الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
: [[الشريط الحادي عشر]] :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الأسئلة
س1/ يقول ذَكَرَ العلماء أَنَّ لفظ الجلالة أصله إله فأدخلت الألف واللام وحذفت الهمزة وأدغمت اللام في التي تليها، والسؤال هو: ألا يتنافى هذا مع كون أسماء الله عظيمة؟
ج/ لفظ الجلالة واسم الله: اختلف العلماء فيه؛ هل هو مشتق أم هو غير مشتق؟
والخلاف واسع.
والذي يرجحه جمع كثير من المحققين وهو المعتمد عند أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى أنَّ لفظ الجلالة مشتق، ومعنى كونه مشتقاً أنَّ اسم الله دال على المعبود بحق دلالة مطابقة؛ يعني أنَّ كلمة الله أصلها الإله والإله هو المعبود.
أما الذي يقول أنه ليس بمشتق فيقول: إنَّ الله علم على الذات -ذات الرب عز وجل- وليس فيه معنى.
والقاعدة عامة عندنا أنَّ اللغة في الأسماء لابد أن تكون دالة على معاني.
فالاسم يكون دال على معنى، أسماء الله الحسنى دالة على معاني فيها
فليس ثَمَّ اسم ليس له دلالة على معنى، والدلالة على المعنى تارة تكون دلالة جامدة وتارة تكون دلالة مشتقة.
وهذا في اسم الله الأعظم أو اسم الله (الله) لفظ الجلالة العظيم هذا مشتق من إله؛ لأنَّ العرب تُسَهِّلْ في مثل هذا كثيراً.
والبحث فيه بحث نحوي وصرفي وأَكْثَرَ العلماء منه.
المقصود من الجواب أنَّ اسم (الله) مشتق ولا ينافي هذا تعظيم لفظ الجلالة؛ لأننا كما نقول إنَّ الجبار يتنوع إلى عدة معاني أو يدل على عدة معاني ومشتق من كذا واسم الله العظيم مشتق واسم الرحمن مشتق من الرحمة، وهكذا.
فالذين يقولون إنَّ الاشتقاق ينافي التعظيم هذا ينخرم الكلام فيما أوردوه بجميع الأسماء الحسنى، فأسماء الله الحسنى كلها مشتقة، والاسم (الله) مشتق من الألوهة وهي العبادة؛ لأنَّ الله عَلَمٌ على المعبود بحق.
[.....] ؟ (1)
هذا بحث آخر؛ يعني هل تظن أنَّ أسماء الله عز وجل هي قبل اللغات؟
لا، اللغات دالة على أسماء الله عز وجل وصفاته، كما تدل اللغات على أشياء أخر، ولا يعني هذا أنها مُواضَعَةْ؛ أنَّ الناس اصطلحوا عليها، ليس كذلك؛ لأنَّ الله عز وجل {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} [البقرة:31] ، فالأسماء ومن ضمنها أسماء الله عز وجل مُعَلَّمَةْ، وكذلك في اللغات دلالة الكلمة على أنها اسم من أسماء الله هذا بالتعليم، وليس العباد الذين يضعون أسماء لله عز وجل، فهذا لا يعني أنَّ أسماء الله عز وجل بالمواضعة -يعني بالاصطلاح-، الناس وضعوها واشتقوا هذا من هذا إلى آخره، يعني أنهم هم الذين فعلوا ذلك، لا، أسماء الله عز وجل، الله سبحانه لم يزل له الأسماء الحسنى والصفات العلا قبل أن يخلق الخلق.
[.....] ؟
هذا على كل حال بحث لغوي طويل، لا أظن يسع مثل هذا المقام أن يُفَصَّل فيه.
اللغات في نشأتها، كيف نشأت اللغات؟ اللغة العربية كيف نشأت؟ هل آدم عليه السلام كان يتكلم باللغة العربية؟ ما قبل إبراهيم عليه السلام هل كان يتكلم باللغة العربية؟ نوح عليه السلام هل كان يتكلم باللغة العربية؟
الله عز وجل جَعَلَ من آياته اختلاف الألسن والألوان، فَأَصْلُ اللُّغات أسماء عَلَّمَهَا ربُّنا عز وجل آدم، ثم حَصَلَ هناك أنواع من الاشتقاق وتداخل الناس لما تفرقوا في اللغات.
اللغات بعضها يأخذ من بعض، وعند العلماء المعاصرين يعني علماء اللغة، علماء فقه اللغة وخاصة اللغات السامية دَلَّتْهُم البحوث والكتابات القديمة التي وجدوها في الجدران وفي الآثار القديمة على أَنَّ مجموعة من الكلمات كانت مشتركة ما بين اللغات، وهذا طبعاً يدل على أَنَّ أصل اللغات واحد، وهذا لا شك فيه، ثم بعد ذلك بدأت تتوسع اللغات وتختلف.
فلهذا جاء في الحديث «أول من فُتِقَ لسانه عن العربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» (2) .
إذاً فُتِقَ اللسان، من الذي فَتَقَ اللسان؟
يعني هذه القواعد التي أوردها العلماء -قواعد النحو- هذا استنتاج، لا يُتصور أَنَّ العرب اجتمعت في مؤتمر عام وقالت بنضع القواعد في لغتنا، هذا غير موجود.
كذلك أغرب منه في العلل والاشتقاق.
ولهذا قال بعض العلماء في العلل الضعيفة هذه أضعف من علة نحويّ؛ لأنها مستنتجة.
مثلاً: تقول: محمد قادم، ثم تقول: لمحمد قادم، ثم تقول: إنَّ محمدا لقادم.
(محمد قادم) خبر أُكِّدَ باللام الأولى في الجملة الثانية (لمحمد قادم) .
واللام هذه لام التأكيد، لام الابتداء لها حق الصدارة.
(إنَّ محمداً لقادم) ، هنا أُخّرَتْ ولذلك سميت إيش؟
المزحلقة؛ لأنها زُحْلِقَت من المبتدأ حين كانت فيه (لمحمد قادم) إلى الخبر فصارت (إن محمدا لقادم) .
هنا لماذا حصل هذا؟
(1) مداخلة من احد الطلبة
(2)
لم أجده بهذا اللفظ وإنما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقة ثم جعل كتابا واحدا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصول حتى فرق بينه ولده إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما) المستدرك (4029)
يأتي النحاة ويوجِّهُونَ ذلك، وثَمَّ كتب كثيرة في علل النحو لا تُحْصَى، وهي عدة مدارس في تعليل الأحكام النحوية.
