الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ، مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ.
قال رحمه الله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ.)
قدَّمتُ لك معنى قوله (حَقٌّ) فيما سبق وأنَّ معنى ذلك أنّ العرش والكرسي يُؤْمَنُ به على ظاهره كما جاء في النصوص، وأنَّهُ ليس بالباطل؛ بل هو موجود كما وصف الله عز وجل، فهو حق ثابت لا مِرية فيه.
قال هنا رحمه الله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) وسبب إدخاله هذه المسألة في العقائد أنَّ أهل البدع خالفوا أهل السنة في تفسير العرش وفي تفسير الكرسي.
فلما كانوا مخالفين لما دَلَّ عليه الدليل وكان عليه الصحابة ومن تبعهم بإحسان، رضي الله عن الصحابة ومن تبعهم، فإنهم قد خالفوا في أمرٍ غيبي، ومن خالف في أمرٍ غيبي فقد خالف ما يجب معه عقد الإيمان.
لأنَّ من سمة المؤمن بما أثنى الله عز وجل عليه أن يؤمن الغيب كما قال عز وجل في الثناء على خاصة عباده {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] .
فوصف المتقين بأخص الصفات وهي الإيمان بالغيب، وهذه صفة أهل الإيمان.
جَعَلَ الله عز وجل أهل الإيمان لا يرتابون في الكتاب وسبب ذلك أنهم يؤمنون بالغيب فمدارُهُ على التسليم.
لذلك فإنَّ المخالفين للكتاب الذين عقدوا ألوية البدعة تَأَوَّلُوا وحَرَّفُوا أكثر الأمور الغيبية كما سيأتي بيانه.
لذا كان لإدخال الإيمان بالعرش والكرسي في هذه العقيدة المختصرة مَأْخَذُهُ.
ولا شكّ أنَّ الإيمان بالعرش والكرسي حقٌّ على ما جاء في ظاهر الأدلّة.
دلّ
قوله (وَالْعَرْشُ
وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) على أنّ معتقد أهل السنة والجماعة أنَّ العرش غير الكرسي فالعرش شيء والكرسي شيء آخر وكلاهما حقٌ.
إذا تبين هذا كتقريرٍ لهذه الجملة، فإنَّ بحثها يمكن أن يكون في هذه المسائل:
& أولاً العرش
[المسألة الأولى] :
أنَّ العرش حق لأنَّ الله عز وجل ذكره في كتابه في آيات كثيرة فقال عز وجل {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] ، ووَصَفَ العرش بأنه عظيم، فقال {رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} (1) ووصف عرشه عز وجل بأنه مجيد، ووصف عرشه بأنه يُحْمَلْ فقال سبحانه {الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7] ، ووصف عرشه أيضا بأنَّهُ يستوي عليه عز وجل، وأنَّ عرشه جل جلاله موصوف بصفات العظمة التي فاق بها سائر العروش.
فإذاً وُصِفَ بهذه الصفات، وجاء في السنة مزيد في وصفه بأنَّ العرش له قوائم تحمله الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام «يُصعق الناس فأكون أول من يُفيق، فإذا بموسى باطشٌ -أو قال آخذٌ- بقائمة من قوائم العرش» (2) .
فالعرش إذاً مخلوق من مخلوقات الله عز وجل العظيمة، ومن عِظَمِهْ أنه قال فيه صلى الله عليه وسلم «مثل السموات السبع للعرش كمثل حلقة ألقيت في فلاة ومثل الكرسي للعرش كذلك» (3) يعني كحلقة ألقيت في فلاة وهذا الحديث صححه وقواه جمع من أهل العلم، وروي من طرق كما ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله والبحث يقتضي ذلك.
وصْفُ العرش في النص جاء بأنه مجيد؛ يعني أنه ذو سَعَةْ، وأنه ذو جمال، وجاء بأنه عظيم؛ يعني أنه أعظم من غيره، وجاء في وصف العرش أنه كريم؛ يعني أنه فاق جنس العروش والمخلوقات في البهاء والحُسْنِ والعظمة؛ لأنَّ لفظ كريم في اللغة تعني أنه فاق غيره في الأوصاف التي يُحْمَدُ فيها، فقول العرب للإنسان الجواد الذي يبذل الندى ويبذل الطعام للأضياف أنه كريم داخلٌ في قاعدةٍ كبيرة في معنى كلمة كريم في لغة العرب.
ولهذا من فاق غيره في الأوصاف فإنه كريم، ومن أسماء الله عز وجل الكريم الذي بلغ المنتهى في علو صفاته وحُسْنِ أسمائه بحيث لا يشابهه ولا يماثله شيء فيما وُصِفَ به جل جلاله، ووُصِفَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كريم لذلك؛ بل وُصِفَ في القرآن أنَّ النبات كريم لأجل ذلك، فقال سبحانه {أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:7] ، يعني الأزواج التي تفوق غيرها وجنسها في النضرة والبهاء وما خلقه الله عز وجل.
فإذاً يقتضي وصف العرش في النص بأنه كريم {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] في الحديث، يقتضي ذلك أنَّ العرش من جنس العروش.
يعني أنَّ له صفة العروش.
يعني أنه عرش على ظاهره لكنه فاقها في جميع الصفات التي توصف بها العروش.
فإذاً هو عرش على الحقيقة ليس على المعنى، هو عرش على الحقيقة، وفاق جنس العروش، والله عز وجل في القرآن ذكر العرش، عرش المخلوقين وعرش الملوك في آيات كثيرة فقال مثلا في قصة يوسف عليه السلام {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَا} [يوسف:100] ، وقال سبحانه في وصف عرش بلقيس قال {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ، وقال سبحانه {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] ونحو ذلك.
