الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الأولى] :
أنّ سؤال الملكين يقع عن ثلاثة أشياء:
أولاً: عن ربه.
ثانيا: عن دينه.
ثالثا: عن نبيه
.
فيقولون: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟
فأمَّا المؤمن المُسَدَّدْ الصالح يُثَبِّتُهُ الله عز وجل بالقول الثابت ويقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما الفاجر المنافق فإنه يقول: ها ها، ها ها -يعني لا أعلم أو لا يُحْسِنْ الجواب- سمعت الناس يقولون شيئا فقلته؛ يعني لا يُلْهِمُهُ الله عز وجل حُسْنَ الجواب ولا يثبته عند السؤال.
والرب المسؤول عنه هنا (من ربك؟) المقصود به المعبود.
(من ربك؟) يعني من تعبد، فالربوبية هنا بمعنى العبادة؛ لأنَّ الربوبية في النصوص تُطْلَقُ ويُرَادُ بها الألوهية في مواضع إذا دَلَّ عليها السياق، وهنا الحال يقتضي أنَّ السؤال ليس هو عن الخالق الرازق المحيي المميت الذي يجير ولا يجار عليه؛ لأنَّ هذه يُقِرُّ بها الجميع، والسؤال عن العبادة لأنها هي محل الابتلاء، فمعنى (من ربك؟) يعني من تعبد؟
ثم سؤال الثاني (ما دينك؟) يعني الذي تدين به، فإن كان يدين بعبادة الله وحده لا شريك له، بالإسلام أخبر بذلك، وإن كان يدين بعبادة الأوثان أخبر عن نفسه فيكون إقراراً على نفسه بعبادة غير الله عز وجل، وهكذا في السؤال الثالث.
[المسألة الثانية] :
هذا السؤال هل هو مختص بهذه الأمة أم هو لجميع الأمم؟ هذه بَحَثَها العلماء، ولهم أقوال.
والقول الظاهر الصحيح منها أنَّ هذا السؤال لهذه الأمة ولجميع الأمم، فالجميع يُسْأَلُ إذا أُدْخِلَ القبر لأجل عدم ورود التخصيص.
وأما ما جاء في بعض الأدلة من بعض الأحاديث «إنه أوحي إلي أن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (1) هذا لا يقتضي التخصيص؛ لأنَّ هذا ليس له مفهوم مخالفة، فإثباته لهذه الأمة لا يعني أنها مخصوصة بذلك.
(1) سبق ذكره (523) برقم 5
[المسألة الثالثة] :
سؤال منكر ونكير، هل يكون للكافر أم لمن أجابَ النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً؟، أيضاً اختلف فيها علماء السنة على أقوال.
والصحيح منها أنَّ السؤال -لا نطيل الكلام فيها تجدونها في الكتب المطولة- والصحيح أن السؤال يكون لكل مُكَلَّفْ -من المسلمين المؤمنين، ومن المنافقين، ومن الكفار-، وهذا يدل له ورود لفظ الكافر في بعض روايات حديث البراء فيقول «وأما الكافر أو الفاجر» (1) ، وفيها «أما المنافق أو الفاجر» فَذُكِرَ في الروايات المنافق والفاجر والكافر، وهذه سواء حملناها على ورودها بالمعنى أو أنَّ الجميع محفوظ؛ لكن التخصيص ليس له وجه، فالجميع يُسأل عن هذه المسائل؛ لأنها هي فاتحة ما سيكون بعدها في الحياة البرزخية.
(1) انظر البخاري (1338)
قال رحمه الله بعد ذلك (وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ)
يريد بذلك التصديق والإيمان بما دلت عليه الأحاديث والآيات من أنَّ المقبور يكون في نعيمٍ أو في عذاب وأنَّ قبره إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما جاء في الحديث.
وسبب إيراده أنَّ العقلانيين في مسائل عذاب البرزخ والفلاسفة وطائفة من أهل الكلام ينفون أن يكون القبر جنة أو نار، ويقولون بعقولهم إننا نفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لِخُضْرَةْ ولا أثراً لكذا وكذا من النعيم، ونفتح القبر فلا نجد فيه أثراً لنار، ونلمس الأرض من الخارج ولا نجد أثراً لنار، وهذا من جَرَّاءِ قاعدتهم أنَّ عالم الغيب يُقَاس على عالم الشهادة وأنَّ الجميع يمكن إدراك العقول، يقولون: إنَّ خلق الله واحد وهذا وهذا مداره من حيث القياس واحد.
وهذا الأصل الذي أصَّلُوه خلاف ما دَلَّتْ عليه الأدلة من أَنَّ عالم الغيب غير عالم الشهادة، وعالم الملائكة وعالم الجن غير عالم ما نراه، وهكذا في ما لا نراه من المخلوقات فإنَّ قوانينه وسنة الله عز وجل فيه تختلف عما نراه.
والحياة البرزخية والعذاب والنعيم والجنة والنار لا يعرف كيف يكون إيصال ذلك إلى الإنسان وإلى الأرض إلا رب العالمين عز وجل، ولهذا الواجب أنَّ المسائل الغيبية لا تُحكَّم عليها العقول لأنَّ الله عز وجل أخبر بها فيؤخذ بها على ظاهرها، وكما ذكر شيخ الإسلام وابن القيم وشارح الطحاوية وجماعة (بأنّ الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول ولا تأتي بما تُحيله العقول) وهذه قاعدة مهمة في نظرك فيما يلتبس عليك، فإنَّ الشريعة تأتي بأخبار غيبية وبأشياء يحار فيها عقل الناظر لكن العقل الصريح الواضح السليم من الأهواء والآفات والذي يطبق القواعد الصحيحة تطبيقاً صحيحاً يخرج بأنَّ العقل لا يُحِيلُ هذه الأشياء؛ لكن يحار العقل في حقيقتها نعم، لأنَّ العقل إنما نَمَا بما شاهد، فالعقل تَنَوَّعَت إدراكاته ونما فيه أشياء بما شاهد {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، هذه وسائل الإدراك، فعقل الطفل لم يكن شيئاً فنمت فيه الإدراكات بِما شاهد من القوانين، وأما ما لم يُشَاهد فإنه لم يدركه عقله لأنه لم يشاهده ولم يعرف حقيقته، فلهذا لا يسوغ له أن يَحْكُمَ على ما لم ير بما رأى وبما حَصَّلَهُ من معلومات نشأت معه من صغره إلى أن وصل إلى ما وصل إليه.
وعالم الغيب ليست قوانينه كعالم الشهادة، خذ مثلاً السموات وما فيها وبُعْدَها، وخذ مثلاً الشمس وبُعْدها وكيف تنير الأرض إلى آخره والقمر وحاله والخسوف والكسوف وأنواع ما يحصل، فإنَّ هذه عند من لا يعرف لا يدرك حقيقتها، وربما أدرك بعض الناس حقيقتها فأدركوا قوانين الرب عز وجل وسنة الرب عز وجل في بعض خلقه.
فإذاً نقول: [.....]
لهذا بنى ابن تيمية كتابه العقل والنقل الذي هو (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) أو (درء تعارض العقل والنقل) على هذه المسألة، وهي المسألة التي خالف فيها العقلانيون من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة إلى آخره وهذه من المسائل التي يذكرونها ويُشَنِّعُونَ أو يُؤَكِّدُونَ عليها.
ولاشك أنَّ كون القبر روضة أو حفرة هذا من عالم الغيب الذي لا يُدْرَكْ والإنسان تراه نائماً بجنبك وهو إما في نعيم أو في تألم وأنت لا تدري؛ بل ربما استغاث وهو نائم بالذي حوله ويسمع كلامه؛ لكنه لا يجاب لأنَّ عالمه ليس فيه إيصال الصوت إلى الآخر، وهكذا في أنواع مما يدل على هذا الأصل.
فإذاً الواجب في هذه المسائل التسليم بالغيبيات بما دلت عليه الأدلة، وأن لا يُقَاس عالم الغيب على عالم الشهادة، وأن لا يَعْتَرِضْ المرء بعقلياته على الشريعة بل يعلم ويُسَلِّمْ بأنَّ العجز عن الإدراك إدراك؛ لأنَّ الله عز وجل على كل شيء قدير.
قال رحمه الله بعدها (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ) .
قوله (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ) هذا ركن من أركان الإيمان، فَرْضٌ الإيمان به، ولا يصح إيمانُ أحد ولا إسلامه حتى يؤمن باليوم الآخر، فمن أنكر البعث أو اليوم الآخر فإنه كافر بالله جل جلاله، فالإيمان بالبعث ركن من الأركان؛ وهو أنَّ الناس لهم يوم يعودون فيه إلى الله جل جلاله.
وهذا الإيمان باليوم الآخر له تفاصيل هي التي ذَكَرَ بعضها هنا بأنه إيمان ببعث الناس؛ يعني بقيامهم من قبورهم وإرجاع أرواحهم إليهم، وإيمان بجزاء الأعمال، وإيمان بالعرض، وإيمان بالحساب، وإيمان بقراءة الكتاب، وإيمان بالثّواب، وإيمان بالعقاب، وإيمان بالصراط، وإيمان بالميزان، وإيمان بالجنة، وإيمان بالنار إلى آخره.
فحقيقة الإيمان باليوم الآخر أنه إيمانٌ بحصول ذلك اليوم ورجوع الناس إلى ربهم، ثم إيمانٌ تفصيلي بكل ما يجري في ذلك اليوم.
وهذا واجِبٌ الإيمان به لمن سمع النص والدليل في كل مسألة من مسائل ذلك اليوم.
وهذه التي ذَكَرَ كُلُّهَا دَلَّتْ عليها الأدلة، فجزاء الأعمال يوم القيامة الأدلة كثيرة فيه في القرآن {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] ، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ، والآيات تعلمونها كثيرة جداً في هذا الباب؛ بل بعد ذِكْرِ توحيد الله عز وجل والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم أكثر ما في القرآن من التقرير تقرير الإيمان بالبعث ورجوع الأجساد؛ لأنَّ أكثر مخالفة المخالفين في هذا الأصل العظيم؛ يعني من المشركين يخالفون في البعث وما يجري مجراه.
ونذكر هنا مسائل فيها تفصيل لهذه الجمل:
[المسألةالأولى] :
قوله (نُؤْمِنُ بِالبَعْثِ وَجَزَاءِ الأعْمَالِ) لمَّا عَطَفْ دَلَّ على أنه يريد بالبعث بعض ما يكون في اليوم الآخر، وهو بعث الناس من قبورهم.
والذي دلّت عليه الأدلة أنَّ الله عز وجل يأمر المَلَكْ فينفخ في الصور نفخة الصعق فيَصْعَقْ الناس وتموت الخلائق، ثم تمضي أربعون بعد النفخة الأولى ثم يأمر الملك فينفخ نفخة ثانية -وقبلها يأمر الله عز وجل الأرواح فتجتمع في الصور الذي ينفخ فيه الملك-، فينفخ فتذهب الأرواح جميعاً من هذا القرن العظيم، والذي ينفخ فيه إسرافيل، فتذهب الأرواح إلى الأجساد، روح كل إنسان إلى جسده.
قبل هذا فيما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية تحصل أشياء حتى تحصل حياة الإنسان من جديد وهي أنَّ الله عز وجل يُغَيّر الأرض ويُغَيّر معالمها، وتُسَيَّر الجبال وتُدَكْ، والأرض تكون مستوية وتُعَدْ لمسير الناس إلى أرض محشرهم، ويُمْطِرُ الله عز وجل مطراً تنبت منه الأجساد شيئاً فشيئاً حتى تتكامل، وتُخرج الأرض أثقالها من المدفونين، ثم بعد ذلك تكون الأجسام كالأشجار بلا أرواح.
فينفخ إسرافيل فتعود الأرواح فتهتزُّ تلك الأجسام فإذا هم قيام ينظرون.
هنا يعني هو الظاهر من مراد الطحاوي بالبعث، يعني قيام الأجساد من القبور.
وهذا الأدلة عليه في الكتاب والسنة كثيرة كقوله عز وجل مثلاً في القرآن {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:68-69]، وكقوله عز وجل {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51-52] إلى آخره، وكقوله {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85-86] ، ونحو ذلك من الأدلة، ثم بعد البعث يسير الناس إلى محشرهم.
[المسألة الثانية] :
في قوله (جَزَاء الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الجزاء المراد به المُجَازَاةْ؛ يعني أنهم يُجْزَونَ على أعمالهم الصالحة ويُجْزَونَ على أعمالهم السيئة، على هذا وهذا.
والجزاء لا يكون بعد البعث مباشرة؛ بل يكون متأخراً، ولهذا الطحاوي هنا لم يُرَتِّبْ ما يحصل يوم القيامة الشيء بعد الشيء مما يكون في ذلك اليوم العظيم، وإنما قَدَّمَ وأَخَّرْ بحسب أغراضٍ له في ذلك-يأتينا الترتيب إن شاء الله في مسألة لاحقة-.
الجزاء بمعنى المجازاة {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني بعد أن يُقَرَّرَ على أعماله ويحاسب والوزن إلى آخره يُجْزَى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
[المسألة الثالثة] :
في قوله (الْعَرْض) العرض جاء في الأدلة ذِكْرُهُ نصاً ومعنىً كقوله عز وجل {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:18-19] الآيات {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} هذا العرض.
وكذلك ما جاء في السنة من قوله صلى الله عليه وسلم «عرضتان جدال ومعاذير» (1) .
فالعرض على الرب عز وجل كثير في القرآن وفي السنة {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48] ونحو ذلك.
العرض معناه: أنْ يُعْرَضَ المُكَلَّفْ وأن يُعْرَضَ عمل المكلف.
فهناك عرْضٌ للمُكَلَّفِين على رب العالمين، ثُمَّ رب العالمين يَعْرِضُ أعمال كل مُكَلَّفْ عليه.
ومعنى العرض أنه يُقَالُ له: عملت كذا في يوم كذا، يعني يعرض عليه أنه عملت وعملت وعملت إلى آخره، فيُعْرَضُ الإنسان ويُعْرَضُ عمله بحيث يراه، وقد يُجَادِلْ وقد يعتذر إلى آخره ثم يكون بعد ذلك الكتاب والحساب إلى آخره.
(1) الترمذي (2425) / ابن ماجه (4277)
[المسألة الرابعة] :
في قوله (الْحِسَاب) الْحِسَاب المقصود منه المحاسبة، يعني بعد أن يقرأ الكتاب فإنه يُحَاسَب هذا خير سَتُجْزَى عليه وهذا شرٌ سَتُجْزَى عليه، يحاسب الله عز وجل المؤمن حسابَاً يسيراً، ويحاسب الكافر والمنافق حساباً عسيراً.
والحساب من حيث هو تقريرٌ للعمل مع الجزاء والعقاب هذا يكون بعد أخذ الكتاب وقبل أخذ الكتاب؛ لأنَّ حقيقة المحاسبة أنَّ الله عز وجل يُحَاسِبُهُم على ما عَمِلُوا بعرض ما عملوا من خيرٍ أو شر، وهذا يكون بالشهادة عليه من جسده ومن الكتاب، ويكون قبل ذلك بذكر الله عز وجل له.
وهذا كله يحصل في سرعةٍ خاطفة، كما قال عز وجل {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] قال علماء التفسير: يحاسب الخلائق في ساعة، جميع الخلائق في ساعة {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} ؛ يعني تكون المحاسبة بسرعة لهذا وهذا جميع الخلائق.
[المسألة الخامسة] :
في قوله (وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ) ويعني بالكتاب الصحف التي كُتِبَتْ فيها أعماله وهو الكتاب الذي يلقاه العبد يوم القيامة منشوراً {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13-14](1)
: [[الشريط الثامن والثلاثون]] :
وهذا الكتاب هو الصحف.
والصحف هذه تُنْشَرْ للإنسان وتُوَزَع على الناس في الموقف؛ يعني أنَّ الناس في ذلك الموقف تُنْشَر لهم السِّجِلَّاتْ والكتب، ويُؤْمَرُون بأخذها وتتطاير أيضاً إليهم؛ يعني على اختلاف الصفات فمن آخذٍ كتابه بيمينه وآخذٍ كتابه بشماله وراء ظهره.
فقِرَاءَةْ الكتاب، العبد يَقْرَأ والله عز وجل يُقَرِّرْ العبد على ما عَمِلْ حتى يكون عليه شاهداً.
(1) انتهى الشريط السابع والثلاثون.
[المسألة السادسة] :
في قوله (وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب) يعني بعد الوزن؛ لكن هنا أراد الإيمان بأنَّ هذه الأشياء حاصلة لأجل ورود الدليل بها؛ بل معنى البعث إنما هو حصول الثواب والعقاب، فحَقِيْقَةْ معنى يوم البعث واليوم الآخر أن يُثَابْ المطيع وأن يُعَاقب الكافر.
[المسألة السابعة] :
في قوله (الصِّرَاط) الصراط هو الطريق، والصراط طريق موضوع على ظهر جهنم؛ يعني فوقها -فوق جهنم-، وهو طريق يُوصِلُ من العَرَصَات من أرض المحشر إلى ساحات الجنة؛ يعني ما قبل دخول الجنة.
وهذا العبور على الصراط هو المذكور في قوله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] .
والصراط جاءت صفته في السّنّة، وجاء ذِكْرُهُ مُجملاً في القرآن.
أما صفته في السنة فإنه: دقيق جداً وطويل، وأنَّ على جَنَبَاتِهِ كلاليب تخطَفُ من قضى الله عز وجل أن يكون من أهل النار، وأنَّ الناس في العبور عليه يخافون خوفاً شديداً، فالأنبياء يقولون قبل العبور اللهم سَلِّم سَلِّم.
ودون هذا الصراط ظُلْمَةْ لا يَتَبَيَّنْ أحد ممن يريد أن يعبر طريق الصراط إلا المؤمنين بما فيهم العصاة.
وأما الكافرون والمنافقون فإنهم يجتمعون في الظلمة ويسيرون ويتهافتون في النار تهافت الجراد.
وغير ذلك مما جاء في وصفه وأنه أَدَقُّ من الشعرة وأحَدُّ من السيف، إلى آخره.
وهذه الصفات أنكرها المعتزلة وأنكرها العقلانيون والفلاسفة، وقالوا: هذه لا يُعْقَلْ أن يكون الطريق من صفته كذا وكذا.
وإذا كان هذا الأمر قد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وثَبَتَتْ به السنة فالإيمان به واجب على نحو ما ورد على ما ذكرنا لكم من أنَّ عالم الغيب لا يقاس على عالم الشهادة.
[المسألة الثامنة] :
في قوله (الْمِيزَان) الميزان ذَكَرَهُ الله عز وجل في كتابه وجاء في السنة وصفه وذِكْرُهُ، فالإيمان به واجب.
والميزان حقيقةً وليس هو العدل كما تقوله المعتزلة؛ لأنَّ المعتزلة أنكروا حقيقة الميزان -كما سيأتي-، وقالوا: الميزان هو العدل مطلقاً، الله يحاسبهم بالعدل.
والله عز وجل بَيَّنْ أنَّ الميزان يوزن فيه العمل ولو كان مثقال ذرة، قال عز وجل {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ، وقال عز وجل {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون:102-103] الآية، وقال عز وجل {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف:8] ، الآية التي ذكرت لكم في الأعراف ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر الوزن والموازين.
والميزان هنا أفرده قال (وَالْمِيزَانِ) وهو قولٌ لكثيرٍ من العلماء بأنه يوم القيامة ليس ثَمَّ إلا ميزان واحد، وأنَّ الجمع هنا في بعض الآيات في قوله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أنَّ هذا على تعدد الموزونات وليس على تعدد الموازين.
والصحيح أنَّ الموازين متعددة لأنَّ الله عز وجل جَمَعَهَا فقال {نَضَعُ الْمَوَازِينَ} وهذا ظاهِرٌ في إرادة الموازين حقيقة وليست الموزونات؛ لأنَّ الموزونات لا يقال عنها إنها تُوضَعْ، قال {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} والموزونات لا توصف بأنها تُوضَعْ ولا تُوصَفْ بأنها قسط أيضاً.
فإذاً {الْقِسْطَ} يعني العادلة التي لا تظلم في الوزن هذه متعددة على ظاهر الآية.
