الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة السادسة] :
الخلود في النار نوعان: خلودٌ أمدي إلى أجل، وخلودٌ أبدي
.
- والخلود الأمدي: هو الذي تَوَعَّدَ الله عز وجل به أهل الكبائر.
- والخلود الأبدي؛ المُؤَبد: هو الذي تَوَعَّدَ الله عز وجل به أهل الكفر والشرك.
& فمن الأول: قول الله عز وجل {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ، فهذا خلود لكنه خلود أمدي؛ لأنَّ حقيقة الخلود في لغة العرب هو المُكث الطويل، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً ثُمَّ ينقضي، وقد يكون مُكْثَاً طويلاً مؤبداً.
& ومن الثاني: وهو الخلود الأبدي في النار للكفار قول الله عز وجل {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]، وكذلك قوله عز وجل في آخر سورة الأحزاب {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب:64-65] ، هذا خلود أبدي.
ولذلك يُمَيَّزْ الخلود في القرآن بالأبدية في حق الكفار، وأما في حق الموحدين فإنه لا يكون معه كلمة (أبداً) .
وهذا الذي بسببه ضَلَّتْ الخوارج والمعتزلة فإنهم رأوا (خالدين فيها) في حق المُرَابي وفي حق القاتل فظنوا أنَّ الخلود نوع واحد، والخلود نوعان.
ومما يتصل بهذا أيضاً لفظ التحريم في القرآن، ولفظ عدم الدخول للجنة في القرآن، وكذلك عدم الدخول إلى النار.
يعني لفظ التحريم (إنَّ الله حَرَّمَ الجنة) ، أو (حَرَّمَ الله عليه النار) ، أو (لا يدخل الجنةَ قاطع رحم) ، أو (لا يدخلون الجنةَ) ، ونحو ذلك.
فهذه مما ينبغي تأمُلُهَا وهو أنَّ التحريم في القرآن والسنة ونفي الدخول نوعان:
- تحريمٌ مؤبد.
- وتحريمٌ إلى أمد.
كما أنّ نفي الدخول:
- نفْيُ دخولٍ مؤبد.
- ونفي دخولٍ إلى أمد.
فتَحَصَّلَ من هذا أنَّ الخلود في النار نوعان: خلود إلى أمد، وخلود أبدي.
وأنَّ تحريم الجنة -كما جاء في بعض النصوص- أو تحريم النار وقد يكون تحريماً إلى أمد وقد يكون تحريماً إلى الأبد.
وكذلك نفي الدخول (لا يدخل الجنة)(لا يدخل النار) هذا أيضا نفي دخولٍ مؤبد أو نفي دخولٍ مؤقت
وهذا التفصيل هو الذي به يفترق أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح مع الخوارج والمعتزلة وأهل الضلال بجميع أصنافهم فإنهم جعلوا الخلود واحداً وجعلوا التحريم واحداً وجعلوا نفي الدخول واحداً، والنصوص فيها هذا وهذا.
[المسألة السابعة] :
في قوله (لَا يَخْلُدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ) هذه الجملة معروفة أصلاً لأنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فهي من باب التأكيد ليست إشارة لخلاف ولا إشارة لشرط ونحو ذلك.
[المسألة الثامنة] :
في قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ مُؤْمِنِينَ) هنا توقف الشارح ابن أبي العز عند قوله (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) وتَعَقَّبَ الطحاوي في لفظ (عَارِفِينَ) وأنَّ المعرفة ليست ممدوحة، فإنَّ بعض الكفار كانوا يعرفون، إبليس يعرف، وفرعون يعرف، وأنَّ في هذا القول وهو (بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ عَارِفِينَ) فيه نوع مشاركة للجهمية ولغلاة المرجئة.
وهذا التعقيب من الشارح رحمه الله في هذا الموطن فيه نظر؛ لأنَّ لفظ العارف أو المعرفة هذه ربما جاءت في النص ويُرادُ بها التوحيد والعلم بالشهادتين، فكأنَّ الطحاوي يقول: بعد أن لقوا الله عالمين بالشهادتين مؤمنين.
وهذا جاء في حديث معاذ المشهور أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بعثه إلى اليمن قال له «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم عرفوا ذلك فأعلمهم» (1) إلى آخره وهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح، فاستَعْمَلَ لفظ المعرفة ويُعنَى به العلم بالشهادتين.
وتوجيه كلام الطحاوي إلى هذا الأصل أولى من تخطئته فيه؛ لأنَّ الأصل في كلام العلماء الإتباع إلا ما دَلَّ الدليل على خلافه.
(1) البخاري (7372)
[المسألة التاسعة] :
في قوله (وَهُمْ فِي مَشِيئَتِهِ وَحُكْمِهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ عز وجل فِي كِتَابِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48، 116] ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ فِي النَّارِ بِعَدْلِهِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) هذه الجملة الطويلة تقريرٌ لأصل عند أهل السنة والجماعة خالفوا به الخوارج والمعتزلة: أنَّ أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين تحت المشيئة.
وقول الله عز وجل {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني في الكبائر لمن مات غير تائبٍ منها.
والمحققون من أهل العلم جمعوا بين هذه الآية وآية سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، وهنا {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأطْلَقَ في آية الزمر وهنا قال {لِمَنْ يَشَاءُ} ، وذلك أنَّ هذه الآية في حق غير التائبين، وأما آية الزمر ففي حق من تاب.
فهو سبحانه لمن مات غير تاب إن شاء غفر وعفا وهذا فضل وإن شاء عَذَّبَ وهذا عدل منه سبحانه بعباده.
