الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الثانية] :
متى وقع الإسراء والمعراج
؟
1 -
القول الأول:
وهذا عليه أكثر أهل العلم على أنَّ الإسراء والمعراج وقعا قبل الهجرة بسنة، على تباين بينهم في هل السنة تحديداً أم السنة تقريبا؟
- فقال بعضهم سنة إلا شهر.
- وقال بعضهم سنة إلا شهرين.
- وقال آخرون ثمانية أشهر قبل الهجرة.
- وقال آخرون عشرة، إلى آخره.
وإذا تبين هذا الاختلاف في كونه قبل الهجرة بسنة لهذا القول، فإنّ معه عدم تحديد وقوع الإسراء والمعراج في شهر رجب.
واشْتَهَرَ عند المؤرخين، أصحاب السير أنَّ الإسراء والمعراج وقعا في رجب؛ ليلة السبعة والعشرين.
وهذا إنما هو عند طائفة من أهل السّير، وأما أهل العلم المحققون من المحدثين والفقهاء ومن المفسرين فإنهم لا يحملون ذلك على الوقوع في شهر رجب بظهور، وإنما يقولون وقع قبل الهجرة بسنة.
ومعلوم أنَّ الهجرة كانت في شهر ربيع الأول، وإذا كان كذلك فقولهم قبله بسنة يعني أنّ الإسراء والمعراج لم يقع في رجب.
والأكثرون من أهل العلم على أنه أكثر من سنة: سنة وشهرين، سنة وثلاثة أشهر ونحو ذلك، والقليل من قال إنه ثمانية أشهر.
هذا قول أنه كان قبل سنة.
2 -
القول الثاني:
أنه كان قبل ثلاث سنين.
3 -
القول الثالث:
أنه كان قبل خمس سنين، واستدلّوا على ذلك بأنَّ خديجة صلّت وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين أو بخمس سنين، قالوا: كيف تصلي وإنما فُرضت الصلوات في ليلة المعراج؟ فكونها صلت يدلّ على أن المعراج وقع في حياتها، وهي ماتت قبل الهجرة بثلاث أو بخمس سنين.
والجواب عن هذا: أنَّ الصلاة كانت مفروضة ركعتين ركعتين؛ ركعة أول النهار وركعة آخر النهار، كما قالت عائشة رضي الله عنها (فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأُقرت صلاة السفر)(1) .
فخديجة رضي الله عنها كانت تصلي؛ ولكن لم تكن الصلاة المفروضة؛ الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج.
(1) البخاري (350) / مسلم (1602)
[المسألة الثالثة] :
الإسراء والمعراج هل وقعا بجسد النبي صلى الله عليه وسلم أم بروحه؛ يعني بجسده وروحه، أم بروحه فقط، أم كانا مناما؟
اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك:
- فقالت طائفة: كان الإسراء والمعراج بروحه.
- وقال آخرون: بل بروحه وبجسده.
ولم يقل أحد منهم: إنَّ الإسراء والمعراج كانا مناما، فلهذا لا يسوغ أن يُنْسَبْ هذا القول للسلف؛ بل قاله بعض العلماء الذين لم يُدَقِّقوا الفرق بين قول من قال: إنه روح وبين أن يكون مناماً.
والصواب الذي عليه عامة أهل السنة؛ أكثر أهل السنة: أنه كان بجسده وروحه معاً في الإسراء والمعراج، ولم يقل أحد من المنتسبين لأهل العلم -فيما أعلم-: إنه أُسري بجسده وروحه وعرج بروحه فقط، وإنما ثَمَّ اتفاق ما بين الإسراء والمعراج؛ لأنه لم يقل أحد أنه ذهب ونام في بيت المقدس. (1)
: [[الشريط الرابع عشر]] :
إذاً نقول: الصواب أنَّ الإسراء والمعراج كانا بروحه وجسده معاً.
