الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الثالثة] :
الجمع ما بين الرجاء للمحسن والاستغفار للمسيء هذا تَبَعْ لأصل عظيم وهو الجمع في العبادة ما بين الخوف والرجاء
.
فالمأمور به شرعا أن يَجْمَعَ العبد ما بين خوفه من الله عز وجل وما بين رجائه في الله عز وجل، والخوف عبادة والرجاء عبادة.
- والخوف المحمود: هو الذي يَحْمِلُ على طاعة الله عز وجل بِفِعْلِ أمْرِهِ وتركِ المحرمات، هذا هو الخوف المحمود، وهو المذكور هنا في قوله (نَخَافُ عَلَيْهِمْ) .
- والخوف المذموم: هو الذي يَصِلُ إلى القنوط من رحمة الله عز وجل {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] .
أ- أولاً: الخوف:
الخوف من الله عز وجل عبادة مستقلة تحمل على:
1 -
فعل الأمر واجتناب النهي.
2 -
عدم رؤية العمل الصالح -يعني رؤية أثره-، وكذلك على عدم رؤية العمل السيئ في أنه مُوْقِعٌ صاحبه وأنه مُهْلِكٌ له.
والله عز وجل مَدَحَ عباده الذين يخافونه في كتابه في مواضع كثيرة، كقول الله عز وجل في وصف الملائكة {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] ، وأمر الله عز وجل بالخوف في قوله {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] ، وقال عز وجل {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16] ، وذَكَرَ خاصَّةَ عباده من المرسلين بالخوف فقال سبحانه {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] .
فَأَصْلُ الخوف من الله عز وجل عبادة عظيمة لا تستقيم العبادة إلا بها ولا يستقيم الإيمان إلا بالخوف.
فمن لم يكن عنده خوف أصلاً من الله عز وجل فليس بمؤمن لأنَّهُ يكونُ آمناً، والأمن ينقل عن ملة الإسلام، يعني الأمن التام بعدم وجود الخوف أصلاً من الله عز وجل.
ب - ثانياً: الرجاء:
والرجاء: أمل يحدو الإنسان في أن يتحقق له ما يريد.
قال طائفة من العلماء ونقله الشارح عندكم: إنَّ الرجاء لا يكون إلا باجتماع أشياء:
- الأول: المحبة لما رجاه، وهو يرجو أن يدخل الجنة فلابد أن يُحِبْ أن يدخل الجنة.
- الثاني: الخوف وهو أن يخاف مما يقطع عليه أمله، يخاف من الذنوب، يخاف من الكفر، يخاف من النفاق أن يقطع عليه أمله في دخول الجنة.
- الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة التي تكون سبباً فيما رجا، فمن تَرَكَ تقديم الأسباب وفعل الأسباب فلا يكون راجياً.
قالوا: والفرق ما بين الرجاء والأماني:
أنَّ الرجاء يكون معه خوف وعمل، والأماني إنما هي طمع ليس معها خوف ولا سعي في الأسباب.
والمطلوب شرعاً من العبد المؤمن فيما يراه في نفسه ولإخوانه المؤمنين أن يكون راجياً، وليس بذي أماني، قال الله عز وجل {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] .
فإذاً دَلَّ هذا الكلام من الطحاوي على الأصل الشرعي وهو أنَّ العبد ينظر إلى نفسه في عبادته وفي أثر عبادته إلى أنه يجمع ما بين الخوف والرجاء، وكذلك في نظره إلى إخوانه المؤمنين.
[المسألة الرابعة] :
اختلف العلماء في الخوف والرجاء هل يجب تساويهما أم يُرَجَّحُ أحدهما على الآخر على أقوال:
1-
القول الأول: أن يُغلَّبَ جانب الخوف مطلقاً.
2-
والقول الثاني: أن يُغلَّبَ جانب الرجاء مطلقاً.
3-
والقول الثالث: أن يستوي عند العبد الخوف والرجاء.
4-
والقول الرابع: التفصيل، ومعنى التفصيل أنّ الخوف قد يُغَلَّبُ في حال، وقد يُغلَّبْ الرجاء في حال، وقد يُطْلَبُ تساويهما في حال.