من تعليلاتهم يقولون: إنَّ العرب من عادتها أن تكرم الضيف، فلما أتت اللام ضيفاً على محمد قادم كان لها حق الصدارة، فلما أتى الضيف الجديد إنَّ تأخرت اللام؛ لأنها كانت في الجملة موجودة فتأخرت.
يعني هذه كلها التماسات.
كذلك إذا قال لماذا (كَانَ) نصبت الخبر ورفعت الاسم؟
لأنها مشبهة بالفعل وهي فعل ماضي ناقص، وكذلك أخواتها.
(إن وأخواتها) : إنَّ وأَنَّ وليس إلى آخره، هذه لماذا انعكست فيها القضية؛ مُخالِفةً لـ (كان) ؟
لأنها تَقَعَّدَت (كان) وهذه وهذه بعضها يشبه بعضاً، يعني (كان وأخواتها) و (إن وأخواتها) بالدخول على الجملة الاسمية، فَفَرَّقُوا بينها.
إذاً كل هذا نخلص منه إلى شيء مهم جداً في علم اللغة وهو أنَّ صنعة العلوم إنما أتت بعد انتهاء اللغة.
فإذاً هي التماس.
فإذا قال لك العالم: إنَّ كلمة (الله) كانت إله ثم أُدْخِلَتْ فإنَّ هذا من جهة التحليل، وليس أنَّ العرب صنعت ذلك على مراحل؛ لكن هذا من جهة التحليل.
يقول لك: ولكثرة الاستعمال صارت كذا، يعني هذا من جهة التحليل.
يعني اعكس المسألة وقل: لأنَّ لفظ الجلالة الله موضوع لكثرة الاستعمال فجاء على لفظ الله ولم يأت على لفظ الإله؛ لأنَّه موضوع لكثرة الاستعمال.
* وهذه انتبه لها قاعدة في اللغة.
ولهذا يخطئ بعض الذين يعتنون بمباحث الاشتقاق ويستغربون بعضها من هذه الجهة، فيظنون أنَّ العرب اجتمعت ووضعت للغتها قواعد.
والصحيح الذي لا ينبغي المحيد عنه: أنه ليس ثَمَّ وَضْعْ في اللغة، وعِلْمُ الوَضْعْ الذي يُسَمَّى علم الوضع إنما هو تقريب للعلوم التي صُنِّفَت في هذه الأمة، وليس هو وَضْعْ العرب، فإنَّ العرب ما اجتمعت، العرب متفرقة، العرب كانت في اليمن ثم تَفَرَّقَت، والعرب القديمة - العرب العاربة- ثم العرب المستعربة تفرقت، واللغة بدأت تتدرج وتنمو وتصل إلى مراحل في نموها.
فاللغة مثل الإنسان، اللغة مثل الإنسان، مرَّ به طفولة، ثم مرَّ به شباب، ثم مرّ به فتوة وقوة ثم يمرُّ به اكتهال إلى آخره، فهذه اللغات تمر بهذه المراحل.
أما اللغة العربية فثبتت وقويت ولم تمر بها فترة الكهولة التي تُسَمَّى فترة الكهولة؛ لأنَّ فيها القرآن، القرآن هو الذي أبقاها حية قوية في شبابها.
فلهذا كل ما تراه من التعليلات عند النحويين أو الذين يعتنون بالنحو ويوغلون فيه بحثاً فيما يستبعدون أو يقبلون هي كلها في ظنهم أنَّ المسألة ليست هكذا وإنما هي هكذا.
ما كان فيه إله، وكيف يكون فيه إله؟ أو كيف يشتق هذا من هذا؟ والعرب ما اشتقت هذا من هذا، وإنما الوضع الأول هو كذا.
الوضع الأول في الأسد هو كذا، الوضع الأول في الجناح هو في الطائر، من الذي يقول هذا؟ كل هذا من الذي يقوله؟
يقولون الجناح للطائر من الذي قال أنَّ الجناح للطائر؛ من؟ هل ثَم برهان؟
لذلك يأتون عند قوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] يقولون هنا استعارة؛ لأنَّ الجناح للطائر واستعير للإنسان، استعارة يعني مجاز.
طَيِّبْ من الذي قال إنَّ العرب وضعت الجناح للطائر،؟
لا يوجد.
* فإذاً تنتبه لأنَّ من أوغل في المباحث اللغوية دون معرفة لأصولها والتحقيق فيها قد تدخل عليه إشكالات في العقيدة.
لهذا اعتنى المعتزلة بالمباحث اللغوية لصدّ كثير من الناس عن الحق في مسائل الاعتقاد، ظنّاً منهم أنهم حققوا المسائل العقدية.
فانتبه إلى هذه القاعدة: وهي أنّه لا يُتَصَوَّرْ في القواعد التي وُضعت في هذه الأمة -القواعد العلمية- في النحو أو في الأصول أو في أي فن من الفنون أو في المصطلح أنها وضعت هكذا باجتماع واتفق العلماء على هذا، لا، هي التماس.
ولهذا المجتهد إذا بلغ في الاجتهاد مبلغاً عظيماً وصارت عنده آلات الاجتهاد له أن يخالف.
ابن جرير الذي ذكرتَ أنتَ المثال عنه، ابن جرير لا يمثل مدرسة البصريين في النحو، ولا يمثل مدرسة الكوفيين في النحو، وإنما له مدرسة مستقلة في تفسيره؛ تارَةً يذهب إلى هؤلاء وتارة يذهب إلى هؤلاء، عندما يملي عليه الراجح وما يسمعه وما يحفظه من كلام العرب.
كذلك في القراءات ليس عنده شيء اسمه قراءات سبع ولا قراءات عشر، وإنما عنده قراءات أنصاف –اذا كنت اطلعت على التفسير-.
لماذا يصنع هذا؟
لأنَّه لا يتقيد بمصطلحات أهل العلم وبمواضعات أهل العلم.
نحن إذا تقدمنا في العلم ترى أنَّكَ تمرُّ على العلم، وترى أنَّ العلم يسبح في قرون، يسبح في القرون هكذا بين مد وجزر، في التواليف، وفي صنيع أهل العلم.
لكن هل هذا هو العلم أو هو وَضْعْ لقواعد العلم؟
هو وَضْعْ لقواعد العلم؛ لأنَّ العلم موجود قبل ذلك، العلوم موجودة قبل ذلك؛ العلوم اللغوية والشرعية والحديث كلها موجودة قبل ذلك، وإنما وَضَعُوا القواعد.
ووَضْعُ القواعد هذا هل هو إجماع أو اجتهاد؟
اجتهاد؛ ليس ثَمَّ قواعد علم من العلوم مُجْمَع عليها، وإنما تجد في العلم ما هو مُجْمَعٌ عليه:
في النحو فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في الفقه فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في المصطلح فيه مسائل مُجْمَعٌ عليها، في الأصول ثَمَّ مسائل مُجْمَعٌ عليها، وتجد أنَّ المسائل المجمع عليها في كل فن قليلة.