فإذاً العرش هذا معناه، فيما جاء في الأدلة، وهذا عرش الرحمن، ووُصِفَ في الأدلة في الكتاب والسنة بهذه الأوصاف، وأنَّ العرش يُحْمَلْ، وأنَّ له قوائم، وأنه يُدَار حوله من الملائكة، وأنه مُقَبَّب كالقبة فوق سمواته، كما جاء في الحديث الذي في السنن واعتمد ما دلَّ عليه في جهة العرش أهل العلم لما جاء عن الصحابة في تقوية ذلك بأنَّ عرشه على سمواته هكذا وأشار بيديه مثل القبة، فقال أهل العلم إن العرش مُقَبَبْ.
وكونه مُقَبَبْ لا يعني أنه أصغر كما يدل عليه النظر العقلي، مثل تقبيب سطح الأرض على مستوى النصف فيها فإنه مُقَبَب عليها وهو أعظم منها فكيف بالعرش.
(1) التوبة:129، النمل:26.
(2)
سبق ذكره (115)
(3)
ابن حبان (361)
[المسألة الثانية] :
العرش في اللغة مأخوذ من الرفع والارتفاع كما قال عز وجل في ذكر فرعون {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] ، يعني يَبْنُونَ ويرفعون من الأبنية، وقال عز وجل {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141] ، المعروشات يعني التي جُعِلَ لها البناء الذي يسمى تعريش أو العريش.
ولأجل هذا الارتفاع والعلو سُمِّيَ العرش عرشاً.
فكلمة عرش والتعريش ونحو ذلك مأخوذة أو أصلها الإرتفاع، ولهذا حتى في أكل اللحم إذا أراد أن يأخذ اللحم إلى فِيْهِ ويأكله بفيه بدون أن يقتطع منه يقال عَرَشَهُ، عَرَشَ اللحم أو عَرَشَ اللحم على العظم ونحو ذلك لأنه يرفعه على هذا النحو.
فإذاً مادة العرش في اللغة ترجع إلى الارتفاع وهذا التحليل اللغوي المختصر يفيد في الرد على المخالفين في مسألة العرش.
[المسألة الثالثة] :
أنَّ العرش دَلَّتْ الأدلة على هذا الوصف، أما المخالفون فلهم في العرش أقوال:
1-
القول الأول:
أنَّ العرش هو فَلَكٌ من الأفلاك، وهو نهاية الأفلاك مستديرٌ حولها.
وهذا هو قول أهل الكلام المدون في كتبهم، ويُسَمُّونَ الفلك التاسع عندهم الأطلس، يعني الذي ليس فيه خروق ولا نجوم، قالوا وهو المسمى في الشريعة العرش لأجل علوه وارتفاعه على سائر الأفلاك.
وهذا على أصلهم لأنهم جعلوا الأفلاك سبعة ثم الثامن ثم التاسع وهو الفلك الأطلس، ولأجل عُلُوِّهِ وارتفاعه جمعوا ما بين الشريعة والفلسفة فقالوا هو هذا الفلك التاسع الذي تسميه الفلاسفة وأهل الهيئة -وهم جزء من الفلاسفة- يسمونه الفلك التاسع أو الأطلس هو العرش.
وهذا القول يُرَدُّ عليه بردود واضحات وهي:
@ الرد الأول: أنَّ أهل الهيئة سَمَّوا فلكهم التاسع أطلس ولم يزعموا -يعني قبل الإسلام- أنَّهُ هو العرش، والعرش في النصوص له صفة أخرى غير صفة الفلكية، فوُصِفْ بأنَّ له قوائم وأنَّ الملائكة تحمله وأنه على السموات على هذه الصفة وأنه مُفَضَّلٌ على العروش إلى آخره، فدلَّ على أنه ليس بفلك، والفلك مسارٌ من المسارات وكرة من الكرات التي تكتنف الأفلاك الأخرى.
فإذاً من جهة دلالة النص تُبطِلُ هذه الدلالة.
@ الرد الثاني: أنَّ الدلالة العقلية أيضاً تُبْطِلْ ذلك ودليله أَنَّ أهل الهيئة والفلاسفة لم يُقَدِّموا باتفاقهم برهاناً قطعياً على أنه ليس وراء الفلك التاسع كما سَمَّوهُ فلك، وإنما قالوا هذا نهاية ما رأينا بوضع الخسوفات، وتَقَدَّمَ هذا على هذا.... إلى آخره، فَرَتَّبُوهَا بحكم مشاهدة، ولم يقولوا إنه ليس وراء الفلك التاسع فلك؛ لكن على هذا رتبوا، ولهذا لم يقولوا -يعني بالبرهان القاطع- وإنما قالوا إنَّ الفلك التاسع هذا هو آخر الأفلاك بحكم ما شاهدنا؛ لكن قد يكون ثم شيء آخر وراءه.
وهذا يخالف ما فَهِمُوهُ من كلمة العرش لأنهم أرادوا أن يجعلوا صِلَة بين العرش وبين كلام الفلاسفة، والعرش هذا الذي ذُكِرَ في النصوص لا يوافق هذا المبدأ؛ لأنه آخر المخلوقات والعرش أعظم المخلوقات وما تحته صغيرٌ بالنسبة إليه وليس دائرياً كما ذكروا.
فإذاً كلامهم من الجهة العقلية لمَّا لم يأتِوا ببرهانٍ يدلُّ على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء ببرهانٍ قطعي عقلي وإنما قالوا هذا الذي يظهر من جهة النظر، فإنَّ هذا يدل على أنَّ تسمية الفلك التاسع بالعرش أنه ليس بصواب، وهذا واضح لكن لأنك قد تجده في بعض كتب التفسير فانتبه من ذلك.