فَيُغَلَّبْ الخوف على الرجاء في حال أكثر المؤمنين؛ لأنَّ أكثر أهل الإيمان عندهم ذنوب فيُغَلِّبُونَ حال الخوف في حال الصحة والسلامة؛ لأنهم لا يخلون من ذنب والخوف يحملهم على ملازمة الطاعة وعلى ترك الذنب.
والرجاء يُغَلَّبُ في حال المرض لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» (1) عز وجل وللحديث أيضا الآخر الذي رواه البخاري وغيره «أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» (2) ، فدل هذا على أنَّ رجاء العبد مطلوب وإذا كان في حال المرض المَخُوفْ أو في أي مرضٍ كان فيه فإنه يُغَلِّب جانب الرجاء على الخوف.
وفي حال يستوي فيه الرجاء والخوف، وهو في حال التَّعَبُّدْ، إذا أراد العبادة ودخل في العبادة، فإنه يخاف الله عز وجل ويرجو ربه عز وجل، يخاف العقاب ويرجو الثواب.
*وهذا القول الأخير هو الصحيح وهو الذي عليه أهل التحقيق.
ومن قال من أهل العلم أنَّهُ يُغَلِّبْ جانب الخوف مطلقا نَظَرَ إلى أنَّ حال أكثر المنتسبين حالهم على ذنب وعلى قصور فتغليب جانب الخوف في حقهم يَرُدُّهُمْ إلى الحق.
ومن قال يُغَلِّبْ جانب الرجاء دائما عمم قوله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» .
ومن قال بالاستواء دائما نظر إلى قول الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وكذلك قوله عز وجل {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] .
والتفصيل هو الصحيح لأن الأحوال تختلف باختلاف المقامات والناس.
(1) المسند (14521)
(2)
البخاري (7405) / مسلم (6981)
[المسألة الخامسة] :
قوله (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) .
قوله (لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هذا على مورِدْ التقسيم من أنَّ أهل الإيمان منهم المحسن ومنهم المسيء.
وليس شرطاً في رجاء العفو أن يكون من أهل الإحسان، وإنما المؤمن إما أن يكون محسناً وإما أن يكون مسيئاً.
- والمحسن هو من كان من المقتصدين أو من السابقين بالخيرات؛ لأنَّ أهل الإيمان ثلاث مراتب:
- الظالم لنفسه.
- والمقتصد.
- والسابق بالخيرات.
كما دلت عليهم آية فاطر {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] .
والمحسن من المؤمنين أو المسيء من المؤمنين نرجو أن يعفو الله عز وجل عنهم ونخاف على المسيء منهم.
وعفو الرحمن عز وجل عن العبد وعدم مؤاخذته بفعله هذا قد يكون:
1-
مِنَّةً وتَكَرُّمَاً منه عز وجل في غير الشرك به سبحانه وتعالى، ومعنى مِنَّةْ أي يَمُنُّ على من يشاء، يعني ابتداءً منه سبحانه وتعالى بدون أن يفعل العبد سبباً يُحَصِّلُ به ذلك
2-
وقد يكون بسبب.
@ فأما ما كان مِنْهُ مِنَّةً وتَكَرُّمَاً فالله عز وجل وَعَدْ بل تَوَعَّدْ أن لا يغفر الشرك به فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} قال {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فما دون الشرك يغفره سبحانه لمن يشاء مِنَّةً وتكرماً منه عز وجل.
@ وأما ما كان بسبب فالعلماء نظروا فيما جاء فيه الدليل من الكتاب والسنة في الأسباب التي تكون رافِعَةً لأثر الذّنب؛ لأنَّ الذنب إذا وقع من العبد فلابد من حصول الجزاء عليه، قال عز وجل {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] .
ولمَّا نَزَلَتْ هذه الآية شق ذلك على المسلمين مشقة عظيمة، فعرف ذلك منهم صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وقال «سددوا وقاربوا فما يصيب المسلم» أو كما جاء في الحديث «فما يصيب المسلم من مصيبة كانت كفارة له حتى في النكبة يُنْكَبُها وحتى الشوكة يشاكها» (2) رواه مسلم في الصحيح، فقول الله عز وجل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} دلَّ على أنَّ هناك ما يُكَفِّرُ الله به هذا السوء الذي حصل من العبد وأنه لا يُجَازَى به بل يُرْفَعْ الجزاء بسبب من الأسباب.