وجاء في السنة أنَّ الميزان له كِفتان: كفة توضع فيها السيئات وكفة توضع فيها الحسنات، فمن ثقلت كفة حسناته أفْلَحْ وأَنْجَحْ ودَخَلَ الجنة، ومن ثقلت كفة سيئاته فهو مُعَرَّضٌ لوعيد الله عز وجل.
قال بعض العلماء من السنة في عقائدهم: إنَّ الميزان له كفتان وله لسان.
وكون الميزان له لسان كما ذكره ابن قدامة في اللمعة وذكره غيره، هذا لا أحفظ فيه دليلاً واضحاً -أو ما اطَّلَعْتُ فيه على دليل واضح-؛ لكن أخذوه من أنَّ ظاهر الوزن في الرُّجْحَان يتبين باللسان، فأَعْمَلُوا ظاهر اللفظ وجعلوا ذلك مثبتاً لوجود اللسان، فينبغي أن تكون محل بحث.
الذي يوزن في الميزان ثلاثة أشياء:
1 -
يوزن الإنسان نفسه كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما ضَحِكُوا من دقة ساقي عبد الله بن مسعود قال «أتضحكون من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من أحد» (1) .
2 -
ويوزن أيضاً العمل، فالعمل الصالح يُوضَع في كفة، والعمل السيئ يوضع في كفة.
3 -
ويوزن أيضاً صحائف العمل، الصحائف التي تُكْتَبُ فيها الأعمال توزن.
وهذا من عِظَمِ عدل الله عز وجل وعِظَمِ إرادته أن يقطع عن العبد العذر، وأن يكون حجة العبد عليه من نفسه وعمله وصحائف عمله.
(1) المسند (3991) / ابن حبان (7069)
[المسألة التاسعة] :
وهذه المسألة في ترتيب هذه الأشياء يوم القيامة، وهي مسألة مهمة.
فإنَّ ما يحصل يوم القيامة وما يكون فيه الذي جاء في الكتاب والسنة أشياء كثيرة، مثل ما ذَكَرْ قيام الناس، الحوض، الميزان، الصحف، الحساب، العرض، القراءة، تطاير الصحف، الكتاب، الصراط، الظلمة، وهذه أشياء متنوعة، فكيف ترتيبها؟
الظاهر والذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم أنَّ ترتيبها كالتالي:
1 -
إذا بُعث الناس وقاموا من قبورهم ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون في أرض المحشر قياماً طويلا، تشتد معه حالهم وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفاً شديداً؛ لأجل طول المقام ويقينهم بالحساب وما سيُجري الله عز وجل عليهم.
2 -
فإذا طال المُقام رَفَعَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أولاً حوضه المورود، فيكون حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة إذا اشتد قيامهم لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فمن مات على سنّته غير مًغَيِّرٍ ولا مُحْدِثٍ ولا مُبَدِّلْ وَرَدَ عليه الحوض وسُقِيَ منه فيكونُ أول الأمان له أن يكون مَسْقِيَاً من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته.
3 -
ثم يقوم الناس مُقاماً طويلاً ثم تكون الشفاعة العظمى -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُعَجِّلَ الله عز وجل حساب الخلائق في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال وأن يقي الناس الشدة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك، يقول «أنا لها، أنا لها» ، فيأتي عند العرش فيخر فيحمد الله عز وجل بمحامد يفتحها الله عز وجل عليه، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تُعْطَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب. (1)
4 -
بعد ذلك يكون العرض -عرض الأعمال-.
5 -
ثم بعد العرض يكون حساب.
6 -
وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول من ضمن العرض؛ لأنه فيه جدال ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين وأهل الشمال كتابهم بشمالهم فيكون قراءة الكتاب.
7 -
ثم بعد قراءة الكتاب يكون هناك حساب أيضاً لقطع المعذرة وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب.
8 -
ثم بعدها يكون الوزن، الميزان، فتوزن الأشياء التي ذكرنا.
9 -
ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج؛ أزواج بمعنى كل شكل إلى شكله، وتُقَامْ الألوية -ألوية الأنبياء- لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم، ولواء موسى إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله.
والظالمون والكفرة أيضاً يُحْشَرُونَ أزواجاً يعني متشابهين كما قال {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22-23] ؛ يعني بأزواجهم يعني أشكالهم ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة وهكذا في أصناف.
10 -
ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله عز وجل الظُّلمة قبل جهنم والعياذ بالله، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:13-14] الآيات، فيُعْطِيْ الله عز وجل المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأما المنافقون فلا يُعْطَون النور فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم والعياذ بالله.
11 -
ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً ويكون على الصراط، ويسأل الله عز وجل له ولأمته فيقول:«اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم» . فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله ومعه نور أيضاً بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله عز وجل له، ويبقى في النار يسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله عز وجل أن يُعَذبه.
ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنة يعني في السّاحات التي أعدها الله عز وجل؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض ويُنْفَى الغل حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل.
12 -
فيدخل الجنة أول الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين، فقراء الأنصار إلى آخره ثم فقراء الأمة، ويُؤَخَرْ الأغنياء لأجل الحساب الذي بينهم وبين الخلق ولأجل محاسبتهم على ذلك.
إلى آخر ما يحصل في ذلك مما جاء في القرآن العظيم.
(1) حديث الشفاعة في البخاري (4476) / مسلم (495)
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة، وأن يعيذنا من سَخَطِهِ والنار.
اللهم لَقِّنَّا حُجَّتَنَا في القبور واجعلنا ممن يأخذه كتابه باليمين وتُحَاسِبُهُ حساباً يسيراً يا أكرم الأكرمين.
أسأل الله جل جلاله لي ولكم ولأحبابنا جميعاً ولمن له حق علينا المغفرة والرضوان، وأن لا يؤاخذنا بسيئات أعمالنا وأن يغفر لنا ذنوبنا فإنه سبحانه أهل للجود والكرم والمغفرة والرحمة.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد.
وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم نسألك العلم النافع والعمل الصالح، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، ومُنَّ علينا بحسن الختام، وقنا الشر وأسبابه، إنك على كل شيء قدير.
قال رحمه الله (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ)
يريد بذلك أن يُقَرِّرَ ما دلَّ عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ أنَّ الجنة موجودة اليوم، وأنّ النار موجودة وأنَّ الجنة مخلوقة قبل خلق آدم والنار موجودة خَلَقَهَا الله عز وجل كما خَلَقَ الجنة وخَلَقَ لها أهلاً كما قال (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا) .
وهذا الأصل قُرِّرَ في العقائد لأجل ما ذكرت لكم من الأسباب فيما قبله مِنْ أَنَّ هذه المسألة غيبية والدليل جاء بإثباتها، وطائفة من الفِرَقْ الضالة خالفت في هذا الأصل.
وأهل السنة يذكرون في عقائدهم -كما سبق أن بَيَّنْتُ لكم- الأمور الغيبية وما يجب أن يُعْتَقَدَ فيها، ويذكرون ما دَلَّتْ عليه النصوص مما يجب التسليم له، ويذكرون أيضاً في عقائدهم ما يتميزون به عن الفِرَقْ الضالة أو عن بعض تلك الفِرَقْ.
وهذه المسألة وهي مسألة خلق الجنة والنار، وأنَّ الجنة باقية أبداً والنار باقية أبداً، لا تفنى الجنة والنار ولا تبيدان، كانت من المسائل التي جرى فيها الكلام بعد ظهور الجهمية.
وأصل هذه المسألة -كما سيأتي- مرتَبِطٌ بأصلين كلاميين زعمهما الجهمية ومن وافقهم في القدر، وفي تسلسل الأفعال والمخلوقات والمُؤثِرَات.
فالله جل جلاله لم يُجْرِ عالم الغيب على قياس عالم الشهادة، وهذا أصلٌ مهم في بيان ضلال من ضَلَّ في المسائل الغيبية، حيث جَعَلُوا عَالَم الغيب مَقِيساً على عالم الشهادة، فما يصلح لعالم الشهادة يصلح لِعَالَم الغيب، والقوانين والسُنَنْ التي تحكم عالم الشهادة يجعلونها صالحةً لعالَم الغيب، والله عز وجل خلق كل شيء فَقَدَّرَُه تقديراً، كلٌّ له تقديره الخاص.
ووجود الجنة والنار عقيدةٌ ماضية دلَّ عليها القرآن والسنة، والأدلة في ذلك كثيرة جداً:
نذكر منها قول الله عز وجل {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، والجنة هذه هي جنة الخلد، التي فيها الخلود الذي لا يزول عنه المرء ولا يَحُولْ.
ووَصَفَ الله عز وجل حين عُرِجَ بنبيّه أن عنده جنة المأوى فقال عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:13-16] ، فأثبت عز وجل أنه حين عُرِجَ برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الجنة هناك.
والنبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ في ذلك المقام الشجرة الملعونة قال عز وجل {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]، لهذا لما وَصَفَ لهم حال النار وحال تلك الشجرة قالوا ما قالوا في أَنَّ الزَّقُوم والتَّزَقُّمْ إنما هو خلط التمر بالزبد ونحو ذلك فقال عز وجل {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي السنة أيضاً في بيان هذا الأصل، وأنَّ نَسَمَةْ المؤمن في الجنة كقوله «نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة (1) »
وكقوله في أرواح الشهداء «أرواح الشهداء في جوف طير خضر تهوي إلى قناديل معلقة تحت العرش في الجنة» (2) .
وكذلك قوله عز وجل في الشهداء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169-170] .
ونحو ذلك مما فيه تقرير على أنَّ الجنة موجودة والنار موجودة، وأنَّ هذه سيدخلها من يدخلها وهذه سيدخلها من شاء الله أن يدخلها.
فإذاً أهل السنة قَرَّرُوا هذا في العقائد تَبَعَاً للدليل، وهذا أمرٌ واضح بَيِّنْ فيما دلَّ عليه القرآن والسنة.
ونذكر المسائل المتعلقة بهذا:
_________
(1)
النسائي (2073) / ابن ماجه (4271)
(2)
مسلم (4993) / أبو داود (2520)
[المسألة الأولى] :
قوله (الْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ) يعني به أنَّ خَلْقَهُما قد تَمَّ، ليس موقوفاً على قيام الساعة، وليس حال الجنة والنار كحال السموات والأرض {تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] ، فذاك شان والجنة والنار شأنهما آخر، فهما مخلوقتان يعني الآن حين قال وحين بعث الله نبيه وقبل ذلك، فهما مخلوقتان لا يُعْلَمُ متى خَلَقَهُمَا الله جل جلاله، وإنما خَلَقَهُمَا الله عز وجل قبل خَلْقِ الخَلْقْ -يعني قبل خلق آدم قبل خَلْقِ المُكَلَّفِين- وهذا يدلّ عليه قوله {يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35، الأعراف:19] والألف واللام في {الْجَنَّةَ} للعهد يعني الجنة المعهودة التي هي دار النعيم.
[المسألة الثانية] :
قوله (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلَا تَبِيدَانِ) يعني أنَّ الجنة خُلِقَتْ للبقاء والنار خُلِقَتْ للبقاء، وهذا هو الذي دَلَّ عليه القرآن والسنة؛ لأنَّ أهل الجنة خالدين فيها أبداً، وأنَّ أهل النار خالدين فيها أبداً، قال عز وجل في ذكر النار {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب:63-65] ، وفي الجنة آيات كثيرة جداً فيها ذكر الأبدية، وأنَّ من دخلها فهو خالد فيها أبداً.
وهذه الأبدية في الجنة والنار معاً مما أَجْمَعَ عليه أهل السنة والجماعة؛ بأنَّ الجنة والنار مخلوقتان للبقاء أبداً.
والمقصود بالنار هنا في الإجماع جنس النار، فإنَّ الإجماع مُنْعَقِدْ على أنَّ جنس النار باقٍ أبداً.
والفِرَقْ المخالفة لهم عدة أقوال في هذه المسألة تبلغ ستة أقوال أو أكثر، وأهمها:
1-
القول الأول من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة والنار تفنيان في وقتٍ ويبقى نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار بالاستصحاب، لا بِتَجَدُدْ النعيم؛ يعني يحصل لهم نعيمٌ تَتَنَعَّمْ به أبدانهم ثم يَقِفْ، وتفنى الجنة.
وهذا منهم لأَصْلٍ أَصِّلُوه وهو أنَّ العقل اقتضى أنَّ الحركة التي تبدأ فإنها ستنتهي، وكُلُّ مُتَحَرِّكٍ بَدَأَ بحركة فلابد أن ينتَهِيَ بلا حركة، لهذا قالوا: أهل النار أيضاً لا يستمرون في العذاب بل تفنى النار ويبقى أهل النار ليسوا في نعيم وبذلك يَصِحُّ أنْ يُقَال عنهم إنهم في عذاب دائم.
وهذا منسوب إلى الفِرَقْ الضالة الكافرة كالجهمية وطائفة أيضاً من غيرهم.
2-
القول الثاني من الأقوال الضالة:
إنَّ الجنة تبقى والنار تبقى لكن النعيم ينقطع والعذاب ينقطع، ويكون الجنة يفعل الله عز وجل بها ما يشاء والنار يفعل الله بها ما يشاء، وهذا لأجل الأصل السابق ولأجل النظر في القَدَرْ؛ حيث إنَّ استدامة النعيم عندهم على عملٍ صالحٍ قليل لا يُوَافِقُ العدل، واستدامة العذاب على عمل سيئٍ قليل الزمن لا يوافق العدل، ولهذا نفوا هذا الأصل.
وثَمَّ أقوال أُخَرْ ليس مناسبا أن تُذْكَر في مثل هذا المكان.
أمَّا قول أهل السنة المعروف هو ما ذكرته لك من أنَّ الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان أبد الآبدين، يُنَعَّمُ أهل الجنة في الجنة أبد الآبدين، ويُعَذَّب الكفار في النار أبد الآبدين.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «يؤتى يوم القيامة بالموت على هيئة كبش فيُذْبَحْ بين الجنة والنار ثم ينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» (1) ، والتنصيص على الأبدية في نعيم أهل الجنة وخلودهم فيها يدل على أنَّ المكان الذي يخلدون فيه يبقى، حيث قال عز وجل في الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (2) ، وقال في النار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (3) فَهُمْ خالدون في المكان فيقتضي أنَّ المكان أيضاً يبقى أبد الآبدين.
* ومن أهل السنة من قال: إنَّ النار منها ما يَفْنَى وينتهي بإنهاء ربِّ العالمين له وهو طبقة أو دَرَكُ الموحّدين من النار، وهي الطَّبَقَةُ العليا من النار؛ لأنَّ الموحدين موعودون بأن يخرُجُوا من النار، فلا يَخْلُدْ في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، لابد لهم من يوم يخرجون منها؛ لأنَّ معهم التوحيد ولو طالت مدتهم، ثم تبقى تلك الطبقة لا أحد فيها فيُفنيِهَا الله عز وجل.
وهذا منسوبٌ إلى بعض السلف، وجاء في الأثر عن عمر وفي إسناده مقال وضعف: أنَّ أهل النار لو لبثوا فيها كقدر رمل عَالجْ -موضع فيه رمل كثير-، لكان لهم يوم يخرجون منها، وليأتين عليها يوم تَصْطَفِقُ أبوابها ليس فيها أحد (4) .
ومما يُنسَبُ أيضاً إلى بعض أهل السنة من أئمة أهل السنة أنَّ فناء النار ممكن وأنَّ فناءها لا يمتنع، وهو القول المشهور عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وعن غيره كابن القيم وجماعة من المتقدمين أيضاً ومن الحاضرين.
(1) سبق ذكره (60)
(2)
النساء57، 122، المائدة، 119، التوبة:22، 100، التغابن:9، الطلاق:11، البينة:8.
(3)
النساء:169، الأحزاب:65، الجن:23.
(4)
انظر رفع الأستار (9)
وهذا القول مَنْشَؤُهُ -مع عِلْمِ هؤلاء بالدليل وبالنصوص- على وجه الاختصاص النظر في صفات الله عز وجل، وذلك أنَّ من المتقرر في النصوص أنَّ صفة الرحمة ذاتية ملازمة للرب عز وجل، والجنة من آثار رحمة الله عز وجل «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» (1) والنار أَثَرُ غضب الله عز وجل والغضب صفة فعلية اختيارية لا تنقَلِبُ إلى أن تكون صفة ذاتية كالرحمة، ولو بقي أثَرُ الغضب لبقي الأصل وهو الغضب، لو بقيت النار وهو أثر الغضب لبقي الغضب أبد الآبدين، وهذا يعني أنَّهُ أصبح صفة ملازمة، وهذا هو مأخذ هؤلاء الأئمة في هذه المسألة.
وهذا فيه بحث ونظر معروف في تقرير هذه المسألة؛ لكن من بَحَثَهَا وكثيرٌ من الناس كتبوا فيها لم يلحَظُوا علاقة المسألة في قول هؤلاء بصفات الله عز وجل، وهي أصلُ منشأ هذه المسألة.
قد قال ابن القيم (سألت ابن تيمية عنها فقال: هذه مسألةٌ عظيمة)(2) ، وذَكَرَ في موضع بعد أن ذَكَرَ أدلة الجمهور أهل السنة وأدلة هؤلاء، فقال في آخره: فإن قلت إلى أي شيءٍ انتهت أقدامكم في هذه المسالة العظيمة؟ قلنا انتهت أقدامنا إلى قول الله عز وجل {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] .
ومما لا ينبغي أن يُخَاضَ في هذه المسألة؛ لكن لمَّا أوردها الشارح وهي مسألةٌ مشهورة عند طلبة العلم أَوْرَدْتْ عليها هذا التقرير الموجز وهي معروفة بتفاصيل من التعليل لقول ابن تيمية وابن القيم.
* ولم يُصِبْ من زَعَمْ أنه لا يَصِحْ نسبة هذا القول إلى الشيخين ابن تيمية وابن القيم.
(1) البخاري (4850) / مسلم (7351)
(2)
شفاء العليل (1/264)
[المسألة الثالثة] :
قال في ذِكْرِ خلق الجنة والنار (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) وهذا مأخَذُهُ قول الله عز وجل {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:19] ، وهذه الجنة معناه أنَّها موجودة بعد أن نُفِخَ الروح في آدم، وهذا يعني أنَّها تَقَدَّمَتْ قبل خلق آدم.
وهذه الجنة التي سكنها آدم للعلماء فيها أقوال أشهرها:
- الأول: أنها جَنَّةٌ مخلوقة في الأرض وليست بجنة الخلد.
- الثاني: أنَّها الجنة المعروفة دار الكرامة عند رب العالمين.
ويُرَجِّحْ جماعة منهم ابن القيم وكثير من المفسرين من المعتزلة ومن أهل السنة أنَّ الجنة هذه ليست هي جنة الخلد، ولهم في ذلك أدلة طَوَّلَ عليها ابن القيم في أول مفتاح دار السعادة بأكثر من أربعين صحيفة في ذكر هذه المسألة.
* والصحيح أنَّ الجنة هي الجنة المعهودة لأسباب كثيرة وأدلة من القرآن ومن السنة:
من أعظمها قوله عز وجل في وصف الجنة {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (1)[طه:118-120] إلى آخر الآيات وهذه الصفات (إن لك فيها..) إلى آخره هذه ليست مناسبة للأرض، فالأرض وإنْ كان فيها مكان مرتفع جَنَّةْ إلى آخره مُخْتَلِفْ عن بقية الأرض فلا يوصف مَنْ فيه بهذه الصفات أنَّهُ لا يظمأ ولا يضحى، يعني ما يأتيه شمس فيها ولا يجوع ولا يعرى ونحو ذلك من الصفات، فهذه صفات تدل على أنَّ المكان مُغَايِرْ للأرض.
ومن الأدلة أنَّ الله عز وجل قال في ذكرها لَّما عصى آدم {اهْبِطَا مِنْهَا} [طه:123] ، وهذا الاهباط والخروج يقتضي أن يكون من جهةٍ عالية، والمكان الذي هو من جنسه فإنَّه وإنْ هَبَطَ منه فإنَّه ليس خارِجاً إلى غيره؛ بل هو منه إلى جنسه ولا تحصل العقوبة بالإهباط وإنَّما العقوبة بالإخراج، والله عز وجل جعل في القرآن هذا وهذا، الإخراج والإهباط، إلى أدلةٍ أخرى معروفة.
