الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الأولى] :
أنَّ الحوض دلَّ عليه القرآن باحتمال، ودلَّت عليه السنة بقطع:
أما القرآن فدليل الحوض فيه قوله تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) } [الكوثر] ، وقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ الكوثر بأنه (حوض أعطاه الله إياه)(1) ، وهناك عدة تفاسير للكوثر منها أنه نهر في الجنة، وقد جاء أيضا أنَّ الحوض يُسْكَبُ فيه من الكوثر ميزابان يعني يغذونه بماء الكوثر.
وأما من السنة فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجود الحوض وفي صفته، وقد رواها عنه صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابياً، ولهذا نقول: هي متواترة نقلاً ومتواترة تواتراً معنوياً، فجمعت بين نوعي التّواتر.
وهذا النقل جاء عن أفاضل الصحابة وعن أكمل الصحابة.
فمرويات الحوض ثابتة عن الصحابة عن أبي بكر رضي الله عنه وعن عمر وعن عثمان وعن علي وعن فقهاء الصحابة كابن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي ذر إلى غير هؤلاء.
فجُلَّة الصحابة رووا أحاديث الحوض على خلاف بينهم في ألفاظها، والنّبي صلى الله عليه وسلم كان يكرّر الكلام عن أحاديث الحوض كما روى أبو داوود في سننه عن أحد الصحابة أنه قال (سمعته مرارا لا أقول مرة أو مرتين)(2) يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان يكرر الأحاديث في الحوض فلذلك حصل فيها بعض الاختلاف كما سيأتي فيما نستقبل.
(1) مسلم (921) / أبو داود (784) / النسائي (904)
(2)
أبو داود (4749)
[المسألة الثانية] :
أنَّ صفة الحوض التي دل عليها الدليل من صحيح السنة.
1-
أولاً: من حيث شكله:
هو مربع زواياه سواء وأضلاعه متساوية، وقد ثبت في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم «قال طوله شهر وعرضه شهر زواياه سواء» (1) فهذا يدل على أنَّ شكل الحوض مربع، وأنَّ زواياه قائمة، وأنَّ طوله وعرضه واحد وهو شهر.
واختلفت الروايات كثيرا في طوله وعرضه، ومُحَصَّلُها ما ذكرتُ لك من أنه شهر في شهر، وقد جاء في بعض الروايات قال «هو كما بين المدينة وبيت المقدس» ، وفي رواية قال «هو كما بين المدينة وعُمَان» (2) أو قال «عَمَّان» ، وفي رواية قال «هو كما بين المدينة إلى صنعاء» (3) ، وفي رواية قال «هو كما بين أيلة إلى صنعاء» (4) وثَمَّ غير ذلك.
وإذا قلنا مسيرة شهر في شهر، فالمراد بالشهر بسَير الجمال السّير المعتاد؛ لأنه هو الفصل في التقدير.
هذا من حيث طوله وعرضه وشكله، شكله مربع وطوله وعرضه شهر في شهر.
2-
ثانياً: من حيث مكانه:
مكانه هو في الأرض المُبَدَّلَة، يعني يوم يبدّل الله الأرض غير الأرض والسموات، هو في الأرض المُبَدَّلَة.
3-
ثالثاً: من حيث آنيته:
آنيته وصفَها صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمر بن العاص وغيره قال «آنيته كنجوم السماء» (5) وهذا التشبيه بقوله (كنجوم السماء) نفهم منه صفتين:
- الصفة الأولى: الكثرة، في أنَّ كثرتها كثرة نجوم السماء، وهذا يدل على مزيد راحة وطمأنينة في الشرب منه وتناوله، وألا يكون هناك تزاحم على كيزانه، أو أنَّ الناس يشربون بأيديهم.
- والصفة الثانية: أنَّ كيزانه أو كيسانه أو أباريقه أو نحو ذلك كنجوم السماء في الإشراق والبهاء والنور.
فنجوم السماء فيها صفة الكثرة وفيها صفة النور والبهاء.
هذا من جهة وصف كيزانه من حيث العدد ومن حيث الشكل.
4 -
رابعاً: من حيث مائه:
ماؤه من حيث اللون أشد بياضاً من اللبن، كما ثبت في الحديث قال «حوضي طوله شهر وعرضه شهر ماؤه أشد بياضا من اللّبن وأحلى من العسل» (6) ، وقد جاء في رواية قال «ماؤه أشدّ بياضا من الوَرِقْ» (7) يعني من الفضة.