وقال سبحانه {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، يعني ما أصاب العبد من مصيبة في دنياه فهو بسبب ذنْبٍ عمله فتكون كفارةً له ويعفو الله عز وجل عن كثيرٍ من الذنوب التي حصلت من العبد.
إذا تبين ذلك فالأسباب هذه التي يُكَفِّرُ الله عز وجل بها الخطايا أو يمحو بها أثر السيئات ويرفع بها أثر الإساءة على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: أسباب يفعلها العبد.
- القسم الثاني: أسباب من المؤمنين للواحد منهم.
- القسم الثالث: أسباب من الله عز وجل ابتداءً منه سبحانه وتعالى.
@ فالقسم الأول أسباب يفْعَلُها العبد:
وهو ثلاثة أنواع:
& النوع الأول التوبة:
والتوبة مأمورٌ بها إجمالا وتفصيلاً قال عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] ، هذا إجمالاً، كل مؤمن حتى الصالح حتى الأنبياء مأمورون بالتوبة، كان صلى الله عليه وسلم يقول «إني ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» (3) وكان يُحْسَبُ له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يتوب إلى عز وجل مائة مرة، وقال سبحانه {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] .
فالتوبة مأمورٌ بها سواء كان العبد مُسَدَّدَاً أو كان دون ذلك.
فأعظم الأسباب التي يفعلها العبد لمحو السيئات عنه التوبة، فمن فَعَلَ سيئة مهما كانت حتى الكفر والشرك فإنَّ الله عز وجل يمحو أثره بالتوبة إليه سبحانه وتعالى، قال عز وجل بعد أن ذَكَرَ أصناف الكبائر في سورة الفرقان {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70-71] .
والتوبة معناها -ضابط التوبة-: تاب بمعنى رجع.
وهناك ثلاثة ألفاظ متقاربة لكن المعنى يختلف بدقة وهي:
1 -
آبَ.
2 -
تابَ
3 -
ثابَ
وهي تشترك في الأصل من أنها فيها رجوع.
آبَ: يعني رَجَعْ، آيبون تائبون تشمل هذه وهذه، فآب رجع، أو أَوَّابْ كثير الرجوع.
(1) النساء:38، 116.
(2)
مسلم (6734) / الترمذي (3038)
(3)
مسلم (7033) / أبو داود (1515)
تواب أيضاً كثير الرجوع، لكن تَوَّابْ أو تَابَ من شيءٍ سيئٍ فَعَلَهْ، وأما آبَ فهو رجوعٌ مُطْلَقْ سواء مما يسوء أو مما لا يسوء.
وتاب مختص أيضاً برجوع خاص.
إذاً التوبة رجوع إلى الله عز وجل بطلب محو تلك السيئات، فإذاً هي توبة ورجوع إلى الله عز وجل بطلب محو السيئات.
هذا هو السبب الأول وهو التوبة وهي أعظم الأسباب قال عز وجل {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، أَجْمَعَ العلماء على أنَّ هذه الآية نزلت في التائبين {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} يعني لمن تاب.
طبعاً التوبة تفصيل الكلام عليها وشروطها إلى آخره يُطْلَبُ من موضعه.
& النوع الثاني الاستغفار:
والاستغفار هو طلب المغفرة.
والمغفرة معناها سَتْرُ أثر الذنب؛ لأنَّ الذنب إذا وَقَعَ من العبد فلابد أن يوجد أثر ذلك الذنب، وهو إما أن يكون العقوبة عليه؛ -يعني أن يُعَاقَبَ العبد على ذنبه في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة-، وإما أن تَقَعْ عليه مصيبة يُكَفِّرُ الله بها ذنبه، وإما أن يُخْزَى بذنبه {لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة:114] والعياذ بالله -اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة-، الخزي يقع بسبب الذنوب.