إذاً ننتبه إلى أنَّ التعليلات التي ترد في العلوم المختلفة إنما هي التماس هذه [.....]
ولذلك من أتى يُحَلَّلُ لك هي التماس، وقد يكون صاحبه مصيباً في التماسه وفي تعليله، وقد لا يكون كذلك.
مثلاً البحث المشهور عند قوله تعالى {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63]{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} وفي قراءة سبعية متواترة {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} .
طيب (إِنَّ) ما تنصب الاسم، لماذا ما صارت (إنَّ هذين لساحران) ؟
بدؤُوا يُعَلِّلُون فمنهم من يخطئ، يقارن، هذا غلط علمي كبير، لماذا؟
لأنك تُحَكِّمْ قواعد وضَعَهَا النحاة على الحق المطلق الذي هو القرآن؛ لأنها قراءة متواترة فهي الحق، يجب أن تبحث في القواعد لا العكس، فالقواعد اصطلاحية.
يأتي في مسند أبي يعلى في مطالعتي عند حديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «إنّ هذان لشيطانان» (1) في الحديث الذي في المتن قال «إنَّ هذين لشيطانان» - أنا لدي بحث على الآية، وأعرف كلام المحققين عليها وما يتعلق بها.
استغربت:
«إنَّ هذين لشيطانان» ليس هو اللفظ وإنما لأجل أنه يَخْرِمُ القاعدة جَعَلَهَا هكذا، وإذا به في الحاشية يقول: في الأصل «إنَّ هذان لشيطانان» وهذا يخالف القاعدة النحوية فغيرتها إلى (إنَّ هذين لشيطانان) .
طبعا سيطرة القواعد النحوية على الحق المطلق، سيطرة القضايا الاصطلاحية كلها على الحق المطلق هذه قضية كبيرة في العلم وفي نشأة العلوم وتوسع العلوم، فطالب العلم ينبغي له أن يرتقي في هذه المسائل ولا يعجل.
فمسائل الاشتقاق في أسماء الله عز وجل هي من هذه البابة، فينبغي أن يُنظر إليها نظراً.
(1) مسند أبي يعلى (2588)
لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا، فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عز وجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ
هذه الجمل من كلام العلامة الطحاوي رحمه الله جاءت بعد الكلام على الرؤية؛ رؤية الرب عز وجل في الجنة في العرصات فيما سبق لنا شرحه في الدرس الماضي.
وأيضاً بعد هذه الجمل التي سمعنا تكلم عن الرؤية متعلقاً بهذا البحث حيث قال (وَلا يَصحُّ الإيمانُ بالرُّؤْية لأهْل دارِ السَّلامِ لِمن اعْتَبَرَهَا مِنْهُم بِوَهْمٍ أوْ تأوَّلَها بِفَهْمٍ) إلى آخر ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
هذه الجمل التي سمعنا تشتمل على أصل عظيم من أصول الدين الذي تميز به أهل السنة والجماعة في مسائل العقيدة بعامة وفي مسائل العمل.
والعقيدة والعمل مبناهما واحد من جهة الإيمان، وذلك أَنَّ العقيدة والعمل الجميع يُعْمَل به ويُعْلَم من جهة أنَّه من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالكل كلمة الله ـ، كما قال عز وجل {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]
{تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا} يعني في الأخبار.
{وَعَدْلًا} في الأمر والنهي، {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} .
فالشريعة بابها واحد ولا تفريق ما بين باب الاعتقاد وبين باب العمل -يعني الأبواب العلمية والأبواب العملية- من جهة مصدر التلقي وهو الكتاب والسنة، ما كان من الوحي.
لهذا قال هنا رحمه الله (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عز وجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ)
وذلك أنَّ أمور العقيدة في الاعتقاد، وأمور الفقه في العمل لابد أن يكون ثَمَّ إشكال في عِلَلِهَا أو في القناعة بها ولا مَجال في ذلك في الإيمان إلَاّ أن يكون على ظهر التسليم والاستسلام.
وهذا ينبني على مسألة عظيمة من مسائل الاعتقاد والعمل وهي: أنَّ الدّين قائم على البرهان.
والأمور التي يتعاطاها النّاس ثلاثة:
- أمور عاطفية؛ يعني برهانها العاطفة، الغرائز، يعرف الجوع، يعرف العطش، يعرف الخوف، يعرف الرحمة بعاطفته وفطرته.
- والنوع الثاني برهان عقلي وهي الأمور التي يتعاطاها بعقله فيقيس ويُعَلِّل ونحو ذلك من الأمور العقلية، وهي التي خدمها المنطق بشكل عام.
- والنوع الثالث من البراهين: البراهين الدّينية، والبرهان الدّيني مبني على مقدمة، وهي مقدمة الاستسلام لمصدر التلقي.
ولهذا لا يصحّ أن يُخْلَطَ بين هذه البراهين، فالدّين ليس مصدره العقل وليس مصدره العاطفة، وإنما مصدره نوع من البراهين، وذلك لم يتكلم عليه الفلاسفة ولا المناطقة وهو البرهان الديني المبني على مقدمات دينية بحتة.
وهذه المقدمات الدينية الشرعية في التصديق بها مبنية على براهين متنوعة:
التصديق بوجود الله، استحقاقه للعبادة، التصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبالرسل، الآيات التي أوتيها، البراهين، فيما ذكرنا لك كل هذه براهين.
وهذه البراهين عقلية في أولها ودينية في ثانيها؛ يعني أنّنا حين نستسلم سنستسلم للبرهان الذي استسلمت له الأمم التي قبلنا.
فالصحابة رضوان الله عليهم رَأَوا هذه البراهين واستسلموا لها بصدق عن قناعة وعن ديانة، ثُمَّ بعد ذلك تَبِعَهُم من تَبِعَهُم في التسليم لأنهم سلَّموا، ثُمَّ تَبِعَهُم من بعدهم في التسليم لأنَّ من قبلنا سلَّم في كثير من الدلائل.
ويبقى الدليل العام للشريعة في العقيدة وفي الفقه وهو أنه ما كان في كتاب الله عز وجل أو في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق وهو البرهان.
وما قبل هذا البرهان ثَمَّ براهين أُخر لا مجادلة في هذه الملّة -يعني في أتباع الفرق- على صحة هذا البرهان من الكتاب ومن السنة؛ لأنَّ الجميع يُقرّون بهذا البرهان ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حق.