المقصود أنَّ قوله (خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ) الجنة واحدة هي المعروفة وكل الأدلة التي فيها ذِكْرْ الجنة الغيبية فهي دار الكرامة التي أعدَّهَا الله لعباده.
(1) - انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن والثلاثين.
قال رحمه الله (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا)
يعني به قبل خلق السموات والأرض، فإنَّ الله عز وجل كتب أنَّهُ سيخلق هؤلاء وهؤلاء وأنَّ الجنة لها أهلها وأنَّ النار لها أهلها، ولما خَلَقَ آدم أيضاً نَشَرَ ذريته من ظهره ثم قَبَضَ قبضة فقال هؤلاء إلى الجنة، وقبض أخرى وقال هؤلاء إلى النار.
فالله عز وجل خَلَقَ الجنة وجعل لها أهلاً سيدخلونها فضلاً منه وتكرماً، وخلق النار وجعل لها من يملؤها عدلاً منه وحكمة.
قال بعدها (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ)
وهنا مسألتان:
[المسألة الأولى] :
الفضل هو الإكرام، والله عز وجل عَلَّقَ دخول الجنة بالعمل الصالح {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ، وعَلَّقَ دخول النار بالعمل السيئ وبالكسب السيئ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28] ، ونحو ذلك من الآيات، وهذه الباء في المقامين هي باء السبب فإنَّ الله عز وجل جعل الأعمال الصالحة وأعظمها التوحيد سبباً في دخول الجنة، وجعل الأعمال السيئة وأعظمها الشرك بالله سبباً لدخول النار.
ولكن هذا السبب ليس كافياً في تحقيق المراد؛ بل لا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله عز وجل، لهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «لن يُدْخِلَ أحدكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (1) ، فدلّ على أنَّ أصل دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك لأنَّ:
- الفضل هنا هو الامتنان، الفضل هنا هو الإعطاء والإكرام، والأعمال وإنْ كان للعبد فيها أجور فلو قوبِلَتْ بالنعم لصارت القسمة أو لصار الشأن واضحاً في أنَّ العبد قوبلت أعماله بالنِّعَمْ التي كرّمه الله عز وجل بها.
- وأيضاً لو نظرت إلى أنَّ العمل الصالح أصلاً ما كان من العبد إلا بإعانة وتوفيق من الله عز وجل، فأصلاً نشوء العمل الصالح هو بفضل من الله وهدى من الله وإعانة وتوفيق فما يكون نتيجة فلابد أنَّهُ فضل أيضاً من العدل معناه أن يُعَامَل المرء بما يستحقه دون تَفُضُّلٍ عليه، يعني أن يُنظَرَ ويُنَاقَشْ الحساب ويُعْطَى ما يستحق.
وأهل النار دَخَلُوا النار بما يستحقون عدلاً مِنَ الله عز وجل؛ لأنَّهُ سبحانه لِمَا عَلِمَ بما في صدورهم لم يُعِنْهُمْ إعانةً خاصة ولم يوفقهم للعمل الصالح؛ بل خذلهم يعني لم يوفقهم، ترك إعانتهم على أنفسهم، فوُكِلُوا إلى أنفسهم، وهذا عَدْلٌ أن تَعْمَلَ بما لديك، وبما عندك من الاستعدادات والآلات إلى آخره.
ولهذا قال الله عز وجل في بيان مِنَّتِهِ لأهل الإيمان {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] ، فدلّ على أنَّ الله عز وجل مَنَّ على هؤلاء بشيء، ولم يتفضّل على أولئك بل عاملهم بالعدل.
وذلك بسبب أنَّ هؤلاء في قلوبهم الخير وهم يريدونه وأقبلوا عليه، وأولئك لا يريدون الخير ولا يحبون سماعه ولم يريدوا الإهتداء أصلاً، فعاملهم الله عز وجل بعدله، قال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:6-7] الآية.
فقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني أنَّ الكفر وُجِدَ منهم، الكفر أصلاً في قلوبهم، ولهذا قال في آية النساء {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء:137] ، {لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:168-169] الآية، فَدَلَّ هذا على أنَّ المعاملة بالعدل أن يُوكَلَ إلى نفسه، وهو أصلاً لم يُعَنْ ويُتَفَضَّلْ عليه لأنَّهُ لم يسع إلى الخير، لم يُوَفَّقْ لأنه لم يسعَ، وفي قلبه حب للشر ونوع بغض للخير، فلذلك لم يُعِنْهُ الله عز وجل على نفسه.
(1) سبق ذكره (378)
قال بعدها (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ)
يعني أنَّ مَنْ خَلَقَهُمْ الله عز وجل كلٌ يعمل لما كُتِبَ في الكتاب أنَّهُ سيؤولُ إليه فإنَّ الله عز وجل عالم بما العباد يفعلون، إذا خلقهم فهذا سيفعل الخير على تفاصيله فكتب عليه ذلك وهذا سيعمل الشر على تفاصيله فكتب عليه ذلك، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم «اعملوا فكل ميسر لما قد خلق له» يعني أنَّ الله عز وجل خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهذا سيعمل حتى يصل إلى ما خلقه الله عز وجل له، وخلق النار إلى آخره، وهذا سيأتي مزيد بيان له في القدر في المسائل القريبة إن شاء الله تعالى.
قال (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ)
يعني أنَّ ما يفعله العبد من الخير أو يفعله من السوء فهو لم يحصل ابتداءً منه دون قَدَرٍ سابق، بل الله عز وجل قَدَّرَ عليه ذلك.
ومعنى قَدَّرَ عليه ذلك أي أنَّهُ سبحانه عَلِمَ ذلك منه وكَتَبَهُ عليه، وأنَّهُ أعانه بالأدوات والقُدْرَةْ والإرادة، بحيث فَعَلَ الخير وفعل الشّر، ما شاء الله كان، وَقَعَ الخير ووَقَعَ الشر بمشيئته، وهو سبحانه خالق كل شيء.
وذَكَرَهُ هنا لأنَّ:
@ (الْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ) لأجل قوله صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل «وأن تؤمن بالقدر خيره وشره» .
@ ولأنَّ الفِرَقْ المخالفة في مسألة القدر والخير والشر وأفعال العباد ونحو ذلك طرفان:
- الطرف الأول: الجبرية.
- والطرف الثاني: القدرية.
& والجبرية يقولون: العبد مُجْبَرْ على كل شيء فهو كالريشة في مهب الريح وكحركة الأمعاء في داخل البطن ليس له فيها اختيار؛ بل هو يجري كما يشاء الله عز وجل، دون أن يكون العبد مُخْتَارَاً للخير أو مُخْتَارَاً للشر.
& والقدرية يقولون: الخير والشر ليسا مُقَدَّرَيْنْ؛ بل العبد يعملهما وهما عمل العبد وخَلْقُ العبد لفعله، والله عز وجل يحاسب الناس على ما فعلوا، ليس الخير خَلْقَاً له في فعل العبد، وليس الشر خَلْقَاً له في فعل العبد، ولم يُقَدِّرْهُمَا على العباد فِعْلاً وتركاً، وذلك لأنّه عندهم ينافي العدل الواجب فيما قاسوا به أفعال العباد على أفعال الله عز وجل.
نذكر هنا عدة مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ الخير والشر المُقَدَّرَيْنْ على العباد؛ يُعنَى بهما ما يصيب العبد من خيرٍ له ومن شرٍ عليه، أمَّا في فعل الله عز وجل فليس في أفعاله سبحانه إلا الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاته «والشر ليس إليك» (1) يعني أنَّ أفعال الله عز وجل لا توصف بالشر؛ بل كلها عدل أو فَضْلٌ وخير لما فيها من الغايات المحمودة؛ لكن ما يُضَافُ للعبد يكون شرّاً بالنسبة له؛ لكن بالنسبة للقدر هو خير.
مثلاً أصيب فلان بفقد والده، أصيب بفقد ماله فهذا بالنسبة له سوء وشر؛ لكن بالنسبة إلى الَقَدْر وفعل الله عز وجل هو خير؛ لأنَّهُ لا يُنْظَرُ إلى المسألة بمجردها؛ بل إلى الغاية المحمودة من ورائها، والغاية المحمودة من ورائها أن يَبْتَلِيَ العباد بذلك، يبتلي الحي يبتلي الميت {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] .
فإذاً أفعال الله عز وجل كلها خير، وأما ما يضاف إلى العبد فينقسم إلى الخير والشر.
فقوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني الخير والشر الذي يحصل للعبد مُقَدَّرٌ.
(1) سبق ذكره (430)
[المسألة الثانية] :
القَدَرْ هنا في قوله (مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) يعني أنَّهما لم يقعا استئنافاً؛ بل الله عز وجل يعلم ما سيحصل على العبد وكتب ذلك.
وذَكَرْتُ لك أنَّ الفِرَقْ المخالفة في هذه المسألة -في القَدَرْ - أنها طرفان:
1 -
الجبرية:
والجبرية تنقسم إلى فرقتين:
@ الفرقة الأولى الجبرية الغلاة:
وهم الجهمية الذين يقولون: الله عز وجل يُجْبِرْ العبد على كل شيء، على الخير وعلى الشر، وإنما هو كالريشة في مهب الريح إلى آخره.
ويستدلون على ذلك بقوله عز وجل {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ، يقولون إنَّ الذي رَمَى في الحقيقة هو الله عز وجل ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما رَمَى.
وهذا قول الغلاة منهم -غلاة الجبرية-، ويُرَدُّ عليهم في هذا الاستدلال على وجه الاختصار بجوابين:
& الجواب الأول: أنَّ الله عز وجل قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} يعني حين رميت فإنَّ الله عز وجل هو الذي رَمَى، وظاهر الآية كما هو واضح أنَّهُ أثْبَتَ للنبي صلى الله عليه وسلم رمياً فقال {إِذْ رَمَيْتَ} ، ونفى عنه رمياً بقوله {وَمَا رَمَيْتَ} ، والنظر الصحيح يدلُّ على أنَّهُ لا بد من الجمع ما بين الرمي المَنْفِي والرمي المُثْبَتْ، وهذا يتضح بأنَّ العبد إذا فَعَلَ الفعل فإنَّ الفعل الذي يفعله سَبَبٌ في حدوث المُسَبَّبْ، ولا يحصل المُسَبَّبْ ولا تحصل النتيجة بفعل العبد وحده في أكثر أو في جُلِّ المسائل؛ بل لابد من إعانة من الله عز وجل.
وهذا ظاهِرٌ في الرمي بخصوصه؛ لأنَّ الرمي عن بعد له ابتداءْ وله انتهاءْ، فابتداء الرمي من النبي صلى الله عليه وسلم لكن الانتهاء بأن يصيب رمي النبل أو رمي الحصاة أن يصيب فلاناً المشرك ويموت منه هذا من الله عز وجل؛ لأنَّ العبد ما يملك أن تكون رميته ماضية فتصيب.
ولهذا فيكون العبد هنا مُتَخَلِّصَاً مِن رؤيته لنفسه ومِن حَوْلِه وقُوَّتِهْ مع فعله، فأراد عز وجل أن يُعَلِّمَ نبيّه والمؤمنين أن يتخلصوا من إعجابهم ورؤيتهم لأفعالهم وأنفسهم، فقال: افعلوا ولكن الذي يَمُنُّ عليكم ويُسَدِّدْ رميكم هو الله جل جلاله.
فيكون إذاً معنى [.....] أصاب بما أعان على التسديد.
& الجواب الثاني: أنَّهُ لو قيل على قول الجبرية: إنَّ الله هو الذي يفعل الأشياء لكان تقدير الآية كما قاله جماعة أن يقال في كل فعل فعله العبد (ما فعله ولكن الله فعله) كأن تقول: ما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما زكيت إذ زكيت ولكن الله زَكَّى، وما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وهكذا في الأعمال القبيحة المشينة التي يُنَزَهْ الله عز وجل عنها بالإجماع كقول القائل -أعوذ بالله - وما سرقت إذ سرقت ولكن الله سرق، وما زنيت إذ زنيت ولكن الله إلى آخره، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والقول إذا كان يلزم منه اللازم الباطل يدل على فساده وعدم اعتباره؛ لأنَّ القول الحقيق القول الصحيح القول الحق لا يلزم منه لوازم باطلة.
والقول الباطل هو الذي ينشأ عنه لوازم باطلة، ما الفرق بين هذه وهذه؟
@ الفرقة الثانية الجبرية المتوسطة:
والجبرية المتوسطة -أو يعني الذين هم ليسوا بالغلاة-، هم الذين يتوسطون، فيقولون: العبد مجبور باطناً لكنه في الظاهر مختار، يعني ظاهراً هو يَخْتَارُ فيمشي ويروح ويأتي للمسجد ويذهب إلى المكان الثاني باختياره؛ لكنَّهُ في الباطن مُجْبَرْ.
وهذا قول كثير من أهل الكلام والأشاعرة والماتريدية وجماعة ممن ينحون هذا المنحى بأنَّ الإنسان مجبور لكنه في الظاهر ليس بمجبور.
وإذا كان كذلك فإنهم يجعلون أفعال الإنسان له ولكنَّهَا عديمة الفائدة، لا معنى لها.
وهؤلاء هم الذين يقال عنهم نُفَاةْ الأسباب.
يعني إنَّ الإنسان إذا جامع زوجته فَحَمَلَتْ، يقولون: لم يحدث الحمل بالجماع.
إذاً كيف حدث الحمل؟
يقولون: أَحْدَثَ الله الحمل عند التقاء الرجل بالمرأة؛ لكن أنَّ ماء الرجل يلتقي بماء المرأة أو ببويضة المرأة ويحدث منهما حمل بما أجرى الله الأسباب عليه ينفون ذلك، ويطرُدُونَ هذا في كل شيء.
فيقولون: إنَّ فعل الإنسان فيما يفعله كحركة السّكين في قَطْعِهَا للورق أو قطعها للخبز أو قطعها لما تقطع، فيقولون بالتمثيل: إنَّ الله هو الذي كأنه يحمل السكين والسكين تتحرك هي التي تقطع؛ لكن في الواقع هي مجبورة على القطع وإن كانت ظاهرا تتحرك وقَطَعَتْ.
وهذا القول وهو قول هؤلاء مع زعمهم أنَّهُمْ عقلاء وأنَّهُمْ متكلمون وأنهم فلاسفة إلى آخره، هؤلاء قولهم هذا ينفيه العقل البسيط، فضلاً عن العقل الرصين، وأحْدَثُوا قولاً على هذا يسمى الكسب سيأتي بيانه في موضعه.
فالماء عندهم لم يُنْبِتْ الأرض، الله عز وجل يقول {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]
{فَأَنْبَتْنَا} بإيش؟
بالماء.
{أَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يعني أن النبات خرج بإيش؟
بالماء، الماء سبب والتراب سبب.
لكن هل هذا يعني أنَّ الله لم يفعل لم يخلق لم يُنَمِيْ؟
لا.
الجماع سبب، لكن هل معناه أنَّ الله لم يفعل؟
لا.
فإذاً إثبات الأسباب هو سبيل العقلاء في أنَّ السبب ينتج عنه المُسَبَّبْ، وأنَّ الشيء تَنْتُجُ عنه نتيجته، الفعل ينتج عنه نتيجته، الأثر يقتضي أن يُوجَدَ مؤثر، وهكذا.
فإذا صار هنا هواء بارد لابد أنَّ فيه مصدر لهذا الهواء البارد الذي يأتينا.
يقول هؤلاء الأشاعرة ونحوهم -نفاة الأسباب- يقولون: لا، الهواء أرسله الله عز وجل عند تشغيل الجهاز.
وهذا مما يقتضي العقل أن ينفيه لأنَّهُ غير مطابق للعقل أصلاً.
وهؤلاء تجد ذكرهم في كثير من كتب أهل العلم بعنوان نفاة الأسباب.
إذا قيل لك نفاة الأسباب يعني الجبرية المتوسطة من الأشاعرة ونحوهم.
عمل العبد بين فعل الله عز وجل -لأنهم يقولون بخلق الله للأفعال- وبين فعل العبد الحاصل يُسَمُّونَهُ كَسْبَاً ويأتي عند قوله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) .
2 -
القدرية:
والقدرية أيضاً فرقتان:
@ الفرقة الأولى القدرية الغلاة:
وهم الذين ينكرون علم الله السابق، ويقولون الأمر مُسْتَأْنَفْ جديد.
هل الخير والشر مُقَدَّرْ؟
لا، إنما هو مستأنف جديد، لا يعلم الله الخير حتى يقع، ولا يعلم الشر حتى يقع، تعالى الله عن قولهم عُلُواً كبيراً {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40] سبحانه وتعالى.
فهؤلاء هم الذين صاح بهم السلف وكفَّرُوهم فقال فيهم الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم فإن أقرُّوا به خُصِمُوا وإن أنكروا العلم -يعني عِلْمَ الله عز وجل- كفروا.
هؤلاء فرقة كانت موجودة وانتهت.
@ الفرقة الثانية المعتزلة وأشباه المعتزلة:
وهم الذين يُسَمَّونْ القدرية، وهم الذين يقولون: إنَّ الإنسان يخلق فعل نفسه، وأنَّ الله عز وجل لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً كل ما هو سيئ، لا يُضَافُ إليه خَلْقَاً الشر ولا القتل ولا إلى آخره.
ويقولون أيضاً: إنَّ فعل العبد واستطاعة العبد وقدرة العبد، هذه ليس لله عز وجل فيها مأخذ؛ بل قدرة المطيع وقدرة العاصي وقدرة المؤمن وقدرة الكافر، إرادة المؤمن، إرادة الكافر للعمل واحدة.
وهذا الأصل الذي قالوه وذهبوا إليه لأجل شبهةٍ عندهم وضلالٍ عندهم، وهو أنهم قالوا: إنَّ العدل يوجب على الله عز وجل أن يساوي بين العباد، والظلم بالتفريق ما بين هذا وهذا، ما بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي هذا ظلم.
فَحَكَّمُوا عقولهم وآراءهم في فعل الله عز وجل وفي تَصَرُّفِهِ وصفاته عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقول {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107، البروج:16] ويقول عز وجل {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .
وقوله {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لجهتين:
- الجهة الأولى: أنَّ الله عز وجل له التصرف في ملكه كيف يشاء.
- الجهة الثانية: أنَّ الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما يفعل، وفيما يُجْرِيه في ملكوته ويشاؤه، والعباد قاصرون عن معرفة الحِكَمْ في أنفسهم، فكيف بالحِكَمْ في أفعال الله عز وجل وصفاته وتصرفه في ملكوته.
وهؤلاء المعتزلة هم الذين يكثر رد الأشاعرة عليهم في مسائل القدر وهم كالأشاعرة في المخالفة لما دَلَّتْ عليه الأدلة.
* الخلاصة: أنَّ هؤلاء وهؤلاء كُلٌ نَزَعَ بأدلة مختلفة، فهدى الله عز وجل أهل السنة ومَنَّ عليهم بأنهم لم يُفَرِّقُوا بين الكَلِمْ، ولم يُفَرِّقُوا بين الكتاب؛ بل اخذوا بكل الأدلة فقالوا:
- بخلق الله عز وجل لفعل العبد.
- وأنّ العبد يفعل حقيقة.
- وأنَّ الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
فأعملوا كل النصوص والأدلة، وقالوا إنَّ ربك فعال لما يريد سبحانه وتعالى، لا مُعَقِّبَ لحكمه ولا رادَّ لقضائه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، جرى الأمر على ما يريده الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه.
ثم أَعْمَلُوا العقل الصحيح في أنَّ الإنسان يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ مُخْتَار، يُحِسُّ من نفسه أنَّهُ يذهب إلى الخير ويذهب إلى الشر، يذهب إلى الخير فينشرح صدره له، ويذهب إلى الشر فيقتل ثُمَّ يندم وتُعَاقِبُهُ نفسه وتؤنبه نفسه على ذلك.
