الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال في الجملة بعدها (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ)
هذا يَرُدُّ به على المجسمة والمعطلة جميعا.
(لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني أنّ تفكير المُفَكِّرْ ونظرَه بخياله لا يمكن أن يبلغ بخياله وفِكْرِهِ وصف الله عز وجل ولا كُنْهَ ذاته سبحانه وتعالى، فليست الأفهام مَوضُوعَةٌ لإدراكه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] سبحانه.
و (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) يعني مهما فكَّر العبد فلن يبلغ كُنْهَ ذاته سبحانه ولا كُنْهَ اتصافه بصفاته عز وجل، ولا يمكن للأفهام مهما عَلَت أن تدرك ذلك.
ففيه رد على المجسمة الذين جعلوا الله عز وجل جسما كالأجسام.
وفيه رد على المعطلة الذين جعلوا الله عز وجل مُعُطَّلاً عمَّا وَصَف به نفسه، لأنه شبَّهُوا أولاً، ثُمَّ عطلوا ثانياً، فقام بقلوبهم في صفات الله أنها على صفة شيء معين، فمنعوا ذلك، فدخلوا بأوهامهم وأفهامهم في تحديد كُنْه الاتصاف بالصفة، ثم عطلوا ونفوا ثانياً.
وفيه رد على المتصوفة؛ غلاة المتصوفة أيضا، وهي الطائفة الثالثة الذين زعموا أنَّ العبد بالرياضة قد يبلغ إلى مرتبة يرى فيها الرب عز وجل، وأنه يمكن إذا فَنِيَ عن المحسوسات أن يدرك بوهمه غير المحسوسات - يعني الغيبيات -، وهذا هو الذي يسمونه الفناء بالدرجة العليا عندهم، وهو أنه يفنى عن المخلوق ويبقى في رؤية الخالق عز وجل.
إذا تبين ذلك، ففي
قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ)
مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ القاعدة العقلية المتفق عليها بين العقلاء والحكماء أنَّ معرفة الإنسان تنشأ شيئاً فشيئاً، وهذا قد جاء في القرآن في قوله تعالى (1)
: [[الشريط الثالث]] :
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ، فمعرفة الإنسان باتفاق العقلاء والحكماء واتفاق أهل الشرع أنها إنما تكون شيئاً فشيئاً، وهذا هو الذي يسمى عند الفلاسفة نظرية المعرفة، أو نظرية حصول المعارف، وهي كما قلنا تأتي شيئا فشيئا.
وهي مبنية على قسمين:
- القسم الأول:
أنَّ هناك أشياء يدركها بحواسه؛ باللمس، بالبصر، بالشم، بالذوق، بالسماع، بحواسه يدرك، وهذا نوع من تحصيل المعارف، نوع من المعارف يحصل للإنسان بحواسه، وهذا أول ما يبدأ بها الصغير.
- القسم الثاني:
ما يحصل بعقله وإدراكه، وهذا مبني على المقارنة.
وهذا القسم الثاني مبني على الأول، وهو أنه يقارن الأشياء مع ما أحسها.
فالمحسوسات التي أدركها بعينه وبشمّه وبذوقه وبسمعه وبلمسه للأشياء، هذه تسمى ضرورية؛ لأنَّ وجودها لا يحتاج إلى برهان.
وغيرها مما يَحْصُلُ به المعرفة، إنما يكون منسوباً عنده لهذه الأشياء.
فيرى مثلاً هذا العمود، فيراه بإحساسه ذا حجم، ثم يرى عموداً آخر أصغر منه، فيراه مختلفاً عنه في الطول، فعقد المقارنة وقال هذا أصغر من هذا، ثم عقد المقارنة فقال هذا أكبر من هذا، عقد المقارنة بين الألوان فقال هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، عقد المقارنة بين الأشياء الحرارية فقال هذا بارد وهذا متوسط وهذا دافئ وهذا حار إلى آخر ذلك.
وهذا نتحصَّلُ منه على القاعدة المتفق عليها بين القائلين بنظرية المعرفة، وهي صحيحة شرعاً على القَدْرْ الذي ذكرتُ لك بأنه لا يمكن للوَهَم - وهم الإنسان - ولا يمكن لفهمه أن يدرك شيئا ولا أن يبلغه وهَمه وفهمه إلا:
- إذا رآه.
- أو أحس بأحد الحواس.
- أو رأى ما يماثله ويشابهه فيقيس عليه.
- أو رأى ما يقيسه عليه ولو لم يَرَ ما يماثله أو يشابهه إذا أمكنه القياس.