ويدلُّ على ذلك أدلة منها:
1-
أنَّ الله عز وجل قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]
قوله {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} العبد: اسم للجسد والروح معاً، وليس اسماً للروح، وإنما الروح تُخَصُّ بالإضافة، فيقال: روح العبد، «روح عبدي فلان» ، كما جاء في بعض الأحاديث، وكذلك الجسد يُخَص، فيقال: جسد فلان، أو جسد عبدي فلان؛ يعني إذا كان من الله عز وجل.
أما إطلاق لفظ العبد أو الإنسان فإنه يكون لمجموع الروح والجسد.
فإذاً في قوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دليل على أنَّ الإسراء كان بالروح والجسد معاً، وإذا كان في الإسراء كذلك، فالمعراج كان بهما جميعا.
2-
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه كان مضطجعاً في بيته، أو في بيت أم هانئ، ففُرِج السقف فنزل جبريل، وفي رواية (أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا في الحطيم)(2) -في الصحيحين- فأخذه جبريل فشق صدره ما بين ثُغرَةِ نحره إلى أسفل بطنه، استخرج قلبه إلى آخره، وهذه إنما تكون للجسد، ولا معنى للإسراء بالجسد بدون روح، فصار ثَمَّ تلازم ما بين الإسراء بالجسد والروح معاً.
إلى أدلة أخرى في هذا المقام معروفة.
(1) انتهى الشريط الثالث عشر.
(2)
البخاري (3887)
[المسألة الرابعة] :
أنَّ الإسراء والمعراج اختلفت فيها الأحاديث.
فمن الأحاديث ما أُفرد فيه الإسراء دون المعراج، ومنها ما أُفرد فيه المعراج دون الإسراء، وهي في الصحيح وفي غيره.
وما جرى في الإسراء وما جرى في المعراج يؤخذ من مجموع الأحاديث؛ يعني أن تُجمع الرّوايات الصحيحة التي جاءت في الإسراء وجاءت في المعراج، ويُنْظَرْ ما حدث في الإسراء والمعراج.
يعني أنَّ بعض الروايات -مثلاً فيما رواه البخاري في صحيحه- قال «فأتاني جبريل فأخذني فأركبني على البراق فعرجت في السماء-أو فعرج بي إلى السماء- فاستفتح» وهذا فيه نقص؛ لأنَّ العروج في السماء إنما كان بعد الذهاب إلى بيت المقدس.
وفي بعض الروايات فيها نقص.
المقصود أنَّ الإسراء والمعراج تنوعت الروايات فيه، ونبَّه أهل العلم على أنَّ أحد الروايات في الإسراء والمعراج -مما رُوِيَ عن أنس رضي الله عنه أنَّ فيها خلطاً، وهي رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر في البخاري وفي غيره.
ومسلم رحمه الله حينما ذكر الرواية في صحيحه أشار إلى رواية شريك بن عبد الله عن أنس، وقال: فزاد ونقص -يعني شريكاً- فزاد ونقص وقَدَّمَ وأَخَّرَ ولم يسق روايته، وفي روايته أغلاط عند أهل العلم، خالف فيها مجموع أهل العلم الذين رَوَوا ذلك عن الصحابة.
إذاً فمسألة الروايات بها يُعلم ما حصل.
وبالنسبة للمعراج رواية الإسراء فيها يعني الإسراء والمعراج معاً؛ يعني مجموع الروايات، فيه أنَّ فيه وصف الدابة، وفيه تسميتها بالبُراق.
وتسمية هذه الدابة بالبُراق لأمرين:
الأول:
أنها في سرعتها كالبرق، وقد جاء في وصفها أنها -يعني البراق أو أنَّ الدابة- تضع حافرها حيث ينتهي بصرها، ومعلوم أنَّ الإسراء كان بالليل ومعنى ذلك أنها تبصر ليلاً وأنَّ سرعتها عظيمة، فلذلك كان من أوجُهِ تسميتها بالبراق أنَّ سرعتها كالبرق.
2 -
الثاني:
أنَّ لها بريقاً، ولذلك جاء في وصفها أنها دابة بيضاء بين البغل والحمار، ذلك لأنَّ لها بريقاً والبريق يؤخذ من البياض.
النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء به مرَّ على أشياء كثيرة حتى وصل إلى بيت المقدس.
قال طائفة من أهل العلم: ارتبط الإسراء بالمعراج مع أنَّهُ لا رابط بينهما من جهة العروج إلى السماء فإنه يمكن أن يكون العروج إلى السماء من مكة، ارتبط الإسراء بالمعراج لأمورٍ؛ يعني لِحِكَمْ فيما استظهروه:
1-
الحكمة الأولى: أن يطلع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره على الأرض على أشياء تكون أقوى لحجته إذا سأله المشركون، ولو عُرِجَ به إلى السماء مباشرة فإذا سألوه فلن يكون عنده ما يُقَوِّي حجته عليهم بهذا الأمر، ولهذا لما رجع سألوه فأخبرهم عن خبر قافلة، فلما رجع أهل القافلة سألوهم فقالوا: نعم حصل كذا وكذا.
2-
الحكمة الثانية: أنَّ فيها إظهاراً للترابط ما بين مكة وما بين بيت المقدس، وأنَّ بيت المقدس كان قبلة وأنَّ مكة كانت قبلة، فلم يَتَوَجَه أتباعُ الأنبياء إلا إلى: بيت المقدس وإلى مكة المكرمة -يعني إلى الكعبة-.
3-
الحكمة الثالثة: أن يظهر فضل محمد صلى الله عليه وسلم حيث يلتقي بالأنبياء في بيت المقدس ثم يصلي بهم.
وقد جاءت روايات مختلفة صحيحة في دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى.
ففيها أنه دخل فقال له جبريل صَلِّ ركعتين، فصلى ركعتين أو صلى جبريل ركعتين، ثم وجد الأنبياء ووجد صفوفاً خلفه فصف معهم، ثم قَدَّمَه جبريل عليه السلام فصلى بهم.
ففي هذا إظهار لفضله صلى الله عليه وسلم ولمكانته ومَزِيَّتِهِ بالإمامة على سائر الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
أيضا مما يذكر في الإسراء أنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بموسى في قبره.
قال -كما رواه مسلم - «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بمُوسَى وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ» (1) .
وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح، وطائفة من أهل العلم قالوا: إنَّ في هذا الحديث شذوذاً أو نكارة ولم يقبلوه، والأكثرون على قَبوله؛ يعني أن هذا الحديث صحيح، وابن القيم رحمه الله وجماعة ممن يميلون إلى أنَّ فيه مقالاً.
أيضا مما حدث في الإسراء أنَّ أهل العلم اختلفوا في الدَّابة: هل رُبِطَتْ أم تُرِكَتْ؟
فأنكر طائفة أن تكون رُبِطَتْ في الصخرة.
وقَبِلَ هذه الرواية أكثر أهل العلم فقالوا: إنَّ جبريل وَخَزَ الصخرة فانثقبت فربط الدابة فيها.
أما المعراج فلما عُرج به صلى الله عليه وسلم أتوا إلى السماء الأولى فاستفتح جبريل.
فقيل له: أمعك أحد؟
قال: نعم.
قيل من؟
قال: محمد بن عبد الله.
فقيل له: (أَوَقَدْ بعث؟) أو (أَوَقَدْ أرسل؟) أو (أَوَقَدْ أوحي إليه؟)
فقال: نعم، فَفُتِحْ له.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلما ولجنا السماء وجدتُ فيها آدم عليه السلام -يعني السماء الأولى- إلى آخره، فقيل لي: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه.
(1) مسلم (6306) / النسائي (1631)
قال: فسلمت عليه، ثم ردَّ علي السلام، فقال: مرحباً بالابن الصالح والعبد الصالح.
ثُم عَرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح -يعني حصل مثل الذي حصل؛ من معك؟، أَوَقَدْ أرسل؟ إلى آخره- فوجد في السماء الثانية عيسى عليه السلام ويحيى وهما ابنا خالة.
ثُم إلى السماء الثالثة وجد فيها يوسف.