ففي الإنسان ما يُحِسُّ به أنَّهُ يختار ويختار؛ يختار الشر ويختار الخير، وهذه ضرورة في قَلْبِ كل أحد لا مَفَرَّ منها، فالإنسان مختار لهذا ومختار لهذا.
ثم ثالثاً يُقال: إنَّ أهل السنة نظروا إلى المسألة في قولهم في القدر في أنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ على العباد بأنَّ من احتج على القدر فإنه يناقض نفسه، لماذا؟
لأنَّهُ كل من قال في القدر قولاً؛ يقول مثلاً: إنَّ الله عز وجل كتب علي السيئات وجعلني أفعل الشر وكذا ثُمَّ يُعَذبني بالنار؛ لكنهم لا يتجاسرون أن يُحَكِّمُوا القضية المقابلة لذلك وهي أن يقول القائل: كذلك إذا جعلني أصلي جعلني أطيع الله عز وجل وجعلني أفعل من الخيرات، فلماذا يثيبني؟
والمسألة هذه بمقابل هذه.
فإذا قال القائل كتب علي السيئات فلماذا يعذب؟ فكذلك لابد أن يقول وكتب علي الخير فلماذا يُثِيْبْ؟
والإنسان بطبيعته يهرب مما هو عليه، فلا يُقِر على نفسه بما فيه مصلحته بأنَّ الخير الذي هو مصلحة له فيذهب ويسكت عنه؛ لأنَّهُ فيه مصلحة له.
لكن يأتي بما فيه مضرة عليه أو بما فيه تبرير لفعله ليهرب من الواقع.
والحقيقة أنَّ العقل الصحيح وإدراك الإنسان لنفسه وفطرته وضرورياته يَجِدْ أنَّهُ يفعل الخير اختياراً ويفعل الشر اختياراً، يفعل الخير فتنشرح نفسه له، ويفعل الشر فتنكره نفسه عليه؛ لأنه مفطورٌ على حب الخير وعلى كراهة الشر.
فإذاً اختياره دليل فطري في كل إنسان، مثل إحساس الإنسان، تحس بالشيء، الأعمى يحس ويقول هذا كذا ويستدل به ويكون مُتَيَقِّنَاً؛ لأن دليله صار ضرورياً، وكذلك يُحِسْ بالأمر الآخر فيكرهه لنفسه لأنَّ دليله صار ضرورياً.
نكتفي بهذا القدر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ.
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً، أما بعد:
مضى معنا طائفة من الكلام على الإيمان بقدر الله عز وجل خيره وشره، وأنَّ الخير والشر مُقَدَّرَانِ من الله عز وجل فما يصيب العبد من خير فهو من الله عز وجل تقديراَ وتدبيراَ، وما يصيب العبد من شر وسوء فإنَّهُ من الله عز وجل تقديراً وتدبيراً.
ومَرَّ معنا مراتب الإيمان بالقَدَرْ وما يتصل بهذا المبحث مما فيه تقريرٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة العظيمة، التي أَمَرَ الله عز وجل بالإيمان بها والتسليم لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فيها.
ومَرَّ معنا أيضاً أنَّ القدر سِرُّ الله عز وجل في خلقه، لم يعطِ حقيقته لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مُرْسَلْ، وإنما هو سبحانه وتعالى الذي يعلم كل شيء، وهو عز وجل الخالق لكل شيء، وهو سبحانه ذو الحكمة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ونحو ذلك من المباحث والموضوعات التي سبق الحديث عنها، وسبق تقريرها على ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومبحث القَدَرْ من المباحث العظيمة في الملة، ولأجل كونه سراً من أسرار الله عز وجل، وإدراك كُنْهِهِ وحكمة الله عز وجل في عباده غير متحققة من كل وجه، فلذلك صار الخائض في القدر بلا دليل عُرْضَةً لمزلة القدم؛ بل لم يخض في القدر أحد بغير حجة وبرهان إلا وزلَّتْ قدمه وتَنَكَّبَ سواء الصراط.
ولهذا ينبغي أن يُتكَلَمَ في القدر بما جاء في النص دون زيادة لأنَّهُ أمر غيبي، ولا يمكن للعبد أن يخوض في الأمور الغيبية إلا مع الدليل، ودون الدليل فهو كالذي يسير في الظلمات ليس بخارج منها.
والمخالفون في القَدَرْ كثيرون، ولهذا الطحاوي رحمه الله لم يُرَتِّبْ الكلام على مسائل القَدَرْ في موضعٍ واحد حتى يُمْكِنَ الناظر أن يبسط الكلام فيه بتقرير قول أهل السنة وقول المخالفين، وما يترتّب على ذلك؛ بل فَرَّقَهْ فأتى في آخر رسالته هذه بشيء من الكلام على القَدَرْ؛ لكن من جهة النظر إلى خلاف المخالفين.
ولهذا هذه الجمل التي معنا من قوله (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ) إلى قوله (وفي دُعَاءِ الأَحْياءِ وَصَدَقَاتِهم مَنْفَعَةٌ لِلأَمْوَات) هذه كلها لأجل خلاف المخالفين من الجبرية والقدرية.
وقبل أن نخوض في بيان كلامه وما فيه من المسائل نُلَخِّصْ شيئاً من أسباب الضلال في القَدَرْ، والذي به خَرَجَ القدرية سواء الغلاة أم المعتزلة أو الجبرية أو من ضَلَّ في مسألةٍ أو في مسائل في هذا الباب. (1)
1-
السبب الأول: هو ترك الاقتصار على ما جاء في الكتاب أو السنة من الواضحات المُحْكَمَات التي تُبَيِّنُ حقيقة القَدَرْ، والأخذ بما فيهما من المتشابهات وجعل ذلك أصلاً.
ومعلومٌ أنَّ الواجب على العبد أن يأخذ بالمُحْكَمْ وأن يَرُدَّ المتشابه إلى المحكم؛ فقد أمر الله عز وجل بذلك، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّةً على الصحابة وهم يتنازعون في القَدَرْ، كلٌّ يَنْزِعُ إلى قوله بآية، فكأنما فُقِئَ في وجهه حَبُّ الرُّمَان صلى الله عليه وسلم، يعني أحْمَرَّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهذا لأجل أنَّ الواجب على العباد أن يُسَلِّمُوا للمحكمات والأصول العامة وأن يَرُدُوا المتشابه إلى المُحْكَمْ على ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم.
وبالتالي فإنَّ كل تفسيرٍ لآيات القَدَرْ لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضوان الله عليهم فإنَّهُ باطلٌ وضلال؛ لأنه من الأخذ بالمتشابه وترك المحكم.
2-
السبب الثاني: أنَّ العباد لم يعرفوا حكمة الله عز وجل في الأشياء ولا حِكْمَتَهُ فيما يُقَدِّرُ ويخلُقُ من الخير ومن الشر أو من المخلوقات بعامَّةْ، ولما لم يُدْرِكُوا الحكمة عارضوا فِعْلَ الله عز وجل في ملكوته بما يرون من ظاهر رأيهم.
فعارض الجاهل العالم واقتنع بجهله فصار على شُعْبَةِ ضلالة.
ومعلومٌ أنَّ حكمة الله عز وجل في خلقه منها ما هو مُدَلَّلٌ عليه، ومنها ما ليس بمعروف، ولذلك إذا جُهلت الحكمة فإنَّ المرء يُسَلِّمْ ولا يعترض. (2)
: [[الشريط التاسع والثلاثون]] :
وقد ذَكَرَ جماعة من أهل العلم أنَّ سبب الضلال في القدر هو الجهل بحكمة الله فيما يخلق ويُقَدِّرْ، ثُمَّ الخوض في ذلك وقد لخَّصَها شيخ الإسلام بقوله فيما ذكرته لكم مراراً في تائيته حيث يقول:
وأصلُ ضلالِ الخلْقِ مِنْ كُلِّ فِرقَةِ ****** هو الخوضُ في فعْلِ الإلهِ بعلَّةِ
فإنَّهمُ لم يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ ****** فصاروا على نَوْعٍ مِنَ الجاهليَّةِ
وهذا حق لأنَّ حِكْمَةَ الله غير معلومة؛ بل جَعَلَ الله عز وجل مثالاً لمن جَهِلَ حكمته في أنَّهُ حُرِم العلم، كقصة موسى مع الخضر عليه السلام، وهذا ظاهر بَيِّن لمن يتأمل سورة الكهف، فإنَّ موسى عليه السلام عارَضَ الخَضِرْ لظاهر رأيه، والخَضِرْ يعمل على ما أمر الله عز وجل بما يوافق حكمته، وهي الغاية المحمودة من وراء الأفعال، فلما عَارَضْ، كان ممن لم يستطع صبرا فَحُرِمَ العلم، قال {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78] .
3-
السبب الثالث: هو قياس أفعال الله عز وجل على أفعال العباد فيما هو من قبيل العدل والظلم.
فنظروا إلى أفعال الرب عز وجل فجعلوا ما هو عَدْلٌ في تصرفات البشر واجِبَاً وعدلاً في تصرفات الرب جل جلاله، وجَعَلُوا ما هو ظلمٌ من تصرفات البشر محرّماً أو منفياً وظُلْمَاً في تصرف الرب جل جلاله.
وهذا هو ضلال القدرية المعروف حيث جعلوا العدل والظلم في تفسيرها في حق الله عز وجل كتفسيرها في حق المخلوق، فقاسوا هذا على هذا وضَلُّوا في هذا الباب؛ لأنَّ الخالق عز وجل لا يُقَاسُ على المخلوق في أفعاله وفي تدبيراته في ملكوته.
4-
السبب الرابع: إحداثُ ألفاظ ومصطلحات جُعِلَتْ أصلاً في هذا الباب، ثم حُمِل الكتاب والسنَّة عليها، مثل لفظ الاستطاعة بتفسيرهم، والطاقة، وما لا يطاق، والتكاليف وأشباه ذلك.
ومنها أيضاً عند الجبرية الكسب ونحوه.
ومن المعلوم أنَّ هذه الأمور الغيبية كالقَدَرْ الاصطلاح عليها بألفاظ وأسماء لمُسَمَيَّات لم يأتِ عليها برهان أنَّهُ يجعل المرء يُؤَصِلُ ويُقَعِّدْ بشيء لا أساس له.
ولهذا لَمَّا فهموا وظنوا من الشريعة أنَّهُ يُقال كذا، مثلاً الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، أو قالوا الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل -كما سيأتي-، أو قالوا الكسب هو الاقتران، أو قالوا كذا وكذا في تكليف ما لا يطاق -كما سيأتي الآن في هذه المواضع-، فسَّرُوها بتفسيراتٍ تَخُصُّهُم.
ولهذا ضَلُّوا في أصلٍ يجب الرجوع فيه إلى الدليل؛ لأنَّ إحداث لفظ وإحداث مصطلح لا شك أنَّهُ سيترتب عليه أشياء كثيرة.
وسيأتي الكلام على الكسب مثلاً وهو أنَّ الكسب مع وروده في الدّليل في قوله مثلا {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك مع ورود لفظ كَسَبَ، يَكْسِبُ، والكَسْبْ فإنَّ التفسيرات تَنَوَّعَتْ فيه وأحدثوا له فهماً جديداً غير المراد بالكتاب والسنة، فصار ثَمَّ كَسْبْ عند الجبرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند القدرية، وصار ثَمَّ كَسْبْ عند أهل السنة لأجل أنَّ هذا اللفظ في أصله وإن كان وارداً لكن جُعِلَ مُصْطَلَحَاً على فكرة جديدة توافق ما هم عليه.
فإذاً المصطلحات الجديدة في مسائل القَدَرْ هي سبب الافتراق فيه والضلال فيه، ولو أُلغِيَتْ هذه المصطلحات وبَقِيَ الناس على ما دلَّ عليه الدليل، فإنَّ كثير من الخلاف فيه سيذهب.
ولهذا عند النقاش والحوار مع المخالف في هذه المسائل سَيُبْحَثْ معه أصلاً في اللفظ وفي نشأته، ومن أين أتوا بهذه الألفاظ والتعريفات.
لهذا العلم بالقرآن والسنة حُجَّةْ على كل مخالفٍ أحدث المصطلحات؛ لأنَّ إحداث المصطلحات عقلي واتِّبَاعُ الكتاب والسنة نقلي، ولهذا يغلب النقل العقل الحادث والمصطلح عليه في هذه المسائل.
5-
السبب الخامس: من الأسباب التي أنشأت الخلاف والفُرْقَةْ في أبواب القَدَرْ، ما يَصْلُح أن يُقرًّرْ بأنْ نقول: إنَّ التساوي بين العباد في فعل الله عز وجل وادعاء أنَّهُم سواءْ في كل شيء -يعني فيما يفعل الله عز وجل بهم- هذا مع كونه مخالفة للدليل؛ لكنه نَشَأَ عنه تفريعات وأقوال جعلت الأقوال المخالفة في القَدَرْ كثيرة.
أعيد صياغة هذا السبب بأن نقول: من أسباب ومنشأ الضلال في القَدَرْ الحكم على أفعال الله عز وجل بأحكام من جهة النظر إلى الخلق، فجعلوا فعلاً لله عز وجل واجباً عليه بالنسبة للجميع، وجعلوا فعلاً لله عز وجل ممتنعاً عليه بالنسبة للجميع.
وسيأتي فيما سنذكر اليوم إن شاء الله أنَّ خلاف القدرية في مسألة الاستطاعة ناشئٌ عن أنهم قالوا: الواجب على الله عز وجل أن يجعل الناس سواسية فيما يُعطيهم، فكون هذا يُوَفَّقْ وهذا يُخْذَلْ هذا غير سائغ؛ لأنَّهُ تفريق، فإذا جعلنا الأصل هو أن يكون الناس سواسية، فإنَّ هذا قاعدة نبني عليها غيرها من مسائل القَدَرْ.
وهذا التقعيد أو هذه المقدمة نشأ عنها كثير من الخلاف، خاصَّةً عند المعتزلة، ولهذا نشأت أقوال كثيرة مُحْدَثة في القَدَرْ، وخلاف متنوع في المسائل العقلية، وما يجب على الرب عز وجل وما لا يجوز عليه.
وهذه تتضح أكثر ببحثنا في الاستطاعة إن شاء الله.
إذا تَبَيَّنَ هذا فالواجب في مسائل الغيب بعامَّة أن لا يُتجاوَزْ القرآن والحديث، وأن يُسَلَّمْ للدِّلَالَةْ، وإذا أشكل على المرء شيء فواجبٌ عليه أن يقول {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] كما يقول الراسخون في العلم، مع أنهم يعلمون التأويل في كثير؛ لكن قد لا يعلمون التأويل في بعضٍ؛ يعني طائفة من الراسخين قد لا يعلمون ويعلمه غيرهم، فيقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} .
أما ضرب النصوص بعضها ببعض، أو الأخذ بالمتشابه وترك المحكمات، أو قياس أفعال الله عز وجل على أفعال خلقه، ونحو ذلك من المسائل التي ذكرنا، أو الخوض في الحِكَمْ والمصطلحات، فإنَّ هذا يُنْشِئُ الافتراق والضلال في هذا الباب لأنَّهُ أمرٌ غيبي بحت.
لهذا ما أحسن قول من قال -قول علي رضي الله عنه وقول غيره (القدر سر الله فلا تكشفه) . يعني لا تحاول كشفه فإنَّ من حاول كشفه لا شك أنَّهُ سيضل؛ لأنَّهُ سِرٌّ من الأسرار اختص الله عز وجل به.
هذه مقدمة للمسائل التي سيأتي بيانها إن شاء الله.
_________
(1)
وقد ذكر الشيخ بعضاً منها، تجدها في (68) ، وكذا (224)
(2)
انتهى الشريط الثامن والثلاثون.
قال الطحاوي رحمه الله (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، فَهِيَ- يعني الاستطاعة- مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
يريد رحمه الله أن يُقَرِّرْ أنَّ مسألة الاستطاعة وهي القُدْرَةْ والطاقة اختلف فيها الناس ما بين الجبرية إلى القدرية، والقول الوسط فيها هو قول أهل السنة المتابعين لظاهر القرآن والحديث في أنَّ الاستطاعة منقسمة إلى قسمين:
- استطاعة قبل الفعل.
- واستطاعة مع الفعل.
يعني استطاعة يُتَكَلَمُ عنها: قدرة وطاقة يُوصَفُ العبد بها قبل أن يفعل الفعل، وتستمر معه إلى أن يفعل.
وقدرة أخرى -استطاعة أخرى- هذه تكون مع الفعل، ولا يجوز أن ينفَكَّ الفاعل عنها.
وهذا الذي ذكر هو الذي دلَّتْ عليه الآيات ودلَّتْ عليه السنة من أنَّ الإنسان المُكَلَّفْ يوصف بأنَّهُ مستطيع ويوصف بأنه غير مستطيع.
فقال عز وجل في الوصف بالاستطاعة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وقال عز وجل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، يعني ما تستطيع، الاستطاعة هي الوسع والطاقة والقدرة، وقال عز وجل أيضاً في هذا الباب {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] .
وفي الاستطاعة المنفية قال عز وجل في سورة هود {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقال عز وجل {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:100-101] ، وقال صلى الله عليه وسلم «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» (1) ونحو ذلك.
فإذاً الشريعة فيها استطاعةٌ مُثْبَتَة، وفيها استطاعة مَنْفِيَّةْ، وواجب إذاً أن يُنْظَرْ إلى هذه النصوص بالفهم وهي أنَّ المُثْبَتْ غير المنفي.
فإذاً لابد أن تكون الاستطاعة على قسمين، وهذا هو الذي أراده هنا وهو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة، وسيأتي لها مزيد تقرير -إن شاء الله- في المسائل.
وقوله هنا (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ) يعني يجب بها حُصُولُ الفعل وإيقاعُ الفعل ووجود الفعل؛ يعني العمل، فهناك استطاعة، قدرة إذا وُجِدَتْ وُجِدَ الفعل.
لهذا قال هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ) وذلك أنَّ الله عز وجل هو الخالق لأفعال العباد.
فقوله هنا (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذه جملة اعتراضية وسبك الكلام (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) .
وقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ) هذا ليُدَلِّلْ على أنَّ الاستطاعة هذه التي يجب معها حصول الفعل هذه فيها أمْرٌ غيبي زائد، فيها إعانة [....] فيها شيءٌ زائد عن الظاهر، ولهذا قال (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ) ؛ لأنه لا يمكن أن يحدث الفعل إلا بقُدْرة، وهذه القدرة لا يمكن أن تكون قبله ثم تنعدم وقت الفعل، فكيف يمكن أن يحصل فعل بلا قدرة للفاعل على فعله؟؟
لكن هل يستقل بهذه القدرة أم ثَمَّ أمر زائد؟
لابد هناك أمر زائد يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقوله في (الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ وَالْوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ) وهذه الاستطاعة هي الاستطاعة المُثْبَتَة، وهي التي يتعلق بها الحساب والعقاب والخطاب والأمر والنهي؛ لأنَّ الله عز وجل جعل للمكلَّفِينَ من المشركين، جعل لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، وجعل لهم قُدْرَة على أن يُصَلُّوا، قدرة على أن يتأملوا، وقدرة على تَبَيُّنِ ما أُيِّدَ به صلى الله عليه وسلم من المعجزات والآيات والبراهين؛ لكنهم لا يريدوا أن يسمعوا مع وجود الآلات، ووجود الصحة ووجود القدرة.
إذاً فالمنفي ليس هو الآلة، المنفي بعدم الاستطاعة هو ما يكون مع الفعل مِنَ التوجه إلى الخير والهدى والسماع النافع لما معهم مما يَصُدُّهُ وينفيه من الهوى واتباع الشهوات.
إذا تبين هذا فإيضاح هذه الجمل في مسائل:
_________
(1)
البخاري (1117) / أبو داود (952) / الترمذي (372) / ابن ماجه (1223)
[المسألة الأولى] :
هذه المسألة متصلة بالقدر والإيمان به وأَصْلُ بَحْثِهَا من المعتزلة.
وذلك أنهم قَعَّدُوا قاعدة وهي أنَّ الناس في فعل الله عز وجل سواء، وهو أنَّ العاصي والمؤمن، الكافر والمؤمن، العاصي والمطيع كلهم أُعْطُوا شيئاً واحداً، فهذا فَعَلَ الخير، وهذا فَعَلَ الشر بمحض قدرته.