ورائحة مائه قال «رائحته كرائحة المسك» (8) .
ومصدر مائه من الكوثر؛ النهر الذي في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة» (9) .
وقد جاء في صفة الحوض «يشخب فيه من الكوثر ميزابان» (10) .
هذه من جملة صفاته.
(1) مسلم (6111)
(2)
ابن ماجه (4304) / ابن حبان (6451)
(3)
البخاري (6591) / ابن ماجه (4304)
(4)
البخاري (6580) / مسلم (6135)
(5)
ابن حبان (6452)
(6)
مسلم (6129) / الترمذي (2444) / ابن ماجه (4302)
(7)
مسلم (6111)
(8)
البخاري (6579)
(9)
سبق ذكره (191)
(10)
مسلم (6129)
[المسألة الثالثة] :
اختلف العلماء أين يكون الحوض؟ هل هو قبل الصراط أم بعد الصراط؟ على قولين:
1-
القول الأول:
وهو قول جمهور أهل العلم على أنَّه قبل الصراط وليس بعد الصراط؛ لأنّ الأحاديث التي فيها صفة الحوض فيها ذُكِرَ أَنَّ أناسا يُذَادُون عنه ويُدْفَعُون ويُؤْخَذ بهم إلى النار، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم «ربي أصيحابي أصيحابي» (1)، أو قال «أصحابي أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (2) .
2-
القول الثاني:
وبه قال طائفة من أهل العلم إنَّ الحوض حوضان حوض قبل الصراط وحوضٌ بعد الصراط، فمن لم يشرب منه قبل الصراط بأن أُخِذَ للعذاب من هذه الأمة ثم نَجَى بعد ذلك، فَثَمَّ حوض آخر بعد الصراط يشرب منه.
* ولكن الذي تدل عليه الأحاديث بظهور وكثرة أنَّ الحوض يكون قبل الصراط لا بعده.
ثُمَّ القائلون بأنه قبل الصراط أيضاً اختلفوا: هل هو قبل الميزان أم بعد الميزان؟
على قولين لأهل العلم، والأكثر أيضا أنّه قبل الميزان، وأنّه في العرصات قبل أنْ يأتي الله جل جلاله لفصل القضاء وقبل أن تتطاير الصحف وإلى آخر ذلك.
ولشدة طول [.....] الناس فإنّ الله يكرم نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الحوض حتى يشرَب منه المؤمنون فلا يظمؤون ولا يقلقون في شدة هول الموقف.
فإذاً نقول الصواب أنَّهُ قبل الصراط وأيضاً أنه قبل الميزان.
قال القرطبي صاحب كتاب التذكرة في الكلام المشهور عنه يتناقله العلماء قال (والمعنى يقتضي هذا؛ لأنَّ الناس يخرجون من قبورهم عطاشا فإذا وافوا الموقف فإنهم يحتاجون مع طول الموقف إلى ما به ذهاب ظمئهم وصدورهم، وهذا يناسب أن يكون إكرام النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض قبل الميزان) .
(1) مسلم (6136) / ابن ماجه (3057)
(2)
البخاري (6582)
[المسألة الرابعة] :
جاء في الأحاديث أنَّ الحوض يُذاد عنه، فقد جاء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يذود أناساً عن الحوض.
وجاء في أحاديث أخرى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه قوم فيعرفهم فيُذادُون عن الحوض؛ يعني يذودهم غيره صلى الله عليه وسلم، فيقول «يا ربي أصيحابي أصيحابي» إلى آخر الأحاديث التي سيأتي توجيهها.
وهذا يدلّ على أنّ التحقيق أنّ الذَّوْد عن الحوض نوعان:
1-
الأوّل ذود عام:
وهو ذود النبي صلى الله عليه وسلم غير أمته أن يستقوا من الحوض فيدفعهم أو يمنعهم ويذودهم عن الحوض الخاص بأمته صلى الله عليه وسلم، وهذا الذّود العام منه صلى الله عليه وسلم وإبعاد الناس عن حوضه إلا أمته يفيد فائدتين:
- الفائدة الأولى:
أنه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين به في هذه الأمة رؤوف رحيم، فيريد أن تختص أمته بحوضه، وذلك فيه إكرام لهم ومزيد عناية بهذه الأمة.