2-
القول الثاني:
أنَّ العرش هو عبارة عن المُلْكْ ولكن عَبَّرَ عن الملك بالعرش لتلازمهما، فكما أنَّ لملوك الأرض عرشاً يجلسون عليه فإنَّ الله عز وجل جعل لنفسه عرشاً، وهذا العرش هو مُلْكُهُ، لكن من قبيل تعظيم الأمر.
وهذا القول أيضاً باطلُ ومردود؛ لأنَّ مُلْكُ الله عز وجل لا يوصف بتلك الصفات في الشريعة، فإنَّ المُلْكَ لا يُحْمَلْ، والمُلْكْ ليس له قوائم، والمُلْكْ ليس ثَمَّ ملائكة تدور حوله ونحو ذلك، والمُلْكْ لا يأتي يوم القيامة محمول {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، إلى آخره، أيضا المُلْكْ مرتفع معنىً والعرش مرتفع حِسّاً يعني من جهة دلالة اللغة وهذا فرق بَيِّنْ.
3-
القول الثالث:
أنَّ حقيقة العرش هي الكرسي، وأنَّ الكرسي والعرش شيء واحد، وأنَّ الكرسي الذي وَسِعَ السموات هو العرش، وهذا قولٌ هنا وقولٌ في أقوال الكرسي يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى، وهذا القول منسوب إلى الحسن البصري وهو قول ضعيف؛ لأنَّ:
- الله عز وجل وَصَفَ العرش بصفات ليست هي صفات الكرسي.
- ثم مادة العرش غير مادة الكرسي؛ يعني من جهة الاشتقاق.
- ثم الآثار عن السلف متضافرة في أنَّ العرش شيء والكرسي شيء آخر
ولهذا عطف الطحاوي الكرسي على العرش فقال (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ.) لأنَّ العطف بالواو يقتضي المغايرة، مغايرة الذوات بين الكرسي والعرش.
4-
أما بالنسبة مذهب الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فإنهم في العرش مضطربون، ليس لهم مذهب واضح:
- منهم من ينحو منحى أهل الكلام.
- ومنهم من يقول العرش مخلوق من مخلوقات الله لا نعرف حقيقة تكوينه، ولا معنى الاستواء عليه ونحو ذلك.
- ومنهم من يقول إنَّ العرش هو الملك.
- ومنهم من يقول العرش تمثيل، أصلاً ليس فيه عرش وليس ثّمَّ شيء وإنما هو تقريب، تمثيل للأفهام.
والكرسي
& ثانياً الكرسي:
[المسألة الأولى] :
الكرسي ذَكَرَهَُ الله عز وجل في آية واحدة في القرآن سُمِّيَتْ بآية الكرسي لقوله عز وجل فيها {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] ، وهذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله، قال صلى الله عليه وسلم لأبي «أي آية في كتاب الله أعظم؟» فقال {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ، قال «ليهنك العلم» (1) لأنَّ هذا يعني أنه فَقِهَ معنى هذه الآية لأنَّهُ لا يدرك كون هذه الآية أعظم ما في القرآن إلا أنَّهُ عَلِمَ معانيها ولا شك أنَّ هذه تعني علماً عظيماً.
وفي السنة جاء بيان حجم الكرسي بالنسبة للسموات بأنَّ (2) السموات السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والكرسي بالنسبة إلى العرش مثل ذلك.
وجاء في أثر عن ابن عباس موقوف يصح عنه موقوفاً، وروي مرفوعاً ولا يصح مرفوعاً، وهو قوله رضي الله عنه (الكرسي موضع القدمين لله عز وجل)(3) وهذا يعني أنَّ الكرسي مخلوق من مخلوقات الله عظيم جداً، جعله الله بهذا العِظَمْ، وأنه وسع السموات والأرض، وأكثر من ذلك السموات صغيرة بالنسبة لكرسي الرحمن جل جلاله.
_________
(1)
مسلم (1921)
(2)
انتهى الوجه الأول من الشريط العشرين.
(3)
المستدرك (3116)
[المسألة الثانية] :
أنَّ كلمة كرسي من جهة اللغة مأخوذة من الكَرْسِ، والكَرْسِ هو الجمع في اللغة، ويقال للكرسي المعروف إنه كرسي لأجل أنَّ أعواده تُجمَعْ على هيئة ما.
فالكرسي يختلف عن المقعد الآخر بأنَّهُ أعواد مجموعة في اللغة، ومنه سُمِّيَ العلماء أيضاً كَرَاسِي لأجل أنهم جَمَعُوا العلم، لأجل معنى الجمع، وكذلك قيل للوَرَقْ المجموع على نحوٍ ما كُرَّاسة لأنها أوراق جُمِعَتْ.
فمادة الجمع مادة الكَرْسْ تعود إلى الجمع، ويقال تَكَرَّسَ فلان بالشيء إذا جَمَعَهُ أو تكرَّس فلان الشيء إذا جمعه إلى صدره أو جمعه إليه.
فإذاً مادة الكرسي مأخوذة من الجمع.
وهذا يدل على أنَّ كرسي الرحمن جل جلاله وتقدست أسماؤه له من الصفات العظيمة ما يختلف به عن صفة العرش؛ لأنَّ الله عز وجل سَمَّى العرش عرشاً وهذه لها دلالتها في اللغة، وسَمَّى الكرسي كرسيَّاً وهذه لها دلالتها في اللغة.