فهذه التسوية بين الجميع جعلتهم ينفون أنْ يكون هناك أمراً زائداً خُصَّ به هذا ومُنِعَ ذاك.
فجعلوها جميعاً قبل الفعل، وأمَّا مع الفعل في أثناء الفعل فعندهم العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
وبالتالي فلو جُعِلَ هذا مُسْتَطِيعَاً للفعل وهذا غير مستطيع للفعل لكان الناس ليسوا سواسية فيما أعطاهم الله عز وجل، وبالتالي يترتب على هذا أنَّ هذا ظُلِمْ وهذا أُعْطِيَ ما لم يُعْطَ غيره.
فإذاً أصل بحث المسألة هي عند المعتزلة.
ولماذا بحثوها؟
للقاعدة التي قَعَّدُوهَا هي أنَّ الجميع يجب أن يكونوا في فعل الله واحد، حتى لا يُظْلَمَ هذا ويُتْرَكْ ذاك.
إذا فهمت هذا الأساس تفهم لماذا افْتَرَقَ الناس في هذه المسألة.
فلمَّا قالوا الاستطاعة لا تكون إلا على هذا النحو؛ وهي أن تكون قَبْلْ، أما المُقَارِنَة فالعبد هو الذي يخلق فعل نفسه، هو الذي يقدر ويفعل، الله عز وجل لا يَجْعَلُ هذا مستطيعاً وذاك غير مستطيع؛ لأنَّ هذا ظلم.
وإذا كان كذلك فقابلهم من يُثْبِتُ الاستطاعة المُقَارِنَة وهم الجبرية ونفوا أصلاً أن يكونَ للإنسان قدرة على فعل أي شيء.
لهذا قالوا: ليس هناك استطاعة سابقة، وإنما الاستطاعة هي أنَّه يقدر على الفعل وهذه القُدْرَة في الواقع من الله عز وجل، لهذا الإنسان أصلاً لا يستطيع لأنَّ الله عز وجل نَفَى قال {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101] ، وقال {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] ، ونفى أيضاً عنهم الرمي فقال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17] .
إذاً لا يمكن أن يفعلوا شيئاً، فقابلوا القدرية في مسألة الاستطاعة لا في مسألة القَدَرْ والجبر.
القَدَرْ والجبر أصلاً الجبرية سبقوا القدرية في مسألة الجبر المُعَيَّنْ، أما القَدَرْ اللي هو نفي العلم فهو الذي كان أولاً.
يعني الجهمية الذين هم الجبرية سابقين المعتزلة الذين هم القدرية، يعني كفرقة.
الجهمية هم الذين أظهروا الجبر ونَصَرُوهُ، من جهة وجود الجهمية قبل وجود المعتزلة الذين هم القدرية.
فإذاً نقول: إنَّ الجبرية قبل لأنَّ الذي مَثَّلَهُمْ الجهمية، وأولئك مَثَّلَهُمْ المعتزلة وهم متأخرون عنها.
أما من جهة القَدَرْ والجبر كقول القدرية سابقون لأنَّ نفاة العلم ظهروا في زمن الصحابة، وأما الجبرية فجاؤوا بعد ذلك؛ لكن تفاصيل أقوال الجبرية والقدرية ما نشأت إلا مع ترسُّخْ المذهبين في الجهمية وفي القدرية المعتزلة.
[المسألة الثانية] :
قَرَّرَ الطحاوي هنا أن الاستطاعة على قسمين:
- استطاعة مُتَقَدِّمَةْ، وهذه لا يجب أن تكونَ مع الفعل؛ بل تتقدم وهي المُتَعَلَّقْ بها الأمر والنهي.
- واستطاعة مُقَارِنَة يَجِبُ بها الفعل؛ يعني إذا وُجِدَتْ الاستطاعة حصل الفعل دون تأخر.
1 -
أولاً: الاستطاعة قبل الفعل:
«صل قائما فإن لم تستطع فقاعداً» عدم الاستطاعة هنا هل هي خاضعة لِأَنْ يُجَرِّبْ إذا أراد أن يصلي، أو لعدم تمكن آلته من القيام، معروف قبل أن يدخل أصلاً في الصلاة.
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، يَبْدَأْ يَحِجْ ثم ينظر هل هو مستطيع أو لا، أم أنَّ الاستطاعة التي هي الزاد والراحلة وغير هذين أيضاً، هذه تكون قبله؟
تكون قبله.
إذاً هذه معلومة قبل.
فإذاً التكليف الأمر والنهي والعُذْرْ إلى آخره، هذه مُتَقَدِّمَة، استطاعة؛ قدرة، وُسْعْ، آلات، سلامة، صحة، إلى آخره متقدمة.
أيضاً ليست الاستطاعة المرادة في الشرع هي الاستطاعة الكونية؛ بل المراد الاستطاعة الشرعية. -وهذا أوضحت لكم أنَّ الدليل دلَّ عليه-.
والاستطاعة الكونية هذه أخصُّ من الاستطاعة الشرعية، فإنَّه قد يكون المرء مُستطيعاً كوناً ولكنه ليس بمستطيعٍ شرعاً.
مثاله: يمكن له أن يُسِيْلَ الماء على جُرْحِهِ الذي لم يندمل، يمكن أن يغتسل ويُسِيْلْ الماء عليه، هذا يمكنه كونَاً ويستطيع، يمدُّ يده ويصب الماء عليه إلى آخره.
يمكنه أن يصلي الصلوات قائماً لأنَّه غير مشلول؛ لكنه شرعاً لا يُسَمَّى مُستطيعاً لأنَّ:
الأول يورثه زيادة في المرض والشريعة مُتَشَوِّفَة للتيسير.
والثاني يورثه أيضاً عدم الخشوع في الصلاة والتعب إلى آخره ومجاهدة النفس وربما أورثه زيادة المرض، والشريعة متشوفة في الصلاة إلى خشوعه وحضور قلبه وإلى أن لا يزيد مرضه إلى آخره.
فإذاً مما لم ينظُرُوا إليه في البحث أيضاً أنَّ الاستطاعة التي هي سلامة الآلات المُرَادَةْ في القَدَرْ والمرادة في تحقيق المسألة هي الاستطاعة الشرعية لا الاستطاعة الكونية.
أما كونه يقدر، سليم الآلات إلى آخره، هذا قد يُدْخِلُنَا في تكليفه ما هو فوق طاقته أو فوق ما فيه مصلحته شرعاً.
ولهذا نقول: الاستطاعة التي هي قبل الفعل نقسمها إلى قسمين:
- استطاعة كونية.
- واستطاعة شرعية.
والاستطاعة الشرعية هي المُرَادَةْ؛ لأنها هي التي تَعَلَّقَ بها التكليف والأمر والنهي.
فإذاً حَصَلَ من هذه المسألة أنَّ الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل، والتي قبل الفعل تنقسم إلى قسمين، يعني من حيث النظر إليها.
2 -
ثانياً: الإستطاعة مع الفعل:
أما الاستطاعة التي مع الفعل (وهي المهمة في هذا الباب، وهذه المسألة عَرْضُهَا في الكتب غير واضح، ويُدْخِلُونْ بعض البحث في بعض، وأنا أُرَتِّبْهَا لك، فكن حاضر القلب معي حتى تستوعب الخطوات) .
فالفعل لا يكون ولا يحصل لأي إنسان -ما يمكن أن يَفْعَلْ الشيء ولا أن يَحْدُثَ هذا الشيء- إلا بوجود ثلاثة أشياء، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها ما حَصَلَ هذا الشيء أبداً:
@ - القدرة التامة على إيجاد الفعل:
القدرة التَّامَّة ما معناها؟
معناه أنَّهُ إذا لم يكن عنده القدرة على الفعل فإنَّه لا يمكن أن يحصل الفعل.
الأعمى إذا أراد أن يقرأ كتاباً فهل يمكنه؟
يأخذ الكتاب هذا الذي معي ويقرأه، وحروف الكتاب هي الحروف التي يقرأها الُمْبِصْر غير الحروف الثانية التي يستدل بها باللمس.
لو وَضَعَهُ أمام عينيه فإنه لا يمكنه، لو أخذ المصحف ووضعه أمام عينيه فإنه لا يمكن أن يقرأ شيئاً، واضح، لماذا؟
لأنه ليس عنده القدرة.
الذي لم يتعلم الكتابة لو أخذ القلم بيده بين أنامله وأراد أن يَخُطَّ جملة لم يستطع، لماذا؟
لأنَّهُ لم يتعلم.
المتعلم للكتابة باللغة العربية لا يمكن أن يكتب باللغة الصينية؛ لأنَّهُ وإن كان يعرف الحروف باللغة العربية؛ لكن لا يمكنه أن يكتب بالصينية، لأنه لا يقدر على هذا بخصوصه.
فإذاً القدرة التامة هي التي يحصل بها الفعل.
@ - الإرادة الجازمة:
ونعني بالجازمة غير المترددة، فإذا وُجِدَتْ الإرادة الجازمة مع بقية الشروط وُجِدَ الفعل.
لكن لو وُجِدَتْ الإرادة فقط ولم توجد بقية الشروط -ونذكر مثالنا الآن الذي ذكرنا القدرة- فهل يمكن أن يحصل الفعل؟
لا يمكن أن يحصل الفعل.
يريد أن يذهب إلى مكة لكن ما عنده قدرة مالية، يمكن يذهب؟
ما يمكن.
يريد أن يكون حافظاً لكتاب الله لكن ليس عنده القدرة على الحفظ هل يمكن؟
ولو كانت إرادته جازمة ويتمنى وإلى آخره، لا يمكن.
فإذاً الإرادة الجازمة غير المترددة شرطٌ في حصول الفعل، لا يمكن أن يحصل الفعل بإرادةٍ مترددة [.....]
@ - أن يشاء الله عز وجل حصول هذا الفعل:
فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومشيئته الكونية في هذا، إذا شاء أن يكون الفعل ممن عنده قدرة وإرادة فإنه يُعِينُ العبد على حصول هذا الفعل، كيف يعين العبد؟
يعينه بأشياء:
- الأول التوفيق.
- الثاني أن يُعْدِمَ المُعَارِضْ.
مثلاً هو يريد أن يذهب إلى مكة وعنده القدرة المالية وعنده الإرادة الجازمة، ويريد أن يحج هذا العام.
المُعَارِضْ الذي يُعَارِضْ أن يكون هذا من حصول خللٍ له في بدنه، من حصول خللٍ في الطائرة، من عدم تَمَكُّنِهِ، من سرقة المال، من أسباب كثيرة لا تُحْصَى من المُعَارِضَاتْ، هذه هل هي في قدرة العبد؟
ليست في قدرة العبد.
إذاً هذا يدخل في الأمر الغيبي الذي لا يدخل العبد فيه.
إذا اجتمعت هذه الثلاثة حَصَل الفعل، إذا تَخَلَّفَ واحدٌ منها لم يحصل الفعل.
فإذاً الاستطاعة التي يجب بها الفعل، وهي القدرة التي يجب بها الفعل -يعني يحصل معها الفعل- المراد بوجوب حصول الفعل مع وجود الإرادة الجازمة، ووجود إعانة الله عز وجل ومشيئته وتوفيقه ودَفْعْ المُعَارِضْ إلى آخر ذلك من الأسباب الذي هو الأمر الغيبي المختص بالرب جل جلاله.
القدرة في نفسها -قدرة العبد على الفعل- هل هو الذي أوجدها في نفسه أم الله الذي خلقها فيه؟
الله عز وجل الذي خلقها فيه.
الإرادة الجازمة للفعل، تَوَجُّهْ العبد للفعل هذا اختيارٌ منه أم هو مفروض عليه؟
هو اختيار منه.
& ولذلك جاءت الجبرية وقالت:
القدرةُ منفية، لا قدرة له.
والإرادة هو مُرْغَمٌ على أن يريد.
والمشيئة: العبد خَضَعَ للمشيئة فَعَمِلَ ما يريده الرب.
فإذاً: الفعل كله فعل الرب عز وجل بلا اختيار، فصار فعل العبد بعد أن حَدَثْ كحركات الأشجار والورقة في الماء والريشة في مهب الريح إلى آخره.
& جاءت القدرية في المقابل وقالت:
القدرة بيد العبد، والإرادة عنده هو، ولا علاقة لفعل الله عز وجل به؛ بل العبد هو الذي يَقْدِرْ، فالقدرة خَلْقُهُ، هُوَ الذي خَلَقَ الفعل بقدرته، والإرادة تَوَجَّهَتْ إليه، والقُدْرَة والإرادة يستوي الناس فيها.
فهذا خَلَقَ أفعال الطاعات وهذا خَلَقَ أفعال المعاصي، فنفوا الجزء الثاني.
& أما أهل السنة والجماعة فنظروا إلى الأدلة فوجدوا فيها الثلاثة جميعاً فأثبتوها.
فإذاً حقيقة بحث القدر وبحث الاستطاعة وبحث تكليف ما لا يُطَاق إلى آخره من المباحث، مَبْنِيَّةٌ على الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟
فَبَحَثُوا الفعل إذا وُجِدْ كيف وُجِدْ؟
منهم من بَحَثَ في أوائله فتَكَلَّمَ في الاستطاعة المقارنة والاستطاعة السابقة إلى آخره في الكلام الذي بحثنا.
ومنهم من نَظَرَ إلى نتائجه وهو أنَّ هذا فيه فعل طاعة فينتج عنه الجنة وهذا فيه فعل كفر فينتج عنه النار، فلما نَظَرَ إلى نتائجه والظلم والعدل إلى آخره حَكَمَ على المسألة بالنتائج.
والذي ذهب إليه أهل الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، وسط في المِلَلْ ووسط في المذاهب وهم أهل السنة والجماعة قالوا: الفعل لا يوجد إلا بهذه الثلاثة أشياء.
لهذا الطحاوي هنا أشار إلى هذا بإدخال التوفيق بقوله (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ)
وهذه الجملة في الواقع ليس لها علاقة بالكلام، والشارح عندكم -شارح الطحاوية- ما تَكَلَمَ على هذه الجملة لماذا أدخلها الطحاوي، وإلا الكلام يستقيم بدونها أن يقول (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْل فهي مَعَ الفِعْلِ)
يريد الطحاوي أن يقول لك: إنَّ الفعل لا يمكن أن يكون إلا بالقدرة والإرادة وفِعْلُ الله عز وجل الذي فيه المشيئة وفيه التوفيق والإعانة وفيه دفع المعارض إلى آخره من المسائل.
س/ [.....]
لأ، هذا أمرٌ خارج، هذا فِعْلُ الله عز وجل، تنظر الآن فيه شيء ظاهر أنَّ العبد يملكه وهو قدرته وإرادته لكن فيه شيء ما يملكه، وهو دفع المُعَارِضْ.
مثلاً شخص رَكِبَ طائرة جديدة من أحسن الطائرات سليمة ما طار عليها وكل أجهزتها جديدة وإلى آخره وأثناء طيرانها جاءتها زوبعة واحترقت أو ضَرَبَتْ في الأرض إلى آخره فتحطمت، أو جاءتها طائرة ثانية وهو لا يدري وضربتها، فهذا من جهة من؟
ليس من جهة العبد.
مثلاً معك سيارة جديدة، جميع الآلات فيها سليمة، احتطت بجميع الاحتياطات، وأخذت بوسائل السلامة فهل ستنتج السلامة بهذه الأشياء التي عملتها؟
لا، فقد يأتي بعير في الطريق وتصدمه وأنت لا تدري، أيضا قد تأتي أمامك شاحنة وتصدمك إلى آخره.
ولهذا من أعظم النظر في الأسباب أن تنظر في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
النظر في الهجرة يعطيك ما يجب على العبد أن يفعله، وما ليس للعبد أن يُحَقِّقَهُ من أسباب السلامة.
النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا أراد الهجرة إلى المدينة عَمِلَ جميع الاحتياطات:
رأى الطريق البعيد الذي ما يمكن أن يظن المشركون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يسير فيه، واستأجر رجلاً هاديا خريتاً يقال له ابن أرقد لِيَدُلَّ على هذا الطريق البعيد، ثُمَّ بعد ذلك أيضاً مع هذا الطريق أَمَرَ راعي الغنم أن يمشي على أثره هو وأبو بكر والذي معهم حتى لا ينظروا إلى الأقدام، واختبؤوا في غار.
هذه الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وواجبٌ عليه أن يفعلها؛ لأنَّ الله أَمَرَ باتخاذ الأسباب.
وقف المشركون على رأس الغار.
يقول أبو بكر رضي الله عنه لو أَبْصَرَ أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا.
الآن الأشياء التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ويتحقق بها قَدَرُ السلامة، فعلها أو لم يفعلها؟
فعلها.
لكنها هل نَفَعَت؟
لم تنفع، فالمشركون وقفوا على رأس الغار، أقرب شيء؛ لكن بَقِيَ لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرأهما، لم يقدر أحد أن يُنْزِلْ عينيه إلى أسفل، هذا ليس من جهة فعل العبد.
ولهذا المعتزلة في ضلالهم لمَّا جعلوا العبد يخلق فعل نفسه فقط، وهو الذي يتصرّف في نفسه، في مثل هذا لا يستطيعون تفسيره.
كيف هو لم يستطع أن يُنْزِلَ رقبته تحت؟
كأنَّ في رقابهم غُلاًّ يمنعهم من النظر، وهم عدد ما فيهم أحد ينظر أسفل ولو بالغلط؟؟
إذاً هذا فِعْلْ شيء لا يملكه العبد.
لهذا المؤمن ينظر في باب الاستطاعة وباب الأفعال إلى ما يفعله هو وما يُكْرِمُهُ الله عز وجل به.
ولهذا {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} .
[المسألة الثالثة] :
- الاستطاعة التي قبل الفعل كما ذَكَرْ هي مناط التكليف: الأمر والنهي.
- والاستطاعة التي مع الفعل -ولم يَذْكُرْها- هي مناط الثواب والعقاب. (1)
- والاستطاعة التي قبل الفعل من جهة السلامة ومن جهة البلوغ مثلاً واليقظة إلى آخره من جميع الأسباب، هذه تتعلق بها الأوامر والنواهي وهي التي يتكلم عنها الفقهاء.
@ أما التي مع الفعل وهي المنوط بها الثواب والعقاب، فمعلوم أنَّ فِعْلَ العبد -كما ذكرنا- لم يستَقِلْ بتحصيل النتيجة، وبالتالي فالثواب إذاً لم يستقل العبد بتحصيل أسبابه.
ولهذا فتقول إذاً: أنَّ إثابة الله عز وجل لعبده هو مِنَّةٌ من الله على عبده.
لم؟
لأنَّ أصل تحقيق الفعل لم يكن مُجَرَّدَاً باختيار العبد؛ بل هناك أمر زائد وهو مِنَّةْ الله وفضله على العبد وإعانته عليه.
ولهذا سألني أحد الإخوان الأسبوع الماضي سؤالاً متعلق بهذا المبحث وهو أنَّ رضا الله عز وجل عن العبد وإثابته للعبد هو نتيجة لشيءٍ فَعَلَهُ الله عز وجل وهو هداية العبد لأن يفعل.
ولهذا المؤمن الصالح كلما زاد علماً عَلِمَ أنَّهُ ليس منه شيء وليس إليه شيء، مثل ما كان يقول ابن تيمية (اللهم ليس مني شيء ولا فِيَّ شيء ولا إِلَيَّ شيء؛ لكن مع ذلك ليس مجبوراً) .
هُوَ ينظر إلى أنَّهُ يختار وعنده قُدْرَة ويعرف أنه مُحَاسَبْ؛ لكن إنْ أعانه الله عز وجل ووَفَّقَهُ على الفعل وصار من أهل الطاعة، فإنَّه يعلم أنَّهُ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ الله عز وجل له وهداه إليه.
وهذا معنى نصوص الهداية في القرآن، ليس معنى نصوص الهداية ونصوص القَدَرْ السابق، أنها إجبار على العبد وإنما معناها أنَّ الله هيأ لهذا العبد الأسباب التي تعينه على تحصيل المراد، وأعانه عليها.