- الفائدة الثانية:
أنه قد جاء -كما ذكرنا- أن لكل نبي حوضا، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد من كل كل تابع لنبي ومؤمن بنبي من إخوانه الأنبياء والمرسلين، يريد أن يذهب إلى النبي ليكون أبلغ في ظهور عظم الرسالة -رسالة النبي إلى قومه- ورأفة قومه به، وإظهار لمن آمن بكل نبي على من لم يؤمن بذلك النبي.
وهذا توجيه جيد أفاده عدد من أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ومن تبعه.
2-
الثاني ذودٌ خاص:
فهذا يُذاد عن الحوض طائفة قليلة بالنسبة إلى كثرة من يرده، قد جاء فيه أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم متعددة: أنه إذا ورد الحوض ورد عليه أناس يعرفهم ويعرفونه ثم يُذَادُونَ عن الحوض؛ يعني يُدفَعُونَ بشدة فيقول «يا ربي قومي قومي» وفي رواية «أصحابي» وفي رواية لأنس في الصحيح «أصيحابي أصيحابي» ، فينادي المنادي «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، في رواية «إنهم لم يزالوا مرتدّين على أدبارهم مذ تركتهم» ، فهذا دَفْعٌ بشدة عن الحوض لطائفة من المرتدّين ومن المُحْدِثِين.
ولهذا اختلف أهل العلم في هؤلاء الذين يُدفعون عن الحوض من هم؟ (1) على أقوال:
: [[الشريط الخامس عشر]] :
1-
القول الأول:
أنّ الذين يُذادُونَ عن الحوض هم الذين ارتدوا من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، كالذين تبعوا مسيلمة الكذاب أو سجاح أو كَفَرُوا وارتَدُّوا بعد ذلك، وهم قليل.
ويدل على قلتهم أنه صلى الله عليه وسلم قال «يذاد قوم» أو يؤتى كما في رواية أخرى، قال «فيأتيني قوم فيُذادون عن الحوض» وهذا يدل على قلّتهم.
ويدل على ذلك أيضا قوله «يا ربي أصيحابي أصيحابي» . (2)
فقال أهل العلم إنَّ كلمة (قوم) و (أصيحابي) ونحوهما، يدل على قلة العدد لا على كثرتهم.
وهذا يناسب هذا القول؛ لأنَّ عدد الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ممن صحبوه أو حجوا معه حجة الوداع قليل من شرذمة من الأعراب الذين لم يؤمنوا به حق الإيمان.
2-
القول الثاني:
أنِّ الذين يُذادون عن الحوض هم المنافقون.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف المنافقين جميعاً فقد قال الله ? له {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] فيأتون يوم القيامة وعليهم سيما أهل الإيمان أو أنهم مع المؤمنين فيظنّهم صلى الله عليه وسلم من المؤمنين به ظاهراً وباطناً، ثم يُذادون فيُدْفَعُونَ عن الحوض بشدة، ويساقون إلى النار فيقول «أصحابي أصحابي» باعتبار ما كان عليه ظاهر أمرهم، فيقول (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)(3) ، (أو إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم مذ تركتهم) .
يعني ظَهَرَ نفاقهم واستبان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
3-
القول الثالث:
أنَّ الذين يذادون هم كل من أحدث بعده صلى الله عليه وسلم حدثَاً فَغَيَّرَ في دينه إمَّا بالارتداد عن الإسلام إلى الكفر أو بما هو دون ذلك من المحدثات كالبدع المضلة من أنواع البدع المضلة كبدعة الرِّفض والسبئية والخوارج والنّصب والاعتزال، كل هذه من أنواع المحدثات.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في وصف من يُذاد «فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، وهذه من جملة أنواع المحدثات.
(وهذا القول الثالث هو أظهر الأقوال لشموله للقولين السابقين، فنقول:
- أولا: الذين يُذادون كما جاء في بعض الأحاديث الذين ارتدوا ممن شارك في حجة الوداع أو صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به إيماناً حقيقياً، فهؤلاء يذادون.
- ثانياً: وأيضاً يذاد المنافقون.
- ثالثاً: وأيضاً يذاد كل أصحاب الفرق الضالة كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وأشباه هؤلاء من الفرق الذين ضلوا وأحدثوا في الدين وابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله.
قال بعض أهل العلم: ويُلْحَقْ بذلك أيضاً من افترى على الله عز وجل في دينه؛ يعني كَذَبَ في أمر الدين.
ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده ونحو ذلك بألفاظ متقاربة من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «سيكون بعدي أمراء فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظُلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليَّ الحوض» (4) .
قال في وصف هؤلاء «فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم» يعني يكذبون على الدين وهذا يُصَدِّقُهُم على ذلك ويعينهم على الكذب على الدين ويعينهم على الظّلم، فهذا مُحْدِثْ، ولهذا أُلحق بتلك الفئات بقوله صلى الله عليه وسلم «فليس مني ولستُ منه ولن يرد عليّ الحوض» .
(1) انتهى الشريط الرابع عشر.
(2)
سبق ذكره (193)
(3)
البخاري (6576) / مسلم (6118)
(4)
الترمذي (614) / النسائي (4208) / المسند (23308)
[المسألة الخامسة] :
خالف في الحوض طوائف من أهل البدع، خالف فيه المعتزلة والخوارج والرّافضة.
1-
المعتزلة:
أما المعتزلة فخالفوا في إنكاره أصلاً فأنكروا الحوض، وقالوا هذه الصفة التي وردت لا تُعْقَلْ، فردُّوا الأحاديث المتواترة المتطابقة المتتابعة لفظاً ومعنىً، رَدُّوهَا بالعقل فقالوا (الحوض لا يُعْقَلْ وإنما له معنى يُؤَوَلْ إليه) .
فليس عندهم حوض موجود يوم القيامة وإنما هو معنًى من المعاني.
قالوا: فكيف يكون الحوض قبل الصراط وبين الناس وبين الجنة جهنم الكبيرة، ويكون الحوض يُغْذَى من الجنة، والصراط على جهنم؟
يعني أنهم تخيَّلُوا ما ورد في صفة يوم القيامة بعقولهم، ثم بعد ذلك ردُّوا ذلك، ردُّوا بعض الأحاديث مما لا يتناسب مع الوصف العام الذي تخيّلوه.
ومن المعلوم أنَّ السنة إذا ثبتت ولو بالآحاد، فكيف إذا كانت بالتواتر اللفظي والمعنوي، إذا ثبتت فلا يجوز أن يُسَلَّطَ عليها العقل؛ لأنّ الأمر أمرٌ غيبي.
والمعتزلة كما هو معلوم في قاعدتهم يُؤَوِّلُونَ الغيبيات: فأنكروا الصراط وأوّلوا الميزان وأوّلوا الصحف وأوّلوا الحوض إلى غير ذلك، على أساس قاعدتهم من تسليط العقل على النّقل.
فإذاً مخالفتهم مردودة.
وقال بعض أهل العلم: من أنكر الحوض بعد علمه بالتواتر فإنّه يكفر.
ولكن هذا فيه نظر من جهة تطبيقه لأنَّ التواتر قسمان: تواتر لفظي وتواتر معنوي، وقد يُسَلِّمُونَ بصحة النقل لكن لا يُسَلِّمُونَ بصحة الدّلالة.
2-
الخوارج والرافضة:
أما الخوارج والرافضة: فمخالفتهم ليست في إثبات الحوض، ولكن في أنهم جعلوا أحاديث الحوض على غير ما هي عليه من جهة الصحابة رضوان الله عليهم.
فقالت الخوارج والرافضة: إنَّ الذين ارْتَدُّوا فلم يَرِدُوا على الحوض هم الصحابة، وأولئك جمع كبير من الصحابة.
فيؤمن الخوارج والرافضة بالحوض لكن يقولون هؤلاء الذين رُدُّوا هم الصحابة ويحتجون بأحاديث الحوض على تكفير الصحابة.
فيقول الرافضة مثلا: إنَّ هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يُسْلِمْ أو لم يبق على الإيمان بعده صلى الله عليه وسلم من الصحابة إلا نفر قليل والأكثرون كَفَرُوا والعياذ بالله.
والرَّد على هذه الفِرْية من أوجه:
1-
الرد الأول:
الألفاظ المختلفة تدلُّ على تقليل العدد، فقال صلى الله عليه وسلم:
- «فيُذاد قوم عن حوضي» هذا في لفظ.
- والثاني «فيذاد أناس عن حوضي» .
- وفي الثالث قال «فأقول يا ربي أصحابي» .
- وفي الرابع قال «فأقول يا ربي أصيحابي» .
فدل ذلك بمقتضى اللغة على أنَّ قوله «يذاد أناس فأقول يا ربي أصيحابي» على أنَّ العدد قليل كما يقول القائل في اللغة (أتاني بنو تميم، إلا قوم منهم لم يأتوا) ، يعني إلا قليل منهم.
