الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال بعدها رحمه الله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) .
و
قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ)
هذا مُنْتَزَع من قول الله عز وجل {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هذه جاءت بها الرسل جميعا؛ جاء بها نوح، وجاء بها هود، وجاء بها صالح، وجاءت بها الأنبياء والرسل جميعا.
وهذا في المعنى كقوله عز وجل {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:1-2]، وكقوله عز وجل {أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:32] ، وكقوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] .
وفي قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ هذه الكلمة هي معنى كلمة؛ أو هي مطابقة لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) .
وكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) معناها (لا إلهَ غَيْرُهُ) .
والإله في كلمة التوحيد وفي قوله (لا إلهَ غَيْرُهُ) هذا دخل عليه النفي.
فالمَنْفِيُّ جنس الآلهة التي تستحق العبادة، والله عز وجل ليس داخلا في هذا النفي -كما سيأتي بيانه في إعراب كلمة التوحيد-.
وكلمة (إلا الله) موافقة لـ (غَيْرُهُ) ؛ لأن الغَيرِيَّةْ:
- ربما كانت غيرية في الذوات كقولك: ما دخل رجل غيرُ زيد، فهنا ذات الرجال غير ذات زيد.
- أو في الصفات كقولهم: جاءكم بوجه غير الذي ذهب به.
الوجه من حيث هو واحد لكن من حيث الصفة اختلف.
فإذاً الغَيرِيَّةْ قد ترجع إلى غيرية الذات، وقد ترجع إلى غيرية الصفات.
وفي النفي (لا إله إلا الله) هنا الإله المنفي هو جنس الآلهة التي تستحق العبادة.
* و (إلا الله) ليس هذا مُخْرَجاً من الآلهة؛ لأنه لم يدخل أصلاً فيها حتى يخرج منها لأن النفي راجع إلى الآلهة الباطلة.
[المسألة الثانية] :
أنَّ قوله (لا إلهَ غَيْرُهُ) مشتمل على كلمة (إله) وكلمة (الإله) هذه اختلف الناس في تفسيره.
- فالتفسير الأول لها:
أنّ الإله هو الرب، وهو القادر على الاختراع، أو هو المستغني عمَّا سواه، المفتقر إلى كل ما عداه.
وهذا قول أهل الكلام، في أنّ الإله هو الرب؛ يعني هو الذي يَقْدِرُ على الخَلْقِ والاختراع والإبداع، وهو الذي يستغني عمَّا سواه وكل شيء يفتقر إله.
كما ذكرنا إليكم مرارا عبارة صاحب السَّنوسية وعبارة أهل الكلام في ذلك.
وهذا التفسير بكون الإله هو القادر على الاختراع وهو الرب لأهل الكلام، من أجله صار الافتراق العظيم في فهم معنى كلمة التوحيد وتوحيد العبادة وفي فهم الصفات وفي تحديد أول واجب على العباد.
- التفسير الثاني لها:
نأتي للجملة هذه [.....](1) وأنّ الإله، إله (فِعَالْ) بمعنى مَفْعُولْ يعني مَأْلُوهْ.
سُمِّيَ إلهً لأنه مألوهٌ.
والمألُوهُ مفعول من المصدر وهو الإلهَةْ.
والإلهة مصدر أَلَهَ يَأْلَهُ إِلَهَةً وأُلُوهَةً إذا عَبَدَ مع الحب والذل والرضا.
فإذاً صارت كلمة الإله هي المعبود، والإلهة والألوهية هي العبودية إذا كانت مع المحبة والرضا.
فصار معنى الإله إذاً هو الذي يُعْبَدُ مع المحبة والرضا والذل.
وهذا التفسير هو الذي تقتضيه اللغة؛ وذلك لأنَّ كلمة (إله) هذه لها اشتقاقها الراجع إلى المصدر إلهة، الذي جاء في قراءة ابن عباس في سورة الأعراف {وَيَذَرَكَ وَإِلَهَتَك} [الأعراف:127] يعني ويذرك وعبادتك، وأما مجيؤُها في اللغة فهو كقول الشاعر كما ذكرنا لكم مرارا:
لله درّ الغانيات المُدّهِ ****** سبّحن واسترجعن من تألهِ
يعني من عبادتي.
فالإله هو المعبود، ولا يصح أن يفسَّر الإله بمعنى الرب مطلقاً.
لأنَّ الخصومة وقعت بين الأنبياء وأقوامهم، بين المرسلين وأقوامهم في العبودية لا في الربوبية.