وهذا هو تفسير أهل السنة للتوفيق.
في المقابل من جهة العاصي فإنَّ الله عز وجل منعه أسباب الهدى.
لماذا منعه؟
لأمْرٍ يرجع إلى نفسه وفِعْلِهْ؛ لأنَّهُ كما أعطى ذاك بسبب فإنَّه مَنَعَ هذا بسبب وهو أنَّهُ رَغِبَ في هواه وتَرَكَ التخلي من هواه ومن شهوته.
ولهذا قال عز وجل في وصف الكفار {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وقال عز وجل في الآية الأخرى في سورة الجاثية {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، أضَلَّهُ الله على علم.
إذاً فالذي أُعْطِيَ أُعِيْنْ، والذي حُرِمْ عُومِلَ بسبب فِعْلِهِ هو {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] .
فإذاً نَظَرْ المعتزلة في المسألة وهي أنَّ الذي أُعْطِيَ والذي مُنِعْ إنما من أنفسهم، لم يُعْطِ الله هذا ولم يمنع هذا، هذا في الواقع نَظَرْ منهم إلى الظلم والعدل بما يُحَكِّمُونَ فيه فعل العبد.
مثل أن يُعْطِي ولده هذا ويمنع هذا ويقول لهذا تزوج وهذا ما تزوج، هذا فيه تفريق، لأنَّهُ أُعْطِيَ هذا ومُنِعَ هذا.
لكن هنا الإعطاء صار للجميع، أين الإعطاء الذي صار للجميع؟
هو ما قبل الفعل وهو الاستطاعة المُثْبَتَةْ، لم يُكَلِّفْ الله عز وجل المجنون الكافر ورَفَعْ التكليف عن المجنون المؤمن، الجميع سواء لأنَّ هذا تكليف واستطاعة قبل الفعل.
لكن الاستطاعة التي مع الفعل، ينتج عنها الفعل، فَأُعِيْنَ هذا بسبب وحُرِمَ ذاك بسبب، ولو أنَّ الكافر أو الذي ضل لو أنَّهُ سَلَكَ سبيل الهدى ورَغِبَ بإرادته لأعانه الله عز وجل ووفَّقَه؛ لكن كما قال عز وجل في وصفهم {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} .
ويُمَثِّلْ هذا قول أبي جهل قال (حتى إذا تنازعنا نحن وبنو هاشم الشَرَفْ وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء وليس منكم نبي، والله لا نؤمن به أبداً)(2) ، هنا دخل الهوى، دخلت الشهوة، ودخلت الدنيا فصدَّتْ.
فإذاً تحقيق القول في المسألة هنا أنَّ سبب ضلال المعتزلة في باب الاستطاعة وباب القَدَرْ في هذه أنهم جَعَلُوا الظلم واحداً، جعلوا هذا وهذا متساويين في القُدْرَة وفي الآلات، ولهذا نَفَوا خلق الله عز وجل للأفعال، وقالوا العبد يخلق فعل نفسه لأجل أن لا ينتج عنها أنَّ الله ظَلَمْ فأدخل الجنة هذا وأدخل النار ذلك.
ونَظَرْ أهل السنة أنَّ الله عز وجل ساوى بين الناس في التكليف في الآلات في الاستطاعة التي هي قبل الفعل، أمَّا الاستطاعة التي مع الفعل، لا يحدث الفعل إلا بأشياء الله سبحانه وتعالى أعان هذا بأسباب، ومنع هذا بأسباب، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل في هذا كله.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع والثلاثين.
(2)
البداية والنهاية (3/64)
قال بعدها رحمه الله (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ)
يريد أنَّ فعل العبد ليس مَخْلُوقاً له بل الله عز وجل هو الذي خَلَقَ فعل العبد.
وهذا يعني أنَّ العبد يفعل ولا يُنْفَى عنه الفعل؛ بل هو يفعل ويعمل، وأفعاله صدرت منه، وهو الذي فَعَلَهَا وهو الذي اختارها وهو الذي أنتجها بإرادته وقدرته، وأمَّا نتيجة الفعل-يعني مع اجتماع الأسباب: القدرة والإرادة إلى آخره- فالله عز وجل هو الذي خَلَقَ الفعل.
وهذا يخالف مذهب القَدَرِيَّة الذين يقولون إنَّ العبد يخلق فعل نفسه.
وقوله (خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) يعني فِعْلْ وعَمَل من العباد، فالعبد يُنْسَبُ إليه الفعل ولا يُنْسَبُ إليه خلق الفعل.
فهو يفعل حقيقة، والله عز وجل هو الخالق لفعله.
ودليل ذلك لأهل السنة والجماعة قول الله عز وجل {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، وقال أيضاً عز وجل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وقال عز وجل {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] .
إذاً فإثبات عمل العبد وكسب العبد وأنَّهُ هو الذي حَصَّلْ الفعل هذا واضح، وكذلك إثبات أنَّ الله عز وجل خلق كل شيء، هذا دليل هذه المسألة.
ونذكر عدة مسائل تفصيلية:
[المسألة الأولى] :
خَلْقْ الله عز وجل لأفعال العباد اختلف الناس فيه على أقوال ثلاثة:
1-
القول الأول:
هو قول أهل الحق والسنة والهدى أنَّ الله عز وجل خَلَقَ العبد وخَلَقَ عمله أيضاً، فأعمال العبد من الخير والشر من الحسنات والسيئات هي خَلْقٌ من الله عز وجل؛ لأنَّهُ لا يحدث في ملك الله شيء إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى.
2-
القول الثاني:
قول المعتزلة بأنَّ الله عز وجل لا يَخْلُقُ فعل المكلفين أما غير المُكَلَّفْ فهو خالق كل شيء أما فعل المُكَلَّفْ فلا يخلقه سبحانه وتعالى؛ بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، ويستدلون لذلك:
- بأدلةٍ عقلية واضحة على مذهبهم.
- وأدلة نقلية محتملة.
أمَّا الأدلة العقلية فهم يقولون: إنَّ الله لا يُوصَفُ بأنَّهُ يخلق فعل العبد لسببين:
@ السبب الأول: أنَّ فعل العبد فيه الأشياء المشينة، فيه الكفر وفيه الزنا وفيه السرقة وفيه القتل وفيه إلى آخره، ولو قيل أنَّ الله هو الذي يخلق هذه الأشياء لصار نسبةً للأشياء السيئة إلى الله وهو منزهٌ عنها.
@ والسبب الثاني: أنَّ خَلْقَ الفعل من الله يقتضي التفريق بين المُكَلَّفِين، هذا خَلَقَ فعل طاعته فأدخله الجنة، وهذا خَلَقَ فعل معصيته فأدخله النار، وهذا ظلم لأنَّهُ لم يساوي بينهم في خلقه وفعله.
3-
القول الثالث:
قول الجبرية بأنَّ العبد لا يخلق فعل نفسه، بل الله يخلق فعله وهو ليس له فِعْلْ حقيقة، وليس له تَصَرُّفْ حقيقة، ولا كسب حقيقة، وإنما هذه أمور مَجَازِيَّة، وفِعْلُ العبد في الحقيقة هو فِعْلُ الله عز وجل لكن أُضِيفَ للعبد اقتراناً ولم يُضَفْ إليه حقيقةً، وأخرجوا لفظ الكسب كما سيأتي وعلَّلُوا به.
[المسألة الثانية:]
قول أهل السنة إنَّ العبد فِعْلُهُ مخلوق لله عز وجل استدلوا له بـ: -أدلةٍ نقلية. و -أدلة عقلية.
$ أولاً: من الأدلة النقلية:
قوله تعالى {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16، الزمر:62] وهذا عموم لأنَّ كلمة {كُلِّ} في الأصول من الألفاظ الظاهرة في العموم، وهي في عموم كل شيء بحسبه.
فهنا لم يدخل في ذلك صفات الرب سبحانه وتعالى، يعني الله عز وجل وذاته وصفاته لم تدخل لأنه سبحانه ليس بمخلوق بذاته وصفاته وأفعاله جل جلاله؛ لأنَّ المخلوق حَادِثْ والله عز وجل مُتَنَزِّهٌ عن أن يكون حادثاً بل هو عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
ويُسْتَدَلْ أيضاً لهم بقوله تعالى في قصة إبراهيم {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] .
والعلماء يبحثون كلمة {مَا} هنا {مَا تَعْمَلُونَ} هل {مَا} هنا مصدرية أو موصولة بمعنى الذي؟ (1)
- فقالت طائفة {مَا} هنا مصدرية فيكون المعنى: والله خلقكم وعملكم.
فعند هؤلاء واضح الاستدلال بأنّ العمل مخلوق لله عز وجل.
- وقال آخرون وهم أحظى بالتحقيق أنَّ {مَا} هنا ليست مصدرية بل بمعنى الذي فتقرير الآية: والله خلقكم والذي تعملون.
@ فمن قال إنها مصدرية وليست موصولة ففيه ضعف من جهة أنَّهُ احْتَجَّ عليهم في عبادتهم لَِما نُحِتَ، فقال عز وجل في قول إبراهيم في سورة الصافات صلى الله عليه وسلم {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95-96] ، فإذا كانت مصدرية صار المعنى: والله خلقكم وعملكم.
وعَمَلُهُمْ إيش؟
النحت.
فيصير معنى الكلام والله خلقكم ونحتكم وهم لم يعبدوا النحت إنما عبدوا المنحوت.
@والقول الثاني إنها موصولة أوضح في الاستدلال وموافق لقصة إبراهيم الخليل عليه السلام {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} يعني والذي تعملون، والاستدلال على هذا واضح وهو موافق للسياق.
وتقدير {مَا} بمعنى الذي أفاد فائدتين:
- الفائدة الأولى: أنَّهُ موافق لقوله {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} والذي يعملون هو ما ينحتون وهي الأصنام؛ يعني يقول: أنَّ الله خَلَقَكُم وخلق الأصنام التي تعلمونها.
- الفائدة الثانية: أنه في إثبات هذا إثبات أنَّ الأصنام هذه التي عملوها أنها مخلوقة أيضاً؛ لأنهم مخلوقون، قال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} وخَلْقُهُمْ يشمل خلق ذواتهم وخلق تصرفاتهم، فرجع الأمر إلى أنَّ هذه الأصنام التي تعملونها مخلوقة لله وأيضاً هي عملكم الذي هو مخلوق لأنكم مخلوقون.
فتحصَّلَ من هذا القول أنَّهُ مناسبٌ للسياق، ويشمل خلق الأصنام والاحتجاج عليهم بعبادتها -يعني في عدم عبادتها- وكذلك فعلهم لذلك.
$ ثانياً: من الأدلة العقلية:
أنَّ الفعل لا يكون -مثل ما ذكرنا- إلا: بقدرةٍ وإرادة.
وقدرة العبد لم يخلقها هُوَ وإنما خلقها الله.
والإرادة نفسها، وجودها في العبد لم يخلقها هو وإنما خلقها الله.
ثم الثالث وهو مشيئة الله.
هذه الثلاث يحصل بها الفعل، والأول والثاني مخلوقة لله عز وجل والثالث هو فعل الله عز وجل مشيئته صفته سبحانه وتعالى.
فإذاً ما ينتج عنها يكون مخلوقاً.
فإذا كان العَمَلْ حَصَلَ بقدرة وإرادة، والقدرة مخلوقة والإرادة مخلوقة إذاً فالعمل مخلوق.
وهذا استدلالٌ عقلي صحيح وهو موافق للأدلة.
أما كلام المعتزلة والرد عليهم فله مكان آخر لأنَّ المقام يضيق عن بسطه.
(1) سبق ذِكْرُ هذه المسألة (231) وكذلك (241)
[المسألة الثالثة] :
في قوله (كَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) الكَسْبُ من الألفاظ التي جاءت في الكتاب والسنة.
- فأُضيفَ الكسب إلى القلب فقال عز وجل {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] .
- وأضيف الكسب إلى العبد فقال عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ} [البقرة:267] .
- وأضيف في التكليف أيضاً في قوله {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82، 95] ، ونحو ذلك.
وتفسيره في الآيات أن يُقَال:
@كسب القلب هو عمله وهو قَصْدُهُ وإرادته، يعني عمل القلب هو قَصْدُهُ وإرادته وتوجهه وعزمه إلى آخره، يعني في اليمين {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يعني بما قَصَدْتُمْ أن تُوقِعُوهُ يميناَ، ولهذا في الآية الأخرى في المائدة قال {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة:89] الآية.
@ أما كسب العمل {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يعني من طيبات ما تَمَوَّلْتُمْ من الأموال ومن التجارات ومما أُخْرِجَ لكم من الأرض نتيجة لعملكم.
@ أما الكسب الذي هو نتيجة التكليف {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالكسب هنا بمعنى العمل، لذا قال في الآية {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281، آل عمران:161] وفي الآية الأخرى سورة [آل عمران]، قال {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل:111] .
فإذاً كَسَبَتْ وعَمِلَتْ تتنوع في القرآن:
فالكسب الذي هو نتيجة التكليف هو العمل؛ لكن قيل عنه كسب تفريقاً ما بينه وما بين الاكتساب؛ لأنَّ الله عز وجل لمَّا ذَكَرَ التكليف في آية البقرة قال {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ليبيِّنَ عز وجل أنَّ عمل العمل الصالح كسب سهل يمكن أن يعمله بدون كُلفةٍ منه ومشقة عليه، أما عمل السيئات التي عليه فيعملها بكُلفَةٍ منه ومخالفَةْ وزيادة اعتمال وتَصَرُّفْ في مخالفة ما تأمره به فطرته.
لهذا قالوا: زاد المَبْنَى في {اكْتَسَبَتْ} لأنَّهُ يحتاج إلى جُهدٍ منه ومشقة بخلاف العمل الصالح فإنه يُقْبِلُ عليه بنفسه.
فإذاً العمل هو الكسب، وهذا هو تفسير أهل السنة والجماعة للكسب على ما دلّت عليه الآيات.
وأما الآخرون من الفِرَقْ: الجبرية والقدرية ففسَّرُوا الكسب بتفسيرات أُخَرْ.
- أما القدرية فإنهم قالوا: الكسب هو خَلْقُ العبد لفعله؛ لأنَّهُ يوافق لمعتقدهم في ذلك.
- والجبرية الذين هم الأشاعرة في هذا الباب فأخرجوا للكسب مصطلحاً جديداً غير ما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وقد ذكرته لكم عدة مرات في أنَّ الكسب عندهم هو اقتران الفعل بفعل الله عز وجل، اقتران ما يُحْدِثُهُ العبد بفعل الله عز وجل.
فعندهم أنَّ الفعل حقيقة هو فعل الله، والعبد حَصَلَ له العمل؛ لكن النتيجة هي الكسب.
فالعبد في الظاهر مُخْتَارْ، العبد في الظاهر يعمل، العبد في الظاهر يُحَصِّلْ ما يريد؛ لكنه في الباطن مفعول به.
والكسب هذا عندهم مما اختلفوا فيه على أقوال كثيرة جداً وليس تحتها حاصل.
المقصود من الكلام أنَّ الكسب عند الجبرية عند الأشاعرة ما يُفَسَّر بتفسيرٍ صحيح، وهو من الألفاظ المبتدعة التي ضَلُّوا بسببها في باب القدر، أَحْدَثَهُ الأشعري ولم يُفَسِّرْهُ بتفسيرٍ صحيح، وأصحابه أيضاً لم يُفَسِّرُوهُ بتفسير صحيح إلا بدعوى الاقتران.
إذا تبيَّنَ هذا، فإذاً حقيقة الكسب الذي أثبته الطحاوي هنا بقوله (خَلْقُ اللهِ، وَكَسْبٌ مِنَ العِبَادِ) نحمِلُهُ على قول أهل السنة والجماعة، مع أنَّهُ يمكن أن يُحْمَلَ على قول الأشاعرة والماتريدية في ذلك.
والأَوْلَى أن يُحْمَلْ على الأصل وهو ما يوافق القرآن والسنة؛ لأنَّهُ هو في جُلِّ عقيدته يوافق طريقة أهل السنة والحديث.
كان بودي أن أذكر تفصيل أكثر؛ لكن على كل حال لها إن شاء الله موضع آخر، أو مناسبة أخرى.
نكتفي بهذا القدر، فالجملة هذه ما أعطيناها حقها (خَلْقُ اللَّهِ) المفروض أن نتكلم على الردود على المعتزلة في قولهم بأنَّ العبد يخلق فعل نفسه ونُبْطِلُ مسألة الظلم والعدل والقياس في الأفعال، ونتكلم عن الكسب عند الأشعرية بتفصيل أكثر؛ لأني سبق أن أوضحته لكم أكثر من هذا في الواسطية (1) ؛ لكن على كل حال، بعض العلم يخدم بعضاً.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. (2)
(1) ذكر الشيخ مسألة الكسب في الشريط 22 من شرح العقيدة الواسطية
(2)
انتهى الشريط التاسع والثلاثون.
: [[الشريط الأربعون]] :
وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ.
قال رحمه الله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ)
يعني العباد المُكَلَّفِين؛ لأنَّهُ لما ذَكَرَ أفعال العباد وأنَّهَا خَلْقُ الله وكَسْبٌ من العباد، ذَكَرَ هذه المسألة وهي أنّه عز وجل لم يكلفهم إلا ما يطيقون (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") إلى آخره، يريد بهذا الكلام أن:
- يَرُدَّ على طائفة ممن يقولون: إنَّ الله عز وجل كَلَّفَ العباد بما فوق طاقتهم، وأنَّ بعض الأوامر أو النواهي فوق طاقة العبد.
- ويَرُدَّ على طائفة أخرى يقولون: إنَّ العباد لم يكونوا ليقدِرُوا على أكثر مما أمرهم الله عز وجل به.
وهذا معنى كلامه هنا، وسيأتي ما فيه من الصواب والخلل في المسائل إن شاء الله تعالى.
والذي دَلَّت عليه النصوص أنَّ الرب جل جلاله رحيم بعباده، يَسَّرَ لهم، وما جعل عليهم في الدين من حرج، ولم يُكَلِّفْهُمْ فوق ما يستطيعون، والآيات في هذا الباب كثيرة كقوله عز وجل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكقوله عز وجل {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286]، وكقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وكقوله عز وجل {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وكقوله عز وجل {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:158] ، وكقوله صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الدين إلى الله الحنيفية السَّمحة» (1) ، وكقوله «لن يشادَّ الدِّيْنَ أحد إلا غلبه» (2) ، وكقوله في الحديث الحسن «إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفقٍ فإن الْمُنْبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقى» (3) ونحو ذلك من الأحاديث التي فيها صفة الله عز وجل في تحريمه الظلم على نفسه وإقامته للعدل في ملكوته وفي أمره ونهيه.
وفي هذه الجملة مسائل:
_________
(1)
البخاري (30) / المعجم الأوسط (7351)
(2)
البخاري (39) / النسائي (5034)
(3)
المسند (13074) / شعب الإيمان (3885) / سنن البهقي الكبرى (4520)
[المسألة الأولى] :
قوله (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ) التكليف جاء في نصوص الكتاب والسنة كقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، ويَصِحُّ أن يُقَال على هذا عن العبادات الشرعية أنَّهَا تكليف لأجل هذه الآية، فالأوامر والنواهي فيما يجب الإيمان به وفيما يجب عمله ويجب تركه ونحو ذلك، هذا تكليف.
ومعنى التكليف أنَّ الامتثال له يحتاج إلى كَلَفَةْ لِمُضَادَّتِهِ أصل الطَّبْعْ في استرسال النفس مع هواها.
ولهذا كان المؤمنون قليلين {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبإ:13] .
فيسوغ أن يقال عن التكاليف الشرعية -يعني عن الأوامر الشرعية- إنها تكاليف لا بمعنى أنَّهَا فوق الطاقة أو أنها غير مرغوب فيها؛ لكن تمشياً مع قول الله عز وجل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} يعني أنَّ ما تَسَعَهُ النفوس وما يمكنها أن تعمله فإنَّ الله عز وجل كَلَّفَهَا به.