فمثلا نذكر صفة حيوان ما، إذا قيل لك هناك حيوان اسمه (القَلَعَ) - أَيُ اسْمْ - فأنت مباشرة تتصور ولو لم تعرف حقيقته، أنه ما دام أنه حيوان يمكن أن تقيس وتُخْرِجْ بعض الصفات لأننا ابتدأنا وقلنا حيوان، فإذا قلت إنه أكبر من الفيل ذهبت إلى شيء آخر، إذا قلت أنه أصغر من الفيل بَدَأَتْ تَتَحَدَدْ وتَقْرُبْ عندك؛ لأنك أدركت هذه الأشياء بما رأيت، أو بما يمكنك أن تقيس عليه.
ولهذا نقول لا يمكن لأحد أن يدرك شيئاً ولا أن يَتَحَصَّلَ منه على معرفة يبلغها وهمه ويدركها فهمه:
- إلا إذا رآه.
- أو رأى مثيله وشبيهه.
- أو رأى ما يقاس عليه.
المثيل والشبيه، مثلاً تقول أكلنا خبزاً في بلد كذا، ما دام ذكرت الخبز. نحن أكلنا الخبز هناك، إذا قلنا لك الخبزة طولها ثلاثة أمتار طولها نأخذها ونقطعها، تعرف أنَّ الخبز دقيق أوبر إلى آخره، فعرفت مثيله أو شبيهه، فيمكن أن تدرك الآخر برِؤيتك لما يدخل معه في الشبه أو في المثلية.
الله سبحانه وتعالى لم تُدْرِكْهُ الحواس سبحانه وتعالى، ولم يُرَ مثيل له أو شبيه له، ولم يُرَ ما يمكن أنْ يقاس الحق عليه عز وجل.
ولذلك دخول المعرفة أو إدراك المعرفة أو حصول المعرفة بالله عز وجل لا يمكن أن تكون بالأوهام أو الأفهام أو بالأقيسة أو بما تراه.
ولهذا احتاج الناس إلى بَعْثَةْ الرسل تُبَيِّنْ لهم صفة ربهم عز وجل وصفة خالقهم؛ لأنه عز وجل لم يُر، ولم يُدْرَكْ مثله، ولا ما يشبهه سبحانه، ولا يمكن أيضا أن يُقَاسْ على شيء، لذلك كان لابد من بعثة الرسل لبيان ذلك.
وهذا يعني أنه سبحانه (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) كما ذكر المصنف.
فإذاً قوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ، ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) مُنْطلِق من مسألتين كبيرتين ذكرتهما لك في هذه المسألة.
(1) انتهى الشريط الثاني.
[المسألة الثانية] :
أنَّ (الأوْهَامُ) و (الأفْهَامُ) هذه عَبَّر عنها بقوله (لا تَبلُغُه الأوْهَامُ) في (الأوْهَامُ) ، وفي (الأفْهَامُ) قال (ولا تُدْرِكُهُ الأفْهَامُ) .
وهذا راجع إلى أن الوهَم - يعني ما يتوهمه الإنسان - غير ما يفهمه.
فالوهم راجع للخيال، والفهم راجع للأقيسة والمقارنات.
ولهذا الرب عز وجل لا يمكن تَخَيُّلُهْ، ولا يمكن أيضا أنْ يُفَكَّرَ فيه فَيُدْرَكْ.
وهذا معنى قول الله عز وجل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] سبحانه وتعالى.
(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) سبحانه، هنا الأبصار يأتي معنى البصر؛ هو سبحانه لا يحيط به البصر إذا رآه أهل الإيمان في الآخرة.
وفي الدنيا لا تدركه الأبصار أيضاً التي هي الرؤى والعيون، وكذلك الأبصار التي هي الأفهام والأوهام لا تدركه عز وجل.
فالفهم إذاً منقطع، والوهم إذاً منقطع.
ولهذا قال بعض السلف (ما خطر ببالك فالله عز وجل بخلافه) ، لم؟
لأنه ذَكَرْتُ لك أنّه لا يمكن أنْ يخطر ببالك ولا أن تتخيل إلا شيء مبني على نظرية المعرفة من قبل، وهذا مقطوعٌ يقيناً.
إذاً فصار الأمر أنّ إثبات الصفات لله عز وجل بأنواعها مع قَطْعْ الطَّمع في بلوغ الوهَم لها من جهة الكيفية والكُنْه، وكذلك من جهة إدراك الأفهام لتمام معناها، فمن الجهتين:
-كنه الصفة (الكيفية)
- وكذلك تمام المعنى.
هذا لا يمكن أن تبلغه الأوهام، ولا أن تدركه الأفهام.
نقف عند هذا القدر وهذه الجمل في أولها، مثل ما ذكرت لك راجع إلى مسائل مختلفة لا ينتظمها زِمَامْ، ويأتي بعد ذلك المسائل العقدية بتفصيلها إن شاء الله تعالى.