[المسألة الثالثة] :
الناس لهم في الكرسي أربعة أقوال، يعني غير أهل السنة:
1-
القول الأول: وهو قول الحسن وهو أنَّ الكرسي هو العرش وهذا قول ضعيف، الآثار ترده كما قلت لك.
2-
القول الثاني: أنَّ الكرسي لمَّا ذُكِرْ في آيةٍ واحدة هي آية الكرسي في سورة البقرة، أَنَّهُ تمثيل وأنه ليس ثمَّ حقيقة للكرسي؛ ولكن هو تمثيل لتقريب عظمة الله عز وجل.
وهذا هو قول الذين ينفون كثير من الصفات التي تدل على عظمة الله وقدرته كقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، ونحو ذلك فيقولون: إنَّ هذا كله تخييل؛ بل قالوا: إنَّ كل نص جاء في الكتاب والسنة من هذا القبيل فإنه لأجل التخييل لا تُقْصَدُ حقائقه، وإنما المقصود تعظيم الناس لله عز وجل وإلا فهذه ليست على حقائقها.
وهذا القول معروف من أقوال المعتزلة وطائفة من الأشاعرة، ومن المعاصرين قرَّرَهُ في تفسيره سيد قطب في ظلال القرآن وجعله قاعِدَةً كلية في آخر سورة الزّمر عند قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وفي الحقيقة إنَّ القول بأنَّ هذا كله على جهة التخييل إلغاء لكل الدلالات الشرعية للألفاظ وإلغاء لكل الغيبيات لأنه يكون المقصود في كل هذا التمثيل.
وهذا القول قَدَّمَهُ الزمخشري في الكشاف وكأنه يميل إليه، وعلى قاعدتهم في أنَّ كل النصوص من هذا الباب على وجه التوهم والتخييل.
وهذا القول كما ذكرت لك غلط عظيم؛ لأنَّ معناه نفي كل الأمور الغيبية هذه على هذه القاعدة، فما كان من الأمور الغيبية يدل على عظمة الله وكان فيها تمثيل بأشياء موجودة عند البشر فتُنْفَى ويكون المقصود التمثيل لا الحقيقة.
3-
القول الثالث: أنَّ الكرسي هو العلم، فكرسي الرحمن عز وجل هو عِلْمُهُ، وقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني وسع علمه السموات والأرض.
وهذا القول مروي عن ابن عباس ولكن الصحيح عن ابن عباس خلاف هذا القول.
ويُرَدْ على هذا القول بأمور:
1 -
أنَّ مادة الكرسي للجمع، والعلم شيء آخر، هذا من جهة اللغة.
2 -
أنَّ الله عز وجل ذكر أنَّ الكرسي وسع السموات والأرض؛ ولكن علمه عز وجل وسع كل شيء، قال سبحانه {ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] ، وقال عز وجل {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وعِلْمُ الله عز وجل يشمل علمه بذاته عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله وعلمه عز وجل الذي يسع السموات والأرض وعلمه عز وجل الذي يسع الجنة والنار وعلمه عز وجل بعد تغير السموات والأرض وقبل خلق السموات والأرض.
فإذاً تفسير الكرسي بأنه العلم هذا يضاد أنَّ العلم يسع كل شيء {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} ، وأما كرسي الرحمن عز وجل فقال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} .
3 -
أنَّ قولهم إنَّ الكرسي هو العلم وأنَّ مادة تَكَرَّسَ راجعة إلى العلم، والعلماء سُمُّوا كراسي لأجل العلم ونحو ذلك من الاحتجاجات واحتجاجهم بقول الشاعر يصف قنصه لفريسته:
فلما احتازها تكرَّسا.................
قالوا يعني علم.
فهذا من الجهة اللغوية فيه ضعف، وذلك أنَّ العلم ليس راجعاً إلى الجمع والعلماء صحيح أنهم جمعوا علومهم لكنَّ العلم من حيث هو يَحْصُلُ بتلقي المعلوم ثُمَّ العِلْمُ به والمعرفة به، فليس كل علم ناتجاً عن جمع بل يكون ناتجاً عن تصور الخَبَر، فيكون معلوماً له.
وهذا هو المقرر في اللغة وعند أهل نظرية المعرفة، فإن المرء يعلم بدون جمع، والله عز وجل وَصَفَ الصغير بقوله {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، فكُلَّمُا عَلِمَ المخلوق، كلما علم الصغير شيئا صار عالماً به ولو لم يجمعه إلى غيره، فمادة الجمع غير مادة العلم، مادة الكَرْسْ غير مادة العلم والعلم ما صار علماً للجمع، وإن كان العلماء سُمُّوا كراسي لأجل جمعهم العلم.
فإذاً راجِعٌ تفسير كلمة التكرس إلى كلمة الجمع، واحتجاجهم بقول الشاعر كما ساقه ابن جرير الطبري في تفسيره:
فلما احتازها تكرسا...............
يدل على أنَّ التكرس بمعنى الجمع لا بمعنى العلم لم؟
لأنه قال (فلما احتازها) يعني صارت في حوزته.
(تَكَرَّسَا) وهو عَلِمْ بأنه قَنَصَهَا لمَّا صارت في حوزته.
يكون تكرسه شيئاً جديداً زائداً على ما حَصَلَ له من الحيازة، فالحيازة بها عَلِمْ وزاد بعد الحيازة أن ضَمَّهَا وجمعها إليه.
فإذاً من حيث اللغة فإنَّ دلالة التَّكَرُّس على العلم دلالة ضعيفة؛ بل الصواب أنَّ التَّكَرُّس ومادة كَرَسَ راجعة إلى الجمع في اشتقاقاتها جميعا.