[المسألة الثانية] :
في قوله (إِلَّا مَا يُطِيقُونَ) الطاقة هنا بمعنى الوُسْعْ والتَمَكُنْ؛ يعني ما يمكن أن يفعله وما يَسَعُهُ أن يفعله من جهة قدرته على ذلك.
فيكون معنى الكلام أنَّ الرب عز وجل لا يطلب من الإنسان، لا يطلب من الناس؛ بل من الجن والإنس؛ من المكلفين، لا يطلب منهم شيئاً فوق وسعهم؛ بل إنَّ بعض الأوامر والنواهي قد تكون في حق البعض خارجة عن الوُسْعْ فتسقط في حقهم لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وقوله {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] .
فبعض التكاليف -بعض الأوامر- تكون في حقِ بَعْضٍ في الوُسْعِ والطَّاقَةْ وفي حق بعضٍ خارجة عن الوسع والطاقة فتسقط عن بعضٍ وتجب على بعض.
فيكون إذاً عدم تكليف ما لا يُطَاقْ فيه التفصيل: بأنه عز وجل لا يُكَلِّفُ الفرد المؤمن فوق طاقته.
وهذا يعني أنَّ إطلاق الكلمة (لا يكلف الله عز وجل بما لا يُطاق) يعني في جهتين:
- الجهة الأولى: في أصل التشريع فهو عز وجل الأعلم بخلقه.
- الجهة الثانية: في التشريع المُتَوَجِّهْ إلى الفرد بعينه، فإنَّه عز وجل لا يُكَلِّفُ المسلم المُعَيَّنْ بما لا يطيق، وقد يكون ما لا يطيقه فلان يطيقه الآخر.
[المسألة الثالثة] :
قوله (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) هذه العبارة أدخَلَهَا هنا لأجل تتمة الكلام السّابق في أنَّ العبد لا يطيق أكثر مما أُمِرَ به.
وهو أراد بذلك أنَّ الأصل في الإنسان التَّعَبُّدْ وأنَّهُ عَبْدٌ لله عز وجل، وأنَّ الملائكة لمَّا كانت تطيق كذا وكذا من الأعمال والعبادات جعلهم الله عز وجل يقومون بذلك أمراً لا اختياراً، والإنسان بحكم أنَّهُ عَبْدْ لله عز وجل، ومربوب ومُكَلَّفْ، فإنه يجب عليه أن يُمْضِيَ عمره وجميع وقته في طاعة الله عز وجل.
فَنَظَرَ إلى هذا -يعني نَظَرَ إلى جانب العبودية- وقال: إنَّ العباد لا يطيقون إلا ما كَلَّفَهُمْ، ويعني به أصل التشريع وجملة الشريعة، في أنَّ الناس لا يطيقون أكثر من هذا في التَّعُبُّدْ.
وكأنَّهُ نظر إلى قصة فرض الصلاة أيضاً وما جاء من التردّد أو الحديث بين موسى عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم حتى خُفِّفَتْ إلى خمس صلوات.
وكأنَّهُ نَظَرَ أيضاً إلى جهةٍ ثالثة وهي أنَّ (لَا يُطِيقُونَ) هنا بمعنى أنَّهُ سبحانه لم يجعل عليهم شيئاً في فعله بالنسبة لهم تكليف فوق ما كُلِّفُوا به.
يعني أنَّ نَفْسَ التشريع هو موافق لما كُلِّفُوا به من جهة الأصل العام.
فيتفق جهة الفرد مع جهة التشريع ويدخل في ذلك حينئذ معنى التوفيق.
وهذا التوجيه الذي ذكرته لك من باب حمل كلام الطحاوي رحمه الله على موافقة كلام أهل السنة والقُرب من كلامهم، وإلا ففي الحقيقة فإنَّ الكلام هذا مُشْكِلْ، وقد رَدَّ عليه جمعٌ من العلماء ومن الشُّرَاحْ.
ولهذا نقول: إنَّ هذا التخريج الذي ذَكَرْنَاه وهذا التوجيه من باب إحسان الظن وتوجيه كلام العلماء بما يتفق مع الأصول لا بما يخالفها ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل.
وإلا فإنَّ العبارة ليست بصحيحة وهي موافقة لبعض كلام أهل البدع من القدرية ونحوهم؛ في:
- أنَّ العبد لا يَسَعُهُ ولا يَقْدِرُ إلا على ما كُلِّفَ به وأكثر من ذلك لا يستطيع.
- وأنه لا يطيق إلا ما كُلِّفْ ولو كُلِّفَ بأكثر لما استطاع.
وهذا بالنظر منهم إلا أنَّ الاستطاعة تكون مع الفعل، ولا يُدْخِلُونَ سلامة الآلات وما يكون قبل الفعل في ذلك كما فَصَّلْنَا لكم فيما سبق.
ولهذا نقول: إنَّ الأولى بل الصواب أن لا تُستعمل هذه الكلمة؛ لأنها مخالفة لما دلَّتْ عليه النصوص من الكتاب والسنة في أنَّ الله عز وجل خَفَّفَ عن العباد، فانظر مثلاً إلى الصيام في السّفر فإنه لو كُلِّفَ به العباد لأطاقوه ولكن فيه مشقة شديدة يَسَّرَ الله عز وجل وخَفَّفْ فقال عز وجل {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، وكذلك مسألة التيمم والتخفيفات الشرعية من قصر الصلاة ونحو ذلك، وقد قال عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [النساء:101] ، والنبي صلى الله عليه وسلم قَصَرَ في الخوف وقَصَرَ في الأمن، ومعلوم أنَّ قَصْرَ الصلاة في الأمن كونه يصلي ركعتين لو كُلِّفْ فرضاً بأن يصلي أربع ركعات كل صلاة في وقتها كما في الحضر لكان في وسعه أن يعمل وفي طاقته أن يعمل؛ لكنه فيه مشقة عليه، لهذا خُفِّفَ عنه، وهو يطيق أكثر من قصر الصلاة، يطيق لو صَلَّى كل صلاةٍ في وقتها أربع ركعات؛ لكن فيه مشقة.
ولهذا النصوص الكثيرة التي في تخفيف العبادة وفي الرُّخَصْ وفي التيسير كلها تَرُدُّ هذه الجملة من كلامه؛ بل العبد في بعض الأحكام يطيق أكثر مما كَلَّفَه، صَلِّ قائما فإن لم تستطع فقاعداً، عدم الاستطاعة هنا لا تعني أنَّهُ إذا قام يَسْقُطْ وإلا يكون مستطيعاً بل إذا كان يُخْشَى عليه أن يزداد في مرضه أو يتعب أو قيامه يُذهب بخشوعه فإنَّه لأجل ما معه من المرض وعدم الاستطاعة النسبية فإنه يجلس، وهكذا.
فإذاً هذه الجملة (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ) ظاهرها غير صحيح، وإن كان إحسان الظن بالمؤلف رحمه الله يمكن معه أن تُحمَلَ بِتَكَلُّف على محملٍ صحيح.
قال بعدها (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ")
وفي هذه الجملة إلى آخرها يعني في تفسير كلمة (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه) مسائل:
[المسألة الأولى] :
كلمة ("لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") من أعظم الأذكار التي فيها الإقرار بربوبية الله عز وجل وبإلهيته وبأسمائه وصفاته، وفيها الإقرار بتَخَلِّي العبد عن كل حولٍ له وقوة ورؤية لما عنده من الآلات والقُدَرْ إلى ما عند الله وحده.
ففيها الفرار من الله عز وجل إليه وحده سبحانه وتعالى، وفيها التَّخَلِّي من رؤية النفس التي أوجبت الهلكة في الدنيا والآخرة على طائفة من الخلق.
فمعنى (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ) :
(لَا) : هنا نافية للجنس؛ يعني جنس الحول.
(حول) : هو إمكان التَّحَوُّلْ من حالٍ إلى حال، وحتى رَفع الكأس إلى فيك، وحتى حركة ثوبك وحركة عمامتك، وحتى حركة عينيك، فإنَّ هذا التحوّل من حالٍ إلى حال في أي شيءٍ تفعله فإنك تنفي جنسه، وتنفي القدرة على هذا التحول، إلا أن يكون بالله جل جلاله.
وهذا فيه التبرُّؤْ من الحول والقوة، وأنَّهُ لا يمكنك أن تتخلّى عن الله عز وجل طرفة عين، حتى في طرف عينك وفي حركة لسانك وفي حركة أنفاسك فإنَّه لا تَغَيُّرَ من حالٍ إلى حال ولا قدرة لك على تحول شأنٍ من شؤونك مهما قلّ إلا بالله عز وجل.
(وَلَا) : لَا نافية للجنس
(قُوَّةَ) : يعني أنَّكَ تنفي جنس القوة التي بها تُوجَد الأشياء والتي بها تُحَصِّل الأمور، تنفي جنسها أن تكون حاصلة لك استقلالاً، أو حاصلة لك في إحداث الأشياء، وهذا منفي، إلا أن تكون بالله عز وجل.
وهذه الكلمة العظيمة فيها:
1-
أولاً: توحيد الربوبية:
وهذا حقيقة توحيد الربوبية لله عز وجل، فإنَّ الإيقان بأنَّ الله عز وجل هو المدبر للأمر {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة:5] وأنَّهُ عز وجل {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59] وأنه عز وجل {يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، وأنَّهُ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2] ، وأنَّهُ ما تسقط من ورقة، وأنه ما من شجرة، ولا هبوب ريح، ولا تحرك في وليد ولا في جنين ولا في دمٍ في العروق، ولا في حركة حيوان صَغُرَ أم كَبُرْ، وأنَّ ذلك كلَّه بتدبير الله عز وجل، وأنَّ كلماته الكونية عز وجل وسعت كل شيء، كما قال عز وجل في آخر سورة الكهف {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ، يعني الكلمات الكونية لكثرة أوامره عز وجل الكونية فيما يحدث في أحوال العباد.
فتَنْظُرْ إلى توحيد الربوبية وتَعْلَمْ أنَّكَ لا فِعْلَ لك ولا حول في أي شيء ولا قوة إلا بالكريم جل جلاله.
ومن أعظم ذلك الذي تَتَبَرَأْ فيه من الحول والقوة الهداية وصلاح النفس وصلاح الظاهر وصلاح الباطن، فإنه لا يمكن لعبدٍ يرى نفسه أنَّهُ يفعل ويفعل وأنَّهُ يَقْدِرْ وأن يُوَفَّقَ أبداً؛ بل لا يُوَفَّقَ إلا من تبرأ من الحول والقوة في شأن التكليف وفي شأن الهداية {وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الإسراء:97] ، سبحانه وتعالى.
2-
ثانياً: توحيد الألوهية:
فيها توحيد الإلهية أيضاً في أنَّهُ إذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله وأنَّ المرء والمخلوق لا يمكنُ له أن يفعل إلا بالله وحده دون ما سواه، فلماذا يتعلق قلبه إذاً بغير الله من الآلهة والأنداد والأموات والأولياء والقوى المختلفة في حال البشرية، القوة المادية أو غيرها؟ لماذا يتعلق قلبه بهذه الأشياء؟
فإنما يكون إذاً تعلق القلب بمن يملك الانتقال والنُّقْلَةْ من حالٍ إلى حال ومن يملك القوة.
فإذاً تتوجه القلوب في الدعاء ويتوجه المرء في عباداته إلى الله عز وجل وحده، ويعلم أنَّ من توجَّهَ إليه الخلق بالعبادة وألَّهُوهُ من دون الله عز وجل هم كما وصفهم الله عز وجل بقوله {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191-192] ، وقال عز وجل في وصفهم يعني في وصف الآلهة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء} [الأحقاف:5-6] ، وفي قوله عز وجل {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56] ، فالآلهة المختلفة مُحْتَاجَةْ ذليلة إلى الرب جل جلاله، لا تملك لأنفسها شيئاً من الضر ولا النفع، فإذاً وجب التوجه إلى الله عز وجل.
3-
ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات:
هذه الكلمة العظيمة فيها توحيد الأسماء والصفات عن طريق التّضمُّنْ واللُّزُومْ؛ لأنَّ وصف الله عز وجل هنا بأنَّهُ القوي القدير جل جلاله يتضمن إثبات صفات الكمال التي تقتضي أنَّهُ لا انتقالَ من حالٍ إلى حال إلا به، فهل ينتقل المرء من حالٍ إلى حال إلا برحمته، هل يستقيم في حياته إلا بهدايته؟ هل يستقيم في أموره إلا بقدرته عز وجل وبرحمته وبعفوه وبمغفرته وبعدله إلى آخر الصفات؟
فإذاً هذه الكلمة مُتَضَمِّنَة ويلزم أيضاً من إثباتها إثبات أنواع من الأسماء والصفات للرب جل جلاله.
فهي كلمةٌ عظيمة جليلة لذلك كانت من أعظم الكلمات التي هي غراس الجنة ووسيلة إلى الرب جل جلاله.
قال المؤلف رحمه الله في تفسيرها (نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.)
فتلحظ هنا من هذا التفسير أنَّهُ خَصَّ من معنى هذه الكلمة الانتقال من المعصية إلى الطاعة والتوفيق للطاعات.
وهذا هو الذي يناسب المقام في ذِكْرْ القَدَرْ؛ لأنَّ المخالفين في القَدَرْ -أعني بهم القَدَرِيَّة- ظنوا أنَّ المرء هو الذي يُحَصِّلُ الطاعة بنفسه وأنَّ الله عز وجل أعطاه الأسباب إلى آخره فهو القادِرُ على تحصيل الطاعة والهداية لكنه لم يفعل ذلك.
وهذا خلاف ما دلَّتْ عليه هذه الكلمة فضلاً عن مخالفته لأصولٍ كثيرة.
وتحت هذا التفسير مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ تحوّل المرء عن المعصية إلى الطاعة والقوة على الطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله عز وجل.
والتوفيق لفظٌ شرعي جاء في النصوص كما في قوله عز وجل {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] ، ويقابله الخذلان.
والتوفيق والخذلان متصلان بالقَدَرْ اتصالاً وثيقاً، ولأجل ذلك فَسَّرَتْ كل فرقة من الفِرَقْ الضالة التوفيق والخذلان بما عندها من الاعتقاد في القدر:
فالمعتزلة والقدرية يُفَسِّرُون التوفيق بما يوافق عقيدتهم.
والجبرية والأشاعرة والماتريدية ومن شابههم يفسرون التوفيق والخذلان بما يناسب عقيدتهم.
وأهل السنة يُفَسِّرُونَهُ بما يوافق ما دلَّ عليه القرآن والسنة ويوافق العقيدة السلفية التي كان عليها هدي السلف الصالح.
[المسألة الثانية] :
1-
أولاً: معنى التوفيق والخذلان عند أهل السنة:
التوفيق الذي ذكره هنا يقول (وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ [عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ] إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ.)
- التوفيق: هو إعانَةٌ خاصة من الله عز وجل للعبد بها يَضْعُفُ أثر النفس والشيطان وتقوى الرغبة في الطاعة، وإلا فالعبد لو وُكِلَ إلى نفسه لغلبته نفسه الأمّارة بالسوء والشيطان.
وهذا يُحِسُّ به المرء من نفسه فإنَّه يرى أنَّ هناك قدراً زائداً من الإعانة على الخير زَائِدْ على اختياره، فهو يختار ويتوجه لكن يُحِسُّ أنَّ هناك مدداً مَدَّهُ الله عز وجل يُقَوِّيه على الخير فيما يتّجه إليه من الخير.
وهذا ليس لنفسه وليس من قدرته وقوته ولكن هذه إعانة خاصة.
ولهذا فإنَّ العبد المؤمن يرى أنّه لا شيءَ من الطاعات حَصَّلَهَا إلا والله عز وجل وَفَّقَهُ إليها، يعني مَنَحَهُ إعانةً على تحصيلها وعدم الاستسلام للنّفس وللشيطان.
فالتوفيق فيه معنى الهداية والإعانة الخاصة، ويقابله الخذلان.
- فالخذلان: هو سلب العبد الإعانة التي تُقَوِّيْهْ على نفسه والشيطان.
(نعوذ بالله من الخذلان) يعني نعوذ بالله من أن نُسْلَبَ الإعانة على أنفسنا وعلى كيد الشيطان.
2-
ثانياً: معنى التوفيق عند الأشاعرة:
أما تفسير التوفيق والخذلان عند الأشاعرة، ويحسُنْ التنبيه عليه لأنَّهُ أكثر ما تجد في كتب التفسير وكتب شروح الأحاديث، وخاصَّةً تفسير القرطبي وتفسير أبي السعود والرازي وأشباه هذه التفاسير، وشروح الأحاديث كشروح النووي والقاضي عياض وابن العربي ونحو ذلك من شروح الأحاديث، فإنَّ أكثر ما تجد تفسير التوفيق والخذلان هو تفسيره عند الأشاعرة.
لهذا ينبغي العناية بهذا الموطن لصلته بالقَدَرْ.
- التوفيق عندهم: خلق القُدْرَةْ على الطاعة، يعني جَعَلُوا التوفيق هو القُدْرَةْ.
- والخُذْلَان: هو عدم خلق القُدْرَةْ على الطاعة.
يعني إِقْدَارُ الله عز وجل العبد على الطاعة هذا توفيق، وعدم إِقْدَارُ الله عز وجل العبد على الطاعة هذا خذلان.
وهذا كما هو ظاهر لك فيه خلل كبير لأنَّهُ جعل التوفيق إقداراً، وجعل الخذلان سلباً للقدرة، وهذا فيه نوع قوة لاحتجاج المعتزلة على الجبرية في معنى التوفيق والخذلان.
وتفسير أهل السنة وسط في أنَّ التوفيق زائد على الإِقْدار، فالله عز وجل أَقْدَرْ العبد على الطاعة بمعنى جَعَلَ له سبيلاً إلى فعلها وأعطاه الآلات وأعطاه القوة ليفعل؛ ولكن لن يَفْعَلَ هو إلا بإعانَةٍ خاصة؛ لأنَّ نفسه الأمارة بالسوء تحضُّهُ على عدم الفعل، عدم العبادة.
وهذا يلحظه كل مسلم من نفسه فإنه يريد أن يتوجه إلى الصلاة ويأتيه نوع تثاقل يريد أن يقوم بنوعٍ من العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويصيب نفسه نوع من التثاقل، وهذا من الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء، فإذا منحه الله التوفيق وأعانه على أن يَتَعَّبْد، أعانه على أن يقول ما يقول بموافَقَةٍ للشرع فهذا توفيق وإعانة خاصة يمنحها الله عز وجل من يشاء من عباده.
[المسألة الثالثة] :
أنَّ معرفة العبد المؤمن بحقيقة هذه الكلمة ومعنى توفيق الله عز وجل ومعنى الخذلان يُوجِبُ له أن ينطَرِحَ دائماً بين يدي ربه عز وجل متبرئاً من نفسه ومن حولها وقوتها ومن أن لا يكله الله إلى نفسه طرفة عين.
لهذا قال صلى الله عليه وسلم «ربي لا تكلني لنفسي طرفة عين» (1) يعني حتى في تحريك العين وفي طرفها لا تكلني إلى نفسي، وهذا من عِظَمِ معرفته صلى الله عليه وسلم بربه فهو أعلم الخلق بالرب جل جلاله وأخشاهم له عز وجل وأتقاهم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
فلهذا إذا علمت معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) ومعنى (التوفيق) ومعنى (الخذلان) فإنه يجب عليك أن تستحضر ذلك في كل حال، واستحضارك ذلك ومجاهدة نفسك على طلب التوفيق من الله عز وجل وعدم رؤية النفس وقوة النفس والرأي وما عندك من الأدوات والمال وما عندك من الأسباب، فإنَّ هذا من أسباب التوفيق.
فلا يُطْلَبُ التوفيق من الله عز وجل بمثل الانطراح بين يدي الله عز وجل في الحاجة إلى توفيقه جل جلاله، وإذا ظَهَرَ في العبد استغناء عن توفيق الله عز وجل ورؤية ما عنده فإنه يُخْذَلْ.