ثُم السماء الرابعة وجد فيها إدريس.
ثُم السماء الخامسة وجد فيها هارون.
ثُم السماء السادسة وجد فيها موسى عليهم جميعا السلام.
ثُم السماء السابعة وجد فيها إبراهيم، وكل يقول له مرحباً بالأخ الصالح والعبد الصالح، إلا آدم
وإبراهيم فيقولان: مرحبا بالابن الصالح والعبد الصالح.
ولما مَرَّ على موسى عليه السلام وسلم عليه ورد عليه موسى، قال صلى الله عليه وسلم: فلما انصرفت أو فلما ذهبت إذا بموسى عليه السلام يبكي فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي أَنْ بُعِثَ غلام من بعدي يكون من يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي.
ثُم لقي إبراهيم الخليل عليه السلام في السماء السابعة، قال: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى، فإذا نبتُهَا مثل قلال هجر وإذا ورَقُهَا مثل آذان الفيلة.
قال: ثم رفع لي نهران باطنان ونهران ظاهران، فسألت: فقيل لي النهران الباطنان من الجنة والنهران الظاهران النيل والفرات.
ثم أُتِيْتُ بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فشربت الإناء من اللبن، فقيل لي: هُدِيت للفطرة أو هذه الفطرة فيك وفي أمتك. أو كما قال صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث.
المقصود أنَّ هذا حديث المعراج وما فيه، هذه إحدى الروايات والروايات في ذلك كثيرة، باختلاف أماكن الأنبياء، واختلاف المقالة، اختلاف ما حصل وكذلك في ما حصل في السماء السابعة.
إذا تبين ذلك فثَمَّ كلام هنا على لُقْيا النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين.
[المسألة الخامسة] :
هل لقي النبي صلى الله عليه وسلم أجسادَ الأنبياء مع أرواحهم؟ أم إنه صلى الله عليه وسلم لقي أرواحهم دون أجسادهم؟
العلماء لهم في ذلك قولان:
1-
القول الأول:
قال طائفة من أهل العلم: لَقِيَ أرواحا وأجساداً، واستدلوا على ذلك بدليلين:
- الدليل الأول: أن هذا هو الظاهر من الجَمْعْ - يعني من أنهم جُمِعُوا له وأنه كلّم آدم وكلّم فلان وكلّم فلان إلى آخره.
- والدليل الثاني: أنه جاء في أحد الروايات قوله (وبُعِثَتْ لي الأنبياء) وبَعْثَةُ الأنبياء له، تدلُّ على أَنَّ ذلك خاص في ذلك الموقف الخاص.
2-
القول الثاني:
أن ذلك إنما هو للأرواح دون الأجساد حاشا عيسى عليه السلام فإنه رُفِعَ إلى السماء بروحه وجسده.
وفي إدريس قولان؛ إدريس عليه السلام في السماء الرابعة فيه قولان، هل كان رفعه للسماء الرابعة بروحه فقط أم كان بروحه وجسده؟ وفي ذلك خلاف عند المفسرين وعند أهل العلم مأخوذ أو تجده عند قوله تعالى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] في قصة لا تثبت؛ يعني في قصة لسبب الرّفع لا تثبت.
* والأظهر من القولين عندي أنَّ ذلك كان بالأرواح دون الأجساد خلا عيسى عليه السلام؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين التقى بالأنبياء وصلوا معه صلى الله عليه وسلم:
- إما أن يُقال صَلَّوا معه بأجسادهم، وقد جُمِعَت أجسادهم له من القبور، ثم رَجعت إلى القبور وبقيت أرواحهم في السماء.
- وإما أن يُقال هي بالأرواح فقط؛ لأنَّهُ لقيهم في السماء.
ومعلوم أنَّ الرّفع إنما خُصَّ به عيسى عليه السلام إلى السماء رَفْعاً حيّاً، وكونهم يُرْفَعُون بأجسادهم وأرواحهم إلى السماء دائماً ولا وجود لهم في القبور، هذا لا دليل عليه؛ بل يخالف أدلة كثيرة أنَّ الأنبياء في قبورهم إلى قيام الساعة.