فإنه هو برهان؛ لكن هل هو البرهان الأول أو هو البرهان الثاني؟ هل يُسَلَّط العقل على الكتاب والسنة أم لا يُسَلَّط والعقل تبع؟ ونحو ذلك.
هو جاء من جهة الخلط ما بين أنواع البراهين الثلاثة التي ذكرتها لك.
هذه مقدمات بين يدي المسائل.
العقلانيون خَلَطُوا بين أنواع البراهين الثلاثة، فجعلوا البرهان العقلي والبرهان الديني واحد؛ بل جعلوا البرهان العقلي متسلطا على البرهان الديني، وظنّوا أنه إذا تسلَّط عليه وسُلِّط عليه عُرفت صحة الشرع لأنَّ العقل به عُرف الشرع.
وهذا ليس بصحيح كما سيأتي في رد هذه المقالة.
الطحاوي رحمه الله استحضر القسمين معاً:
استحضر مسائل العقيدة ومسائل الفقه، وجعل هذه الكلمات مناسبة لهذا البحث -بحث الرؤية-.
ولهذا قال (فإنَّهُ مَا سَلِم في دينه إلَاّ مَنْ سَلَّمَ لله عز وجل ولرسُولِه صلى الله عليه وسلم
يعني أنَّه بدأ من حيث إنَّ الكتاب والسنة هما البرهان، بدأ من هذه، فإذا صدَّقت وأيقنت أنَّ الكتاب والسنة هما الحق المطلق؛ لأنّها من عند الله عز وجل -فالسنة وحي-، فإذاً الرجوع في البرهان والدليل سيكون إلى الكتاب والسنة، وإذا كان ثَمَّ شك أو ثَمَّ تردّد فإنّ المرء لا يَسْلَمُ في دينه؛ لأنَّ العقول لأنّ البراهين كما ذكرنا لك ثلاثة:
- برهان عاطفي.
- وبرهان عقلي.
- وبرهان ديني.
$ والبرهان العاطفي لا ينضبط -فعواطف الناس مختلفة-.
$ البرهان العقلي لا ينضبط؛ لأنّ القائل حينما قال -وهم العقلانيون من المعتزلة والأشاعرة وجماعات- حينما قالوا: العقل ينبغي أن يُقدّم على الشرع، فالعقل هنا غير منضبط، العقل عقل من؟
هل ثَمَّ عقل واحد أُجْمِعَ عليه في النظر إلى الأشياء؟
لا، في النظر إلى الكونيات ليس ثَمَّ عقل واحد عند الفلاسفة، اختلفوا في النظر إلى الطبيعيات في الأرض.
الذين قدّسوا العقل اختلفوا في مقتضيات ذلك.
اتّفقوا على قاعدة: العقل، لكن عقل من؟ هل اجتمعوا؟
لا، ولذلك اختلف أصحاب المدرسة العقلية إلى أنواع شتّى:
فالجهمية من أصحاب المدرسة العقلية.
والمعتزلة من أصحاب المدرسة العقلية.
والأشاعرة أيضا من أصحاب المدرسة العقلية إلى حد ما، ونحو ذلك.
ولكنهم مختلفون في عقولهم وإدراكاتهم.
إذاً فإذا كان البرهان العاطفي غير منضبط، والبرهان العقلي غير منضبط، فإذاً البرهان الديني يجب أن يبدأ من المستوى أو يبدأ من المقدمة التي هي ثابتة بيقين.
وهذه المقدمة الثابتة بيقين هي الكتاب والسنة؛ لأنَّ الكتاب وحي الله عز وجل، وآمنا بذلك عن برهان، وبراهين سبق أن ذكرنا لكم ذلك في الكلام على الإعجاز وبرهان النبوة في الكلام على معجزات وبراهين وآيات الأنبياء.
فإذاً المقدمة التي يُتَّفَقُ عليها ويمكن أن يُجْمَعْ عليها هي التّسليم والاستسلام للكتاب والسنة.
فإذا كان كذلك كان البرهان الذي يصحّ أن يقال إنه يُتَّفَقُ عليه بلا خلاف هو برهان الكتاب والسنة.
ولهذا إذا جاء إشكال في الاعتقاد تُرجِعُهُ إلى التّسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فالكتاب والسنة برهان صحيح، فإذا لم تُدْرَكْ العلة فإنّ ذلك ليس معناه أنّه خلل في البرهان إنما هو خلل في التلقي، خلل في إيضاح ذلك البرهان، أو لأنّ البرهان الذي هو الدّليل لم يوضح لنا هذه الأسرار.
كذلك في أمور العبادات الصلوات ليش خمس؟ ليش أربع؟ الفجر ثنتين ثلاث، لماذا الحجّ على هذه الصفة؟ لماذا الطهارة على هذه الصفة؟ كل هذه مبنية على مقدمة من التّسليم، وهو التسليم للكتاب والسنة.
فلهذا هذا البحث الذي ذكره الطحاوي في هذه الجمل يسمّيه بعض المعاصرين تسمية حديثة وهي: وحدة مصدر التلقي
فمصدر التّلقي من أهمّ المسائل التي يجب أن يُبْحَثَ فيها، فإذا اختلفت أنت وأناس على شيء، فلا بد أن يكون هناك مرجعية في البرهان حتى تنطلقوا منها.
أيضا مرجعية في التلقي، والأمة -كما قلنا- لا يمكن أن يَصْلُحَ لها إلا أن تتلقّى من الحق المطلق والبرهان المطلق، الذي هو البرهان الديني، الذي هو الكتاب وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما وضح فيهما وما أُبِينَ فيهما وجب اعتقاده والعمل به، وما اشتبه على الفرد -لأنه ليس في الشريعة مُشْتَبَه مطلق كما سيأتي في المسائل- إذا اشتبه على الفرد وجب عليه التسليم.
قال (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ)
يعني إذا اشتبه عليك شيء تَرُدَّهُ إلى عالمه؛ لأنَّ الله عز وجل قال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7] ، دلَّت الآية على أَنَّ القرآن مشتمل على مُحْكَم وعلى متشابه وعلى أنّ أهل العلم يقولون آمنا بالمتشابه.
ما اشتبه عليه عِلْمُهُ فإنه يَرُدُّهُ إلى عالِمه إلى الله ـ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ)
يعني أنَّ من خاض في مسائل الإيمان والإسلام ومسائل الشريعة والعقيدة في الفروع والأحكام، إذا خاض فيها مدقِّقَاً ليس مستسلماً، وإنما مناقشاً في كل مسألة؛ لم؟ فإنه يُحجب عنه الإيمان.
لأنَّ هذا الدين؛ بل الأديان بعامة مبنية على الاستسلام للغيب.