4-
القول الرابع: أنَّ الكرسي عبارة عن المُلْكْ كما قالوا في العرش، وقالوا إنَّ الكرسي إذا قيل إنَّ كرسي الملك واسع فهذا يدل على سعة مُلْكِهِ وعلى عُلُوِّ شأنه وقُوَّتِهِ.
فيقولون: الله عز وجل قال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] ، يعني أنَّ سلطانه وملكه وسع السموات والأرض.
وهذا ليس بجيد أيضاً؛ لأنَّ:
1 -
الكرسي من جهة دلالة اللغة غير دلالته على الملك.
2 -
أنَّ الكرسي موصوف في السنة وفي آثار السَّلف بأنه غير الملك، فدلَّ ذلك على أنَّ تفسيره بالملك تفسير حادث، والتفسير الحادث بعد زمن الصحابة رضوان الله عليهم لا يُصَارُ إليه في تفسير القرآن.
[المسألة الرابعة] :
وهذه المسألة متصلة بالعرش والكرسي جميعاً، وهي راجعة إلى أثر الإيمان بالعرش والكرسي.
فالمؤمن إذا آمن بأنَّ عرش الله عز وجل حق، وأنَّ هذه التي ذُكرت هي صفة العرش، وأنَّ عرش الله عظيم جداً وأنه مجيد وأنه كريم، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ عن أحد حملة العرش بأنَّ مسيرة ما بين عاتقه إلى شحمة أذنه مسيرة خمسمائة عام، وأنَّ السموات بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وأنَّ الكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك، وأنَّ الكرسي موضع قدمي الرحمن عز وجل، فلا شك أنَّ هذا يَؤُولُ بالمؤمن الحق إلى اعتقاد عظمة الله عز وجل، وإلى أنَّ الله سبحانه تتناهى المخلوقات عنده في الصِّغَر، وأنه عز وجل كما وصف نفسه بقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وجاء في الأثر في تفسير ذلك أنه يرمي بها يوم القيامة كما يرمي الصغير بالكرة فيقول أنا الله الواحد أنا الملك إلى آخره.
فمعرفة صفة الكرسي وصفة العرش، ويبتدئ المرء من نفسه التي يُعَظِّمُهَا وكيف هو على هذه الأرض العظيمة جداً وهو صغير جداً جداً، هذه الأرض، حتى إنَّ المدن الكبار إذا صعدت بالطائرة تراها صغيرة جداً وهي تحوي ملايين الناس، فكيف بالفرد والأرض هذه بالنسبة للسماوات صغيرة، والسماوات السبع على سعتها وعِظم ما فيها من الأفلاك والنجوم والسيارات بالنسبة للكرسي صغيرة كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي بالنسبة إلى العرش كذلك، والله عز وجل فوق العرش مستغن عن العرش، وكل شيء محتاج إليه، والله سبحانه محيط بكل شيء إحاطة سعة وقدرة وذات وشمول جل جلاله وتقدست أسماؤه فإنَّ المرء ولاشك يصيبه بل يحصل له في قلبه نوع عظيم من الذل لله عز وجل، ونوع عظيم من احتقار النفس ومعرفة قدر الإنسان كيف هو، وأنه شُرِّفَ أعظم تشريف أَنْ جعله الله عز وجل عبداً له سبحانه، ولهذا ينظر المرء إلى عِظَمْ المخلوقات هذه ويؤمن بها فيُعَظِّمْ الله عز وجل.
حقيقةً الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته يُثْمِرُ ثمراتٍ عملية في القلب من وَجَلِ القلوب، من إجلال الله عز وجل وحب القلوب لجمال الله عز وجل وأنواع ما يحدث في القلب من الإيمان ومدارج الإيمان التي تتصل بالإيمان بالأسماء والصفات، كذلك الإيمان بالجنة والنار، كذلك الإيمان بالعرش والكرسي لمن تأمله فإنه يجعل القلب خاضعا لربنا ويجعل القلب مُخْبِتَاً مُنِيبَاً لله عز وجل فإنْ غَفَلَ جاءه تعظيمه وإيمانه وعقيدته بالإنابة السريعة بالاستغفار الحق.
إذاً حين نبحث هذه المباحث في العقيدة ليست كما يبحثها أهل الكلام المذموم في كونها أشياء لا ثَمَرَةَ لها على الإيمان والعمل الصالح وتَعَبُّدْ المرء لله عز وجل، فإنَّ كل شيء وَصَفَهُ الله عز وجل لنا من الأمور الغيبية لم يُقْصَدْ إيماننا به واعتقادنا له من جهة الوجود دون جهة الإيمان وما يُثْمِرُ منه؛ بل قُصِدَ الإيمان به -يعني بوجوده وأثر الإيمان الذي يُحْدِثُهُ في النفس- لأنَّ المقصود إصلاح القلوب بالله عز وجل.
وأنت سمعت قول أولئك من المعتزلة وطوائف من المبتدعة إنَّ هذه الأشياء تمثيل لأجل إصلاح الناس وإيمانهم بعظمة الله عز وجل، والواقع أننا إذا قلنا بما جاء في الأدلة من الكتاب والسنة فإنها في تحصيل الإيمان وفي إحداث الإيمان في النفوس وتقوية الإيمان أعظم من أن تكون للتمثيل؛ لأنَّ ذِكْرَهَا على الحقيقة وعلى هذه الصفات يجعل المرء على الحقيقة يتصور كيف هذه المخلوقات جميعاً والأرض هذه الكبيرة وما فيها ثُمَّ السموات ثم الكرسي بعد ذلك ثم العرش ثم الملائكة الحافين من حول العرش لاشك يُحْدِثْ له أنواع من الإيمان والوجل والخوف وحب الله عز وجل وتعظيمه والإنابة إليه، وهذا لاشك كله من المقاصد الشرعية.