فإذاً الذنب إذا وقع من العبد فله أثره الكوني وأثره الشرعي الذي يحصل ولا بد؛ إلا إنْ عَفَا الله عز وجل مِنَّةً مِنْهُ وتكرماً.
إذا استغفر العبد، طَلَبَ غَفْرَ الذنب، طَلَبَ أن يُسْتَرَ هذا الذنب، فلا يُخْزَى به وأن يُسْتَرَ أثر الذنب فلا يؤاخذ به.
وهذا قرين التوبة، لهذا جاء في عدة آيات اقتران التوبة والاستغفار؛ لأنَّ الاستغفار مثل التوبة في الأمْرِ بها والحث والحض عليها، قال عز وجل {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] ، وقال عز وجل {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:1-3] ، الاستغفار صار قبل التوبة من جهة أنَّهُ طَلَبْ مباشرة، طَلَبْ أن يُمْحَى أثر الذنب؛ لأنَّ أثر الذنب لو أخَّرْتَ طلب المغفرة فقد يقع الأثر سريعاً.
{ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} يعني أنَّ التوبة تكون بعد الاستغفار من الذنب، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقَدِّمْ طلب المغفرة على طلب التوبة فقال «ربي اغفر لي وتُبْ علي» (1) ، «أستغفر الله وأتوب إليه» .
التوبة والاستغفار نظر فيها بعض العلماء وذكرها الشارح عندكم تبعاً لابن تيمية من أنَّ التوبة والاستغفار من الألفاظ التي إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت.
إذا اجتمعت تفرقت لأنَّ التوبة على ما ذكرت لك من تعريفها والاستغفار على ما ذكرت لك من أنَّ:
- الاستغفار: طلب ستر الذنب.
- والتوبة: هي طلب محو الذنب، رجوع في طلب محو الذنب.
إذا تفرقت فالمستغفر تائب والتائب مستغفر.
& النوع الثالث الحسنات التي تمحو السيئات:
والله عز وجل قال {وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، وقال صلى الله عليه وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (2) فالحسنة تمحو السيئة، فَفِعْلُ الحسنات يمحو الله عز وجل به السيئات.
لكن هل كل حسنة يمحو الله عز وجل بها كل سيئة؟
الجواب ليس كذلك؛ بل السيئة لها ما يقابلها من الحسنات التي تختص بها، والسيئات أيضا منها ما يُبْطِلُ الحسنات التي تقابلها.
الأول مثل أنَّ الأعمال السيئة الكبيرة مثل الإفساد في الأرض بالشرك بالله عز وجل أو بقتل النفوس هذه ذنوب عظام يُكَفِّرُهَا الجهاد في سبيل الله عز وجل، كما قال سبحانه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] الآية.
الكبائر لها ما يقابلها فإذا كانت الكبيرة بالسرقة وأخذ المال من غير حله وبالربا ونحو ذلك فيقابلها من الكفارات الصدقة.
إذا كانت كبائر الذنوب من جهة أعمال البدن فيقابلها الصيام والصلاة ونحو ذلك.
إذا كانت من جهة المال يقابلها الزكاة والصدقات وأشباه ذلك.
(1) أبو داود (1516) / الترمذي (3434) / ابن ماجه (3814)
(2)
الترمذي (1987)
فإذاً الحسنات من حيث الجنس يمحو الله بها السيئات والسيئات قد يفعل العبد سيئةً تَبْطُلُ معها حسنةً كان يعملها، ويُسْتَدَلُّ لذلك لما رُوي (من أنَّ زيد بن أرقم تعامل بالعِينَةْ أو باع شيئاً بأجل، باع فرساً له بأجل بثمانمائة درهم ثم اشتراه ممن باعه عليه بست مائة فربح هذا الفرق، فلما بلغ عائشة ذلك قالت اعلموا زيداً أنه أَبْطَلَ جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وهذا اجتهاد من عائشة رضي الله عنها.
والحديث فيه ضعف معروف يعني إسناده لا يصح، لكن استدل به بعض أهل العلم مثل ابن تيمية ووَجَّهَهُ بأنَّ هذا الفعل وهو حصول الربا مقابل للجهاد، فوقوع التبايع بالعينة هذه قابلت بها عائشة فعل الجهاد.