لهذا أول إيمان في القرآن هو الإيمان بالغيب {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] ، فأصل الدين الذي جاء من عند الله هو الإيمان بالغيب والإيمان بالله عز وجل بالجنة والنار والملائكة وبمسائل القدر إلى غير ذلك؛ باليوم الآخر بالكتب السّابقة، كل هذه مسائل غيب.
فإذاً (لَا تَثْبتُ قَدَمُ الإسلام إلَاّ على ظَهْرِ التَّسْليم والاسْتِسْلَامِ)
فَشَبَّه التسليم والاستسلام بالأرض الصّلبة التي من وَطِئَهَا فإنه لا تَزِلُّ قدمه بل تثبت؛ لأنها أرض قوية صلبة.
أمَّا غير التسليم والاستسلام في مسائل العقيدة وفي مسائل العمل فإنها أرض دحض؛ مزلة أقدام وإنها موطن متعثر للأقدام لمن وطئها ورضي بها.
لهذا نقول: إذا تبين لك ذلك فإنَّ هذه الكلمة أو هذه الجمل التي مرت معنا فيها مسائل:
[المسألة الأولى] :
أنَّ الناس في تلقّي الشريعة -الناس؛ يعني هذه الأمة، الفرق جميعاً- انقسموا إلى أقسام:
1 -
القسم الأول:
من كان عقلياً محضاً؛ يعني جعل العقل حَكَماً على الشريعة، وجعل الشريعة تابعة للعقليات.
2-
القسم الثاني:
من جعل الشريعة خالية من البرهان العقلي البتة؛ بل الشريعة جميعاً عندهم ليس فيها عِلَل ولا تعليل بقسميها العقيدة والشّريعة.
3 -
القسم الثالث:
من توسّط بين الفئتين، وقال: إنَّ الشّريعة في العقيدة، في الأمور الغيبية وكذلك في العمليات: العقل مفيد فيها، والعقل خادم للشريعة وليس حَكَمَاً عليها، فنستفيد من العقل: بيان العلل والأحكام وفهم الشريعة واستخراج الأسرار؛ لأنَّ الله عز وجل جعل القرآن لقوم يعقلون.
هذه الثلاث مدارس كبيرة:
- المدرسة الأولى: يمثلها الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة في أصول مباحثهم.
- والمدرسة الثانية: يمثلها الظاهرية في الفقه وكذلك في الاعتقاد، ويمثلها الأشاعرة والماتريدية في مسائل الأسباب.
- والمدرسة الثالثة: منهج أهل السنة والجماعة.
ولتفصيل هذه المدارس الثلاث بحوث تطول نرجئها إلى مواضعها إن شاء الله تعالى.
[المسألة الثانية] :
أنَّ التسليم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم هو تسليم للحق المطلق.
والبراهين التي يتعاطاها الناس في العقليات وفي مصدر التلقي هذه البراهين تختلف -كما ذكرت لك تنقسم إلى أقسام ثلاثة-.
والتسليم يعني أنَّ البرهان الديني الشرعي يقين وأنَّ البرهان العقلي ناقص وأنَّ البرهان العاطفي فطري.
معنى ذلك أنَّ البرهان الديني يقيني في مُقَدِّمَاته، نصل إلى صدق الكتاب وصدق السنة بمقدمات. [.....](1) .
[.....] البرهان العقلي يعتمد على أشياء:
- الأول منها يعتمد على الحس.
- والثاني يعتمد على التجربة.
- والثالث يعتمد على تصديق اللاحق بالسابق.
1 -
النوع الأول من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (الحس) :
فالله عز وجل جعل للإنسان أعضاء: سمع، بصر، لسان؛ يعني جعل له حواسّاً كما قال سبحانه {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] ، فهذه الثلاث هي التي يسميها الفلاسفة والمناطقة يسمّونها وسائل تحصيل المعرفة.
هذه وسائل ضرورية حِسِّيَّة؛ يعني بعينك حَصَلَ لك البرهان، بسمعك حَصَلَ لك البرهان، بيدك لمست الشيء حَصَلَ لك البرهان.
فالمعرفة جاءت من براهين ضرورية مُحَسَّة ليست خارجة عن المحسوس.
ولذلك ما يُجادل أحد في هذا بهذه البراهين إلا طائفة لا يُعبأ بها يجادلون في الضروريات.
ثُمَّ بعد ذلك بُنِيَتْ المعرفة بالحسيات من طريق المقارنة بين هذه المعلومات التي جاءت بالوسائل الحسية.
يعني نأتي نقول: هذا طويل، هذا العمود طويل، الآخر ليس في طوله. عرفنا حجم هذا وطوله بالعين، فصار الحجم وصار الطول مُدرَكاً محسوسا بأمر ضروري، ثم بعد ذلك يُنسب له الشيء آخر، فإذا رأينا ما هو أقل منه قيل هذا أقصر، ما هو أطول منه قيل هذا أطول، فيأتي أحد وينازعك يقول القصير أطول من الطويل، لا يُقبل، لماذا؟
لأنه المقارنة ما بين هذا وهذا حَصلت بمقدمات يقينية؛ لأنَّ المقدمات الحسية يقينية، مُقَدِّمَة العين أنها حَسَّت بهذا أنه أطول من ذاك، ما يمكن يأتي يجادل ويقول لا هذا أطول، يعني القصير أطول من الطويل؛ لأنَّ هذا شيء مُدْرَك بالعين، وهذا ينتج في كل المقدمات الحسّية.
وانتبه لمسألة المقدمات الحسّية؛ لأنها أقوى البراهين اللي هي الضروريات، أقوى البراهين.
تشرب ماء تقول هذا بارد يأتي آخر ويقول -إذا كان بارد جداً- يأتي آخر ويقول: هذا حار يغلي. لا يمكن، لماذا؟
لأنَّ البرهان عليه الحسّ.
فلان مثلا ملتحي، يأتي آخر، يقول: لا هذا حالق لحيته.
هذا لا يمكن أن يكون ثَمَّ لأنَّ البرهان حسّي.
كذلك السمع يقول هذا صوت إنسان، قال الآخر: لا هذا صوت مثلاً إيش؟
صوت سيّارة مثلا، لا يمكن، هذا يتكلم
لماذا؛ لأن البرهان جاء سمعي.
وهذه تعتمدها هذه النقطة لأنها تفيد في قضية الاستسلام.
هذا البرهان الحسي هو الذي بنى عليه طائفة من الناس الكلام على نظرية المعرفة وتكلّموا فيه.
قلنا اعتمدوا على الحس -يعني أهل العقل-:
اعتمدوا على الحس، وعلى التجربة، وعلى تقليل أو متابعة اللاحق للسابق.