فإذاً الإيمان بهذه يحتاج منك إلى تأمل وتدبر في أن تُعْمِلَ في قلبك هذه الأشياء وتتذكر عظمة الله عز وجل.
هذه بعض المباحث المتعلقة بقوله (وَالْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ حَقٌّ) وثَمَّ مباحث زائدة يعني قد تدخل في مباحث الكلام المذموم، فالذي يهمنا هو تقرير ما دل عليه الكتاب والسنة وما يجب اعتقاده أنَّ العرش والكرسي حق، وأنَّ العرش موصوف بتلك الصفات والكرسي موصوف بتلك الصفات، وأنَّ الأقوال الباطلة في العرش والكرسي متعددة والجواب عليها، وأسأله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد.
وفي هذا القدر كفاية عسى الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يجعلنا من المنيبين إليه المتقين.
نكتفي بهذا القدر، لا تنسونا من صالح الدعاء. (1)
(1) انتهى الشريط العشرون.
: [[الشريط الواحد والعشرون]] :
(وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ
وَنقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا وَتَسْلِيمًا) .
قال العلاّمة الطحاوي في هذه النُبْذَةْ المختصرة في وصف الله عز وجل قال (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ. مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ)
يريد بهذا الكلام أنَّهُ لمَّا أثْبَتَ عرش الرحمن عز وجل وأثْبَتَ الكرسي على ما جاء في النصوص وما في ذلك من الاستواء على العرش كما يليق بجلال الله عز وجل، بَيَّنَ أنَّ خلق العرش واستواء الرب عز وجل على العرش كما يليق بجلاله وعظمته ليس لحاجَةٍ من الله عز وجل لما خَلَقْ للعرش، ولكن الله عز وجل هو الغني سبحانه وتعالى، وهو مستغنٍ عن جميع المخلوقات؛ بل العرش وما دونه مفتقر إلى الرب عز وجل، إذْ ربُّنا عز وجل به تقوم الأشياء، فلا أحد يقوم ولا شيء يقوم إلاّ بالربّ جل جلاله، والعرش من ذلك؛ فإنه مفتقر في قيامه وفي استمراريته وفيما عليه شأنه مفتقر إلى الربّ جل جلاله، فالله سبحانه هو الذي يحفظه، وهو الذي بقدرته يحمله عز وجل، إلى غير ذلك.
فإذاً استواء الربّ جل جلاله على العرش ليس استواءً كما يظنه الجهلة وأهل البدع لمَّا نفوا الاستواء أنَّ ذلك يقتضي الحاجة إليه، لا وكلاّ؛ بل هذا فِعْلْ فَعَلَهُ الله عز وجل وصِفَةٌ اتصف الله عز وجل بها، والله سبحانه يتّصف بما يشاء جل جلاله وتقدّست أسماؤه، والعرش شَرُفَ وعَظُم لأنَّ الله عز وجل جعله مكاناً لاستوائه عليه سبحانه وتعالى.
لأجل مخالفة المخالفين ولأجل الرد على جَهَالَةْ الجاهلين قال الطحاوي هنا (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) .
يعني أنَّ الله عز وجل موصوف بالغِنَى المُطْلَقْ من كل وجه، كما وصف بذلك نفسه في القرآن، وهو مستغن عن أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات وفوق المخلوقات وهو العرش، فاستغناؤه عز وجل عما دون ذلك الخلق العظيم وهو العرش لاشك أنه من باب أولى.
قال رحمه الله هنا في وصف الله (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دُونَهُ)
وذلك لكمال غنى الرب عز وجل، وكمال جلاله وكمال قدرته سبحانه وكمال قهره، ولعلو ذاته سبحانه وتعالى وأنه الحي القيوم.
(القيوم) يعني أنَّ كل شيء إنَّمَا قيامه بالله عز وجل، فأي شيء في هذه الدنيا بل أي شيء من مخلوقات الله عز وجل لو تَخَلَّى ربنا عز وجل عنه لباد ولهلك ولما استقام له شأن.
ولهذا كان من دعاء أعرف الخلق بربه وأعلم الخلق بربه صلى الله عليه وسلم أنه يقول «ولا تكلني لنفسي طرفة عين» (1) فهذا فيه التَّخَلِّي عن كل حول وقوة وعن أنْ يُوكَلَ العبد إلى نفسه طرفة عين.
فإذاً كلّ الخلق قيامهم بالله عز وجل، وكل الخلق فقراء إلى الله عز وجل ومن ذلك العرش، والربّ سبحانه هو الغني الحميد المستغني عن كل ما عداه والمفتقر إليه كل شيء سبحانه وتعالى.
قال (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ)
يعني أنَّ الربّ سبحانه وتعالى موصوف بإحاطته لكل شيء وأنَّهُ سبحانه فوق كل شيء.
وهذه الإحاطة يأتي بيانها بالتفصيل، ومعناها أنّ الرب عز وجل محيط بصفاته بكل شيء بعظمته عز وجل وبقدرته وبعلمه فهو سبحانه بكل شيء محيط.
قال (وَفَوْقَهُ) يعني أنَّ الله عز وجل موصوف بالعلو المطلق؛ علو الذات والفوقية المطلقة؛ فوقية الذات له سبحانه وكذلك علو وفوقية الصفات.
قال بعدها (وَقَدْ أَعْجَزَ عز وجل عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ)
يعني أنَّ الله جل جلاله لِعِظَمِ قدرته ولكمالِهِ في غناه لا أحد ولا شيء يحيط به كما قال عز وجل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وقال عز وجل لموسى {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] .
- فإحاطة الرؤية بالله عز وجل ممتنعة.
- وإحاطة العلم بالله عز وجل ممتنعة.
-وإحاطة القدرة بالله عز وجل ممتنعة.
إذاً فالعباد مهما بلغ شأنهم فيما أعطاهم الله من القوة فإنهم أحقر وأضعف وأذل لله عز وجل من أن يحيطوا به عز وجل علماً أو يحيطوا به وصفاً أو يحيطوا به عز وجل قدرَةً إلى آخر ذلك؛ بل هو سبحانه المتصف بصفات الكمال.
وهذا من الطحاوي رحمه الله تَقْرِيرٌ لعقيدةٍ عظيمةٍ من عقائد أهل السنة والجماعة مُخَالَفَةً للمعتزلة والخوارج والرافضة والأشاعرة وطوائف كثيرة من الصفاتية ومن غيرهم.
وفي هذه الجملة مسائل لبسط الكلام عليها.
_________
(1)
أبو داود (5090)
[المسألة الأولى] :
في قوله (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ) ، (مُسْتَغْنٍ) من الغِنَى وهو عدم الحاجة.
والله عز وجل سَمَّى نفسه بالغني كما في قوله سبحانه {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وفي قوله {إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، وفي قوله {فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران:97] وفي قوله أيضا عز وجل {وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131] ، ونحو ذلك من الآيات، فهو سبحانه موصوف بالغنى، ومن أسمائه الغَنِيْ.
ومعنى هذا الاسم -الذي هو من أسماء الجلال لله عز وجل ومن أسماء الجمال لله عز وجل- أنه سبحانه الذي يحتاج إليه كل شيء، وهو المستغني عن كل شيء.
وهذا الغِنَى غِنَىً بالقهر؛ فإنَّ الله سبحانه لا يحتاج إلى مُعينٍ لِيَقْهَرَ من شاء ويُذِلَّ من شاء، كما أنه غِنَىً في الملك؛ فالله سبحانه غَنِيٌّ عن أن يعينه أحد في تدبير ملكه ولكن يُشَرِّفُ من شاء من عباده ببعض ما يقومون به من عمل في ملكوت الله عز وجل، كما يُشَرِّف الملائكة وبعض عباده الصالحين.
وغناه أيضا عز وجل غنىً لكمال قدرته سبحانه وتعالى.
ومن هذا الأخير غناه عن العرش، فهو سبحانه لكمال قدرته واستغنائه بقدرته عن أحد من خلقه فإنه مستغنٍ عن العرش.
فإذاً عموم غِنَاهُ عز وجل وإطلاق غِنَاهُ عز وجل وأنَّ الخلق جميعاً فقراء إليه سبحانه وتعالى هذا يشمل هذه المعاني جميعاً.
[المسألة الثّانية] :
استغناؤه عز وجل عن العرش وما دونه يقتضي أنَّ العرش وما دونه محتاج إليه ومفتقر إلى الربّ سبحانه وتعالى، وهذا له جهتان:
1-
الجهة الأولى: أنَّ العرش وما دونه مُفْتَقِر لله عز وجل؛ لأنَّهُ لا قَوَامَةَ لَهُ ولا قيام له بنفسه، فهو محمولٌ، له قوائم كما مَرَّ معنا في وصفه، وهو محمول والذي يحمله خَلْقٌ سَخَّرَهُمْ الله عز وجل لحمله وأقْدَرَهُمْ على ذلك، فقُدْرَتُهُم في حمل العرش واستقراره وفي بقائه وقيامه إنما هو بقدرة الله عز وجل، فهذا نوع من الحاجة.
2-
الجهة الثانية: أنَّ كلّ شيء عبدٌ لله عز وجل، ومن ذلك العرش، فالعرش من مخلوقات الله التي تَعْبُدُهُ وتُسَبِّحُهُ وتذِلُ له عز وجل، وكذلك حملة العرش، وكذلك من في السموات ومن في الأرض، وكذلك ما في السموات وما في الأرض، وقد قال عز وجل {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] ، وقال أيضاً {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فقوله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} هذه نكرة جاءت في سياق النفي بـ {إِنْ} ، لأَنْ {إِنْ} هنا بمعنى ما و {إِلَّا} بعدها حاصرة أو قاصرة، فيكون المعنى: ما من شيء إلا يسبّح بحمده.
والعرش شيء، وتسبيحه بحمد الله عز وجل نوع من الذل والعبودية له سبحانه وتعالى، والعبودية والذل معنىً من معاني الافتقار إلى الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه.
وفي هذا تنبيه للعباد بعامة أنّ هذا المخلوق العظيم الذي الكرسي بالنسبة إليه كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، (والكرسي) السموات السبع بالنسبة إليه كما جاء في كلام السلف كدراهم سبعة ألقيت في تُرْسْ أو كحلقات ألقيت في ترس، والأرض صغيرة بالنّسبة للسموات، فإنّ هذا يعني أنك أيها العبد أيها الإنسان المخلوق الضعيف الذي تعرف ضعفَك، تنظر إلى العرش الذي هو مفتقر إلى الله عز وجل مُسَبِّحٌ ذالٌ منيبٌ إلى ربه عز وجل، كيف أنه لا يستغني عن مولاه، وكيف أنه يُسَبِّحُ ويحمد ويَذِلُّ لله عز وجل، فهذا المخلوق الضعيف جدا الذي هو الإنسان وأُبتلي بالتكليف لاشك أنه أولى بالذل لله؛ لأنه ضعيف جداً ومفتقر للغاية.
فإذاً النظر إلى العرش وفَقْرْ العرش إلى الله عز وجل، وأنَّ قوامَةَ العرش على عِظَمِهِ وعِظَمِ خلق السموات وضعف نِسْبَةِ خلق السموات إلى العرش جداً، كيف الإنسان ينظر إلى نفسه لاشك أنه يستفيد من هذا في قلبه وعمله أنه أولى بالافتقار إلى الله وأولى بالذل إلى الله، وأولى بالعبودية لله جل جلاله وتقدّست أسماؤه وهذا من ثمرات التّفكر الشّرعي والنظر في ملكوت السموات والأرض، والنظر أيضا فيما ذكر الله عز وجل في كتابه من أنواع خلقه التي لم نر ومنها عرشه جل جلاله وتقدست أسماؤه.
[المسألة الثالثة] :
في قول المؤلف هنا في وصف الرب عز وجل (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) .
(مُحِيطٌ) هذا الوصف الإحاطة قد جاء وصف الله عز وجل به في القرآن في عدة آيات كما في قوله سبحانه في آخر سورة فُصِّلت {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54]، وكذلك في قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126] ، وكذلك في قوله عز وجل {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] ، ونحو ذلك.
والإحاطة في اللغة: هي الإتيان بالشيء من جميع جهاته.
يعني من جميع الجوانب يكون مُطَوَّقَاً كما في قوله تعالى {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] ، يعني جاءهم من كل جهة.
وتفسير إحاطة الله عز وجل بكل شيء السلف والمفسرون منهم من يمضي -وهم الأكثر- عن الدخول في هذا الوصف؛ -وصف إحاطة الله عز وجل بكل شيء-، وكأنهم هربوا من أن يُظَنَّ أنَّ الإحاطة إحاطة ذات، كإحاطة الفَلَك بما فيه وإحاطة السموات بالأرض ونحو ذلك.
ولاشك أنَّ معنى إحاطة الذات ليس مُرَادَاً، فإنّ الله عز وجل فوق مخلوقاته والمخلوقات صغيرة بالنسبة لذات الله عز وجل.
ولهذا أعرضوا عن الخوض في تفسيرها.
وفَسَّرَهَا طائفة من العلماء تفسيراً يوافق ما قاله السلف وما يعتقده أئمة أهل السنة في ذلك بقولهم: إنَّ الإحاطة أنواع:
- إحاطة بمعنى أنها إحاطة عَظَمَة لله عز وجل.
- إحاطة بمعنى أنها إحاطة سعة، فالله سبحانه وَصَفَ كرسيه بأنّه وسع السموات والأرض ووصف نفسه عز وجل بأنه واسع سبحانه وتعالى الذي وسِع كل شيء.
- إحاطة بمعنى أنها إحاطة صفات: إحاطة علم، إحاطة قدرة، إحاطة قهر، إحاطة مُلْكْ إلى غير ذلك.
فهذه كلها من معاني إحاطة الرب عز وجل عباده، ولهذا أين المفر؟
فكل أحد يُفَرُّ منه إلى غيره؛ ولكن الله عز وجل ولإحاطته بخلقه وإحاطته بجميع ملكوته سبحانه وتعالى-إحاطة عظمة وسَعَةْ وقدرة وعلم إلى غير ذلك- فإنّه سبحانه إذا فررت منه فإنك لن تجد إلا أن تفر إليه سبحانه وتعالى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] .
ويقول القائل يوم القيامة أين المفر؟
لا مفر من الله إلا إليه.
وهذا إذا نَظَرَ إليه العبد مع التَّفُكُّرْ وَجَدَ نفسه تتصاغر جداً أمام ربه عز وجل، فَيعْظُمُ الإيمان في قلبه، ويعْظُمُ اليقين، ويعْظُمُ توكله على الله، فيأنس بالله عز وجل وبما جاء من الله عز وجل حتى يصير راضياً بكل ما جاء من الله عز وجل ذالاً لربه سبحانه وتعالى.
وكلمة (شَيْءٍ) في قوله (بِكُلِّ شَيْءٍ) -ذكرنا لكم- أنها تُفَسَّر بأنَّ الشيء ما يصح أن يُعْلَمَ أو يؤول إلى أن يُعْلَمْ.
والله سبحانه وتعالى إحاطته بالأشياء منها -كما ذكرنا- إحاطة علم وإحاطة قدرة، فهو سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، قدير على كل شيء، فإذاً كلمة (كُلِّ شَيْءٍ) هنا لأجل ما جاء في الآيات {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} ونحو ذلك لأجل ما جاء في الدليل.
[المسألة الرّابعة] :
وهي أعظم المسائل وأَجَلِّهَا في كلام الطحاوي هذا، وهي قوله في وصف الله عز وجل (مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ) .
كما ذكرتُ لك أنَّ الإحاطة قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنها إحاطة ذاتٍ، بمعنى أنَّ الأشياء جميعاً الله سبحانه بذاته محيط بها من كل جهة، وهذه قد نفاها العلماء ولم يجعلوها تفسيراً للإحاطة.
لهذا قال بعدها (وَفَوْقَهُ) يعني أنَّهُ مع إحاطته بكل شيء فهو فوق جميع الأشياء.
والفوقية هنا هي المسألة المشهورة العظيمة في هذه الأمة وهي مسألة علو الله عز وجل على خلقه وفوقية الرب عز وجل على خلقه.
والفوقية بمعنى العُلو، فالآيات التي فيها ذِكْرُ الفوقية تُفَسَّرُ بالعلو، والآيات التي فيها العلو تُفَسَّرُ بالفوقية، ففوقية الرب عز وجل هي علوه سبحانه على جميع خلقه.