فإذا أتت الجملة الكثيرة ثم أُستثني قوم دلَّ على قلة أولئك كيف وقد جاء الحديث فيه ذكر التقليل لقوله «أصيحابي أصيحابي» .
2-
الرد الثاني:
أنَّ الذين نقلوا أحاديث الحوض عن النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين زعمت الرافضة أنهم كَفَرُوا، وهم جمعٌ كبيرٌ أكثر من خمسين صحابياً يقول الرافضة إنَّ هؤلاء كفروا، وهم الذين نقلوا أحاديث الحوض.
فنقول: إن كنتم صَدَّقْتُم بأنَّ ما نقله هؤلاء من صفة الحوض وأحاديث الحوض وأنها صحيحة، فكيف تقبلون أحاديث من كفر عندكم؟
وإنّ كان النقل عندكم إنما هو للتكاثر، فكيف يَنْقُلُ هؤلاء الجلة من الصحابة والعدد الغفير أحاديث فيها تكفيرُهم؟
لا شك أنَّ فهم الجمع الغفير، بل عامة الصحابة، بل كل الصحابة لأحاديث الحوض، وكونهم رَوَوهَا وتناقَلُوهَا جميعاً -جميع الصحابة وجميع التابعين- نَقَلُوهَا وتَنَاقَلُوهَا مع تَرَضِّيهِمْ عن الخلفاء الأربعة جميعاً وعن العشرة المبشرين بالجنة ما يَدُلُّ دَلَالَةً قاطعةً على أَنَّ هذا الفهم لتلك الأحاديث لم يكن معروفاً عند الصحابة ولا التابعين ولا تبع التابعين.
وكون فَهْمٍ في الأحاديث يكون غائباً عن الصحابة جميعاً وعن التابعين وعن تَبَعِ التابعين ولا يظهر هذا الفهم إلا بعد مائتي سنة يدلّ على أنَّ هذا الفهم مردود؛ لأنه لم يفهمه أجيال من المسلمين.
وإذا كان كذلك فالقاعدة المتفق عليها (أنَّ الفهم إذا كان مُحْدَثَاً وغابت القرون المفضلة ولم تَفْهَمْ هذا الفهم، فإنَّ معنى ذلك أنَّ هذا الفهم غير صحيح) .
وهذا هو الذي يلاحظ في الواقع، فإنَّ الذين ارتدوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم نفر قليل ممن قاتلوا مع مسيلمة أو كَفَرُوا بعد إسلامهم من شذاذ الأعراب وطوائف ممن قال الله فيهم {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] .
وكلام الرافضة لهم كلام طويل في الاستدلال بأحاديث الحوض على مسألة تكفير الصحابة ليس هذا محل بسطها وبيانها.
[المسألة السادسة] :
أَنَّ الشرب من الحوض -ورود الحوض- له أسباب في هذه الدنيا ينبغي؛ بل يجب على الموحّد أن يحرص عليها، بل يجب على كل مسلم أن يحرص عليها:
1 -
أن يكون غير مُحْدِث في الدين حَدَثَاً؛ يعني كلُّ ما لم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم من أنواع الاعتقاد والعلم فإنه يجب ردُّه، يعني أن لا يَعْتَبِرَهُ حقَّاً.
فإذاً العقيدة والدين هو الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عهده، فكلّ من أتى بشيءٍ جديدٍ فإّنه لا يأمَن أن يكون داخلا في قوله «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، حتى إنَّ أهل العلم أدْخَلُوا في ذلك كما سمعت كل من أَحْدَثَ بِدْعَة في الاعتقاد من: المرجئة والخوارج والمعتزلة والكلاّبية والرّافضة والسّبئية إلى غيرها من الفرق الغالية والمتوسطة والخفيفة، كل من أحدث حدثَاً يدخل في ذلك.
* فلهذا يجب على الموحد وعلى المؤمن أن يحرص تماماً على أن يحظى بهذه التَّكرمة العظيمة وهو ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي (من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)(1) وأمِن في يوم الفزع أمن في يوم الحَزَن حيث قال الله ? {لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] ، ومن أسباب عدم الحَزَن أنه يأمن قبل تطاير الصحف بأن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك صار اهتمام المهتم بالتوحيد وبالعقيدة وبالدين الصحيح لأجل أن يأمن على نفسه وأن يحظى بهذه التّكرمة العظيمة يوم القيامة.