2 -
النوع الثاني من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (التجربة) :
فما يَصْلُحُ للتجربة تَكُونُ التجربة برهاناً صحيحاً له؛ لكن ما لا يَدْخُلُ تحت التجربة، كيف تكون التجربة برهانا صحيحا له؟
ونقول الله عز وجل جَعَلَ الأشياء على قسمين:
- قسم لا تدخله الأهواء لتُغَيِّرْ حقائقه.
- وقسم يدخله الهوى ليُغَيِّرَهُ.
والله عز وجل جعل كلماته تامّة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]
ما لا يدخله الهوى لم تأتِ الشرائع ببيانه، وهو غاص فيه الفلاسفة، وغاص فيه العلماء، وغاص فيه الباحثون.
لم تأتِ الشرائع ببيانه؛ لأنه لا يدخله الهوى، واحد زائد واحد يساوي اثنين يساوي ثلاثة يساوي أربعة.
لم تأتِ به الشرائع؛ لأنَّ هذا الله عز وجل خَلَقَ الأشياء واحد زائد واحد يساوي اثنين، خَلَقَ الله عز وجل الجبل فيه من المكونات كذا وكذا، خَلَقَ الله عز وجل الجاذبية على هذا النحو وقوانين الجاذبية على هذا النحو، لا يمكن لهذه الأشياء أن تدخلها الأهواء.
ولهذا لم تتعرّض لها الشرائع، ولم تتعرض لها الديانات، وتُرِكَ إستنتاجها والبحث فيها للناس؛ لأنَّ هذه سيصلون إليها بالتجربة، سَيُخَطَّأ المخطئ وسيُصَوَّبْ المصيب؛ لأنّ الشيء ماثل أمامهم، ليس لهم هوى في أن يجعلوا معامل الجاذبية كذا يزيدون واحد ولا ينقصون واحد من عشرة ما لهم.
الهوى ما يدخل في هذه المسائل.
إذاً قلنا إنَّ الشرائع جاءت لما فيه إخراج الإنسان من داعية هواه.
فالأشياء التي يَتَحَكَّمُ فيها الهوى جاءت الرّسالات لها.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر
يَتَحَكَّمُ الهوى في علاقات الناس بعضهم ببعض، يَتَحَكَّمُ الهوى في العبادة، واحد يريد أن يخرج من التّكاليف، يريد أن يعمل ما يشاء، يفعل ما يشاء، يقتل، يسرق، يفعل ما يشاء، الهوى يدخل في حرّية الإنسان، يدخل في هل يتعبّد أم لا يتعبّد؟، في علاقته بأهله، في علاقته بمجتمعه، في علاقته بأسرته، إلى آخره، هذه أشياء يدخلها الهوى؛ لهذا جاءت الشريعة بضبطها.
إذاً فنقول: التجربة في العقليات صحيحة لكن فيما لا يَدْخُلُهُ الهوى، أما ما يَدْخُلُهُ الهوى فلا تصح التجارب فيه، لابد أن يُتلقَّى من حَكَمٍ يفرض على الأهواء لا تتنازع فيه ويسلمون له، ولهذا قال عز وجل {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون:71] ؛ لأنَّ الأهواء غير منضبطة، والحق واحد لا يخضع لهوى.
تجارب المجربين تصلح إذاً فيما يمكن عمل التجارب عليه لكن الأمور الكونيةمثل الغيب هل ثَم سلطان للتجربة عليها؟
لا، الأمور الكونية لا مجال للتجربة عليها ولهذا قال من قال من العلماء المعاصرين في الأمور الدنيوية -الغربيين وغيرهم من الحذاق-: إنَّ المرء كلما أوْغل في العلم بالكونيات كلما ازداد معرفة بأنَّ فيها أسرارا لا تُدْرَكْ.
ولهذا الأمور الكونية صعب أن تخوض فيها بإدراكٍ تام، تجارب لكن ستبقى تجارب، وإذا كانت ليست مُسَلّمات، فإذاً لا يمكن أن نُخضع لها الحق المطلق.
3 -
النوع الثالث من البرهان العقلي الذي اعتمدته المدرسة العقلية: (أنَّ المتأخر يسلّم للسابق) :
أنظر مثلاً للمعتزلة، المعتزلة في أصلهم سَلَّمُوا للفلاسفة بصحّة أنواع البرهان العقلي، فإذاً ثَمَّ تقليد.
المتأخرون سلّموا لمن قبلهم، الأشاعرة سلّموا للأولين في البرهان، إذاً ثَمَّ تقليد.
فقولهم برهان عقلي، وهذا عقل؛ لأنَّ الشرائع مبنية على التقليد، هذا غير صحيح منطقياً؛ لأنه أيضاً أهل البرهان العقلي يسَلِّمُونَ لأوائلهم بصحة في البرهان.
فيبتدئ من برهان الأشعري، الأشعري مثلاً بدأ ووصل إلى شيء، فيبتدئ أصحابه من النقطة التي وصل إليها، وينطلقون منها.
فإذاً قولهم العقليات تُخْلِي من التقليد ومن التسليم ومن الاستسلام وتطلق الحرية، فهذا غير صحيح.
لأنَّهُ ما من أحد إلا ويُسَلِّمُ لمقدمات من سبقه، فإذا كان التسليم لبشر ليس معصوماً من الخطأ، فالتسليم لمن هو معصوم من الخطأ من جهة البرهان أَوْلَى.
فإذا كانت المسألة مسألة تسليم واستسلام، فالتسليم لمن لا يُخْطِئْ أَوْلَى.
لهذا تجد أنَّ من المتأخرين -حتى في العصر الحاضر من أهل العقليات- تجد أنهم يحيلونك على شيء؛ لكن هذا الشيء بنوه على التقليد، يقولون طبعا هو كذا، طبعا في عُرْفِ من؟
لماذا هذا صار طبعاً؟
لأنه شيء غير مشكوك فيه
لماذا صار غير مشكوك فيه؟
إذا كان المرجع إلى حس فلا مجادلة إلى الحسيات.
إذا كان المرجع على أمور تجريبية أو إلى نظريات فإنَّ الذي يُحيل الأمور في الاستسلام على الدّين أَوْلى فيمن يحيل الأمور في الاستسلام على أصحاب العقليات.
ذلك لأنَّ أصحاب العقليات يُقَلِّدُ بعضهم بعضاً، أما أصحاب الديانات فصحيح نقول المتأخر يسلم للأول براهينه ولكنه يصل إلى برهان يقيني هو الكتاب والسنة.
وأما تقليد العقليات فإذا كانت راجعة إلى أشياء صحيحة فهذا تسليم لاشك فيه ما نجادل فيه؛ لكنهم في كثير من مباحثهم يتابع المتأخر الأول.
أنظر مثلاً إلى قضية ترتيب الأفلاك، الناس قرون بل آلاف منذ بدأ اليونان الكلام على ترتيب الأرض والشمس والكواكب السبعة في الكون وهم على نحو ما، إلى وقت قريب تَغَيَّر.
هذه الأمم آلاف السنين التي مَرَّت من الفلاسفة والفلكيين الإسلاميين والفلكيين اليونان والمدرسة الرومانية إلى آخره، هذه الأمم والمدرسة الهندية في الأمور العلمية والفلك، التتابع في الطب كذلك، كلّ هذه ألم يسلم المتأخر للأول؟
سَلَّمَ له، وظَهَرَ الآن أَنَّ تلك الأشياء جميعاً غير صحيحة، لماذا كانت غير صحيحة؟
لأنهم -كما ذكرنا لك- وضعوا تجارُباً؛ لكن التجارُب صارت على أمور خارجة عن حيز التجربة الذي يُنتج نتائج صحيحة.
فهذه مسألة عظيمة ما نحب نطيل فيها، هذه المسألة راجعة إلى البرهان الحقّ في أنَّ أقوى البراهين هو البرهان الديني.
لذلك نقول لك: هذه الثلاثة من الأشياء العقلية:
- البرهان الحسي نقول صحيح، ما فيه إشكال فيه، وكل المعرفة قامت على هذه البراهين الحسية.
- برهان التجربة منقسم إلى ما يكون ثَمَّ تجربة ناجحة فيه، وما لا تنجح فيه التجربة.
- برهان متابعة اللاحق للسابق، هذا أيضاً لابد يخضع للدراسة لأنه قد يكون الأول مخطئاً في برهانه العقلي، كما هي كثير من الأمور العلمية والنظرية، فضلا عن أمور الغيبيات والإلهيات.
إذاً نستخلص من هذه المسألة الثانية إلى أنَّ أنواع البراهين الثلاثة، من قال البرهان العقلي، هذا تجده عند جميع العقلانيين حتى في العصر الحاضر، وكثير من الناس تعجبه البراهين العقلية، ولكن عندما تخوض في صحة البرهان تجد أشياء.
فإذاً نقول: المنطق أو العقل منقسم على ثلاثة أقسام:
- شيء حسي.
- تجربة.
- فيه أشياء فيها تقليد.
كيف عرفت أنّ هذا المنطق؟
قال: فلان، فيحيله على من قبله، فإذاً تكون المناقشة مع من قبله.
إذاً تبقى المسألة خاضعة للبحث والرد.
أما المصدر المُتَيَقّن بمقدماته هو مصدر الكتاب والسنة كما ذكرتُ لك:
- وبرهان كون الكتاب من عند الله عز وجل تَقَدَّمْ.
- برهان وجود الله عز وجل معروف.
- برهان النبي؛ برهان النبوة متقدم.
[المسألة الثالثة] :
في قوله (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) كلمة (الاشتباه) و (المشتبه) معناها ما لا يُدْرَكُ معه العلم ويُقابَلْ ما بين المُحْكَمْ والمتشابه.
والله عز وجل جعل القرآنَ مُحْكَمَاً ومتشابهاً؛ يعني صَيَّرَ القرآن مُحْكَمَاً ومتشابهاً.
والقرآن يصحّ أن يقال:
- إِنَّهُ مُحْكَمٌ كله.
- وإِنَّهُ متشابهٌ كله.
- وإِنَّهُ محكم ومتشابه.
فالقرآن منه محكم ومنه متشابه، والقرآن محكم كله، والقرآن متشابه كله، بكل قسم باعتبار.
@ أما كونه مُحْكَمٌ كله:
فالله عز وجل بيَّن أَنَّهُ أحكم القرآن كما قال {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1]، فالقرآن مُحْكَمٌ كله {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:2] ؛ يعني المحكم في أحد أوجه التفسير.
@ وأما كونه متشابهٌ كله:
فكما قال سبحانه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] ، فالقرآن كله متشابه؛ لكن هذا بمعنى أنَّ بعضه يشبه بعضاً.
لأنَّ المسائل محدودة وبعضه يشبه بعضاً: هذا قصص في سورة وقصص في سورة وقصص في سورة، هذا الكلام على الإيمان والإيمان والإيمان، والكلام على الجنة والنار في سور مختلفة، في صفات الله، وأسماء الله عز وجل فهو متشابه.
@ وأما كونه منه محكم ومنه متشابه:
وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي في هذا الموضع قال (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) .
(منه محكم) يعني ما معناه واضِحٌ للجميع.
(ومنه متشابه) ما يشتبه معناه على البعض.
وإذا تبين ذلك فليس ثَمَّ في القرآن إذاً متشابه على كل أحد، ليس ثَمَّ في القرآن متشابه مطلق.
نقول هذه المسألة متشابهة بمعني أنَّه لا أحد يعلمها، أي في القرآن آية لا أحد يعلم معناها هذا مستحيل لأنَّ الله عز وجل جعل القرآن محكماً كله، وجعل منه محكم ومنه متشابه، والراسخون في العلم يعلمون المتشابه الذي هو المعنى.
أما المتشابه النسبي فنعم، هذا المتشابه النسبي ما معناه؟
معناه أنَّهُ ما من شيء إلا ويشتبه عليّ أو عليك أو على فلان، فليس ثَمَّ أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ كل شيء، عَلِمَ كل القرآن، عَلِمَ كل السنة، لابد أن يشتبه عليه شيء، بمعنى أن يستسلم لبعض الشريعة فإنه لا يعلم المعنى.
وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال عند قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] قال: (أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)(1) .
مثلاً: عند قوله تعالى {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] كم عِدَّةْ أصحاب الكهف؟
متشابهة؛ يعني أنا لا أعلم، أنت لا تعلم، ابن عباس رضي الله عنه حينما جاء إلى هذه الآية قال (أنا من القليل الذي يعلمه)(2) ، لأنَّهُ متشابه نسبي.
فإذاً الذي يقول إنَّ في القرآن متشابه مطلق على كل أحد، هذا غير موجود لا في العقائد ولا في العمليات.
لكن هناك متشابه على الجميع وهو الكيفيات؛ كيفيات الأشياء، كيفيات الغيبيات.
ولهذا قال كثير من السلف إنَّ الوقف على لفظ الجلالة في آية آل عمران {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ؛ يعني تأويل الآيات، تأويل المتشابه المحكم ما يعلمه إلا الله في أمور الكيفيات، في أمور تمام المعنى، في الجنة جاءت صفتها نعلم معنى الأنهار ومعنى الشجر؛ لكن كيفية ذلك هذا مشتبه علينا.
لذلك نقول: الاشتباه نسبي، أما الاشتباه المطلق لا يوجد.
فإذا كان كذلك: لزم أن نَرُدَّ علم ما اشتبه علينا إلى عالمه، نقول الله اعلم.
لهذا قال من قال من أهل العلم (إذا ترك العالم الله أعلم أُصِيْبَتْ مقاتله)، وفي رواية قال:(إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله)(3) ، لأنَّهُ لابد أن يشتبه عليه شيء.
إذا تقرر لك ذلك: فإنّ الاشتباه الحاصل يكون في العقيدة وفي الشريعة.
فكلّ ما لا تعلم عِلّتَه أو حكمته أو السِّر فيه فهو متشابه، فَسَلِّم للشريعة، سلِّم للكتاب والسنة الحق وأيقن بذلك ورُدَّ ما اشتبه إلى عالمه.
مثلاً في العقائد يأتينا أنواع الاشتباه.
(1) مصنف ابن أبي شيبة (30107)
(2)
المعجم الأوسط (6/175) وانظر تفسير الطبري لسورة الكهف (8/205) / ابن كثير (3/107) / البغوي (1/161)
(3)
حلية الأولياء (7/274) عن سفيان بن عيينة قال (إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) .
في العقائد في مسائل الغيبيات، واحد يشكل عليه في مسائل الغيبيات أشياء: أمر الجنة، أمر النار، أمر الناس كيف يعذّبون في النار بعد الموت، تأتيك أسئلة، تأتيك أسئلة كثيرة، هذه الأسئلة، الرؤية مثل التي ذكر، كيف يرى الفرد المؤمن بقواه المحدودة يرى الرب عز وجل الذي السموات مطويات بيمينه وهو سبحانه وسع كل شيء رحمة وعلما، كيف يكون؟ ما يتحمل العقل ذلك، العرش كيف أنّ السموات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس، كيف أنَّ الكرسي وسع السموات والأرض؟ كيف الماء وكان عرشه على الماء؟ تأتي مثل هذه الأسئلة لا تدركها.
فإذا جاء عدم الإدراك في مسائل الإيمان بالغيبيات فيجب أن تُسَلِّم إلى عالمه.
في القدر لم كان كذا؟ لم قضى الله كذا؟ لم أغنى الأغنياء؟ لم أفقر الفقير؟ لماذا أمرض؟ لماذا أصاب بكذا؟
إذا بدأت الأسئلة فيأتي بِدْأْ الاعتراض ويُحرم المرء كما سيأتي في الجملة التالية.
فإذاً تحتاج إلى الاستسلام في العقائد أعظم الاستسلام؛ لأنها مبنية على الغيبيات.
والأمور الغيبية برهانها إذا استسلمت للبرهان فصدقه، الأمور الغيبية مبنية على برهان، هل هو البرهان للغيبي نفسه؟
لا، هو برهان لبرهان الغيبيات.
برهان الغيبيات هو القرآن والسنة.
عندنا برهان لصحة القرآن والسنة، هذا برهان واضح صحيح؛ لكن البرهان على الغيبيات بأفرادها ما عندنا.
لكن عندنا برهان على البرهان الأصلي وهو الكتاب والسنة.
بالنسبة لأمور العبادات والفقه تأتي مسائل العلل؛ التعليلات.
الشريعة مُعَلَّلَة ولاشك، والله عز وجل جعل الأحكام الشرعية منوطة بعللها.
لكن من العلل ما ظهر ومنه ما لم يظهر، لهذا تجد أنَّ بعض العلماء يُعَبِّرْ عن مسائل العلل في العبادات بأنَّ علته قاصرة، فتجده تارةً يقول (فإنَّ العلة تعبدية) ، كما أنَّ هناك علل معروفة.
فإذاً إذا جاءتك المجاهيل في أمور العبادات فإنك تُسَلِّم دون خوف؛ لأنه ثَمَّ أشياء تغيب عن العبد.
[المسألة الرابعة] :
قوله (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) التسليم والاستسلام هما دين الإسلام.
فإنَّ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
فإذاً دين الإسلام هو دين الاستسلام.
ولهذا كل الأنبياء دينها الإسلام يعني دينها الذي دعت إليه الاستسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] ، نوح عليه السلام بُعِثَ بالإسلام، وعيسى بُعِثَ بالإسلام، وموسى عليه السلام بُعِثَ بالإسلام، الذي هو الدين العام؛ لكن الشرائع مختلفة (1) .
ودين محمد صلى الله عليه وسلم الذي بُعِثَ به هو الإسلام العام الذي اشترك فيه مع جميع الأنبياء والمرسلين والإسلام الخاص الذي هو شريعة الإسلام.
كل هذه لا تَثْبُتُ إلا على قدم التسليم والاستسلام.
يعني أنَّ من لم يستسلم فهو شاك والشاك ليس بمسلم.
لأنَّ أصل الديانة مبنية على التسليم، فإذا شك في أمر يجب الإيمان به، فإنَّ الإيمان يجب أن يكون عن يقين.
لا تنفع (لا إله إلا الله) إلا بيقين، لا تنفع (محمد رسول الله) إلا بيقين، لا ينفع الإيمان بالجنة والنار إلا بيقين كما جاء في حديث عبادة «وأن الجنة حق وأن النار حق (2) » ، فلا بد من اليقين بذلك بدون تردد.
فإذا جاء الشك والارتياب وعدم التسليم والاستسلام، هذا معناه أنَّ الإسلام غير قائم.
وقد يكون الشك في بعض الناس لطلب الحقيقة، فهو يبحث عن جواب، السؤال هذا لا يقدح في دينه؛ لأنه قد يعرض للمرء؛ لكن يجب أن لا يُظْهِرَهُ بل يكتم ذلك ويسأل عنه من يثق بعلمه حتى يزيل الشبهة، فمعنى ذلك أنَّ عدم الاستسلام والتسليم ينقسم إلى قسمين:
1 -
القسم الأول:
الشك المستمر الذي يستكين له صاحبه، وهذا خلاف اليقين الواجب، وهذا ليس بمسلم، عنده الشك في الغيبيات وعنده الشك في الجنة، شك في النار، شك في صدق الرسالة، شك في القرآن، هذا ليس بمسلم.
2 -
القسم الثاني:
عنده شك في بعض الأفراد؛ مسألة في السنة، مسألة في القرآن، فليس الشك في الأصل وإنما عنده شك في الأفراد، فهذا يجب عليه أن لا يستسلم لهذا الشك، وأن يبحث عمّن يزيل عنه الشبهة.
نكتفي بهذا.
(1) ذكر الشيخ هذه المسألة في الشريط (51) بتفصيل
(2)
البخاري (3435) / مسلم (149)