فمعنى كونهم ماتوا ودُفنوا أنَّ أجسادهم في الأرض، وهذا هو الأصل.
ومن قال بخلافه قال هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه بُعِثَتْ له الأنبياء فَصَلَّى بهم ولقيهم في السماء.
وهذه الخصوصية لابد لها من دليل واضح، وكما ذكرت لك فالدليل التأمُّلي يعارضه.
وعلى كل هما قولان لأهل العلم من المتقدمين والمتأخرين.
[المسألة السادسة] :
النبي صلى الله عليه وسلم حين رُفع إلى ما فوق السماء السابعة، ورأى البيت المعمور، ورأى سدرة المنتهى، رأى أشياء من آيات الله الكبرى، كما قال عز وجل {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] .
والنبي صلى الله عليه وسلم رأى هذه الأشياء بقلبه ورآها بعينه، كما قال عز وجل {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] ، فصار للفؤاد رؤية، وقال {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فصار للبصر رؤية.
لهذا نقول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لآياتِ رَبِّهِ الكبرى لما فوق السماء السابعة وفي السماء السابعة وما رأى صار بشيئين: بالبصر وبالقلب جميعاً، ولا يقال بالبصر وحده ولا يقال بالفؤاد وحده؛ بل رأى بهما جميعاً.
وهذا يعني أنَّهُ قد يكون ثَمَّ أشياء رآها ببصره وقلبه جميعاً، وثَمَّ أشياء رآها بفؤاده دون بصره.
لهذا قال من قال من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بفؤاده، وهذا يجرنا إلى المسألة المشهورة:
هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه أم لا؟
في قولين للصحابة:
- منهم من قال: رأى ربه.
- ومنهم من قال: لم يره.
كما هما قولان لعائشة وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
* والصحيح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه وإنما سمع كلامه، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] ، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟؟ قال «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ» (1) ؟
يعني ثَمَّ نور وهو الحجاب، حجاب الرب عز وجل نور، قال «ثم نور أنى أراه» ، وفي رواية أخرى قال «رأيت نوراً» ؛ يعني نور الحجاب.
إذاً فالصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حصلت له أنواع رؤية:
- منها رؤية أشياء بالبصر.
- ورؤية أشياء بالقلب، بالفؤاد.
- ورؤية أشياء بهما جميعاً.
وأما الله جل جلاله فلم يره وإنما سمع كلامه صلى الله عليه وسلم.
(1) سبق ذكره (132)
[المسألة السابعة] :
من المشهور المعروف في قصة الإسراء والمعراج المراجعة التي حصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وموسى في فرض الصلاة.
فإنَّ الله عز وجل فَرَضَ الصلاة المفروضة على هذه الأمة خمسين صلاة، ثم رجع جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم ثُم لمَّا لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم موسى سأله فقال:«فرض علي خمسين صلاة» ، فقال: إنها لكثيرة وقد عالجت من أمر أمتي ما علمتُ أنَّ أمتك لن تطيق ذلك، فارجع فاسأل ربك التخفيف. صلى الله عليه وسلم:«فاستأذنت جبريل فأذن لي فسألت ربي التخفيف» (1) .
هنا وقع خلاف في الروايات: هل صار التخفيف خمساً خمساً؟ أم كان التخفيف عشراً عشراً حتى وصلت إلى خمس في آخرها؟
* والصواب والأصح أنَّ التخفيف وقع عشراً عشراً؛ يعني كانت خمسين ثُمَّ خُفِّفَ عنه عشراً فصارت أربعين، ثُمَّ خُفِّفَ عنه عشراً فصارت ثلاثين، ثم خفف عنه عشراً فصارت عشرين، ثم خفف عنه عشراً فصارت عشراً، ثم خفف عنه خمساً، ثم لما رجع إلى موسى قال: إنها كثيرة إنَّ أمتك لن تطيق ذلك، فقد عالجتُ من أمر أمتي ما عالجت أو كما قال، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم:«لقد استحييت من ربي» قال فسمعت من يقول لقد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
هذه بعض المسائل المشهورة في مسألة الإسراء والمعراج، ولا ندري هل غُطِّيَتْ أم لا؟
نرجع إلى ألفاظ المؤلف.