ثم قوله (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ) هذا فيه ذِكْرُ سببين للخروج من النار في حق أهل الكبائر.
وهذان السَّببان ضَلَّتْ فيها الفرق من المعتزلة والخوارج ومن شابههم:
1-
السبب الأول: رحمة الله عز وجل، والرحمة قاعدة عامة في كل فَضْلٍ يحصل للعبد في الدنيا وفي الآخرة.
فالخروج من النار برحمة الله، التخفيف من الحساب برحمة الله، دخول من دَخَلَ الجنة برحمة الله عز وجل، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «لن يُدْخِلَ أحَدَكُم الجنة عملُه» (1) أو «لن يَدْخُلَ أحدكم الجنة بعمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، فهذا السبب عام، فكل من خَرَجَ هو برحمة الله، حتى فيمن شَفَعْ وشُفِّعْ فإنَّ العبد يخرج بعد شفاعة الشافعين برحمة الله عز وجل، وهذا يعني أنَّ قوله (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ) أنها نفهم منها أنه أراد شيئاً مستقلاً وهو أنه محض تفضِّلٍ منه عز وجل؛ عَذَّبَ ثم أخرجهم برحمته.
وهذه الرحمة في هذا الموطن لها تفسيران:
- الوجه الأول: أنَّ جَعْلْ الكبيرة مع ما فيها من عِظَمْ المبارزة لله عز وجل والتهاون بأمره ومخالفته وارتكاب نهيه، أنَّ هذه الكبيرة لم يحكم الله عز وجل على من ارتكبها أنَّهُ يُعَذَّبُ أبدًا.
فكون العذاب إلى أمد رحمة، ثم انقضاء العذاب رحمة، ثم بعثهم إلى الجنة أيضا رحمة.
- الوجه الثاني: أنّ الله عز وجل يُخرجُ من النار أيضاً أقواماً صاروا حِمَماً، يعني صاروا على لون السواد من شدة العذاب -والعياذ بالله-، ثم يُلْقَونَ في نهر الحياة فينبُتون فيه من جديد كما تنبت الحِبَّةُ في جانب الوادي وحميل السيل، وهذا أيضاً رحمةٌ من الله عز وجل في حق من ارتكب الكبيرة.
2-
والسبب الثاني: شفاعة الشافعين من أهل طاعته.
وشفاعة الشافعين:
- أعلاها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر أن يخرجوا من النار.
- ثم شفاعة الملائكة للمؤمنين الذين ارتكبوا الكبائر أن يخرجوا من النار.
- ثم شفاعة الوالدين لأولادهما.
- وهكذا شفاعة المُحِبْ لحبيبه من أهل الإيمان فيمن شاء الله عز وجل أن يُشَفِّعَهُ.
وهذان الأمران: الرحمة على ما ذكرت، وشفاعة الشافعين أيضاً على هذا الوصف- وقد تقدم أظن بحث الشفاعة مُطولاً-، وهذان خالف فيهما أهل الفرق وخاصةً الخوارج والمعتزلة ومن شابههم.
(1) سبق ذكره (378)
[المسألة العاشرة] :
قال (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلَايَتِهِ) هذه الجملة يُذَكِّرُ بها الطحاوي رحمه الله كُلَّ من أَنْعَمَ الله عز وجل عليه بنعمة أن يتذكَّرْ بأنه أُنْعِمَ عليه وتُفُضِّلَ عليه وأُحْسِنَ إليه ومَنَّ الله عز وجل عليه بهذه النعمة، فالذي عَصَى الله عز وجل وعفا الله عنه أو عَذَّبَهُ ثم أنجاه، هذا كله من آثار تولي الله عز وجل لأهل الإيمان.
وهذا يدل على أنَّ وَلاية الله عز وجل لعباده المؤمنين تتبعض ليست كاملة، فإنَّ وَلايَة الله عز وجل -وهي محبته لعبده ومودته له ونُصرتُه له وتوفيقه ونحو ذلك- لا يكون جملةً واحدة؛ إما أن يأتي في المعيّن وإما أن يزول كقول الوعيدية، بل يجتمع في حق المعين في الدنيا والآخرة أنه محبوبٌ من جهة ومُبغَضٌ من جهة، مُتولاً من جهة ومخذول من جهة أخرى.
وهذا هو الذي أراده في أنَّ أهل الكبائر في اعتقاد أهل السنة والجماعة لا يَخْلُون من نوع وَلايَةِ لله عز وجل لهم، فالله عز وجل (تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) يعني أهل توحيده، (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ) في الدنيا والآخرة (كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) ؛ يعني أهل الكفر الذين {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] ؛ بل لهم نصيب من وَلايَةِ الله عز وجل.
فوَلايَةُ الله وهي محبَتُهُ ونُصرَتُهُ في حق المُعيَّن من أهل القبلة تتبعَّض، يعني تكون في فلان أعظم منها في فلان، فالمؤمن المًسَدَّد الذي كَمَّلَ إيمانه بحسب استطاعته له من وَلايَةِ الله عز وجل الولاية الكاملة التي تناسب مقامه في الإيمان، والذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً له نصيب من محبة الله عز وجل ووَلايَتِهِ ونُصرَتِهِ بحسب ما عنده من الإيمان.
فإذاً في حق المُعَيَّنْ حتى من أهل الكبائر يجتمع فيه وَلَايَة من جهة وخُذلان من جهة أخرى، وهذا هو معتقد السلف وأهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة.