الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المسألة الأولى] :
لفظ الأئمة وولاة الأمور مما جاء به الكتاب والسنة
.
فولي الأمر العام -يعني ولي الأمر للأمة للناس- يُطْلَقُ عليه ولي الأمر، ويُطْلَقُ عليه إمام.
أما ولي الأمر فقد جاء في الكتاب قال الله عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وسُمُّوا وُلَاةَ الأمر؛ لأنَّ ما يَنْفُذُ من الأمور الشرعية والأمور الاجتهادية في الناس إنما يكون عن أَمْرِهِمْ، فالأمر راجع إليهم.
فإذاً ولي الأمر هو من بيده الأمر والنهي أو بالعُرْفْ المعاصر القرار الذي يَنْفُذُ في الناس، كما قال عز وجل {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} .
وهذا جاء في السنة في عددٍ من الأحاديث كما جاء في الآية بتسمية الحكام بولاة الأمور.
أما لفظ الأئمة فولي الأمر هو الإمام، ومن ولَّاهُ الله أمر الناس وابتلاه بذلك فيُسَمَّى إماماً؛ لأنه يُؤْتَمْ بأمره ونهيه وقراره وما يختاره اجتهاداً للأمة.
ولفظ الأمام لولي الأمر جاء في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (1) ، وهذا ظاهر في تسمية ولي الأمر إماماً.
(1) مسلم (4910)
[المسألة الثانية] :
الأصل أنَّ ولي الأمر يجمع ما بين:
- حسن التدبير في أمور الناس العامة، في أمور دنياهم وما يُصْلِحُهُمْ وما يحفظ بيضتهم ويدفع عنهم الأعداء.
- العلم بأحكام الشريعة بما يناسب، ولا يُشْتَرَطُ فيه أن يكون الأعلم كما هو مبسوط في مكانه في كتب الفقه.
واجتمعت الصفتان في الخلفاء الراشدين الأربعة وفي معاوية رضي الله عنه وفي عددٍ من الأئمة وولاة الأمور في التاريخ إلى الآن.
ولكن ربما لم يجتمع في ولي الأمر الصفتان فحينئِذْ يكون ما يُشْكِلُ على الناس في أمر دينهم فَمَرْجِعُهُم فيه إلى أهل العلم بالدين، وما يكون من قبيل الأمر العام للناس فإنه يكون لولي الأمر العام، وولي الأمر العام يستشير ويأخذ بقول أهل العلم فيما يرى أن يستشيرهم فيه.
وهذا المَأْخَذْ هو وجه قول من قال (إن ولاة الأمر هم الأمراء والعلماء) ؛ يعني كلاًّ فيما يخصه:
- الأمراء في الأمر العام، الأمر الدنيوي وما يُصْلِحُ الناس وما به تكون حياتهم.
- والعلماء فيما يكون من أمر الدين بما يأتون وما يذرون.
وهذا ليس هو الأصل، وإنما الأصل أنَّ ولي الأمر هو من يعلم، وهو الذي جاءت فيه الآيات {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وكذلك {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ، لأنَّ الأصل اجتماع الصفتين في ولي الأمر.
فإذا لم تجتمع الصفتان أُعْطِيَ ولي الأمر الذي بيده الأمر والنهي حق الإمام، وفي المسائل الدينية يُسْتَفْتَى ويُسْأَلْ أهل العلم.
ولهذا اجتنب كثير من العلماء بل أكثر العلماء والأئمة أن يُطْلِقُوا على العالم ولي الأمر؛ لأجل أن يكون هناك افتئات وخروج ولأجل أن لا يكون هناك مأخذ لمن يريد الخروج على الإمام أو ولي الأمر.
ومنهم من استعمل هذا وهذا؛ يعني أنَّ الأمور الدينية يُرجَعُ فيها إلى من يلي الأمر الديني، وهم العلماء في أمور الفتوى وفيما يأتي المرء ويذر فيما بينه وبين ربه عز وجل، وفي الأمور العامة فتكون لولاة الأمور.
[المسألة الثالثة] :
الخروج على ولاة الأمور وعلى من انْعَقَدَتْ له بَيْعَةْ هو مذهب طوائف من المنتسبين إلى القبلة، منهم الخوارج والمعتزلة، وبعض شواذ قليلين من التابعين وتبع التابعين، وبعض الفقهاء المتأخرين ممن تأثروا بمذهب المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والذي عليه الصحابة جميعاً وعامة التابعين وهكذا أئمة الإسلام من أنَّ الخروج على ولي الأمر مُحَرَّمٌ وكبيرة من الكبائر، ومن خرج على ولي الأمر فليس من الله في شيء.
والأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة متعدّدة، احتجّ بها الأئمة ورأوا أنَّ من خالفها ممن تأول مِنَ السلف أنهم خالفوا فيه الدليل الواضح البَيِّنْ المتواتر تواتراً معنوياً، كما سيأتي ذكر الأدلة إن شاء الله.
فإذاً أهل السنة والجماعة لما رَأَوْا ما أحْدَثَتْهُ اجتهادات بعض الناس ممن اتُّبِعُوا فخرجوا على ولاة الأمر من بني أمية، أو خَرَجُوا على ولي الأمر، على بعض ولاة الأمر من بني العباس، أو قبل ذلك ممن خرجوا على علي رضي الله عنه؛ بل قبل ذلك على عثمان وإن لم يكونوا من المنتسبين للسنة في الجملة، ذَكَرُوا هذا في عقائدهم ودَوَّنُوهْ، وجعلوا أنَّ الخروج بدعة لمخالفته للأدلة.
وتلخيص ذلك أنَّ اجتهاد من اجتهد في مسألة الخروج على ولي الأمر المسلم كان اجتهاداً في مقابلة الأدلة الكثيرة المتواترة تواتراً معنوياً مِنْ أنَّ ولي الأمر والأمير تجب طاعته وتَحْرُمُ مخالفته إلا إذا أمر بمعصية فإنه لا طاعة لأحدٍ في معصية الله.
ومِنْ أهل العلم من قال تَوَسُّعَاً في اللفظ (الخروج على الولاة كان مذهباً لبعض السلف قديم، ثم لما رُئِيَ أنَّهُ ما أَتَى للأمَّة إلا بالشر والفساد فأجمعت أئمة الإسلام على تحريمه وعلى الإنكار على من فعله) كما قاله الحافظ ابن حجر
* وهذا فيه تَوَسُّعْ لأنَّهُ لا يقال في مثل هذا الأمر أنه مذهب لبعض السلف، وإنما يُقَالُ إنَّ بعض السلف اجتهدوا في هذه المسائل من التابعين كما أنه يوجد مِنَ التابعين من ذهب إلى القَدَرْ والقول المنافي للسّنة في القَدَرْ، ومن ذهب إلى الإرجاء، ومن ذَهَبَ إلى إثبات أشياء لم تَثْبُتْ في النصوص، فكذلك في مسألة طاعة ولاة الأمور فربما وُجِدَ منهم الشيء الذي الدليل بخلافه، والعبرة بما دَلَّتْ عليه الأدلة لا باجتهاد من اجتهد وأخطأ في ذلك.
[المسألة الرّابعة] :
هذا الأصل الذي قرَّرَهُ الطحاوي رحمه الله دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة:
أمّا القرآن فمنه قول الله عز وجل {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ووجه الدلالة منه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال «من يُطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير فقد عصاني» (1) .
وقال الله عز وجل أيضا في سورة النساء {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، قال ابن القيم رحمه الله وقاله غيره أيضاً: لفظ {أَطِيعُوا} جاء في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يعني الأمر بالفعل {أَطِيعُوا} ثُمَّ لَّما ذَكَرَ وُلَاةْ الأمور لم يُكَرِّرْ الفعل {أَطِيعُوا} ، فقال {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قالوا: وفي هذا مناسبة أنَّ طاعة ولي الأمر المسلم لا تكون إلا في غير مخالفة طاعة الله وطاعة رسوله، أما إذا كانت طاعته فيها مخالفة لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يعني أَمَرَ بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلم يُكَرِّرْ الفعل لأنَّ طاعة الله تجب استقلالاً؛ ولأنَّ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً، وأما طاعة ولي الأمر فإنها تجب تَبَعَاً لا استقلالاً.
لهذا الرجل الذي أمَّرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على سرية وقال لهم «أطيعوه» فأجَّجَ ناراً وأمر الناس أن يقتحموها، فأَبَوا وقالوا: إنَّما فررنا من النار، يعني بالإيمان والإسلام، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال «أَمَا لو أنهم أطاعوه لم يخرجوا منها» (2) ؛ لأنهم أطاعوه في معصية الله عز وجل، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومن الأدلة قول الله عز وجل {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] الآية، ووجه الدّلالة من الآية أنّ الله عز وجل أَمَرَ داوود، وفي أَمْرِهِ أَمْرْ للأنبياء أَمْرْ لمن وَلِيَ الأمر أن يحكم بين الناس بالحق وأن لا يتّبع الهوى، وهذا مقصد والوسائل لها أحكام المقاصد، فطاعة ولي الأمر فيما فيه تحقيق الحق وتكثير الخير وتقليل الشر وإبعاد الهوى، هذه لها حكم المقصد فتكون واجبة وجوب المقاصد؛ لأنها وسيلة والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني» (3) .
وأيضاً ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وفيما كره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (4) .
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال «إنما الطاعة في المعروف» (5) يعني طاعة ولي الأمر في المعروف.
وأيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله ولا ينزعَنَّ يداً من طاعة» (6) .
وأيضاً صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» .
وأيضاً في الباب الحديث الذي ذكرت لكم أنه صلى الله عليه وسلم قال «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» ، ثم سئل صلى الله عليه وسلم فقيل له: أفلا نقاتلهم؟ يعني هؤلاء الذين نُبْغِضُهُمْ ويُبْغِضُونَنَا ونلعنهم ويلعنوننا، قال «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا مَنْ وَلِيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنّ يدا من طاعة» (7) .
وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» .
والأدلة على كثيرة في السنة كثيرة جداً وأُفْرِدَتْ بالتأليف، وحَرِيٌ بطالب العلم أن يتتبعها في هذا الموضوع المهم الذي تكثر فيه الأهواء، وأصل الاتباع أن يَتَخَلَّصْ المرء من هواه، فقد كثر التأويل من القديم من عهد الصحابة، التأويل والتبرير في هذه المسائل، والواجب على المرء أن يموت على الطريقة الأولى بغير تغيير ولا تبديل.
وهذه المسائل من المسائل التي كثر فيها التغيير والتبديل إمَّا عملاً وإما اعتقاداً -ولا حول ولا قوة إلا بالله- والسنة عزيزة واتباع طريقة السلف مطلوبة، والواجب على المرء أن يُخَلِّصَ نفسه من هواها، وأن يمتثل ما دلت عليه السنة دون مخالفة.
(1) البخاري (2957) / مسلم (4852)
(2)
البخاري (4340) / مسلم (4871)
(3)
مسلم (4859)
(4)
مسلم (4869) / النسائي (4206)
(5)
البخاري (7145) / مسلم (4871)
(6)
مسلم (4911)
(7)
مسلم (4910)
[المسألة الخامسة] :
الخروج على ولي الأمر يكون بشيئين:
- الصورة الأولى: عدم البَيْعَةْ واعتقاد وجوب الخروج عليه أو تسويغ الخروج عليه.
وهذا هو الذي كان السلف يطعنون فيمن ذهب إليه بقولهم (كان يرى السيف) ؛ يعني اعتقاداً ولم يُبَايِعْ.
- الصورة الثانية: وهي المقصودة بالأصالة أنهم الذين يخرجون على الإمام بسيوفهم، يعني يَخْرُجْ على الإمام ويجتمعون في مكان ويريدون خلع الإمام وتبديله، أو إحداث فتنة بها يُقْتَلْ ولي الأمر أو يُزال أو نحو ذلك؛ يعني الخروج بالعمل عليه سعياً في قتله أو إزالته.
فهاتان الصورتان للخروج.
والخروج على هذا:
- يكون بالاعتقاد
- ويكون بالعمل.
* أما الصورة الثالثة التي أدخلها بعض أهل العلم فيها وهي الخروج بالقول؛ لأنَّ ولي الأمر يكون الخروج عليه بالقول، فهذه لا تَنْضَبِطْ؛ لأنَّ الخروج بالقول قد يكون خروجاً وقد لا يكون خروجاً، يعني أنه قد يقول كلاماً يؤدي إلى الخروج فيكون سعياً في الخروج، وقد يقول كلاماً هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يوصِلُ إلى الخروج ولا يُحْدِثُ فتنة في الناس، وهذا لا يدخل فيه.
ولهذا من أدخل من أهل العلم الخروج بالقول في صور الخروج، فإنَّ الخروج بالقول فيه تفصيل، لا يُطْلَقْ القول بأنه ليس بخروج ولا أنَّهُ خروج.
ومعاوية رضي الله عنه قتل بعض الصحابة لما خَرَجُوا على أميرهم بالقول (1)
…
[......] أنَّ يقول للناس شيئاً أو أنَّ الناس كرهوه فاجتمع حجر بن عدي أو عدي بن حجر مع بعض أصحابه فحصبوه، حصبوا الأمير وقالوا: لا نسمع ما تقول، فَأَرْسَلَ إلى معاوية فأمر معاوية بأن يُؤْخَذُوا وأن يُسَيَّرُوا إليه، وكانوا سبعة عشرة رجلاً منهم الصحابي هذا، فقبل أن يَصِلُوا إلى دمشق أمر بهم فَقُتِلُوا (2) ، وهذا اسْتُدِلَّ به على أنَّ فعل معاوية رضي الله عنه مَصِيْرٌ منه إلى أنَّ الخروج يكون بالقول، وتُنَزَّلْ على هذا الأحاديث.
وهذا الاستدلال محل نظر وليس بجيد؛ بل معاوية رضي الله عنه فعل ذلك تعزيراً وله اجتهاده في هذا الأمر.
فإذاً نقول الذي عليه أهل العلم في تقرير العقائد أنَّ الخروج يكون في صورتين:
- الصورة الأولى: عدم البيعة واعتقاد جواز الخروج أو تسويغه أو وجوبه؛ يعني على ولي الأمر المسلم.
- والصورة الثانية: السعي باليد بالسيف بالسلاح على ولي الأمر.
أمَّا بالقول فهذه فيها تفصيل فقد تكون وقد لا تكون.
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع والثلاثين.
(2)
انظر المستدرك (5981)
[المسألة السادسة] :
الخروج على الولاة والأئمة له أسباب، ولم يَخْرُجْ أحَدْ إلا وله في خروجه تأويل:
@ فالخروج على عثمان رضي الله عنه الذي أدى إلى مقتله رضي الله عنه وأرضاه كان بسبب التصرفات المالية لعثمان رضي الله عنه وتوليته قَرَابَتَهُ، فَتَجَمَّع الخوارج ممن يدينون بالخروج منكرين هذا الأمر متأولين، فخرجوا عليه حتى قتلوه رضي الله عنه وأرضاه في قصة مبكية حتى إنَّهُ رضي الله عنه لم يُدْفَنْ إلا ليلاً وتَبِعَهُ ثلاثة أو أربعة صُلِّيَ عليه سِرَّاً، ثم أُخِذَ ليلاً على النعش بسرعة ولم يُدْفَنْ في البقيع وإنما في حائط، يعني في بستان قريب من البقيع، حتى لا يُعْرَفْ أنه دُفِنْ، حتى جاء في الرِّواية أنهم كانوا من سرعة مسيرهم به قالوا نسمع رأسه يضرب في نعشه من شدة السير به خشية أن تصل أيدي الخوارج إليه.
وهذا بسبب التأويل، التأويل في المال عندهم، يعني تَأَوَلُوا خروجهم بالرغبة في الصلاح في الأمور المالية، وكذلك في مسائل التولية ونحو ذلك.
وأجْمَعَ الصحابة رضوان الله عليهم على تصويب عثمان وعلى مُعَاداةِ هؤلاء، رضي الله عن الصحابة أجمعين وخَذَلَ من خالف سبيلهم إلى يوم الدين.
@ والسبب الثاني رُؤْيَةِ المرء ما يكره: في نفسه أو في بلده أو في مجتمعه بعامة، ما يكرَهُهُ ديناً أو ما يكرَهُهُ دُنْيَاً.
وهذا السّبب في رؤية المرء ما يكرهه قد يكون معه عدم صبر فيُؤَدِيهِ إلى الانتصار مُتَأوّلَاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيكون آخذاً بالخروج أو خارجاً فعلاً.
وهذه المسألة وهي مسألة رؤية ما يكره المرء في الدين أو في الدنيا أعْظَمُهَا ما حَصَلَ في عهد الإمام أحمد رضي الله عنه حيث رأى ورأى أئمة الحديث ما يكرهون في أعظم مسألة وهي مسألة خلق القرآن؛ حيث دُعِيَ الناس إلى القول بخلق القرآن الذي هو الكفر، وأُلْزِمُوا بذلك حتى وقع بعض الأئمة الكبار في الإجابة خشيَةً من بعض مسائل الدنيا.
والإمام أحمد لما قيل له بالخروج نفض يديه وقال: إياكم والدماء، وأَخَذَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر» .
(شيئا يكرهه) هذه عامة لأنها جاءت في سياق الشرط، وهذه تعمّ الكراهة الدينية والكراهة الدنيوية، فأَمَرَ بالصبر، والصبر معناه لزوم الطاعة وعدم الخروج.
وكذلك ما دلَّ عليه الحديث الآخر «ألا من رأى أميره يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعنَّ يدا من طاعة» ، وعلى هذا كان هدي الصحابة، فابن مسعود رضي الله عنه صَلَّى خلف أمير الكوفة من قبل عثمان رضي الله عنه، وصَلَّى وهو يشرب الخمر فصلوا معه حتى صَلَّى بهم الفجر أربعاً، ثم لما سَلَّمْ قال: أزيدكم؟ يعني هل أنا نقصت من الصلاة قالوا لازلنا معك اليوم في زيادة (1) .
والنصوص الدالة على وجوب الطاعة بالمعروف وتحريم نكث البيعة ونحو ذلك تدلُّ على عدم اعتبار هذا السبب سبباً للخروج، وهو أَنْ يَرَى ما يَكْرَهُهُ ديناً أو ما يكرهه دنياً، إلا أن يرى كُفْراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، كما جاء في الحديث قال: أفلا ننابذهم؟ أو قال: أفلا نخرج عليهم؟ قال «لا إلا أَنْ تَرَوا كُفْرَاً بُوَاحاً عندكم من الله فيه برهان» (2) .
والعلماء في هذا الحديث لهم قولان:
القول الأول:
أنه عند رؤية الكفر البواح فإنه يَجِبُ الخروج، وإذا قالوا يَجِبْ؛ فمعناه أنَّ أخذ العدة والوسيلة فإنها تجب وجوب وسائل للمقاصد.
وهذا قول طائفة من أهل العلم متفرقين في شروحهم للأحاديث.
2-
القول الثاني:
أنَّ هذا يجوز ولا يجب؛ بل الصبر أولى إلا إذا كان تغيير هذا الولي الذي كَفَرَ ليس فيه مفسدة من سفك الدماء.
(1) سبق ذكره (450)
(2)
البخاري (7056) / مسلم (4877)
[المسألة السابعة] :
الأئمة وولاة الأمور طاعتهم مِنْ طاعة الله عز وجل ومِنْ طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطاعة المؤمن لهم في المعروف عبادة وقُرْبَةْ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل طاعتهم من طاعته حِفْظَاً لبيضة هذه الأمة وجمعاً للكلمة وقوةً لها على أعدائها.
والعلماء ذكروا أنَّ تصرفات ولاة الأمور يعني من حيث التنظير تكون على أحد أنحاء:
1-
الأول: أن يأمروا بالطاعة، أن يأمروا بشيءٍ فيه طاعة، يأمروا الناس بإقامة الصلاة، يأمروا الناس بإيتاء الزكاة، يأمروا الناس بأداءْ الحقِّ الشرعي بعامَّة، ينهون الناس عن المحرمات، يقيمون الحدود، يأمرون بالمعروف ينهون عن المنكر ونحو ذلك مما هو مَعْلُومٌ الأمر به أمر إيجاب أو أمر استحباب أو معلومٌ النهي عنه نهي تحريم أو كراهة في الشَّريعة.
2-
الثاني: أن يأمروا بأَمْرٍ اجتهادي لهم فيه اجتهاد، وهذا الاجتهاد إما أنْ يكون عن خلافٍ شرعي واختاروا أحد الأقوال أو أحد الرأيين أو أحد الوجهتين، أو اجتهادهم كان مبنياً في مسائل حادثة لا يَعْلَمُ الناس لها الحُكْمْ، أو لم يُرَاد أن تُبْحَثْ مثل المسائل الدنيوية والمسائل العامة التي تجري في الناس.
3-
الثالث: أن يأمروا بمعصية الله عز وجل.
@ أما الأول فإن طاعتهم في ذلك واجبة بالإجماع وطاعتهم في ذلك من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
@ والثاني: وهي المسائل الاجتهادية فإنَّ ولي الأمر إذا ذَهَبَ إلى أحد الأقوال في المسألة واجتهد، أو اجتهد في المسألة اجتهاداً له لا يُخَالِفُ مُجْمَعَاً عليه، فإنَّ طاعته في ذلك متعينة أيضاً إذا كان متعلقاً بالأمة بعامة.
فالمسائل الاجتهادية داخلة في عموم الأحاديث التي فيها الطاعة في المعروف؛ لأنَّ طاعة الأمير في المعروف التي جاء فيها الدليل، إنَّما الطاعة في المعروف تشمل الصورتين: الصورة الأولى والصورة الثانية لأن الاجتهاد مُعتبرٌ شرعاً.
@ والثالث: وهي أن يأمر بمعصية الله عز وجل، فالأمر بالمعصية قد يكون عاماً وقد يكون خاصاً، وعلى كلٍّ فلا تجوز طاعته فيما فيه معصيةٍ لله عز وجل؛ لأنَّهُ لا طاعة لمخلوقْ في معصية الخالق لقوله صلى الله عليه وسلم «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره إلا أن يؤمر بمعصية» .
فإذاً الأدلة التي فيها الأمْرْ بطاعة ولي الأمر، أو التي فيها بيان الطاعة، إنما الطاعة في المعروف، تُفْهَمُ معاً ولا يُضْرَبُ بعضها ببعض؛ يعني أنَّ ولي الأمر يطاع إلا في المعصية:
- يُطَاع فيما فيه طاعة.
- ويطاع في المسائل الاجتهادية.
- ولا يطاع بما فيه معصية لله عز وجل.
[المسألة الثامنة] :
قوله في آخر الكلام (وَإِنْ جَارُوا) هذا فيه تَبْيِينْ لأَصْلِ المسألة أنَّ الطاعة لا تُتَقَيَّدْ بأنها لولي الأمر العدل؛ يعني للعادل من الأئمة أو للتقي من الأئمة أو لمن يسير في كل الشرع من ولاة الأمر؛ بل وإن كان منه جَوْرْ فإنه يُطَاع.
والجَوْرْ يكون في صورتين:
- الصورة الأولى: جورٌ في الدين.
- الصورة الثانية: جورٌ في الدنيا.
والجَورْ في الدين ضابطه أن لا يَصِلَ فيه إلى الكفر.
والجَورْ في الدنيا يطاع فيه حتى ولو أخذ مالك وضرب ظهرك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم قال «أطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك» (1) .
ومن أهل العلم من فَرَّقَ بين ولاة العدل وولاة الجور في الطاعة، فقال:
- ولي الأمر ذو العدل يطاع مُطْلَقَاً إلا في المعصية.
- وأما ولي الأمر بالجور فإنه لا يُطَاع إلا فيما يُعْلَمُ أنه طاعة، أما إذا لم نعلم أنه طاعة قال فلا يُطَاعْ.
وهذا الكلام وإن كان منسوباً إلى بعض كبار أهل العلم المتقدمين؛ لكنه في مقابلة النصوص، ومُخَالِفٌ لإطلاق الأئمة في هذه المسائل.
والتفريق بين إمام العدل وإمام الجور له أصلٌ من كلام الأئمة؛ لكن في غير هذه الصورة.
فهم فَرَّقُوا ما بين إمام العدل وإمام الجور في صورة الأمر بالقتل أو بالاعتداء، فإنه إذا كان يُعْلَمْ أنَّ جوره في قتل من لا يستحق القتل فإنَّهُ إذا أَمَرَ أحداً أن يقتل فلاناً، قالوا: لا تتعين عليه الطاعة؛ لأنَّه قد يكون قَتْلُهُ ظُلْمَاً إذا لم يَسْتَبِنْ له أنه مستحقٌّ للقتل، وهذا يكون في أزمنة الفِتَنْ ونحو ذلك والعِدَاءات، يقول: أُقْتُلْ فلانَاً، ولا يسأل.
فهنا فَرَّقَ طائفة من الأئمة المتقدمين ما بين إمام العدل وإمام الجور، قالوا: إمام العدل لا يُسْأَلْ، وأما إمام العدل فَيُتَحَرَى إذا كان يُعْرَفْ أنَّهُ يسفك الدماء فإنه لا يَقْتُلُ أحداً إلا إذا استبان له أنه مستحقٌ للقتل.
* والذي يظهر في هذه المسألة ويتعيّن الأخذ به أن يُعمَلْ بِمُطْلَقَاتْ الأدلة؛ لأنَّ المسائل إذا اشتبهت وجَبَ الرجوع -خاصة في مسائل العقيدة- وجب الرجوع إلى ظاهر الدليل، ولا يَسُوغْ لأحد مخالفة ظاهر الدليل فيما أجمع العلماء على جَعْلِهِ عقيدة، وهي مسألة الخروج على الولاة وطاعة ولاة الأمر.
فحينئِذْ دلّتْ الأدلة على ما ذكرنا من أنَّ ولي الأمر يُطاع في الطاعة ويُطَاعُ في المسائل الاجتهادية، ولا يطاع في صورة -صورة واحدة-؛ وهي أن يأمر بمعصية الله عز وجل فلا سَمْع ولا طاعة.
ويكون إذاً الجور ليس سبباً في الخروج -سواء كان جوراً في الدين أو كان جوراً في الدنيا-؛ بل أكثر ما يكون الخروج بسبب الجَوْرِ في الدنيا، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج أهل السنة قال: أكثر تأويل من خَرَجْ بسبب جور بعض الولاة في أمور الدنيا.
فإذاً قوله هنا (وَلَا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلَاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا) يعني به أنّ عقيدة السلف الصالح أن يُسْمَعَ ويُطَاعْ ولي الأمر، ويحافظ على البيعة، ولا يخرج المرء ولا يَلْقَى الله وليس له حجة بنزع اليد من الطاعة، ومهما كان الذي رآه إذا لم يَرَ الكفر البَوَاحْ الذي فيه من الله برهان.
(1) مسلم (4891)
قال الطّحاوي رحمه الله بعدها (وَلَا نَدْعُو عَلَيْهِمْ)
يريد أنَّ هَدْيَ السّلف الصالح وأئمة الإسلام أنَّهُمْ لا يَدْعُونَ على ولي الأمر والأئمة؛ لأنّ الدعاء عليهم سِيْمَا أهل الخروج وسِيمَا الذين يرون السيف إما اعتقاداً أو عملاً.
وهدي السلف الصالح أنهم يدعون لهم ولا يدعون عليهم؛ لأنَّ:
- بالدعاء لهم الصلاح والمعافاة كما سيأتي.
- وفي الدعاء عليهم توطين القلوب على بُغْضِهِمْ وهو سَبَبٌ من أسباب اعتقاد الخروج عليهم والوسائل لها أحكام المقاصد، فكما أنَّ المقصد وهو الخروج واعتقاد الخروج ممنوع عند الأئمة في عقائدهم، فكذلك وسيلته في القلوب هي الدعاء عليهم لأنه يُحْدِثُ البغض لهم والبغض يؤدي إلى الخروج عليهم.
وهذه تَضُمُّهَا إلى قوله في آخر الجملة (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلَاحِ وَالْمُعَافَاةِ) يعني أنَّ هدي السلف وأئمة الإسلام في عقيدتهم أنَّهُ كما أنَّا لا ندعو عليهم فإننا لا نسكت؛ بل ندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
والدعاء لولي الأمر بالصلاح دعاءٌ للأمَّةْ في الواقع؛ لأنَّ صلاحه صلاح للناس.
(وَالْمُعَافَاةِ) يعني أن يُعَافيه الله عز وجل مما ابتلاه به أو مما أَجْرَاهُ في رعيته من الأمور المخالفة للدين.
وقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم -أظنه أبا ذر- كان يتكلم في معاوية رضي الله عنه في بعض تصرفاته السلوكية أو المالية أو التولية، فأتى به وقال له: يا فلان أليس لك ذنوب؟
قال: بلى.
قال: فما ترجو في ذنوبك؟
قال: أرجو العفو والمعافاة من الله عز وجل.
قال معاوية رضي الله عنه: أفلا رجوتَ لي ما رجوتَ لنفسك.
قال فسكت.
وهذا يدل على أنَّ الدعاء بالصلاح والمعافاة والتوفيق لولاة الأمر أنَّهُ هو الهدي الماضي وهو الذي يوافق الأصول الشرعية.
وقد قال جمع من الأئمة منهم الفضيل بن عياض ومنهم الإمام أحمد وجماعة (لو كان لنا دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان)(1) .
وقد نصّ البربهاري رحمه الله في كتابه شرح أصول السنة على أنَّ (من سيما أهل البدع الدعاء على ولاة الأمور ومن سيما أهل السنة الدعاء لولاة الأمور) .
فهذه المسألة التي ذكرها الطحاوي هنا مقررة في كتب الأئمة تقريراً مستفيضاً.
_________
(1)
شرح السنة (107)
*قال رحمه الله (وَلَا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل فَرِيضَةً)
يريد أنَّ أهل السنة لا ينزعون اليد من طاعة ولي الأمر.
وذَكَرَ اليد لأنها وسيلة البيعة؛ لأنَّ البيعة تكون بصفقة اليد، وهذه هي بيعة أهل الحل والعقد بأن يبايع يداً بيد، وبيعة الناس تكون بمبايعة أهل الحل والعقد أو بمبايعة بعض المؤمنين لولي الأمر.
(ولا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ) يعني بعد البيعة باليد؛ لأنَّ هذا سيما الخوارج.
(وَنَرَى طَاعَتَهُمْ) طاعة ولي الأمر في غير المعصية من طاعة الله عز وجل فريضة واجب ما لم يأمروا بمعصية، وهذه الجملة مُقَرَّرَة فيما سلف وواضحة في دلالتها.
نقف عند قوله (وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ) جعلنا الله وإياكم من المتبعين للسنة والجماعة المُهَيَّئِيْنَ لذلك إنه سبحانه جواد كريم.