ألم تر إلى يوسف عليه السلام وهو الكريم ابن الكريم وهو نبي الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حين كان في السجن وظَهَرَ له من السّبب ما ظهر في تفسيره للرؤية ونجاة السّجين من السجن بسبب تفسيره للرؤيا، {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} قال عز وجل {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [الكهف:42] ، وهذا على أحد التفسيرين أنَّ الشيطان أنسى يوسفَ عليه السلام ذِكْرَ الله عز وجل في هذا الموطن والتَّعَلُّقَ به عز وجل وحده، لا نقصاً في مقام يوسف عليه السلام ولكنه بيانٌ لنوعٍ من الرسالة التي تُؤَدَّى بأقوال الأنبياء وبأفعالهم عليهم الصلاة والسلام.
فالعبد إذا التَفَتْ إلى غير الله عز وجل طرفة عين فإنه يُوْكَلْ إلى نفسه ويخرج متضرراً.
وهذا نبي الله عز وجل محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة أخذ بالأسباب التي تُعِينُ على تحقيق المراد، الأسباب المشروعة التي تعين تحقيق المراد ولم يَرَ صلى الله عليه وسلم تلك الأسباب ولم تقم في قلبه بأنه يتَّكِلْ عليها صلى الله عليه وسلم وإنما فعلها لأنها مُقْتَضِيَة لحُدُوثِ مُسَبَّبَاتِهَا في العادة، فأتى برجل من المشركين هادٍ خرِّيت يعرف الطُرُقْ ليسير به صلى الله عليه وسلم بطريقٍ آخر في الهجرة حتى لا يعلم المشركون طريقه، وأيضاً أَمَرَ أسماء وأَمَرَ راعي الغنم أن يَمُرَّ بالغنم على مسيرهم حتى لا يَرَوا الأقدام، فكل الأسباب بُذِلَتْ؛ ولكنها لم تنفع حتى قام المشركون على رأس الغار على ظهر الجبل والنبي صلى الله عليه وسلم في الغار، وأبو بكر رضي الله عنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله لو أبصر أحدهم موضع قدمه لرآنا) فقال له صلى الله عليه وسلم (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)(2)
حركة عين المشرك من أن يرى، هم كانوا يرون ما أمامهم من جهة الساحل.
حركة عين المشرك من أن يرى، كانوا يرون ما أمامهم جهة الساحل، حركة العين إلى أن ترى الأسفل، ترى موقع القدم، فيُبْصرون الغار ويبصرون النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه هذه لا حيلة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا حيلة لأبي بكرٍ بها ولا تنفع فيها الأسباب التي فُعِلَتْ؛ لكن بقي توفيق الله وعونه وحقيقة التوكل عليه عز وجل.
لهذا أَعْظِمْ في كل شأنٍ من شؤونك وخاصَّةً الهداية والتوفيق للصالحات وطلب العلم النافع والتوفيق للسنة والالتزام بها وملازمة هدي السلف الصالح ومُجَانَبَة طريق المخالفين للسنة والمخالفين لهدي السلف وهدي العلماء، دائماً إِلْجَأْ إلى ربك في تحصيله، فما طُلِبَ من الله عز وجل شيء وبوسيلة أعظم من مسيلة التبرؤ من الحول والقوة.
أسأل الله عز وجل أن يُفيض علينا من معرفته والعلم به وما به نزدلف إلى رضاه ونبتعد عمّا يسخط ويأبى إنه سبحانه جواد كريم.
(1) أبو داود (5090)
(2)
نهاية الوجه الأول من الشريط الأربعين، والحديث رواه البخاري (3653) / مسلم (6319)
قال بعد ذلك (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .)
يريد رحمه الله بهذا أن يُقَرِّرَ مُعْتَقَدْ أهل السنة والجماعة أنّه ما من شيء يحدث إلا وهو بمشيئة الله وعلمه وقضائه عز وجل وقدَرِه، وأنَّ الأمور لا تُسْتَأْنَفْ، لا يعلمها الله عز وجل إلا بعد وقوعها، كلا وحاشا، وإنما تقع على وَفْقِ تقدير الله عز وجل لها في الأزل.
يعني علمه عز وجل بها، وكتابته عز وجل لها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأنَّهُ سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وفي هذه الجملة ذِكْرُ مراتب الإيمان بالقدر المعروفة.
- المرتبة الأولى ذَكَرَهَا في قوله العلم.
- والمرتبة الثانية ذَكَرَهَا في قوله القدر، وهو الكتابة.
- والمرتبة الثالثة ذَكَرَهَا بقوله (بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا) .
- المرتبة الرابعة ذَكَرَهَا في قوله فيما سبق (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ) .
فهو لم يَنُصْ على مراتب القدر المعروفة وهي مُفَرَّقَةٌ في هذا الكلام.
وها هنا مسائل:
[المسألة الأولى] :
تفصيل الكلام على مراتب القَدَرْ، هنا لم يُنَصَّ عليه، والشارح أيضاً لم يتعرض له في هذا الموطن وتفصيله أنَّ الإيمان بالقدر يشمل الإيمان بمرتبتين:
1-
المرتبة الأولى: سابقة لوقوع الواقعة أو لوقوع المُقَدَّرْ.
وهذا الإيمان السابق يشمل درجتين:
- الدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله عز وجل بالأشياء قبل وقوعها عِلْمًا كُلِّيَاً وعلما جُزْئِيَّاً؛ يعني عِلْمَاً منه عز وجل بالكُلِّيَات وبالجزئيات، وعِلْمُهُ سبحانه وتعالى بهذه الأشياء أوَّلْ كصفاته عز وجل.
- الدرجة الثانية: وهو الإيمان بكتابة الله عز وجل للأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث الذي في الصحيح «قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (1)
(قدر الله مقادير الخلائق) يعني كَتَبَها في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما مرتبة العلم فهي سابقة فعلمه عز وجل بالأشياء أَوَّلْ لا حدود له.
2-
المرتبة الثانية: إيمانٌ بالقدر إذا وقع المُقَدَّرْ.
وهذا يشمل درجتين أيضاً:
- الدرجة الأولى: أن يعلم العبد أنَّ مشيئته في إحداث الأشياء هي تَبَعٌ لمشيئة الله عز وجل، وأنَّ مشيئة الله نافذة ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن كما قال عز وجل {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ، وقال عز وجل {وَمَن يَشَإِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] ، وقال عز وجل {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30-31] .
- الدرجة الثانية: هو أنَّهُ لا يقع شيء مما يقع إلا والله عز وجل هو الذي قضاه، وهو الذي خَلَقَ هذا الفعل، فالله عز وجل هو الخالق لكل شيء، وفي ضمن ذلك حركات العبد وأفعال العباد كما قال سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الجاثية:96] ، على نحو ما فصَّلْنَا في دلالة الآية.
والقضاء والقدر لفظان أتيا في الكتاب والسنة، والعلماء تَكَلَّمُوا في معنى القضاء والقدر والصلة بين هذا وهذا.
والتحقيق في ذلك أنَّ القَدَرَ هو ما يسبق وقوع المُقَدَّر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ صار قَضَاءً.
قُضِيَ يعني انتهى، ومادة قَضَى في اللغة تدور حول هذا.
فيُقَال قَضَى القاضي بكذا إذا أَنْفَذَ حكمه وانتهى، وقال عز وجل {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] ؛ يعني أَنْهَاهُنَّ بخلقهن سبع سماوات، وقال عز وجل {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] يعني احكم بما تحكم به حتى يكون قضاءً، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبإ:14] .
فالقضاء يُطْلَقْ بمعنى إنفاذ المقَدر، فإذا وَقَعَ المُقَدَّرْ سُمِيَّ قَضَاءً.
وهذا نعني به القضاء الكوني؛ لأنَّ القضاء في النصوص يكون قضاءً كونياً ويكون قضاءً شرعياً.
أما القضاء الكوني فهو على نحو ما مر.
وأما القضاء الشرعي فمعناه أَمَرَ الله ووَصَّى كقوله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، يعني أمر ربك ووَصَّى أن لا تعبدوا إلا إياه.
ويأتي القضاء في معنىً ثالث إذا عُدِّيَ بحرف (إلى) بمعنى أوحينا وأعْلَمْنَا.
تقول قَضَيْتُ إليه أن يفعَلَ كذا يعني أخبرته أعلمته ولا يعني معنى الإنفاذ كما قال عز وجل {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4] وكما في قوله عز وجل في آخر سورة الحجر {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] .
{وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} يعني أوحينا ذلك الأمر، فهذا بابٌ آخر غير الباب الذي نتتكلم عنه.
(1) سبق ذكره (61)
[المسألة الثانية] :
ذَكَرَ هنا الظلم فقال (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا) ولفظ الظلم من الألفاظ التي أدخلها هنا لأنَّ الفِرَق الضالة تكَلَّمَتْ فيها:
- فالمعتزلة لهم كلام في الظلم.
- والجبرية لهم كلام في الظلم.
- وأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وسط بين الفئتين.
@ فالظلم عند المعتزلة في حق الله عز وجل هو الظلم في حق الإنسان، فما يفعله الإنسان ويكونُ ظلماً منه إذا نُسب إلى الله عز وجل فإنَّه ظُلْمْ.
فقاسوا الظلم الذي يضاف إلى الله عز وجل بالظلم الذي يقع من الإنسان.
فعندهم الظلم واحد، سواءٌ أكانَ في المخلوق أم في الخالق، ضابطه واحد، وتعريفه واحد، وما يُنَزَّهُ الله عز وجل عنه من الظلم، هو ما لا يليق بالإنسان أن يفعله.
@ وأما المتكلمون والأشاعرة ونحو هؤلاء فإنَّ الظلم عندهم هو الامتناع عن القدرة.
وعندهم قُدْرَةْ الرّب عز وجل مُتَعَلِّقَة بما لا يشاؤه سبحانه في تَعَلُّقِهَا الأزلي وفي تعلقها الصُّلُوحي -على حد كلماتهم -لا ينشغل ذهنك بها-.
فعندهم القدرة متعلقة بما يشاؤه سبحانه، فما لا يشاؤه غير مَقْدُور.
فمعنى ذلك: الممتنع عن القدرة في تفسير الظلم هو الممتنع في حق الله عز وجل عما لم يشأه عز وجل.
فعند المتكلمين أو -الأحسن طائفة من المتكلمين لأنها ليست موضع اتفاق بين المتكلمين والأشاعرة ثَمَّ خلاف بينهم وإن كان قليلا- عندهم الظلم هو الامتناع أو ما يمتنع أو ما هو مُمْتَنِعٌ مِنَ القُدْرَة.
فما هو ممنوع ممتنع في قدرة الرب عز وجل هو الذي لو فَعَلَهُ لكان ظلماً.
لكن هذا كما ترى تحصيل حاصل، فإنَّه عز وجل إذا كان لم يفعل فيكون عدم ظُلْمِهْ في أنَّهُ عز وجل لا يفعل الأشياء؛ لأنه لا يَظْلِمُ أحداً، فلو فَعَلَ شيئاً لا يدخل في قدرته -بحسب كلامهم- يكون ظلماً.
وهذا تفسير لا حاصل تحته لأن القدرة شيء والظلم شيء آخر.
فالظلم إذاً في تفسيرهم -تفسير طائفة من المتكلمين والأشاعرة ومن نحا نحوهم- يرجع إلى المُمْتَنِعِ في صفة القدرة لله عز وجل، فَرَجَعْ إلى أنَّ المُمْتَنِعْ في مشيئة الله عز وجل لو فعله لكان ظلماً؛ لأنَّ عندهم الأفعال أيضاً غير مُعَلَّلَة، وحكمة الله عز وجل غير مرتبطة بالعِلَلْ والأسباب في بحثٍ يطول ذكره هنا.
@ وأما تفسير أهل السنة والجماعة والأئمة والذي دَلَّتْ عليه النصوص فهو أنَّ الظلم هو وضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها الموافق للحكمة منه عز وجل.
والظلم بالتالي يكون غير مرتبط بالقُدْرَةْ وغير مَقيس على أفعال الإنسان؛ بل هو سبحانه متنزه عن الظلم وقد حَرَّمَهُ على نفسه.
مما يتصل أيضاً أنَّ الظلم عند المعتزلة لا يكون إلا من مأمورٍ ومَنْهِي؛ يعني أنَّ حقيقة الظلم تكون فقط ممن يُؤْمَرْ ويُنْهَى، ويورِدُون الآيات في ذلك، ويقولون الآيات كلها دالَّةْ على أنَّ الظلم إنما يكون في حق من أُمِرْ فلم يفعل ونُهِيْ ففَعَلْ وهم المُكَلَّفُونْ.
ولذلك ينفون عن الله عز وجل حقيقة الظُّلْمْ لأجل أنَّهُ غير مأمور وغير مَنْهِي، ويَرُدُّون الأحاديث التي فيها تحريم الظلم على الله عز وجل ونحو ذلك.
نقول: نضرب مثالا ًعلى ذلك في حديثين:
أما الحديث الأول فقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح حديث أبي ذر المعروف «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1) وهذا يدل على أنَّ الله حَرَّمَ الظلم على نفسه، فلو كان الظلم على تفسير أولئك لا يقع إلا من مأمور ومنهي، فكيف يكون تحريمه على الله عز وجل؟
يكون تحريمه تحصيل حاصل لا معنى له، ولو كان الظلم هو الامتناع عن القدرة لكان أيضاً إضافته إلى الله عز وجل تحريم الظلم ليس له معنى.
فإذاً تحريم الظلم «حرّمت الظلم على نفسي» يعني جعلت وضع الأشياء في غير موضعها الموافق للحكمة جعلته مُحَرَّمَاً على نفسي، وحَرَّمْتُ عليكم أن تظالموا.
والحديث الثاني وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داوود وغيره وصحَّحَهُ بعض العلماء قال صلى الله عليه وسلم «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» (2) الحديث.
يعني أنَّ أهل السموات والأرض لو عَذَّبَهُمْ الله عز وجل لعذبهم وهو غير ظالمٍ لهم.
المعتزلة يَرُدُّون هذه الأحاديث أصلاً، والأشاعرة يُجَوِّزُونَ أن يُعَذِّبَ الله عز وجل الناس من غير سبب؛ لأنهم لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله، يفعل ما يشاء بدون علة وبدون سبب، ومنها أَخَذَ صاحب السَّفَارينية في قوله في منظومته، السَّفاريني:
وجَازَ للمولى يعذب الورى ****** من غير ما ذنبٍ ولا جُرْمٍ جرى
(1) سبق ذكره (51)
(2)
أبو داود (4699) / ابن ماجه (77)
يقول (جائز أن يُعَذِّبَ الورى) يعني الله عز وجل من غير ما ذنب ولا جرم جرى.
هذا الحديث أهل السنة لا يُفَسِّرُونه بهذا ولا بهذا؛ يل يفسرونه بعِظَمِ معرفتهم لربهم جل جلاله وخشيتهم له ومعرفتهم بحقوقه، فيقول أئمة أهل السنة:
بأنَّ أهل السموات وأهل الأرض إنَّمَا قاموا برحمة الله عز وجل، فما فيهم حركة ولا حياة ولا شأن إلا وفي كلٍّ منها فضل من الله عز وجل ورحمة ونعمة أفاضها عليهم بها قامت حياتهم وبها استقاموا، كما قال عز وجل {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53] ، فمِنْ حَقِّهِ عز وجل على هذا العبد المكلف الذي لا ترمش عينه إلا بنعمة، ولا يأكل إلا بنعمة، ولا يتنفس إلا بنعمة، ولا يتعلم إلا بنعمة، ولا يخطو خطوة إلا بنعمة، ولا ينظر إلا بنعمة، ولا يسمع إلا بنعمة، ولا يتكلم إلا بنعمة، ولا يفرح إلا بنعمة، إلى آخر نِعم الله عز وجل التي لا تُحْصَى ولا تُعَد، من حقه عز وجل أن يُقَابَلَ مع كل نعمة بشكر يقابل تلك النعمة.
فإذاً سيمضي حياته في شكر الله عز وجل على الصغير والكبير، فهل تسع حياة المكلفين ذلك؟
لا تسع ذلك.
ولهذا تأمل مع هذا قول الله عز وجل لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1-2] .
وتأمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قام حتى ورمت قدماه صلى الله عليه وسلم «أفلا أكون عبداً شكوراً» (1) ولن يَبْلُغْ جميعَ ما يَسْتَحِقْ الله عز وجل من الشكر بالعمل؛ بل لابد من الاستغفار والإنابة حتى يكْمُلَ شكر العبد لربه عز وجل.
وتأمل أيضاً ما عَلَّمَهُ صلى الله عليه وسلم الصديق الذي هو أفضل هذه الأمة أن يقول في آخر صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك» (2) كيف عَبَّرَ هنا بالظلم، «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» لم؟ هل ظلم أبو بكر بارتكاب الكبائر؟
حاشا وكلا.
هل ظَلَمَ بِظُلْمِ العباد؟
حاشا وكلا.
هل ظلم أبو بكر رضي الله عنه بالتقصير في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الاستجابة لله ولرسوله الظلم الكثير؟
حاشا وكلا.
ولكن ينظر العبد إلى ما يُفَاضُ عليه من النِّعَمِ في كل لحظة، فيشعر بأنه مُقَصِّرْ والله عز وجل وصف القليل من الإعراض في حق العبد بأنه من الظلم، ووَصَفَ الكثير بأنه من الظلم، فلهذا يشعر المؤمن بأنَّهُ ظلم نفسه ظلماً كثيراً؛ لأنه لا يمكن أن يشكر حقيقة الشكر.
فلو حاسَبْ الله عز وجل -العباد، حاسب أهل السموات وأهل الأرض وأهل الأرض على حقيقة شكر ما أنعم الله به عليهم وأعظم ذلك أن جعلهم مُتَّصِلِينَ منه بسبب ومرفوعين إليه عز وجل وأنهم من المنيبين وأنهم من المهتدين لما قامت حيلة العبد ولما قام إيمانه ولما قام له شيء؛ ولكن ما ثَمَّ إلا رحمة الله عز وجل «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضلا» (3) .
فإذاً ننظر إلى قوله «لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبه وهو غير ظالم لهم» لأنَّ الشكر لن يكون في تمامه، فإذاً هم لن يُعْدَمُوا؛ بل لن يكونوا إلا مُقَصِّرِين، لن يكونوا إلا لم يُوَفُّوا مقام الشكر حقه.
بل حتى التوبة والإنابة إذا العبد كَمَّلَ الشكر بتوبته وإنابته دائماً واستغفاره فإن قَبُول التوبة وحصول المغفرة وقبول الإنابة من العبد أليست هذه نعمة تستحق شكرا مجددا؟
فإذاً لو عَذَّبَ الله أهل سمواته وأهل أرضه لَعَذَّبَهُم وهو غير ظالم لهم، فلا يبرح العبد أن يرى نعمة الله عز وجل تُفِيْضَ عليه في أمر دينه وفي أمر دنياه وليس ثَمَّ أمامه سبيل إلا أن يشعر بالتقصير.
وهذا المؤمن الحق دائماً يقول مُحَقِّراً نفسه، عسى الله أن يتغمدنا برحمة منه وفضل ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل، وانظر إلى كلام أبي بكر رضي الله عنه في دعائه.
فكيف حال المغرورين الجهلة والمذنبين من هذه الأمة الذين لا يرون أثراً لذنوبهم ولا لإعراضهم؛ بل إذا فعلوا القليل مَنُّوا وأدْلَوا على الله عز وجل به وهذه حال من لم يُوَفَّقْ.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا إلى ما يحب ويرضى.
هذا تفسير الظلم عند الطوائف المشهورة: القدرية وهم المعتزلة والجبرية وهم أصناف والمتكلمين وقول أهل السنة فيما بين هؤلاء وهؤلاء.
نختم بهذا، وهذه المسائل التي ذكرت مختصرة جدا، وإلا فبحوث القدر كثيرة، ولا نريد منكم أن تتوسعوا أكثر إلا فيما شملته العقيدة الواسطية وشملته العقيدة الطحاوية، ففيهما بركة؛ لأنَّ كثرة الخوض في القدر مُلْبِسَة إلا بعلمٍ راسخٍ في الكتاب والسنة.
في الختام أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق للصالحات وأن يرحمنا برحمته وأن يوفقنا إلى طاعته.
(1) البخاري (1130) / مسلم (7302)
(2)
سبق ذكره (369)
(3)
سبق ذكره (378)