم لا يعني العذاب، والقبر والبرزخ عَالَمٌ الله أعلم به.
* لذلك نقول: الصحيح أن يُحمل قول النبي في دعائه لمن لم يجر عليه التكليف «اللهم قِهِ عذاب القبر» على أنَّ المراد الألم والسوء وليس المراد العذاب الذي هو في مقابلة السيئات لأنَّ الصغير لم يجر عليه التكليف.
(1) الموطا (536)
قال بعدها (وَنُؤْمِنُ بَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ)
منكر ونكير مَلَكَانْ يأتيان الميت ويَسْأَلَانِهِ عن ربه وعن دينه ونبيه.
وقد جاء في ذكر المَلَكَينْ عِدَّةْ أحاديث وهي حسنة أو صحيحة في التنصيص على اسميهما أنهما منكر ونكير، أو الأول المنكَر والثاني النكير.
وقد قال بعض العلماء إنَّ الأول اسمه المُنْكِرْ -على اسم الفاعل- والثاني النَّكِيْرْ، وهذا ليس بصحيح بل هو مُنْكَرْ ونكير يعني أيضاً مَنْكُورْ، مُنْكَرْ في شكله وهيئته، ونكير أيضاً في شكله وهيئته وذلك لأنهما من صِفَتِهِمَا كما جاء في الحديث أنهما شديدان أزرقان يأتيان في صورة لم يألفها الميت (1) .
الإيمان بسؤال منكر ونكير جاءت بها الأدلة في ذكر هذا السؤال وفتنة القبر بأنواعٍ من الذكر في الأخبار فالإيمان بذلك فرض وواجب على ما جاء في السنة.
وطوائف من المعتزلة وأهل الكلام والفلاسفة يُنكِرُونَ فتنة القبر، ويقولون: إنَّ هذه ليست بصحيحة وينفون دِلَالَة الدليل عليها وربما تَأَوَّلَهَا بعضهم وربما رَدَّهَا بعضهم لأنها أخبار آحاد.
وأهل السنة والجماعة قَرَّرُوا ذلك للأسباب التي ذكرت لك سالفاً في أنها:
- أمور غيبية
- أنه دلت عليها النصوص.
- لمخالفة الفِرَقْ أو بعض الفرق الضالة في ذلك.
والأدلة على مجيء المنكر والنكير والسؤال كثيرة في السنة معلومة لا نُطِيل الكلام عليها أو إيرادها، ونذكر بعض المسائل هنا:
_________
(1)
الترمذي (1071)