ولهذا جاء في الحديث اقتران ترك الجهاد بالتبايع بالعينة، جاء فيما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم الحديث الذي في السنن وفي غيرها «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد» (2) فقارَنَ بين هذا وهذا.
فهذا الأصل يدلُّ على أنَّ الحسنات مُكَفِّرَات للسيئات، وعلى أنَّ بعض السيئات قد تُبْطِلُ بعض الحسنات؛ يعني تكون في مقابلتها من جهة عِظَمْ السيئة حتى أنها تُبْطِلُ -معنى تُبْطِل يعني أنها في الميزان تكون مقابلة لها في عظم الذنب- تلك حسنة كبيرة وهذا ذنب عظيم فتكون هذه مقابلة لهذه إذا وُضِعَت في الميزان.
الحسنات يُكَفِّرْ الله عز وجل بها السيئات مثل ما ذكرنا في الآيات هذه أفعال العبد.
@ القسم الثاني أسباب من المؤمنين للواحد منهم:
وهذا المقصود به يعني ما يفعله المؤمنون لإخوانهم مما يكفر الله عز وجل به السيئات.
وهذا يُجَامِعُ الرجاء، فعقيدة أهل السنة والجماعة أنَّ العبد يرجو لنفسه ويخاف على نفسه، فيعمل الأسباب التي لنفسه من الرجاء والخوف التي ذكرنا ومن الاستغفار والتوبة والحسنات، وكذلك يرجو لإخوانه ويخاف على إخوانه، فيعمل الأسباب التي تنفعهم فيما رجا لهم، ويعمل الأسباب أيضاً التي تنفعهم فيما خاف عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك.
وهذا القسم ثلاثة أنواع أيضاً:
& النوع الأول الاستغفار والدعاء للمؤمنين (3) .
وهذا ينفع، الاستغفار والدعاء نافع سواء أكان من الملائكة أم من المؤمنين من الجن والإنس.
والملائكة يستغفرون ويدعون للمؤمنين كما قال عز وجل {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخره هذا دعاء للملائكة.
وكذلك دعاء المؤمن للمؤمن في خارج الصلاة أو في الصلاة هذا نافع له وهو من الأسباب التي يُكَفِّرُ الله عز وجل بها خطايا المؤمن، فتدعو لإخوانك المؤمنين، تدعو لفلان المعين المذنب هذا يمحو الله عز وجل به السيئات.
& النوع الثاني إهداء القُرَبْ وعَمَلُ العبادات عن المؤمن:
وهذه تشمل الصدقة عن الغير، أو عمل العمل الصالح وإهداء ثوابه للغير، أو أن يعمل العبادة التي تَدْخُلُهَا النِّيَابَةْ مما جاء في السنة، ويجعلها لغيره مثل:
الصيام والحج والصدقة ونحو ذلك، هذه يأتي مزيد تفصيل الكلام عليها عند قول الطحاوي (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) .
& النوع الثالث الشفاعة إما في الدنيا أو في الآخرة:
فشفاعة المؤمن لإخوانه المؤمنين نافعةٌ له، وأصل صلاة الجنازة لأجل دعاء المؤمن والشفاعة له، ولهذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلمٍ يصلي عليه أربعون من أهل الإيمان إلا شفَّعَهُمْ الله فيه» وفي لفظ آخر قال «كلهم يشفعون له إلا شفّعهم الله فيه» (4) .
والشفاعة تحصل في الدنيا بالدعاء وتحصل أيضاً في الآخرة، فشفاعة الأب لأبنائه والإبن لوالده ونحو ذلك والعالم لأحبابه وأهل القرابة لقراباتهم أو للمؤمنين، ومن ذلك؛ بل أعظم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لطوائف من أمته.