فالمشركون أثبتوا آلهة وعبدوهم، كما قال عز وجل {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81-82] ، وكقوله {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] يعني أَجَعَلَ المعبودات معبوداً واحداً.
وهذا يدلك على أنَّ هذا النفي في قوله (وَلا إلهَ غَيْرُهُ) راجعٌ إلى نفي العبادة.
وهذا القول الثاني هو قول أهل السنة وقول أهل اللغة وقول أهل العلم من غير أهل البدع جميعاً، وهو المنعقد عليه الإجماع قبل خروج أهل البدع في تفسير معنى الإله.
وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) يعني لا معبود بحق إلا الله جل جلاله.
(1) يوجد كلام مقطوع.
[المسألة الثالثة] :
راجعة إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ما معناها؟
معناها: لا معبود حق إلا الله عز وجل.
وكما هو معلوم الخبر في قوله (لا) ، خبر (لا) النافية للجنس محذوف (لا إله) ، ثم قال (إلا الله) .
وحذْفُ الخبر؛ خبر (لا) النافية للجنس شائع كثير في لغة العرب كقول النبي صلى الله عليه وسلم (لَا عَدْوىَ، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ، وَلَا نَوْءَ، وَلَا غُولَ)(1) فالخبر كله محذوف.
وخبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا وبشيوعٍ إذا كان معلوما لدى السامع، كما قال ابن مالك في الألفية في البيت المشهور: وشاع في ذا الباب -يعني باب لا النافية للجنس:
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ ****** الخَبَر إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر
فإذا ظهر المراد مع السقوط جاز الإسقاط.
وسبب الإسقاط؛ إسقاط كلمة (حق) ، (لا إله حق إلا الله) أنّ المشركين لم ينازعوا في وجود إله مع الله عز وجل، وإنما نازعوا في أحقِّيةِ الله عز وجل بالعبادة دون غيره، وأنّ غيره لا يستحق العبادة.
فالنزاع لمَّا كان في الثاني دون الأول؛ يعني لمَّا كان في الاستحقاق دون الوجود، جاء هذا النفي بحذف الخبر لأن المراد مع سقوطه ظاهر وهو نفي الأحقية.
في (لا إله) صار الخبر راجعاً أو صار الخبر تقديره حق كما قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:92]، وفي الآية الأخرى قال عز وجل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30] ، فلما قال سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قرن بين أحقّية الله للعبادة وبطلان عبادة ما سواه، دلّ على أن المراد في كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هو نفي استحقاق العبادة لأحد غير الله عز وجل.
فإذاً صار تقدير الخبر بكلمة (حق) صوابا من جهتين:
- الجهة الأولى:
أنّ النّزاع بين المشركين وبين الرسل كان في استحقاق العبادة لهذه الآلهة، ولم يكن في وجود الآلهة.
- الجهة الثانية:
أنّ الآية بل الآيات دلت على بطلان عبادة غير الله وعلى أحقية الله عز وجل بالعبادة دون ما سواه.
إذا تقرر ذلك فكما ذَكَرْتُ لك الخبر مقدر بكلمة (حق) ؛ (لا إله حق) .
و (لا) نافية للجنس، فنفت جنس استحقاق الآلهة للعبادة.
نفت جنس المعبودات الحقّة، فلا يوجد على الأرض ولا في السماء معبود عَبَدَهُ المشركون حق، ولكن المعبود الحق هو الله عز وجل وحده وهو الذي عبده أهل التوحيد.
وتقدير الخبر بـ (حق) كما ذكرنا لك هو المتعين خلافا لما عليه أهل الكلام المذموم، حيث قدروا الخبر بـ (موجود) أو بشبه الجملة بقولهم (في الوجود)(لا إله في الوجود) أو (لا إله موجود) .
وهذا منهم ليس من جهة الغلط النحوي، ولكن من جهة عدم فهمهم لمعنى (الإله) لأنهم فهموا من معنى (الإله) الرب، فنفوا وجود رب مع الله عز وجل، وجعلوا آية الأنبياء دليلا على ذلك وهي قوله عز وجل {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] ، وكقوله في آية الإسراء {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42] ، ففسروا آية الأنبياء وآية الإسراء بالأرباب؛ بالرب، ولكن هي في الآلهة كما هو ظاهر لفظها.
إذا تقرر ذلك فنقول: إن عبادة غير الله عز وجل إنما هي بالبغي والظلم والعدوان والتعدي لا بالأحقية.
(1) البخاري (5707) / مسلم (5920)