(1) البخاري (3887) / النسائي (450)
[المسألة الثامنة] : (1)
في قوله (فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى)(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ) الصلاة هنا على النبي صلى الله عليه وسلم من الله جل جلاله معناها الثناء عليه صلى الله عليه وسلم فإنَّ الصلاة لها استعمالات:
- فالصلاة من الله عز وجل على عبده، على الأنبياء والمرسلين وعلى المؤمنين {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب:43] ، تكون الصلاة من الله عز وجل بمعنى الثناء؛ يعني يُثني على نبيه في الملإ الأعلى.
(اللهم صلِّ على محمد) يعني اللهم أثْنِ على محمد في الملإ الأعلى بما هو أهله صلى الله عليه وسلم.
- والصلاة من الملائكة على المؤمنين هو الدعاء لهم والاستغفار {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} يعني الملائكة تدعو لابن آدم: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، تستغفر له كما قال عز وجل {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] .
- والصلاة من العبد للعبد: اللهم صلِّ على فلان؛ يعني اللهم أثني على فلان، صليتُ عليك أو لك؛ يعني دعوت لك، لهذا قال عز وجل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] .
إذا تبين ذلك، فالصلاة من الله عز وجل مُخْتَصَّة بالأنبياء والمرسلين.
يعني لا يقال على وجه الانفراد (اللهم صلَّ على فلان) إلا أن يكون نبياً أو رسولاً.
أما غيرهم فلا يُصَلَّى عليه على وجه الانفراد، وقد يُصَلَّى عليه على وجه التَّبَع (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) ، (اللهم صل على محمد وآله وصحبه) ، (صلى الله عليه وآله وصحبه) ، هذا يجوز من جهة التّبع، أما من جهة الاستقلال فلا يقال:(صلى الله على آل محمد،) فقط، (صلى الله على الصحابة) فقط.
وقد يجوز على المفرد إذا لم يكن شعاراً، مَرَّة مرتين تارةً تارتين ونحو ذلك، ولا يكون شعاراً، كما قال صلى الله عليه وسلم لما جاءه ابن أبي أوفى بالصدقة قال «اللهم صل على آل أبي أوفى» (2) ، هذا دعاء لهم، هذا يكون على وجه الانفراد، ولا يكون شعاراً.
فإذاً لا يكون شعاراً أَنَّا نُصَلِي على عَلِيٍّ رضي الله عنه، كلما ذكر علي رضي الله عنه قلنا عليه السلام، أو بعض الآل نقول عليهم الصلاة والسلام أو نحو ذلك، فهذا مخالف للهدي هدي الصحابة رضوان الله عليهم.
تجوز الصلاة على المفرد بشرطين -ذكرتهما لك-:
1-
الشرط الأول: ألا تكون دائماً، بمعنى أن تكون أحياناً.
2-
الشرط الثاني: أن لا تكون شعاراً على شخص أو على مجموعة؛ مثل الأئمة (صلى الله على الأئمة) ، هذه كلها من شعارات أهل البدع.
هذا ما يتعلّق بهذه الجُمَلْ، ونؤجل الكلام على الحوض في المرة القادمة إن شاء الله تعالى.
هذا الدرس حسب رغبة الكثيرين يكون كالعادة آخر درس لأجل قُرب الاختبارات، ونواصل إن شاء الله مع اليوم الأول من الدّراسة -إن شاء الله تعالى- بعد العيد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
(1) هذه المسألة لم يجعلها الشيخ مستقلة، وإنما قمت بجعلها مستقلَّةً تمييزاً لها.
(2)
البخاري (1497) / مسلم (2544) / أبو داود (1590) / النسائي (2459) / ابن ماجه (1796)