@ القسم الثالث: أسباب من الله عز وجل ابتداءً منه سبحانه وتعالى:
وهو أربعة أنواع:
& النوع الأول مغفرة الله عز وجل لعبده ابتداءً مِنَّةً منه وتكرّما:
وهو أعظم الأنواع وأجَلُّهَا، فالله عز وجل مَنَّ على عبد بالإسلام وبالإيمان، فقد يَمُنُّ عليه بمغفرة الآثام ابتداءً، وهذا خلْقُ الله عز وجل هو سبحانه يثيب من يشاء، ويغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
& النوع الثاني المصايب التي تحصل للعبد في الدنيا:
(1) سنن الدارقطني (211) / مصنف عبد الرزاق (14812)
(2)
أبو داود (3462)
(3)
انتهى الوجه الأول من الشريط السابع والعشرين.
(4)
مسلم (2242)
مصيبة يوقعها الله عز وجل بالعبد، مرض، فَقْدُ حبيب، حَزَن، هَم، نقص مال يهمه، ونحو ذلك مما يعني يفنى شيئا من ماله من بدنه يمرض يصاب بأشياء، هذه المصائب كفَّارَات، يُكفِّر الله عز وجل بها من ذنب العبد.
قال العلماء: المصايب -مصايب بالياء ويجوز مصائب لكن الأصح مصايب أو يعني الأشهر المصايب- التي تحصل على العبد مِنَ الله عز وجل هي في نفسها كفارة؛ لأنها ليست من جهة العبد يعني العبد ما اختارها لنفسه، الله عز وجل ابتلى به المؤمن، فابتلاه بها ليكفر الله عز وجل بها من خطاياه.
وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما يصيب المسلم من هم ولا حَزَنٍ ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرَ الله بها من خطاياه» (1) فالهم يأتي للمؤمن هَمْ، ضِيْقَةْ صَدْرْ لا يدري ما سَبَبُهَا، أو يُبْتَلى بشيء يُضَيِّقْ صدره أو يهمه ويصبح في غم أو في هم.
هذا سبب لأنه خروج عما يُسْعِدْ العبد وابتلاء من الله عز وجل العبد فهذا سبب من أسباب كفارة الذنوب.
كذلك المصايب في النفس أو في الولد أو في المال أو نحو ذلك هذه المصايب كفارة.
وهل يؤجر عليها، أو هي كفارة بشرط؟
المصايب كفارة بلا شرط بإطلاق، فمن وقعت عليه مصيبة فالدليل دلَّ على أنَّ الله يُكَفِّرُ بها من خطاياه، والحمد لله على فضله وتكرمه ومنته؛ ولكن قد يؤجَرُ على المصيبة وقد يأثَمُ على المصيبة، وذلك إذا صبر أو تسخط، فإن صبر أُجِرْ وإن تسخط أثم.
فإذاً المصيبة في نفسها كفارة فإن صار مع المصيبة صَبْرْ فهذا أَجْرٌ، وإن صار مع المصيبة تسخط فهذا إثم.
& النوع الثالث العذاب الذي يحصل على العبد في البرزخ:
يعني العذاب الذي في القبر، يكون على العبد ذنب من الذنوب أو ذنوب كذا فيعذبه الله عز وجل في القبر ثم يوم القيامة لا يُدْخِلُهُ النار.
& النوع الرابع ما يكون في عَرَصَات القيامة من المصايب والأمور العظام التي قد يبتلي بها الله بعض عباده فيكون في ذلك كفارة لهم.
فهذه عشرة أسباب فَرَّقَهَا الشارح وقَسَمْتُهَا لك بثلاثة من العبد، وثلاثة من المؤمنين لإخوانهم المؤمنين، وأربعة من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
(1) البخاري (5641) / مسلم (6730)
[المسألة السادسة] :
قول الطحاوي (وَلَا نَشْهَدُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ) يعني لا نشهد للمحسن بالجنة، وكذلك لا نشهد للمسيء بالنار، فلا نشهد لأحد من أهل القبلة بجنةٍ ولا نار إلا من شَهِدَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الجملة يأتي تفصيل الكلام عليها عند قول الطحاوي (وَلَا نُنَزِّلُ أحَداً مِنْهُم جَنَّةً ولا ناراً) .