2-
أن يُخَلِّصَ قلبه من الغش والغل لخيرة هذه الأمة وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم معه من أحب، والصحابة معه يوم القيامة كما ثبت «أنت مع من أحببت» (2) ، وإذا كان كذلك فلا يجوز لأحد أن ينتقد الصحابة أو أن يُبغض بعضاً منهم أو نحو ذلك؛ بل يجب عليه أن يحب الجميع فلعله أن يحشر في زمرتهم وأن يرد حوض نبيه صلى الله عليه وسلم معهم.
3-
أن يكون بعيداً عن الافتراء في دين الله ?؛ كما ذكرت لك من الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ أنَّ من صفة الذين لا يردون عليه الحوض قال «يكون بعدي أمراء فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولن يرد عليّ الحوض» ، وهذا الأمر شديد في أنَّ المرء لا يكذب على اسم الله، وأيضاً إذا خالط أحداً فلا يصدقه على كَذِبِهْ، فلا يصدّق من يكذب على دين الله.
ولهذا المسألة العظيمة هي هذه؛ في أنَّ المرء يَعْلَمْ الدين ويعتقد الاعتقاد الصحيح ويَعْلَمْ الشريعة ولا يعين المرء المسلم مَنْ كَذَبَ على الدين؛ بل يجب عليه أن لا يُصَدِّقَ أحداً في كَذِبِه وأن لا يُعِينَ أحداً على ظلمه، بل يسأل الله ? السلامة والعافية.
وأكثر ما يورد الناس النار يوم القيامة اللسان، فذلك ينتبه المرء بأنه لا يقول شيئاً يكون كذباً على الدين، يعني قد تقول لا أدري والمسألة سهلة، أو إن استطعت أن تنطق بالحق، فهذا يعني فيمن كذب على دين الله فهذه مرتبة عظمى.
أما أن يقول المرء في دين الله ? بما لا يعلمه فهذا قد يكون افتراء على الدين.
ولهذا ذكر السَّفَّاريني رحمه الله في عقيدته المعروفة في منظومته ذكر جملة هذه الصفات بقوله:
عنه يُذادُ المفتري كما ورد ومن نحا سبل السلامة لم يُرَد
أي أَنَّهُ يُذاد عن الحوض المُفْتَرِي على الله ?؛ يعني من كَذَبَ على الله ? في العقيدة أو في الدين فنسب شيئاً إلى الله ? أو إلى دينه إنما هو محض تَخَرُّصْ منه، ما اجْتَهَدَ اجْتِهَادَاً أخْطَأَ فيه أو هو معذور في اجتهاده؟ لا، وإنما هو مَحْضُ تَخَرُّّْص واستهانة وعدم مبالاة بما ينسبه للشريعة وللدين، وهذا أمْرٌ يجب على المرء أن يحافظ على لسانه من أن يفتري على الله ?، والله سبحانه نَهَى عن أن يُقَال عليه ما ليس للمرء به علم فقال {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] ، فقَرَنَ بين الشرك وبين القول على الله بلا علم.
4-
أن يبتعد المرء عن الكبائر والذنوب؛ عن المداومة عليها، وإذا أَذْنَبَ يرجع ويستغفر لأنَّ جمعَاً من أهل العلم قالوا إنَّ الذين يُلَازِمُونَ الكبائر لا يرِدُون الحوض، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم فيقال «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ، والناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أذْنَبُوا اسْتَغْفَرُوا ولم يكن بينهم -يعني من الصحابة- ممن هو مداوم على الكبيرة غير تائب منها.
لهذا يحرص المرء على أن يأتي بالسبب الذي به غفران الله ?، وأن يُكْرِمَهُ الله بحوض نبيه صلى الله عليه وسلم في أنه يبتعد عن الكبائر والموبقات والآثام، وأنّه إذا غشي شيء من المعاصي فيُنيب ويستغفر ويُتْبِع السَّيئة الحسنة لتُمحى عنه السيئات.
أسال الله عز وجل أن يجعلني وإياكم ممن أُكْرِمَ بالورود على حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد.
مباحث الحوض كثيرة لو نسيت شيئا منها ستجدونه إن شاء الله في الكتب المختصّة.
(1) الترمذي (2444) / ابن ماجه (4303)
(2)
البخاري (3688) / مسلم (6878) / الترمذي (2385)