[المسألة السابعة] :
أَنَّ في قوله (وَلَا نُقَنِّطُهُمْ) التقنيط هو كاليأس أو التأييس من رحمة الله عز وجل.
بمعنى أن يقول القائل هذا ذنب كيف يغفره الله عز وجل لك؟
أو يستعظم أن يعفو الله عز وجل عن فلان.
وهذا قد يكون في بعض من أحواله من كبائر الذنوب، والواجب على المؤمن تجاه نفسه وإخوانه المؤمنين أن يفتح عليهم باب الرجاء إذا أقبلوا تائبين، وأن يَفْتَحَ عليهم باب الخوف إذا كانوا مُفَرِّطين، فإذا كان مقيم على لهوه، مقيم على ذنوبه على كبائره على آثامه فَتَعِظُهُ بالخوف، ولا تَفْتَحْ له الأمل لأنَّ فتح باب الرجاء له في هذه الحال يزيد من فعله للذنوب.
وهذا من المهمات لأهل الدعوة والمواعظ والخطباء وأئمة المساجد إلى آخره في أنَّ الناس إذا رآهم صالحين وعندهم تَشَدُّدْ يفتح لهم باب الرجاء وباب السهولة، كما قال صلى الله عليه وسلم لما أَذِنَ باللعب في المسجد قال «لتعلم اليهود أنَّ في ديننا فسحة» (1) لأنَّ اليهود في شريعتهم ثَمَّ تشديد وآصار وأغلال وُضِعَتْ عليهم أو وضعوها على أنفسهم.
وأما إذا رآه صاحب خوف وبكاء وكثرة بكاء من خوف الله عز وجل وكثرة الخوف من أنَّ الله لا يغفر ذنبه، ودائما يلاحظ ذنبه ويلاحظ كبيرته فهذا يفتح له باب الرجاء.
فإذاً الواجب هو ما قال أن لا نأمَنَ على المحسن وأن لا نقنّط المسيء فهذه عقيدة وأيضا يتبعها عمل.
(1) المسند (24899) / مسند الحميدي (254)
[المسألة الثامنة] :
في قوله (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ) قوله (بِرَحْمَتِهِ) هذا كما ذَكَرْتُ لك في أوله بأنه لن يدخل أحد الجنة بعمله بل ما ثَمَّ إلا عفو الله عز وجل ورحمته.
فالله عز وجل وَعَدَ من عمل صالحاً بأن يدخله الجنة جزاءً بما عمل قال سبحانه {جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ، فالجنة يدخلها العبد بالعمل؛ لكن الباء هذه ليست باء المقابلة إنما هي باء السببية؛ يعني بسبب ما كنتم تعملون.
فالعمل الصالح للعبد وأعلاه توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله والكفر بالطاغوت هذا العمل الصالح هو أعظم الأسباب التي يُدْخِلُ الله عز وجل بها العبد للجنة.
أما المُقَابَلَةْ فإنَّ الجنة وما فيها من النعيم وما أعطى الله العبد مِنَ النِّعَمْ في الدنيا بل ما مَنَّ عليه أصلاً من الهداية لا يستحق الجنة بالمقابلة؛ لأنَّ حصول الهداية للعبد مِنَّةْ من الله عز وجل وتَكَرُّمْ ولو تُرِكَ العبد ونفسه لما اهتدى ولاحتوشته الشياطين.
لهذا لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله عز وجل كما قال هنا (نَرْجُو لِلْمُحْسِنِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَيُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ) .
فإذاً أهل السنة والجماعة يقولون إنَّ دخول أهل الجنة للجنة بسبب الأعمال الصالحة، وإلا فإنَّ الدخول برحمة الله عز وجل لما دَلَّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم «لن يُدْخِلَ أحدا منكم الجنة عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (1) .
وأما المعتزلة وأهل إنفاذ الوعيد فيرون أنَّ دخول الجنة يكون بالعمل مقابلةً؛ لأنَّ الله سماه أجر كما يقولون والأجر يقتضي المقابلة.
نكتفي بهذا، نقف عند هذا أسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق والرُّشْدَ والسداد والعفو من السيئات والرحمة والرضوان.
(1) البخاري (6463) / مسلم (7294)